كانون الثاني-آذار1860
أدركت الجماعات القومية بأن العمل لما يتم، وأن ضم إيطالية الوسطى لم يكن سوى الخطوة الأولى، وأنه ما لم تنضم إيطالية الجنوبية وفنيسيه وما بقي من ممتلكات البابا إلى المملكة الجديدة فلن تهدأ الأحوال، وإذا هدأت فلمدة قصيرة فقط، ولم تختلف هذه الجماعات فيما بينها إلا على الوقت الذي ينبغي أن يتخذ فيه التدبير الأول وعلى كيفية هذا التدبير، فمازيني كان مقتنعا بأنه لا يمكن أن ينتظر من كافور بأن يبدأ بالسعي؛ فلذلك استمر على العمل الذي توقف حينما استدعى غاريبالدي إلى الروماني، وكانت خطته لا تتخلف عن سابقها وهي إعداد العدة لإيقاد الثورة في صقلية وأومبريه في آن واحد وتوجيه قوى الثورة نحو نابولي ، وإذا ما بدأت الثورة فإن الرأي العام كفيل بإجبار حكومة بيمونته على مد يد المعونة إليها.
وكان كريسبي أحد زملائه الأشداء قد أسعر ثورة في صقلية في كانون الأول وأمال إلى جانبه فاريني ولعله أقنع رتازي بتقديم مساعدة الحكومة للحركة، وكان مازيني وكريسبي يسعيان لكسب غاريبالدي حتى يصبح قائدا لحركتها، أما العقلاء من الحزب المتطرف مثل مدويجي وبرتاني فكانوا يخشون أن تنتهي الحركة بالفشل كما انتهت مشاريع مازيني المشئومة؛ ولذلك اشترطوا بأن يتسلم غاريبالدي زمام الثورة وكانوا يرغبون من صميم قلوبهم بأن يتم التفاهم بين كافور وغاريبالدي.
أما كافور فقد اشتدت عزيمته للظفر بالوحدة وهو الذي قال بعد معاهدة فيلافرنكة: «إنهم منعوني من تكوين إيطالية بالسياسة بادئا من الشمال، فسأخلقها بالثورة بادئا من الجنوب.» وكان أحيانا يرى بأن على الجنوب أن ينتظر وأنه يحسن بأن تبدأ الحركة أولا بالهجوم على فنيسيه، ومهما يكن الرأي فإنه عزم بكل قوته على تنفيذ منهج الوحدة بأجمعه عاجلا أو آجلا، وقد كتب دازجيلو يقول: «لقد أصبحت الوحدة منارنا.» وكان الملك جزوعا أيضا ولم يكن أي اختلاف بين كافور ومازيني وريكاسولي وغاريبالدي والملك فيما يتعلق بضرورة السير إلى الأمام، وإنما كانوا يختلفون في الهدف الأول: أيكون فنيسيه وممتلكات البابا أم الجنوب.
وكانت فنيسيه توشك أن تفقد رجاءها بعد معاهدة فيلافرنكة وأخذ أهلها يفرون بالآلاف مجتازين الحدود؛ للانخراط في سلك الجيش الإيطالي، أو لتدبير المؤامرات في مودينه أو ميلانو، ولما فازت القضية القومية في إيطالية الوسطى تنفست الإيالة الصعداء وامتدت شبكة من الجمعيات السرية في جميع أنحائها، وقد شجع اضطهاد الحكومة النمسوية والضرائب الباهظة على الثورة، فأخذ كافور يقرع آذان العالم الأوروبي بالحديث عن الآلام التي تكابدها فنيسيه.
وكانت الحركة قومية لا بابوية بطبيعة الحال، ومن شأنها أن تؤدي عاجلا أو آجلا إلى انهيار السلطة الزمنية للبابا، وقد شرع كافور حملته بالقيام بالإصلاحات في جميع الإيالات المحررة، فاشترع فيها نظام النكاح المدني وألغى فيها الأديرة، ولعل الإصلاحات سارت فيها شوطا بعيدا لم تبلغه بيمونته، فطرد اليسوعيون من جميع الأنحاء وأصبحت أملاكهم ملكا للأمة، وألغيت الاتفاقية الدينية في لمبارديه وتمتع الناس بحرية العبادة.
أما في بودينه وبارمه فنفدت قوانين سكاردي وأباح جيرباني في الروماني التعبد ومنع الإكليروس من مراقبة التعليم والأمور الخيرية، أما في طوسكانه فألغى ريكاسولي وصالفا جنولي الاتفاقية الدينية وأعاد قوانين لئويولد، ولبى رهبان لمبارديه الذين يفوقون جميع زملائهم في إيطالية بالوطنية أوامر حكومة بيمونته وتحرر رهبان طوسكانه من نير الاتفاقية التي فرضت عليهم الخضوع للأساقفة، أما الإكليروس الفقير فتلقى التشريع الذي يزيد في وارداته الضئيلة بسرور وارتياح.
أما روما فلم تلق فيها الدعوة إلى المصالحة والسلم آذانا صاغية، وإذا كان بعض الرهبان الأحرار يرضون عن المبادئ الواردة في رسالة «البابا والمؤتمر»، ويوافقون على أن تتقلص ممتلكات الحكومة؛ فإن أكثر أنصار البابا كانوا يعتبرون حقوق البابا مقدسة لا يجوز مسها، وأن التخلي عن الروماني معناه الاعتراف بالتخلي عن الإيالات الأخرى أيضا، وكان البابا منذ مدة طويلة قد حرم جميع الذين اشتركوا بالثورة، وحكم بكفر دازجيلو؛ لأنه قال لأهل بولونيه: «خلق الله الإنسان حرا في آرائه الدينية والسياسية.»
وقد صب أنصار البابا كل سخطهم على بيمونته وكانوا يعتبرون بيمونته مرادفة للثورة فهما شيء واحد، وفي شهر تشرين الأول سلمت الحكومة البابوية الممثل البيمونتي في روما جواز سفره، ثم رفض البابا بعد ذلك كل سعي في التفاهم وكان أنتونللي يعتمد قبل كل شيء على الجيش، ولكنه كان لا يستطيع أن يركن أبدا إلى الجنود من الأهليين؛ لأنهم كانوا يجندون من سقط المتاع. وعليه، فقد وجه نداء إلى أوروبا الكاثوليكية يستمد منها فيه الجند والمال للدفاع عن العرش البابوي ضد الحملات الإلحادية، ومع أن الكاثوليك لم يجودوا بما لهم فقد تدفق المتطوعون من النمسة وسويسرة وبلجيكة وفرنسة وأيرلندة أفواجا للدفاع عن مصلحة الكنيسة ضد الإلحاد الثوري الذي يهدد أوروبا!
إن عملهم هذا لا يمكن تصويبه لأنهم قد أتوا لصيانة الفساد الذي لم يتحملوه هم في بلادهم، وجاءوا يقاومون الشعب المضطهد جد الاضطهاد، والذي يجاهد للحصول على حريته، وكان بينهم فتيان مثقفون من الشجعان الأتقياء الذين ينتمون إلى أشهر الأسر، وقد تركوا قصورهم الهادئة من بريطانية وبلجيكة وهرعوا للدفاع عن قضية لا يليق بهم أبدا أن يضحوا بأنفسهم لأجلها.
Página desconocida