With People
مع الناس
Editorial
دار المنارة للنشر والتوزيع
Número de edición
الثامنة
Año de publicación
١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
Ubicación del editor
جدة - المملكة العربية السعودية
Géneros
علي الطنطاوي
مع الناس
طبعة جديدة
راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف
مجاهد مأمون ديرانية
دار المنارة
للنشر والتوزيع
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر
الطبعة الثامنة
٢٠١١
دار المنارة
للنشر والتوزيع
ص ب ١٢٥٠ جدة ٢١٤٣١ المملكة العربية السعودية
هاتف ٦٦٠٣٦٥٢ فاكس ٦٦٠٣٢٣٨ المستودع ٦٦٧٥٨٦٤
1 / 4
مقدمة الطبعة الثالثة
بخط المؤلف ﵀
هذه طبعة جديدة من كتابي «مع الناس»؛ الحمد لله على أنْ أعان عليها ووفق إليها، وأسأل الله أن ينفع بها القُرّاء، وألاّ يحرمني أنا وناشرَ الكتاب من الثواب.
علي الطنطاوي
مكة المكرمة
١٢ ربيع الأول ١٤٠٩
1 / 5
أحسن كما أحسن الله إليك
أذيعت سنة ١٩٥٦
نظرت البارحة فإذا الغرفة دافئة والنار موقدة، وأنا على أريكة مريحة، أفكر في موضوع أكتب فيه، والمصباح إلى جانبي، والهاتف قريب مني، والأولاد يكتبون، وأمهم تعالج صوفًا تحيكه، وقد أكلنا وشربنا، والرادّ (الراديو) يهمس بصوت خافت، وكل شيء هادئ، وليس ما أشكو منه أو أطلب زيادة عليه.
فقلت: «الحمد لله»، أخرجتها من قرارة قلبي. ثم فكرت فرأيت أن «الحمد» ليس كلمة تقال باللسان ولو رددها اللسان ألف مرة، ولكن الحمد على النعم أن تُفيض منها على المحتاج إليها. حمد الغني أن يعطي الفقراء، وحمد القوي أن يُسعد الضعفاء، وحمد الصحيح أن يعاون المرضى، وحمد الحاكم أن يعدل في المحكومين، فهل أكون حامدًا الله على هذه النعم إذا كنت أنا وأولادي في شبع ودفء وجاري وأولاده في الجوع والبرد؟ وإذا كان جاري لم يسألني أفلا يجب عليّ أنا أن أسأل عنه؟
وسألتني زوجتي: فيمَ تفكر؟ فأخبرتها.
قالت: صحيح، ولكن لا يكفي العبادَ إلا من خلقهم،
1 / 7
ولو أردتَ أن تكفي جيرانك من الفقراء لأفقرت نفسك قبل أن تغنيهم.
قلت: لو كنت غنيًا لما استطعت أن أغنيهم، فكيف وأنا رجل مستور، يرزقني الله رزق الطير، تغدو خِماصًا وترجع بِطانًا؟
لا. لا أريد أن أغني الفقراء، بل أريد أن أقول إن المسائل نسبية، وأنا بالنسبة إلى أرباب الآلاف المؤلفة فقير، ولكني بالنسبة إلى العامل الذي يعيل عشرة وما له إلا أجرته غني من الأغنياء، وهذا العامل غنيّ بالنسبة إلى الأرملة المفردة التي لا مورد لها ولا مال في يدها، ورَبُّ الآلاف فقير بالنسبة لصاحب الملايين؛ فليس في الدنيا فقير ولا غني فقرًا مطلقًا وغِنىً مطلقًا، وليس فيها صغير ولا كبير، ومَن شَكّ فإني أسأله أصعب سؤال يمكن أن يوجَّه إلى إنسان، أسأله عن العصفور: هل هو صغير أم كبير؟ فإن قال صغير. قلت: أقصد نسبته إلى النملة. وإن قال: هو كبير. قلت: أقصد نسبته إلى الفيل.
