Why We Pray - Introduction

لماذا نصلي - المقدم

Géneros

لماذا نصلي؟ [١] للصلاة مكانة وخصائص متميزة منها: أنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود دين الإسلام، وأكثر العبادات ذكرًا في القرآن، وآخر وصايا الرسول ﷺ العدنان، وقد سماها الله تعالى إيمانًا، وجعلها النبي ﷺ إيمانًا، وقد فُرضت على جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فهي أم العبادات، ولها خصائص كثيرة تبين مدى مكانتها الصلاة عند الله ﷿.

1 / 1

الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده. أما بعد: فنجدد العهد بموضوع هو في غاية الأهمية، وهو لا ينفصل عما نحن فيه وعما نعايشه من أحداث، ألا وهو موضوع الصلاة ومكانتها وخصائصها وآثارها على المسلمين أفرادًا وأمة، وهذا من باب قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ [الأعلى:٩]، وقد بين تعالى من ينتفع بالذكرى حين قال ﷿: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات:٥٥]. فللصلاة مكانة متميزة ينبغي أن نستصحبها في كل أحوالنا، وأن نجتهد في إصلاح صلاتنا، فإن ذلك أحد مفاتيح استحقاق نصر الله ﵎؛ وذلك لأن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي أفضل الأعمال بعدهما؛ لكونها وضعت على أكمل وجوه العبادة وأحسنها؛ ولأنها تجمع متفرق العبودية، وتتضمن أقسامها، وهي أول ما اشترطه رسول الله ﷺ بعد التوحيد، وهي رأس العبادات البدنية، وهي دين الأمة ضرورة، ولم تخل منها شريعة مرسل، وهي فرض عين بالكتاب والسنة والإجماع، فرضها الله ﷿ ليلة المعراج على نبيه ﷺ في السماء، وذلك بخلاف سائر الشرائع. إن من خصائص الصلاة أنها فرضت على هذه الأمة ليلة المعراج في السماء، فدل ذلك على عظم حرمتها، وتأكد وجوبها على كل مسلم مكلف، ولا تسقط عنه بحال من الأحوال، ما عدا الحائض والنفساء بخلاف غيرها من الأركان. ومع هذه المكانة العظيمة للصلاة شاع في عصرنا -عصر الغربة الثانية- تهاون الناس بها، وتفريطهم في حقها، مع انهماكهم في صنوف اللهو واللعب، وتهالكهم على جيفة الدنيا وحطامها، فمن ثم تمس الحاجة إلى أن نجدد ذكرى، ونحدث عهدًا، بعظيم قدرها وجسامة خطرها، ونتكلم على خصائص الصلاة وأهميتها. نبدأ ببيان أن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، إذ يقول الله ﷾ في المشركين: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:١١] قوله: (فإن تابوا) يعني: إن تابوا من الشرك ودخلوا في الإسلام والتزموا أحكامه أما بدون ذلك فلا أخوة. وقال ﷺ: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) متفق عليه. وقال ﵌ لـ معاذ ﵁ لما بعثه إلى اليمن: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ﷿، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم) إلى آخر الحديث المتفق عليه. قوله ﷺ: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ﷿ أي: أول شيء هو توحيد الله ﵎. وفي لفظ لهذا الحديث: (فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله). فقوله هنا في هذه الرواية: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ﷿ أي: عبادة الله ﷿ وحده لا شريك له، كما في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] أي: ليعبدوني وحدي لا يشركوا بي شيئًا، وهذا هو معنى لا إله إلا الله. قوله: (فإذا عرفوا الله) يعني: بالتوحيد. قوله: (فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم) فالصلاة صلة بين العبد وبين الرب ﵎، وهي صلة فريدة لا نظير لها ولا مثيل لها، لا يدركها ولا يفقهها إلا من عرف صفة العبد وصفة الرب، والصلات بين طرفين تابعة لصفات كل منهما، ونابعة منها، ولذلك لهجت الكتب السماوية بذكر الصفات قبل أن تحدد الصلات، وتدعو إلى العبادات، وتسن الفرائض وتحث على الطاعات، فمن ثم دائمًا تسبق العقيدة العمل والعبادة؛ لأن العقيدة لها الأولوية المطلقة. قوله: (فإذا هم عرفوا الله -أو وحدوا الله- فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فالأولوية للتوحيد، يليه العبادة، وفي رأس العبادة تكون الصلاة. كذلك دعا الرسل إلى توحيد الله في أسمائه وصفاته وأفعاله، وإلى تنزيهه وتقديسه ومعرفته المعرفة الصحيحة قبل أن يدعو إلى أي شيء آخر، والقرآن الكريم نفسه أكبر شاهد على ذلك، إذ كان مفتاح دعوة جميع الرسل: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون:٣٢] هذا فيما يتعلق بالعلاقة بين الصفات والصلات. فلابد لكل امرئ أن يعرف قدر نفسه، فالعبد يعرف نفسه أنه عبد ذليل ضعيف محتاج إلى الله ﵎. كذلك ينبغي على العبد أن يعرف ربه، فإذا عرف ربه وعرف نفسه هنا تقوم الصلة بين رب وبين عبد، بين خالق ومخلوق، بين غني وفقير وهكذا. قال ﵌: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) متفق عليه. قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) كلمة الشهادة لا تكون إلا على شيء قام عليه بينة ودليل حسي، والشخص لا يشهد مثلًا في محكمة أو في القضاء إلا على شيء رآه أو سمعه أو شهده وحضره، فأنت حينما تقول: لا إله إلا الله فأنت لا تقولها تقليدًا، وإنما تبنيها على أدلة، وتشهد بأن هذه الأدلة تثبت لك أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. من المؤلم جدًا أننا نستغرق أحيانًا في بعض القضايا الفكرية أو السياسية إلى آخره، ونغفل أمورًا هي في غاية الأهمية بالنسبة للمسلم، للأسف الشديد أنك قد تسأل بعض الناس، وقد يكون ملتزمًا أو طالب علم: كيف تثبت مثلًا نبوة محمد رسول الله ﷺ؟ أو كيف تثبت أن القرآن معجزة؟ فلا يستطيع أن يجيب! هذه الأمور في غاية الأهمية، وهي أساسيات العقيدة التي ينبغي أن نصرف إليها جل وقتنا، وألا ننشغل عنها بغيرها. قوله: (فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) أي: سأقبل منهم الظاهر أما ما في الباطن فهذا إلى الله ﵎. عن أبي سعيد ﵁: (أن رسول الله ﵌ لما قسم الغنائم، قال رجل: يا رسول الله! اتق الله، فقال ﷺ: ويلك! ألست أحق أهل الأرض أن أتقي الله؟! فقال خالد بن الوليد ﵁: ألا أضرب عنقه يا رسول الله؟! -لأن هذه الكلمة لا تصدر إلا من منافق- فقال ﷺ: لا، لعله أن يكون يصلي) متفق عليه، فالصلاة تعصم دم الشخص وماله ما دام يقيمها. إن الصلاة مانعة وحائلة دون الخروج على أمراء الجور والظلم، حتى الأمير الجائر أو الظالم ما دام يقيم الصلاة في نفسه ويقيمها في الناس فحينئذٍ لا يجوز الخروج عليه، قال ﵌: (يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) رواه مسلم. وفي حديث آخر: (قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم -أي: نقاتلهم-؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) رواه مسلم أيضًا. هذا فيما يتعلق بكون الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين على الإطلاق.

