اختلاف الطبائع، وتركيب الخلْق؛ فإن سلامةَ اللفظ تتبعُ سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخِلقة. وأنت تجدُ ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجافي الجِلْف منهم كزّ الألفاظ، معقّد الكلام، وعْر الخطاب؛ حتى إنك ربما وجدتَ ألفاظه في صوته ونغمته، وفي جرْسه ولهجته. ومن شأن البداوة أن تُحْدث بعض ذلك؛ ولأجله قال النبي ﷺ: مَنْ بَدا جَفا. ولذلك تجد شعر عَديّ - وهو جاهلي - أسلسَ من شعر الفرزدق ورجَز رؤبة وهما آهلان؛ لملازمة عديّ الحاضرة وإيطانه الريف، وبُعده عن جلافة البدْو وجفاء الأعراب، وترى رقةَ الشعر أكثرَ ما تأتيك من قِبَل العاشق المتيّم، والغزِل المتهالك؛ فإن اتفقت لك الدماثةُ والصّبابة، وانضاف الطبعُ الى الغزل؛ فقد جُمِعت لك الرقةُ من أطرافها.
فلما ضرب الإسلام بجِرانه، واتسعت ممالك العرب، وكثُرت الحواضر، ونزعت البوادي الى القرى، وفشا التأدّب والتظرّف اختار الناسُ من الكلام ألينَه وأمهَله، وعمَدوا الى كل شيء ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنَها سمعًا، وألطفها من القلب موقِعًا؛ والى ما للعرب فيه لغاتٌ فاقتصروا على أسلسها وأشرفها؛ كما رأيتهم يختصرون ألفاظ الطويل؛ فإنهم وجدوا للعرب فيه نحوًا من ستين لفظة؛ أكثرها بشِع شنع؛ كالعشنّط والعنَطْنَط والعشنّق، والجسْرَب والشّوْقَب والسّلْهب والشّوْذب، والطّاط والطّوط، والقاق والقوق، فنبذوا جميع ذلك وتركوه، واكتَفوا بالطويل لخفّته على اللّسان، وقلة نبُوّ السمع عنه. وتجاوزوا الحدّ في طلب التسهيل حتى تسمّحوا ببعض اللّحن، وحتى خالطتهم الركاكة والعُجْمة، وأعلنهم على ذلك لينُ الحضارة وسهولةُ طباع الأخلاق، فانتقلت العادة، وتغير
1 / 18