فالعصفور كبير جدًا مع النملة، وصغير جدًا مع الفيل. وأنا غني جدًا مع الأرملة المفردة الفقيرة التي فقدت المال والعائل، وإن كنت فقيرًا جدًا مع فلان وفلان من ملوك المال.
* * *
تقولون: إن الطنطاوي يتفلسف اليوم. لا؛ ما أتفلسف ولكن أحب أن أقول لكم -يا أيها السامعون ويا أيها السامعات- إن كل واحد منكم وواحدة يستطيع أن يجد من هو أفقر منه فيعطيه. إذا
1 / 8
لم يكن عندك -يا سيدتي- إلا خمسة أرغفة وصحن «مجدَّرة» (١) تستطيعين أن تعطي رغيفًا لمن ليس له شيء. والذي بقي عنده بعد عشائه ثلاثة صحون من الفاصوليا والرز وشيء من الفاكهة والحلو يستطيع أن يعطي منها قليلًا لصاحبة الأرغفة والمجدّرة. والذي ليس عنده إلا أربعة ثياب مرقعة يعطي ثوبًا لمن ليس له شيء، والذي عنده بذلة صالحة لم تخرق ولم ترقع ولكنه ملّ منها، وعنده ثلاث جدد من دونها، يستطيع أن يعطيها لصاحب الثياب المرقعة. ورُبّ ثوب هو في نظرك قديم وعتيق بال، لو أعطيته لغيرك لرآه ثوب العيد ولاتخذه لباس الزينة، وهو يفرح به مثل فرحك أنت لو أن صاحب الملايين ملّ سيارته الشفرولية طراز سنة ١٩٥٣ - بعدما اشترى كاديلاك طراز ١٩٥٦ - فأعطاك تلك السيارة.
ومهما كان المرء فقيرًا فإنه يستطيع أن يعطي شيئًا لمن هو أفقر منه. إن أصغر موظف لا يتجاوز راتبه مئة وخمسين ليرة، لا يشعر بالحاجة ولا يمسه الفقر إذا تصدق بليرة واحدة على من ليس له شيء، وصاحب الراتب الذي يبلغ أربعمئة ليرة لا يضره أن يدفع منها خمس ليرات ويقول: "هذه لله". والذي يربح عشرة آلاف من التجارة في الشهر يستطيع أن يتصدق بمئتين منها في كل شهر.
ولا تظنوا أن ما تعطونه يذهب بالمجان. لا والله، إنكم تقبضون الثمن أضعافًا؛ تقبضونه في الدنيا قبل الآخرة. ولقد
_________
(١) طعام من البُرغُل (وهو القمح المَجْروش) مع العدس.
1 / 9
جربت ذلك بنفسي. أنا أعمل وأكسب وأنفق على أهلي من أكثر من ثلاثين سنة، وليس لي من أبواب الخير والعبادة إلا أني أبذل في سبيل الله إذا كان في يدي مال، ولم أدخر في عمري شيئًا، وكانت زوجتي تقول لي دائمًا: "يا رجل، وفر واتخذ لبناتك دارًا على الأقل"، فأقول: "خليها على الله". أتدرون ماذا كان؟
لقد حسب الله لي ما أنفقته في سبيله وادّخره لي في «بنك» الحسنات الذي يعطي أرباحًا سنوية قدرها سبعون ألفًا في المئة. نعم! ﴿كَمَثَلِ حَبّةٍ أنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِئَةُ حَبّة﴾ وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح ﴿واللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يشاءُ﴾، فأرسل الله صديقًا لي سيدًا كريمًا من أعيان دمشق (١) فأقرضني ثمن الدار وأرسل أصدقاء آخرين من المتفضلين (٢) فبنوا الدار حتى كملت وأنا -والله- لا أعرف من أمرها إلا ما يعرفه المارّة عليها من الطريق، ثم أعان الله برزق حلال لم يكن محتسَبًا فوفيت ديونها جميعًا. ومَن شاء ذكرت له التفاصيل وسميت له الأسماء.