1 / 2

الصلاة عمود دين الإسلام إن الصلاة أهم أمور الدين، فهي أجل مباني الدين بعد التوحيد، ومحلها في الدين محل الرأس من الجسد، فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له، كذلك لا دين لمن لا صلاة له. كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ يكتب إلى الآفاق: (إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة). إذًا: فالصلاة هي مقياس تعظيم الإسلام في قلبك. قوله: (إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها فقد حفظ دينه) هذه قاعدة: من حفظ الصلاة فهو لما سواها أحفظ، وهذا أمر واقع ندركه بالحس، فمن كان يحافظ على الصلوات الخمس في جماعة، ويؤدي حقوقها وخشوعها، فهل يعرف أحد منكم شخصًا يقيم الصلاة بهذه الصورة ثم إذا أتى رمضان مثلًا يفطر عمدًا؟! هذا لا يكاد يقع أبدًا، ولا يتصور أن مسلمًا يحافظ على الصلاة ويتهاون في صيام رمضان، لكن ممكن أن نجد معظم الناس يجتهدون جدًا في الصيام في رمضان، لكنهم يضيعون الصلاة. إذًا: من حافظ على الصلاة فهو لما سواها أحفظ؛ لأنه من حافظ على الصلاة وأداها خمس مرات في اليوم والليلة، فبلا شك أن شهرًا في السنة كرمضان سيكون أسهل عليه، وكذلك الزكاة، وكذلك غيرها من الواجبات. فهذه القاعدة مهمة جدًا، فمن أراد أن يستقيم على دينه، وتسهل عليه أمور الطاعات؛ فليحافظ على الصلاة، فإن القاعدة: أن من حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع؛ لأن من هانت عليه صلاته لن يعز عليه شيء. فقول عمر: (إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) يعني: أن الصلاة عون على باقي أركان الدين؛ لأنها تذكر العبد جلالة الربوبية، وذلة العبودية، وأمر الثواب والعقاب، فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة، ولذلك قال ﵎: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ [البقرة:٤٥] أي: استعينوا بالصبر والصلاة على كل شيء مما يلم بالمرء، فإنه محتاج إلى أن يستعين عليه بالصبر والصلاة. يقول ﵌: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، فالصلاة قوام الدين الذي يقوم به كما يقوم الخباء على عموده، وهل يرفع الخباء ألف وتد إن لم يكن له عماد في الوسط؟ لا يمكن أبدًا، فكذلك الصلاة. وعن المسور بن مخرمة ﵁ قال: (دخلت على عمر بن الخطاب ﵁ وهو مسجى -يعني: بعدما طعن ﵁ فقلت: كيف ترونه؟ قالوا: كما ترى، قلت: أيقظوه بالصلاة) يعني: كان أمير المؤمنين في حالة إغماء من شدة النزيف الذي حصل له؛ لأن الرواية بينت أنه طعن في مقتل، طعن في المعدة، وكان النزيف شديدًا جدًا، والدليل أنهم لما سقوه لبنًا خرج مع الدم، ولما كان في هذه الحالة قال لهم المسور: (أيقظوه بالصلاة؛ فإنكم لن توقظوه بشيء أفزع له من الصلاة، فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، فقال: ها الله إذًا، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه ليثعب دمًا رضي الله تعالى عنه) يعني: يتفجر منه الدم ويسيل، وهذا الأثر صحيح.

1 / 3

اقتران الصلاة بالفرائض والعبادات في الغالب إن من خصائص الصلاة أنها توءم الفرائض والأركان، وتعتبر الصلاة قاسمًا مشتركًا، وغالبًا ما تذكر مع العبادات الأخرى، فهي توءم لكل العبادات، وهي أكثر العبادات ذكرًا في القرآن الكريم، تارة تخص بالذكر منفردة كما في قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود:١١٤]. وتارة تقرن بالصبر كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ [البقرة:١٥٣]. وتارة تقرن بالزكاة كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:٤٣]. وتارة تقرن بالجهاد كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج:٧٧ - ٧٨]. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله ﷺ قال: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله تعالى من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة). وما ذكر الله ﷾ الصلاة مقرونة بغيرها من الفرائض إلا قدم الصلاة عليها، ولا يمكن أبدًا أن تأتي الصلاة متأخرة عن الفرائض، فإذا أتت مقترنة بعبادة أو فريضة من الفرائض فلابد أن تقدم الصلاة عليها. وقد ذكرت الصلاة في مفتتح أعمال البر وخواتيمها، كما ترى في صدر سورة المؤمنين: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:١ - ٢] إلى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون:٩]، وكذلك في سورة المعارج: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج:١٩ - ٢٢]، الذين هم كذا وكذا وكذا، ثم قال بعد ذلك: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المعارج:٣٤].

