41

El Vaso Marmóreo

الوعاء المرمري

Géneros

ولكنها مع ذلك بقيت في البهو كأنها في رحلة حوله، تقف عند كل صورة تتأملها حينا، ثم تنتقل إلى أخرى، وأنفاسها المضطربة تساير دقات قلبها، كلما سمعت صوتا تحسبه حفيف ثيابه أو وقع أقدامه. وكيف تلقاه فاترة هادئة وهذه الخفقات تسرع بأنفاسها، ولا تستطيع معها أن تتحدث إليه هادئة؟ وعزمت على أن تلقاه إذا أقبل نحوها وهي عابسة، كأنه لم يكن عندها شيئا. ولكن ألا ينم ذلك العبوس عن مقدار اهتمامها أو يكشف عن لهفتها؟ ألا يدله ذلك على أنها كانت تفكر فيه وأنها قد تعمدت أن تقف في البهو لتلقاه؟ ولكن ما الذي يحملها على كل هذا؟ وكانت قد بلغت في سيرها الركن الذي فيه الوعاء المرمري الوردي، هناك كانا يجلسان جنبا إلى جنب على الأريكة المجاورة له، ويعلقان فيه بصرهما ويتحدثان في حماسة عن بهاء لونه وبراعة صناعته. وكان سيف عند ذلك لا يخفي عنها نأمة من صدره ولا يطوي عنها شيئا من أفكاره. كان يتدفق في حديثه إليها مرحا باسما سعيدا، ويجعل الدنيا تبتسم أمامها مرحة سعيدة. فما الذي غيره وجعله يتنكر لمودتها؟ ألا يكون ما ذهبت إليه في قلقها من تهويل الخيال، وهو بريء من كل ما ذهبت إليه؟ ألا يكون في ضيق أو حزن أو يأس لسبب من الأسباب التي تعرض لمن كان مثله؟ ليته لم يكن سيف بن أبرهة، ليته لم يكن سوى شاب تستطيع أن تلقاه عاطفة وتقول له: ها أنا ذا إلى جنبك، أقدر على أن أخفف عنك وأن أواسيك بنفسي. وما الذي يمنعها أن تقف إلى جنب سيف بن أبرهة فتخفف عنه همه وتواسيه بنفسها وعطفها؟ إن الرحمة والمودة والمواساة من هبة الله للقلوب الإنسانية، ولا ينبغي أن يقف شيء في سبيلها، فخير لها أن تقبل عليه باسمة مرحبة وتفتح له قلبها وتسأله عن نفسه، وتعتب عليه لأنه لم يظهر لها الثقة التي كانت تنتظرها. خير لها أن تدسس إلى أعماق سره، ولا تجعل شيئا من الأوهام يقف حائلا بينهما، ولكن كيف ينظر هو إليها؟ أينظر إليها كما ينظر أمير إلى فتاة وحيدة، لا تعرف عن نفسها شيئا سوى أن ريحانة الكريمة تضمها إلى جناحها؟ ألا يكون مثل يكسوم؟ ألا يكون كل ما ظهر منه نحوها نوعا من إعجاب السيد بجارية حسناء؟ ألا يكون قد أحس شيئا جديدا بعد أن تخطى حدود الصبا وأصبح كما تراه رجلا؟ كأن تلك الشهور الأخيرة قد أضافت عشر سنوات إلى سنه وسلبته تلك السذاجة الطيبة التي كانت تجعله زميلا صديقا ... لم لا يكون ...

ولم تقو خيلاء على المضي في ذلك التفكير المظلم؛ فليس من الوفاء لسيف أن تقرن صورته بصورة أخيه يكسوم القاسي، الذي تنطق كل جارحة فيه أنه فظ طاغية.

لم لا يكون ...

وسمعت عند ذلك حفيف أقدام على بسط البهو، فدق قلبها سريعا، ولكنها لم تلتفت وبقيت حيث هي تنظر إلى الوعاء المرمري، وبدأت عند ذلك حقا تلتفت إلى لون الوعاء ونقوشه البديعة التي تشبه الوشي فوق ثوب الحرير. وكانت الصورة التي عليه تمثل جانبا من بستان فيه شجر باسق، يظلل رقعة خضراء تتخللها شجيرات تتدلى أغصانها محملة بعناقيد مرسلة من الزهر، وكانت الطيور تبسط أجنحتها، بعضها يسبح في الهواء وبعضها يهبط نحو الأرض، والقمر الكامل في أعلى الصورة يبعث أشعته على شابين، فتى وفتاة، يسيران في الممشى، وقد تعاقدت يمناه بيسراها وهما يبسمان نحو القمر.

هناك طالما وقفت مع سيف يتحدثان في إعجاب عن الصورة ونقشها، قبل أن يأتي الشيخ أبو عاصم إلى الدرس.

واقتربت الخطا خفيفة، فخفق قلب خيلاء تأثرا ولكنها لم تلتفت، هي هي خطاه، فهي تعرفها من بعيد، وسمعته يناديها باسمها في نغمة عجبت لها، هي نغمته التي تعودت أن تسمعها من أمد بعيد كلما أقبل نحوها في أصائل الربيع، ولم تدر ألتفتت إليه آخر الأمر أم بقيت جامدة في مكانها، فإنها وجدته ممسكا بيدها يتدفق في تحيته، وعيناه معلقتان في عينيها مخلصتان كعهدها بهما، صريحتان تشعان مرحا. وقال مبادرا: أنت هنا؟ لقد بحثت عنك في كل مكان، في البستان وفي جناح الملكة وفي حجرتك، وأنت هنا تخفين نفسك عني وراء الآنية المرمرية والفضية؟

فقالت في نغمة عتاب: كما أخفيت نفسك عني.

ونسيت كل العبارات المقدرة التي رددتها في نفسها من قبل حتى حفظتها، كما نسيت شكوكها التي كانت تتدافع في صدرها منذ لحظات. وازدحمت المشاعر على لسانها تريد أن تتدفق، ولكنها لم تنطلق فبقيت صامتة، وقنعت بما نطقت به عيناها. ولكنه لم يقف ليقرأ ما على وجهها ولا ليستمع إلى ما تنطق به عيناها، بل أسرع غير متحفظ يقص عليها ما كان بينه وبين أمه منذ فارقها في الصباح، وتنبه بعد أن قص عليها ما أراد إلى الوعاء المرمري الذي كانت خيلاء واقفة عنده، فقال لها: أتقفين وحدك عند الوعاء؟ أليس هنا موقفنا معا؟ ماذا ترين فيه يا خيلاء؟ حدثيني، فإني أخذت الوقت كله لنفسي، وأحب أن أروي سمعي من صوتك. ماذا ترين في هذا الوعاء؟ كنت أسمع منك عنه أحاديث طلية، ولكنك تعرفين أنني أعجز عن حفظ هذه الأقوال التي تحسنين صياغتها.

فقالت خيلاء باسمة: قطعة من المرمر الوردي الجميل.

فقال سيف: أهذا كل ما عندك؟ إنك اليوم متحفظة، كأنك تعرفين أنني أحب أن أتكلم. نعم، قطعة من المرمر الوردي الجميل كانت يوما في جوف صخرة، قد يتخذها حجار ليضعها في جدار بيت، أو تتخذها عجوز فقيرة لتصنع منها رحى، أو تربط بها حبل عنزها.

Página desconocida