وما وقعت والله في ضيق قط إلا فرّجه الله عني، ولا احتجت لشيء إلا جاءني، وكلما زاد عندي شيء وأحببت أن أحفظه وضعته في هذا «البنك».
فهل في الدنيا عاقل يعامل «بنك» المخلوق الذي يعطي ٥% ربحًا حرامًا وربما أفلس أو احترق أو طيرته قنبلة، ويترك
_________
(١) هو الأستاذ السيد سعيد حمزة، نقيب الأشراف.
(٢) الإخوان الكرام الشيخ عبد القادر العاني والسيد سهيل الخياط والسيد فخري الحسني.
1 / 10
«بنك» الخالق الذي يعطي في كل مئة ربحًا قدره سبعون ألفًا؟ وهو «مؤمَّن عليه» عند رب العالمين فلا يفلس ولا يحترق ولا يأكل أموال الناس.
فلا تحسبوا أن الذي تعطونه يذهب هدرًا، إن الله يخلفه في الدنيا قبل الآخرة. وأنا لا أحب أن أسوق لكم الأمثلة، فإن كل واحد منكم يحفظ مما رأى أو سمع كثيرًا منها. إنما أسوق لكم مثلًا واحدًا: قصة الشيخ سليم المسوتي ﵀. وقد كان شيخ أبي، وكان -على فقره- لا يرد سائلًا قط، ولطالما لبس الجبة أو «الفروة» فلقي بردان يرتجف فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها السائل. وكان يومًا في رمضان وقد وُضعت المائدة انتظارًا للمدفع، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له فأعطاه الطعام كله! فلما رأت ذلك امرأتُه وَلْولَتْ عليه وصاحت وأقسمت أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت. فلم تمر نصف ساعة حتى قُرع الباب وجاء من يحمل الأطباق فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟ وإذا الخبر أن سعيد باشا شموين كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا، فغضب وحلف ألاّ يأكل أحد من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي. قال: أرأيت يا امرأة؟
وقصة المرأة التي كان ولدها مسافرًا، وكانت قد قعدت يومًا تأكل وليس أمامها إلا لقمة إدام وقطعة خبز، فجاء سائل فمنعت عن فمها وأعطته وباتت جائعة، فلما جاء الولد من سفره جعل يحدّثها بما رأى. قال: ومن أعجب ما مر بي أنه لحقني أسد
1 / 11
في الطريق، وكنت وحدي فهربت منه، فوثب عليّ وما شعرت إلا وقد صرت في فمه، وإذا برجل عليه ثياب بيض يظهر أمامي فيخلّصني منه ويقول: "لقمة بلقمة"، ولم أفهم مراده.
فسألَتْه عن وقت هذا الحادث وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير، نزعت اللقمة من فمها لتتصدق بها فنزع الله ولدها من فم الأسد.
والصدقة تدفع البلاء ويشفي بها الله المريض ويمنع بها الله الأذى، وهذه أشياء مجربة، وقد وردت فيها الآثار. والذي يؤمن بأن لهذا الكون إلهًا هو يتصرف فيه وبيده العطاء والمنع، وهو الذي يشفي وهو يسلّم، يعلم أن هذا صحيح، والملحد ما لنا معه كلام.
والنساء أقرب إلى الإيمان وإلى العطف، وإن كانت المرأة -بطبعها- أشد بخلًا بالمال من الرجل. وأنا أخاطب السيدات وأرجو ألاّ يذهب هذا الكلام صرخة في واد مقفر، وأن يكون له أثره، وأن تنظر كل واحدة من السامعات الفاضلات ما الذي تستطيع أن تستغني عنه من ثيابها القديمة أو ثياب أولادها، ومما ترميه ولا تحتاج إليه من فرش بيتها، ومما يفيض عنها من الطعام والشراب، فتفتش عن أسرة فقيرة يكون هذا لها فرحة الشهر.