1 / 4

الصلاة أم العبادات الصلاة أم العبادات، فقد كلف الله العبد أن تستحوذ الصلاة على كل كيانه ظاهرًا وباطنًا، وأن تستغرق قلبه ولسانه وجوارحه، يقول تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة:٢٣٨] يعني: خاشعين مخبتين. وقال ﷺ: (إن في الصلاة لشغلًا) متفق عليه. وهذا الحديث وتلك الآية أصل في الاستدلال في باب ما يحرم على المصلي وما يجوز له أن يفعله في الصلاة، فكل ما يتعارض مع حال المصلي الخاشع القانت فلا يجوز فعله في الصلاة، وقد تكلم العلماء عن عدد الحركات التي يجوز أن يأتي بها المصلي في الصلاة، والحد الأدنى الذي لا يبطل الصلاة، فقال بعضهم: إذا كان المصلي يتحرك في الصلاة بحيث إذا نظرت له تظن أنه لا يصلي، فهذا يتصادم تمامًا مع قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة:٢٣٨]، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:٢]، وقوله ﷺ: (إن في الصلاة لشغلًا)، فلا يجوز الانشغال بما يضاد الصلاة، كما يفعل بعض الناس في بعض البلاد كأنه يجتهد في أن يبطل صلاته، أو على الأقل ينقص أجرها، تجد منهم من يفك الساعة ويركبها، وآخر يخرج النقود من جيبه ويعدها، وثالث يفك (الزراير) ويردها، هذا يحصل في بعض البلدان للأسف الشديد، فهل هذا يعد مصليًا؟ فأهم ما يستدل به في هذا الباب هو قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)؛ لأن هذا يتنافى مع حال المصلي، وقوله ﵊: (إن في الصلاة لشغلًا)، وهذا هو الدليل على أنه يحرم على المصلي أن يأكل، أو أن يشرب، أو أن يلتفت، أو أن يتحرك، بخلاف غير الصلاة من العبادات؛ لأن العبادات الأخرى قد تفرض على بعض الجوارح دون البعض الآخر، أما الصلاة فيجب أن تستحوذ على كل الكيان الظاهر والباطن، ولابد أن تستغرق القلب واللسان والجوارح، بحيث تكون كلك لله في داخل الصلاة. مثلًا: الصائم يجوز له أن يتكلم، وأن يتحرك، وأن ينام، ويجوز للمجاهد أن يلتفت، وأن يتكلم، ويجوز للحاج أن يأكل ويشرب أثناء تلبسه بهذه العبادة، أما الصلاة ففيها ألوان العبودية الشاملة للقلب والعقل والبدن واللسان، فللسان الشهادتان، والتكبير، والتعوذ، والبسملة، وتلاوة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والاستغفار، والأدعية. وللجوارح قيام، وركوع، وسجود، واعتدال، وخفض، ورفع، وقعود. وللعقل: تفكر، وتدبر، وتفهم، وتفقه. وللقلب: خشوع، ورقة، وخوف، وطمع، والتذاذ، وضراعة، وبكاء. يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كلٍ من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء. فأفضل أحوال الإنسان أن يكون مصليًا صلاة كاملة، مستحوذة على كل كيانه قلبًا وقالبًا ظاهرًا وباطنًا.

1 / 5

الصلاة أمر الله الذي يجب طاعته والمبادرة إلى امتثاله يقول تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة:٥]. وقال ﷿: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم:٣١] يعني: قل لهم: أقيموا الصلاة؛ لأن من شأن المؤمن أن يستجيب ويسمع ويطيع. وقال ﵎: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة:٤٣] هذا أمر. وقال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة:٢٣٨]. وعن الحارث الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ: (أن يحيى ﵇ قال لبني إسرائيل وقد جمعهم: إن الله ﵎ أمرني بخمس كلمات أن أعملهن وآمركم أن تعملوا بهن إلى أن قال: وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت) وهذا حديث صحيح. قوله: (وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) أي: لا تلتفت يمنة ويسرة في الصلاة، ولا يجوز أيضًا النظر في السماء، بل قد توعد النبي ﷺ من ينظر إلى السماء في الصلاة أن يتخطف الله بصره. وقال الله ﷿: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:٣٦] فمن أمر الله الذي أمر به الصلاة، فهي أمر الله وأمر رسول الله ﷺ، وقد قال ﵊: (وجعل الذل والصغار على من خالف أمري).

