ومع أن البرلمان قد حل قبل أن يجتمع، فقد صدرت الأوامر بانتخاب مجلس جديد وظلت الصحافة حرة، لكن اليسوعيين عادوا إلى المسرح كما ظهرت الشرطة القديمة في الميدان ومنعت الاجتماعات العامة، وكانت البلاد قد بوغتت في 15 أيار، وكان أغلب الناس في اضطراب شديد لا يستطيع معه العمل، وأنه حنق للحوادث التي جرت في نابولي ولاستدعاء «ببه» إلا أنه كان لا يزال يميل للاعتقاد بقسم الملك، وأن شارل ألبرت سوف ينتصر لا محالة، أما البلاط فلم يجرؤ على إقامة الدستور.
وكانت الإيالات الجنوبية مستقلة عن نابولي بصورة عملية، وكانت الثورة تتمخض فيها وفي نواحي جبال أبروزا، إلا أن فقدان الأسلحة وقلة الثقة المتقابلة حالا دون قيام الإيالات بعمل مشترك، وتركت كالابريه وحدها ترفع راية العصيان، والتحق آلاف من الناس بجيش الثورة، وانضم إليها موظفون من جميع المناصب، ودلت قلة الجرائم وإسراع الناس إلى تأدية الضرائب على أن البلاد كانت مجمعة على الانقياد للحكومة الثائرة، وكانت تحتاج إلى قائد مثل غريبالدي يقضي على عدم الثقة والحسد اللذين برزا للعيان وبسببها رفضت القوة المرسلة من صقلية البالغة 600 شخص الحركة مع الكالابريين.
وقد انتهز الملك الفرصة وساق ثمانية آلاف من الجند إلى إيالة كالابريه، واقترفوا فيها من المظالم ما أفزع الأهلين وأخمد حركتهم، ولما حل الخريف ورغب القرويون في الذهاب إلى أهلهم ولأجل الحصاد؛ اجتاح قائد الجند تلك الإيالة المسكينة وشجع القرويين على نهب أموال الأحرار وساق الرؤساء الأسرى إلى برج جايته.
وأظهرت الانتخابات التي جرت تمسك الناخبين بالأحرار، ففاز الأعضاء القدماء في جميع الأنحاء، وتجلى في نابولي شعور البلد الحانق، وكان الامتعاض سائدا بين الوطنيين حتى خلت المراسح والمقاهي وقوطع الضباط مقاطعة شديدة، وأخذت مؤامرة جريئة تحاك ، وأخذ البعض يحلمون بتوحيد الجنوب بالشمال بزعامة آل صافويه، وكانوا قد نادوا بشارل ألبرت ملكا لإيطالية، ولكن البرلمان أخذ يظهر ضعفه السابق، وبدأ الأعيان يؤازرون الحكومة بشدة وكان كثير من النواب يخشون الاقتراع ضدها، ورغبت الأكثرية في التفاهم مع الملك ومؤازرة الحكومة؛ إذ قررت سوق الجنود إلى الحرب، وقد تجاهلت ثورة كالابريه وأغمضت عينها عن طمع الملك بالاستيلاء على صقلية من جديد، ولكن التفاهم مني بالفشل، وأخذ يوزيلي يظهر عدم ارتياحه للحال بالتخلف عن حضور جلسات المجلس النيابي، أما الملك فصم آذانه عن طلبات المجلس، ومع ذلك فإن الحكومة لم تجرؤ على حل المجلس إلا أنها لم تكن تجري انتخابات للمقاعد الشاغرة.
ولما حلت مصيبة كوستوزه وجدت الحكومة في نفسها الجرأة الكافية للهجوم على صقلية وأجلت اجتماع البرلمان، ولأجل القضاء على كل مقاومة من جانب الطبقة الوسطى رتب رجال الشرطة مظاهرة في سانتا لوسيا ضد المجلس النيابي، ولما اصطدم العمال الحانقون بالدهاء شتتوا شملهم، وكان هذا الحادث قد جهز الملك بالحجة اللازمة ليقضي على الأحرار.
وحين أخذ انتصار النمسويين يبشر بنجاح الحركة الرجعية رفع رجال الكاماريلا القناع عن وجوههم، وكان بوزيلي مؤيدا لهم، وأخفض عدد الحرس الوطني في العاصمة، حتى أصبح عنصرا مهملا، واضطهد الأمناء والولاة من الأحرار وفصل ذوو المناصب من مناصبهم، وطهر القضاء من العناصر الحرة حتى صار أداة بيد الشرطة، وتزايد تحكم الجيش حتى أصبحت حياة الأهلين تحت رحمة الضباط، وجلد بعض الناس وقتل آخرون من قبل الجند، وبعد أن قضى فرديناند على الثورة اعتبر أول ملك أعاد النظام في أوروبا، وقد اتخذ برج جايتة مسكنا للأمراء الذين اعتبرهم في عداد المسئولين عن نجاح الأحرار في حركتهم الأخيرة.
ومع ذلك فإنه لم يقدم على وقف الحياة الدستورية خشية ثورة البلد الذي مهما كان مطيعا فقد يعود ويصبح خطرا؛ ولذلك ظلت الحياة الدستورية قائمة ولكن بصورة اسمية، وقد قطعت العلاقات السياسية مع تورينو وفلورنسة، ولما شرعت الحركات الحربية من جديد في الشمال أقدم الملك على العمل، فاستدعى الوزير النمسوي المفوض الذي كان غادر البلاد وشرع بالحركات من جديد في صقلية وأعلن حل البرلمان، ولما وصلت أخبار نوفاره انطلقت أيدي يوزيلي والكاماريلا، واعتقل معظم النواب وهرب بعضهم وقيدت الصحافة وأغلقت المدارس وعوضد اليسوعيون.
وبينما استعبدت نابولي لأنها واجهت الأحداث بخور ونقص في شجاعتها فإن صقلية استقبلت محنتها بوطنية شديدة وبطولة عنيفة وشجاعة فائقة، فلم تلق السلاح إلا بعد أن أضاعت كل أمل، على أنها لم تخل من الأخطاء التي ارتكبتها الدويلات الأخرى، فأسلوب الحكم وعدم نسيان الحزازات الحزبية وخيانة البعض من الطبقة المتغلبة مما أدى إلى فشل القضية في الدويلات الأخرى.
وكانت الظواهر تدل على أن نابولي لن تستطيع أن تسترد صقلية، وكانت إنجلترة وفرنسة وروسية يتسابق كل واحدة منها لتجعلها تحت حمايتها، وكانت صقلية الدولة الإيطالية الوحيدة التي تعتز بماض دستوري يمكنها أن تنتفع به، وقد اتفقت كلمة الجميع فيها من الأشراف وعظماء الإكليروس واليسوعيين إلى القضاة والتجار والقرويين على الاحتفاظ باستقلال الجزيرة.
وكان رجال الأحزاب في نابولي من الملكيين والمعتدلين والدموقراطيين لا يأبهون كثيرا بموقف صقلية الغامض؛ لذلك كان من السهل على الحكومة التي كان أعضاؤها لا يعطفون على الحركة القومية أن تسوغ موقفها من صقلية ورفض مطاليبها، وكانت صقلية قد اشترطت للتفاهم إقامة برلمان منفرد للنظر في شئون صقلية الخاصة ورفض دستور سنة 1812 رفضا باتا، ولما رفضت نابولي تلك المطالب أعلن برلمان باليرمو سقوط آل بوربون عن عرش صقلية وانتخب «روجيير وستمو» رئيسا مؤقتا للدولة ريثما ينتخب ملك للجزيرة.
Página desconocida