ولا تعطي عطاء الكبر والترفع، فإن الابتسامة في وجه الفقير (مع الفرنك تعطيه له) خير من ليرة تدفعها إليه وأنت شامخ الأنف متكبر مترفع. ولقد رأيت بنتي الصغيرة بنان -من سنين- تحمل صحنين لتعطيهما الحارس في رمضان، قلت: تعالي يا بنت،
1 / 12
هاتي صينية وملعقة وشوكة وكأس ماء نظيفًا وقدميها إليه هكذا. إنك لم تخسري شيئًا، الطعام هو الطعام، ولكن إذا قدمت إليه الصحن والرغيف كسرت نفسه وأشعرته أنه كالسائل (الشحاد)، أما إذا قدمتِه في الصينية مع الكأس والملعقة والشوكة والمملحة يَنجَبِر خاطره ويحس كأنه ضيف عزيز.
ومن أبواب الصدقة ما لا ينتبه له أكثر الناس مع أنه هيّن. من ذلك التساهل مع البياع الذي يدور على الأبواب يبيع الخضر أو الفاكهة أو البصل، فتأتي المرأة تناقشه وتساومه على الفرنك وتظهر «شطارتها» كلها، مع أنها قد تكون من عائلة تملك مئة ألف وهذا المسكين لا تساوي بضاعته التي يدور نهاره ليبيعها، لا تساوي كلها عشر ليرات ولا يربح منها إلا ليرتين! فيا أيها النساء أسألكن بالله، تساهلن مع هؤلاء البيّاعين وأعطوهم ما يطلبون، وإذا خسرت الواحدة منكن ليرة فلتحسبها صدقة؛ إنها أفضل من الصدقة التي تُعطى للشحاد.
ومن أبواب الصدقة أن تفكر معلمة المدرسة حينما تكلف البنات شراء ملابس الرياضة مثلًا، أو تصر على شراء الدفاتر الغالية والكماليات التي لا ضرورة لها من أدوات المدرسة، أن تفكر أن من التلميذات من لا يحصل أبوها أكثر من ثمن الخبز وأجرة البيت، وأن شراء ملابس الرياضة أو الدفاتر العريضة أو «الأطلس» أو علبة الألوان نراه نحن هينًا ولكنه عنده كبير، والمسائل -كما قلت- نسبية، ولو كُلِّفت المعلمة دفع ألف ليرة لنادت بالويل والثبور، مع أن التاجر الكبير يقول: "وما ألف ليرة؟ سهلة"! سهلة عليه وصعبة عليها. كذلك الخمس الليرات أو
1 / 13
العشر، سهلة على المعلمة ولكنها صعبة على كثير من الآباء.
والخلاصة يا سادة: إن مَن أحب أن يُسخّر الله له مَن هو أقوى منه وأغنى فليُعِنْ من هو أضعف منه وأفقر، وليضع كلٌّ منا نفسه في موضع الآخر، وليحبّ لأخيه ما يحب لنفسه. إن النعم إنما تُحفَظ وتدوم وتزداد بالشكر، وإن الشكر لا يكون باللسان وحده. ولو أمسك الإنسان سبحة (١) وقال ألف مرة: «الحمد لله»، وهو يضن بماله إن كان غنيًا، ويبخل بجاهه إن كان وجيهًا، ويظلم بسلطانه إن كان ذا سلطان لا يكون حامدًا لله، وإنما يكون مرائيًا أو كذّابًا.
فاحمدوا الله على نعمه حمدًا فعليًا، وأحسنوا كما تحبون أن يحسن الله إليكم، واعلموا أن ما أدعوكم إليه اليوم هو من أسباب النصر على العدو ومن جملة الاستعداد له؛ فهو جهاد بالمال، والجهاد بالمال أخو الجهاد بالنفس.
ورحم الله مَن سمع المواعظ فعمل بها ولم يجعلها تدخل من أذن لتخرج من الأخرى.
* * *
_________
(١) وما عرف سلفنا الصالح هذه السّبحة.
1 / 14
حديث عن دمشق
نشرت سنة ١٩٤٧
(وقد أمضيت تلك السنة في مصر).