1 / 6

الصلاة آخر وصية للرسول ﷺ إن مما يبين أهمية الصلاة وعظم مكانها أنها كانت الوصية الأخيرة لرسول الله ﵌، فقد اقتصر النبي ﵌ في رمقه الأخير ساعة وداعه الدنيا على الوصية بها وبالرقيق، فعن علي ﵁ قال: (كان آخر كلام النبي ﷺ: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم) وهذا حديث صحيح. وعن أنس بن مالك ﵁ قال: (كانت آخر وصية رسول الله ﷺ وهو يغرغر بها لسانه -يعني: أثناء خروج روحه الشريفة إلى الرفيق الأعلى ﵌ الصلاة، الصلاة، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم). ولا شك أن هذه الوصية للأمة في آخر لحظات حياته المباركة ﷺ مما يبين أهمية الصلاة. قوله: (الصلاة الصلاة) يعني: الزموا الصلاة، وحافظوا على الصلاة. قوله: (وما ملكت أيمانكم) يعني: يوصي ﷺ بالعبيد.

1 / 7

الصلاة ميزان عمل المسلم ومقياس إيمانه إن من خصائص الصلاة أنها مرآة عمل المسلم، وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وميزان الأعمال، فالصلاة يتابع بها الإنسان زيادة إيمانه ونقصانه، كما يتابع الطبيب بمقياس الحرارة أو (الترمومتر) حرارة المريض، فيكون دليلًا على ارتفاع حرارته ونقصها، وكذلك يستطيع الإنسان أن يعاير إيمانه زيادة ونقصانًا عن طريق مكانة الصلاة في حياته وفي قلبه. عن أنس ﵁ أن النبي ﷺ قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله) أي: أن الناس يتفاضلون في الصلاة قبل أن يتفاضلوا في غيرها، فإذا أردت أن تفاضل بين شخص وآخر فلا تفاضل بين شكل وشكل، ومظهر ومظهر وملبس وملبس، وعلم وعلم، وذكاء، وذكاء ونسب ونسب؛ لكن إذا أردت أن تقيس الناس بالمقياس الصحيح، وأن تحكم على دين الرجل ومكانته في الإسلام، فإنما يقاس الإنسان بمحافظته على الصلاة قبل أي مقياس آخر، وليس امتياز هؤلاء الرجال الذين خلد التاريخ ذكرهم، وكان لهم فضل على الأقران والمعاصرين، وكان لهم لسان صدق في الآخرين، إلا لامتيازهم في هذه الصلاة، وتفوقهم فيها على معاصريهم وأترابهم، وبلوغهم فيها درجة الإحسان، ووصولهم فيها إلى أسمى مكان. على الجانب الآخر فإن كل مستخف بالصلاة مستهين بها فهو مستخف بالإسلام مستهين به؛ لأن حظ المرء من الإسلام على قدر حظه من الصلاة، فكما يمتاز الإنسان بمكانة معينة وبلسان صدق، فلن تجد شخصًا من هؤلاء الأبطال أو العلماء أو المجاهدين إلا وكان قمة في المحافظة على الصلاة وأداء حقوقها، لكن انظر إلى الملاحدة أو العلمانيين أو الزنادقة الذين يطعنون في الدين، انظر إلى واحد منهم ستجده مضيعًا للصلاة أو مستهزئًا بها أو طاعنًا في الدين، فما دام عنده آفة في الصلاة فلابد أن يكون مستخفًا مستهترًا بدين الإسلام، فحظ المرء من الإسلام على قدر حظه من الصلاة. فإذا أردت أن تعرف قدر رغبتك في الإسلام وحبك للإسلام واعتزازك بالإسلام ففتش عن رغبتك في الصلاة، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك، وإذا أردت أن تقيس إيمان عبد فانظر إلى مدى تعظيمه للصلاة، يقول النبي ﵌: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده) هناك وسيلة تستأنس بها لتعرف ما الذي هو مدخر لك عند الله ﷿، فإذا أردت أن تعرف منزلتك أو ثوابك أو عقابك عند الله فانظر ما لله عندك، كيف تفعل أنت مع الفرائض، وفي الواجبات، وسائر حقوق الله ﵎؟! فإن الجزاء من جنس العمل. وعن الحسن قال: يا ابن آدم! أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟! من هانت عليه الصلاة لا يمكن أن يعز عليه شيء، ومن هانت عليه الصلاة فهو إنسان لا خير فيه؛ لأنه مضيع حق ربه، فاسق قد خان أول منعم عليه وهو الله ﵎، وضيع حقه، وضيع أهم عبادة في الإسلام، فهل يؤمن هذا الفاسق أن يكون صديقًا وفيًا أو حميمًا؟! كلا، فمن هانت عليه الصلاة لا تثق به ولا تأمنه أبدًا؛ لأن من خان أول منعم عليه حقيق به أن يخونك ولا يفي لك.

1 / 8

الصلاة فرضت على جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم ليست هذه المكانة للصلاة من خصائص الإسلام الخاص الذي جاء به نبينا محمد ﵌، وإنما هي من خصائص دين الإسلام عامة، باعتباره الدين الوحيد الذي نزل من السماء، فالسماء لم ينزل منها إلا دين واحد، ولذلك من الخطأ الشديد استعمال تعبير الأديان السماوية، فهذا تعبير باطل غير صحيح، ومن العقيدة الإسلامية أن تؤمن أن جميع الأنبياء أتوا بدين واحد وهو دين الإسلام، وإنما طرأ التحريف على بعض الأديان لسبب أو لآخر، لكن جميع الأنبياء أتوا بدين واحد، والقاسم المشترك في رسالتهم هو لا إله إلا الله، وكل أمة من الأمم السابقة كانت كلمة النجاة لا إله إلا الله، مثلًا: في عهد موسى: لا إله إلا الله، موسى رسول الله، في عهد نوح: لا إله إلا الله، نوح رسول الله، أما في هذه الرسالة الخاتمة فكلمة النجاة إلى الأبد هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فجميع الشرائع السماوية السابقة تضمنت إيجاب وفرضية الصلاة؛ لأنه لا يصلح دين بدون صلاة، فالصلاة أقدم عبادة؛ ولأنها من مستلزمات الإيمان لم تخل منها شريعة من الشرائع، ولم تنسخ الصلاة أبدًا فيما نسخ من الشرائع السابقة، قد يكون هناك تغيير في شكل الصلاة أو في أوقاتها، لكن أصل فرضية الصلاة لا يمكن أن ينسخ؛ إذ لا خير في دين لا صلاة فيه، ولهذا حث عليها جميع رسل الله وأنبيائه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فقد قص رب العزة عن إبراهيم ﵇ دعاءه: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [إبراهيم:٤٠] فهذا إبراهيم ﵇ كان يقيم الصلاة. ونوه جل وعلا بشأن إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقال ﷾ مادحًا إسماعيل ومثنيًا عليه: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم:٥٥]. وقال ﵎ مخاطبًا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:١٤]. ونادت الملائكة مريم أم عيسى ﵇: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران:٤٣]. وقال عيسى ﵇ وهو يحدث بنعمة ربه ﵎ عليه: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم:٣١]. وأخذ الله الميثاق على بني إسرائيل فجعل إقامة الصلاة من أهم مواد هذا الميثاق: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:٨٣]. وقال جل وعلا مخاطبًا خاتم النبيين ﵌: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه:١٣٢]. وقال رسول الله ﷺ: (إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) وهذا جزء من حديث صحيح، وهو يدل على أن جميع الأنبياء أمروا بالصلاة.