دخلت مخزنًا (في القاهرة) أشتري منه شيئًا، فسمع لهجتي الشاميةَ شيخٌ هِمٌّ (١) كان هناك، أبيض الشعر كأن رأسه ولحيته الثَّغَامَة (٢)، فالتفت إليّ وقال: أنت من دمشق؟
قلت: نعم.
فسطع على وجهه نور وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة مرّتْ في رأسه، وأخذ بيدي هاشًّا لي باشًّا بوجهي، فأقعدني معه وقال لي:
أهلًا بك، أهلًا وسهلًا، تَشرّفنا يا ولدي، فتعال. تعال حدثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي وزاد إليها اشتياقي. حدّثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن «الميزان» (٣). ألا يزال
_________
(١) الهِمُّ (بكسر الهاء) هو الشيخ الكبير الفاني (مجاهد).
(٢) وهي شجرة بيضاء الثمر والزّهر تنبت في أعالي الجبال، وإذا يبست اشتدّ بياضها (مجاهد).
(٣) كان «الميزان» متنزَّه أهل دمشق، وهو حيث يقوم اليومَ مستشفى المواساة. تجدون وصفًا له في «الذكريات»: ٢/ ٧٠، ٢٤٨ (مجاهد).
1 / 15
الميزان مثابة الطهر، ومعبد الجمال، وجنة الدنيا؟ ألا يزال السُّراة والتجار يصلّون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حق النفس بالتأمل كما قضوا في المساجد حق الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين ويعطيهم نعيم الدارين؟ ألا يزال زاخرًا بحِلَق الأحباب وجماعات الصحاب، عاكفين على «سَمَاوَرات» الشاي الأخضر، يشرفون على «قنوات» و«باناس» (١) وهما يَخطُران على العَدْوة الدنيا متعانقَين متخاصرَين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمَين خلال الورد والفل والياسمين كزوجين في شهر العسل، يظهران حينًا ثم تشوقهما الخلوة فيلقيان عليهما حجابًا من زهر المشمش والدراقن والرمان، وعلى العَدوة القصوى زوجان آخران حبيبان، يمضيان يتناجيان ويتخالسان القبل: «يزيد» و«تورا» (٢)؟ وبردى! ألا يزال يدب في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسمًا إلى بنيه ثم يلوي عن مشهدهم بصره وينطلق في طريقه لا يبالي. عاف الحب وملّ الغرام، وعلّمته تجارب العمر أن كل ما في هذه الحياة باطل إلا ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو ومتاع زائل. وقاسيون، الجَدّ العبقريّ الذي عاش عشرة ملايين سنة وما انفك شابًّا، وشاخ ابن أخيه بردى ولم يشخ، ألا يزال قاسيون قاعدًا قَعدة ملك جبار، قد رفع رأسه ومدّ ذراعين له من الصخر فأحاط بهما دمشق وغوطتها من الربوة إلى برزة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها كما تنام الحبيبة إن أضناها النعاس على ركبة الحبيب، واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل
_________
(١) ويدعوه الناس «بانياس»، وهو من فروع بردى السبعة.
(٢) من فروع بردى السبعة.
1 / 16
الوليد بصدر الأم الرؤوم؟ والشمس! ألا تزال الشمس تضحك لبردى وأبنائه، وتستحم أنوارها في مائه، وتسبح أشعتها في سمائه؟
وصدر الباز ومصطبة الإمبراطور والصوفانية والشاذِروان؟ حدثني عنها ... حدِّثْ عن دمشق، ألا يزال الناس يعيشون في دمشق للخير والجمال؟ ألا يزال التجار يخرجون من صلاة العصر فيغلقون دكاكينهم ويمضون إلى بيوتهم، إلى أولادهم وأهليهم. ثم يتعشون المغرب ويؤمّون المساجد، فإذا صليت العشاء خرجوا، فمنهم من عاد إلى داره ومنهم من ذهب إلى الدرس ومنهم من مشى إلى «الدَّوْر» ...
قل لي: ألا يزال «الدَّوْر» يجمع الإخوان المتآلفين والأحبة المتصافين، يسمرون في كل ليلة في منزل واحد منهم ينشدون الأشعار ويسوقون النوادر، ويروون المضحكات ويطالعون الكتب ويتجاذبون الحديث، ويأكلون ألوان الحلويات ويشربون الشاي، ثم ينصرفون إلى دورهم وقد استمتعوا أوفى ما يكون الاستمتاع وسرّوا أكثر ما يكون السرور، وما غشوا قهوة ولا أمّوا ملهى، ولا جالسوا غريبًا ولا أتوا محرمًا، ولا أنفقوا في غير وجهه مالًا؟
ألا تزال منازل المشايخ في «زقاق النقيب» و«حمام أسامة» (١) و«القيمرية» معاهدَ إرشاد، ومدارس علم، ودارات ملوك؟ قل لي! من بقي من تلك الأسر العلمية: آل حمزة وآل عابدين
_________
(١) عامة أهل الشام يسمّونه «حمام سامه» بالإمالة وخاصتهم يظنونه «حمام سامي».
1 / 17
والطنطاوي والعطار والخاني والطيبي والشطي والأسطواني والكزبري والعمادي والمحاسني والمنيني والخطيب؟ ألا يزال فيها العلماء الأعلام أم تنكّب الخلف طريقَ السلف واستبدلوا الدنيا بالدين، والمال بالعلم، والمنصب بالتقوى؟ والعلماء، ألا يزالون أعزة بالدين، يُعرضون عن الملوك فيسعى إلى أبوابهم الملوك، ويزهدون في الدنيا فتقبل عليهم الدنيا، ويهربون من الولايات والمناصب فتلحقهم المناصب والولايات؟ ألا يزال الناس يعكفون في دمشق على العلم لا يريدون به إلا الله والدار الآخرة، يثنون لذلك ركَبهم ويحيون ليلهم ويكدون نهارهم، ويقنعون في أيام الطلب بما سد الرمق، وحمل الجنب، وستر العورة، لا يسألون عما غاب من ذلك أو حضر، قد فكروا في غيره وأقبلوا على سواه، فكان العلم أملهم وكانت المطالعة شغلهم وكان ثواب الله مبتغاهم، قد صغرت الدنيا في أعينهم حتى إنهم لم يروها ليتكالبوا عليها ويذلوا من أجلها، و«يضربوا» عن التعلم إن لم يصلوا إليها؟ ألا تزال هذه المدارس عامرة، يجيئها الطالب فينام في غرفها ويستمع من مشايخها ويأكل من أوقافها، ويجعلها دنياه لا دنيا له وراء جدرانها: العمرية والمرادية والنورية والبادْرائية والقلبقجية ودار الحديث وجامع التوبة وباب المُصَلَّى والدقّاق ومدرسة الخياطين وأمثالها؟ ألا تزال زاخرة بالطلاب عامرة بالعلم عاملة للإصلاح؟
ومنازل دمشق! ألا تزال تلك المنازلَ الواسعة الصحون، ذات الظل والماء، والبرك والنوافير، والأشجار والزهور، والدواوين والمجالس، والصيانة والستر، فهي من خارجها
1 / 18
حواصل تبن ومن داخلها جنات عدن، وهي مصيف ومشتى، وهي مسكن وملهى، وهي دار وبستان؟
ألا تزال في دمشق الأسرة كلها تعيش في المنزل الواحد: الجد والأب والأعمام والأولاد ونساؤهم وأولادهم، ثم لا تجد خلافًا ولا شقاقًا ولا دسًّا ولا كيدًا؛ الصغير يوقّر الكبير ويطيعه، والكبير يرحم الصغير ويحبه، وكلٌّ يُؤْثر على نفسه ولا يحب لغيره إلا ما يحب لها؟