1 / 9

الصلاة شعار دار الإسلام كما أنه من لا صلاة له فلا دين له كذلك لا يمكن أن تكون هناك دار أو بلد يحكم عليها بالإسلام إلا إذا كانت الصلاة سمة مميزة لأهلها، وهكذا يرتفع حكم الكفر عن الشخص بالصلاة لقول النبي ﷺ: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذاكم المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) رواه البخاري. وقول النبي ﷺ: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا) أي: لا يكون المرء مسلمًا إلا بهذه العلامات وهي: أنه يصلي صلاتنا، ويستقبل قبلتنا، فلو صلى الرجل صلاتنا، لكنه صلى إلى الشرق، فهو لم يستقبل قبلتنا، فيفهم من هذا الحديث أنه لا يكون مسلمًا حتى يصلي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا كان الشخص قد ترك الصلاة بالكلية؟! قوله: (فذاكم المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) يعني: هذا الشخص في حماية الله وفي أمان الله؛ لأنه يأتي بهذه الأشياء، فاحترموا هذه الحماية، ولا تتعدوا عليها. فإذا كان يرتفع حكم الكفر عن الشخص؛ بسبب أدائه الصلاة، فكذلك يرتفع حكم الكفر عن الدولة بظهور شعائر الإسلام وأحكامه في هذه الدولة وفي مقدمتها الصلاة، فبظهور الصلاة كظاهرة عامة في المجتمع أو في الدولة تثبت لها الهوية الإسلامية، فإذا لم يسمع الأذان في بلد ولم توجد المساجد فهذا دليل على أن الدار دار كفر، وإذا سمع الأذان ووجدت المساجد حتى غدت مظهرًا من مظاهر الدار فهي دار إسلام. ولا يعترض على هذا بأنه مثلًا: يوجد في نيويورك أكثر من مائة مسجد، فهل معنى ذلك أنها صارت دار إسلام؟ لا؛ لأن من رأى المظهر العام للمجتمع هناك لا يحكم بأن ذاك المجتمع مسلم. إذًا: إذا كانت المساجد سمة مميزة لتلك الدار فهي دار إسلام، ولذلك تجد في ديار المسلمين مساجد في كل مكان ظاهرة، والأذان مرتفع، ففي هذه الحالة تصبح دار إسلام، فإذا لم يسمع الأذان في بلد ولم توجد المساجد، فهذا دليل على أن الدار دار كفر. عن أنس بن مالك ﵁ (أن النبي ﷺ كان إذا غزى بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم) رواه البخاري. وعن عصام المزني ﵁ قال: (كان النبي ﷺ إذا بعث السرية يقول: إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مناديًا فلا تقتلوا أحدًا) يعني: لأن هؤلاء القوم مسلمون، بدليل الصلاة والأذان.

1 / 10

تسمية الله الصلاة إيمانًا إن الله ﷾ سمى الصلاة إيمانًا في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة:١٤٣]، لأنه لما حولت القبلة إلى المسجد الحرام تساءل المسلمون: ماذا عن الصلاة التي صليناها إلى قبلة بيت المقدس؟ فطمأنهم الله ﷾ أنهم ما داموا في الحالين مطيعين لأمر الله فلن تحبط صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس، وأنه سوف يحفظ لهم ثوابها، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة:١٤٣] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس. كذلك جعل رسول الله ﵌ الصلاة إيمانًا في قوله: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) متفق عليه. الشاهد هنا أن النبي ﷺ جعل الصلاة من الإيمان بالله وحده، وهذا دليل واضح جدًا على أن العمل داخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان ليس مجرد التصديق، بل لابد معه من العمل. فقوله: (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة) يعني: إقامة الصلاة إيمان وشعبة من شعب الإيمان؛ لأن كل شعبة من شعب الإيمان تسمى إيمانًا، فمثلًا قوله ﷺ الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) هذا العمل أطلق عليه إيمان، وهكذا قوله ﵊: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) إذًاَ: شعبة الإيمان يجوز أن تسمى إيمانًا، وإن كانت جزءًا من الإيمان، كذلك شعبة الكفر يجوز أن تسمى كفرًا وإن كان كفرًا أصغر. يقول الإمام البيهقي ﵀: وليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادة سماها الله ﷿ إيمانًا وسمى رسول الله ﷺ تركها كفرًا إلا الصلاة. وقال أيضًا: وقد ذكر الله ﷻ الإيمان والصلاة ولم يذكر معها غيرها، دلالة بذلك على اختصاص الصلاة بالإيمان. ودلالة على أن هناك صلة وثيقة بين الصلاة وبين الإيمان، فالصلاة نفسها إيمان كما سماها تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة:١٤٣] يعني: صلاتكم، وقال ﵎: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى﴾ [القيامة:٣١] نفى عنه التصديق الذي هو الإيمان، ونفى عنه أيضًا الصلاة، فتوجد علاقة بين الصلاة والإيمان وثيقة وخاصة، فقوله ﷿: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) أي: فلا هو صدق رسول الله ﷺ فآمن به، ولا صلى. وقال ﵎: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ [المرسلات:٤٨]، ثم قال: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات:٥٠] فربط بين الصلاة وبين الإيمان، يعني: إذا كانوا لا يصلون فكيف يؤمنون؟! فوبخهم سبحانه على ترك الصلاة كما وبخهم على ترك الإيمان. وقد ذكر الله ﷻ الصلاة وحدها دلالة بذلك على أنها عماد الدين، وما ذكر عملًا آخر إلا الصلاة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام:٩٢] فانظر الربط بين الإيمان وبين الصلاة.