ألا تزال المرأة لبيتها ولزوجها، لا تقيس الطرقات ولا تقصد الأسواق ولا تعتاد منازل الخياطات؟ إن احتاجت شيئًا اشتراه لها بعلها، وإن أرادت زيارة أهلها ذهب معها، وإن اشترت ثوبًا خاطته بنفسها، والحجاب سابغ، والشهوات مقموعة، والزواج شامل؛ لا يبلغ الولد عشرين إلا وله ولد، ولا تصل البنت إلى الثامنة عشرة إلا ولها ولدان؟
والبوّابات! هل زالت البوابات التي كانت تُغلق كل ليلة بعد العشاء وتسد الطرقات في وجوه لصوص الأموال والأعراض فلا تُفتح إلا لقاصد بيته أو ذاهب في حاجة مشروعة؟
والأحياء! ألا يزال في كل حيّ عقلاؤه وسادته، يسعون لخيره ويعينون عاجزه ويسعدون فقيره، ويأخذون من فضل مال الغني ما يسدّ خلة المحتاج، وإذا رأى أحدهم غريبًا في الحي سأله من هو وما يكون، فلا يدخل الحي إلا رجل شريف. وإن وجد امرأة متبرجة نصحها وزجرها وبحث عن وليها ليحميها. وإن علم بأن دارًا تُرتكب فيها فاحشة عقد مجلسًا فدعا المؤجر
1 / 19
والمستأجر وكانت المحاكمة التي لا تؤدي إلا إلى منع الفاحشة في غير ظلم ولا عدوان؛ فكان الحي كله كالأسرة الواحدة، وكان البلد مجموعةَ أسر كلها خيّر فاضل نبيل؟
ألا يزال الناس في وئام وسلام فلا نزاع ولا خصام، يعرف كلٌّ منهم حقه فلا يطلب إلا أقل منه، ويعرف ما عليه فلا يقصر في أدائه، وإن اختلفوا رجعوا إلى العالِم ورضوا بحكمه؛ لا يعرفون المحكمة إلا إن استحكم الخلاف، وقلما كان يستحكم الخلاف؟
ألا يزال القاضي الشرعي مرجعَ كل خصومة ومصدرَ كل حكم، يحكم في كل قضية بشرع الله، فلا تطويل ولا تأجيل، ولا مراوغين ولا محامين (١)؟
ألا يزال كل ما يحتاج إليه الناس يُصنع في دمشق، فلا يأكلون إلا حاصلات بلادهم، ولا يلبسون إلا نسيج أيديهم، ولا يتداوون إلا بعشب أرضهم؛ لا يدفعون أموالهم إلى عدوهم ولا يعينونه بها على أنفسهم؟
ألا يزالون سعداء راضين؟ قد انصرف العالم لعلمه، والتاجر لتجارته، والطالب لدرسه، والمرأة لبيتها؛ لا يشتغل أحد بغير شغله ولا يدخل فيما لا يعنيه، قد تركوا السياسة لنفر منهم أخلصوا لهم فوثقوا بهم، ورأوا أمانتهم فأعطوهم طاعاتهم، ورأوهم لا
_________
(١) معذرة يا ساداتي المحامين؛ فقد جرتكم القافية ليس إلا ... وحقكم على الشيخ المحدّث لا عليّ أنا!
1 / 20
يسرقون مالهم، ولا يمالئون عدوهم، ولا يضيعون مصالحهم، فلم يَنْفِسوا عليهم زعامتهم ولا ضيقوا عليهم مكانتهم؟
* * *
فقلت للشيخ: منذ كم فارقتَ دمشق يا سيدي؟
فتنهد وقال: منذ سنة ١٨٩٧، فارقتها شابًا ولم أدخلها بعد ذلك أبدًا.
فرحمت الشيخ أن أفجعه في أحلى ذكرياته وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته، فتلطفت فودعته ولم أقل له شيئًا. وماذا أقول؟
أأقول له: إن أهل الشام قد انصرفوا عن صدر الباز والميزان والصوفانية والشاذروان وأهملوها حتى صارت مزابل لأنهم آثروا عليها العباسية والهافانا وشهرزاد ونادي الصفا؟
وأنهم هجروا منازلهم التي كانت جنّات ليسكنوا -كالإفرنج- في طبقات كأنها سجون أو مغارات، وأن أبناء العلماء الأتقياء، صاروا من الفسّاق الجُهلاء، وأن مدارس العلم هُدمت أو سُرقت، وأن غرفها احتُلّت لتكون مساكن أو قهوات أو مخادع شهوات، وأن طلبة العلم الديني يطلبونه للمناصب والمراتب والأموال والرواتب، وأن الأسر انصدع شملها وتفرق جمعها، وأن النساء ملأن اليوم الطرقات وأممن المخازن والسينمات وعاشرن الشبّان في المدارس والملهيات، وأن البنات كسدن في البيوت لمّا آثر الشباب اللهو على الزواج والسِّفاح على النكاح، وأن الأحياء غلب
1 / 21
عليها سفهاؤها وضعف عن حكمها عقلاؤها، وأن الناس اختلفوا وتنازعوا وفشا فيهم الغش والخداع، وأن المحاكم هجرت شرع الله وحكمت بقوانين فرنسا، وأن الناس تركوا أشغالهم واشتغلوا بالسياسة، وأن الزعماء طلبوا المال والجاه وآثروا مصالحهم على مصالح الناس، وأن الموظفين غلبت عليهم الرشوات والبراطيل والسرقات، وأننا تركنا مصنوعات بلادنا وكرهنا أزياءها وتعلقنا بأذناب الغربيين وأعطيناهم أموالنا، وأنه قد ارتفع الوِفاق وحل الشقاق، وذهب الرخاء وجاء السخط، فالرجل يختلف أبدًا مع زوجته، والأب ينازعه ابنه، والشريك يسرقه شريكه، وليس فينا راضٍ ولا قانعٌ ولا سعيدٌ، ما فينا إلا شاكٍ باكٍ كاره الحياة متمنٍّ الموت؟ ... ثم إننا لم نحسّ أن هذا كله من لعنة هذه المدنية الغربية ومن ثمراتها المرة التي لا يمكن أن تثمر غيرها!
ولكن لا؛ فإن في دمشق خيرًا كثيرًا، لا يعرف خيرها إلا من يعيش في غيرها. إن دمشق التي يصفها الشيخ لم تمت ولا تزال تتردد ذَماؤها، فإما أن تنعشها «رابطة العلماء» ويمدها الإخلاص بالقوة حتى تنقذها، وإما أن يغلب القضاء فيموت المريض تحت يد الطبيب ...
ولن تموت دمشق الإسلامية بحول الله أبدًا.
* * *
1 / 22
رمضان
نُشرت سنة ١٩٥٢
لما قعدت أكتب هذا الحديث تقابلت في نفسي صورتان لرمضان: رمضان المزعج الثقيل الذي قدم يحمل الجوع والعطش؛ ترى الطعام أمامك، يدك تصل إليه ونفسك تشتهيه ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويلهب الظمأ جوفك والماء بين يديك ولكنك لا تقدر أن تشربه، وتكون في أمتع نومة فيأتي رمضان فيوقظك لتأكل من جوف الليل وأنت تؤثر لحظة منام على كل ما في الدنيا من طعام، وإن كنت صاحب دخان منعك من دخينتك (سيكارتك) أو نارجيلتك؛ فهو شهر مشقة وتعب وجوع وعطش.
ورمضان الحلو الجميل الذي يقوم فيه الناس في هدءات الأسحار وسكنات الليل، حين يرقّ الأفق وتزهر النجوم ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يعرض كنوز فضله على الناس ويفتح لهم باب رحمته، يقول جلّ وعلا: «ألا مِن مستغفر فأغفرَ له؟ ألا من سائل فأعطيَه؟»، فيسأل الطالب ويستغفر المذنب، فيُعطى السائل ويُغفر للتائب، وتتصل القلوب بالله فتحسّ بلذة لا تعدل لذاذاتُ الدنيا كلُّها ذرةً واحدة منها. ثم يسمعون صوت
1 / 23