1 / 11

الصلاة براءة من النفاق ومن النار كما أن الصلاة إيمان فالصلاة أيضًا على الجانب الآخرة براءة من النفاق، فقد وصف الله المنافقين بأنهم كسالى عند قيامهم للصلاة، وأنهم يراءون الناس بها، يقول ﷿: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:١٤٢]، ويقول النبي ﵌: (من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق). وعن أبي سعيد ﵁ قال: سمعت النبي ﷺ يقول: (يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة -وهذا من أحاديث الصفات، فنثبتها بلا تكييف وبلا تعطيل، بل كما يليق بالله ﷻ ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا) أي: كلما حاول المنافق يوم القيامة أن يسجد يعود ظهره طبقًا واحدًا، وهذا الحديث أخرجه البخاري. إذًا: السجود هو الذي ميز بين المؤمنين وبين المنافقين، وفي ذلك يقول ﵎: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم:٤٢ - ٤٣] أي: كانوا يدعون إلى السجود بالأذان في الدنيا، وذلك أن المؤمنين لما نظروا إلى ربهم خروا له سجدًا، ودعي المنافقون إلى السجود فأرادوه فلم يستطيعوا، وحيل بينهم وبين ذلك عقوبة لهم؛ لأنهم كانوا يتركون السجود لله في الدنيا.

1 / 12

الصلاة سبيل المؤمنين وشعار حزب الله وأوليائه المفلحين إن الصلاة سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، فمن لم يصل فهو من حزب الشيطان الخاسرين، وهو عدو الله ورسوله والمؤمنين؛ لأن ولي الله ﷿ لابد أن يكون مقيمًا للصلاة، يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:٧١]. وعن إبراهيم ومجاهد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف:٢٨] قالا: الصلوات الخمس. وعن عمرو بن مرة الجهني ﵁ قال: (جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء). فهؤلاء المصلون هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم الذين تبكي لفراقهم السماء والأرض إذا أفضوا إلى ربهم، وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين افترض الله علينا أن نسأله في اليوم والليلة سبع عشرة مرة أن يهدينا صراطهم، حيث قال ﷿: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:٦ - ٧]. إن الشريعة الغراء ندبتنا إلى أن ننظر دائمًا إلى من هو فوقنا في الدين وفي العبادة، كما روي عن النبي ﵊ أنه قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وإلى من فوقكم في الدين). وقال الله ﵎: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف:٢٠٥] وفي هذه الآية ما يقوي دواعي الذكر، وينهض الهمم إليه، ثم ذكر أمرًا يقوي دواعي الذكر وينهض الهمم إليه بأن مدح الملائكة بقوله ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف:٢٠٦] والمقصود من هذه الإشارة أنه أمر أولًا بالذكر، ثم ختم السورة بذكر حال الملائكة، واجتهادهم في ذكر الله ﵎؛ لأجل الاقتداء بهم فيما ذكر عنهم؛ لأنه إذا كان حال أولئك -وهم في أعلى مقامات القرب والعصمة- يجتهدون في العبادة بهذه الصورة، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم؟ إذًا: ينبغي لنا أن نستحضر حال هؤلاء الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجتهادهم في الصلاة؛ كي تنهض هممنا إلى الاقتداء بهم.

1 / 13

الصلاة هي القاسم المشترك بين سائر الكائنات إن الصلاة هي القاسم المشترك بين عبودية الكائنات كلها، يقول الله ﷾: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [النور:٤١]، فتأملوا هذه الآية الكريمة، أي: قد علم كل مصل ومسبح من الكائنات صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه. يقول الزمخشري: ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. يعني: نحن نرى بالأدلة الحسية أن كل هذه الكائنات قد هداها الله ﷾ إلى أمور عجيبة جدًا، سواء الحيوان أو النبات أو كذا وكذا، تجد أن الله ﷾ هداها إلى أنواع عجيبة من الهداية، وقد ناقشنا هذا الموضوع بالتفصيل عندما تدارسنا قضية القضاء والقدر، وناقشنا نوعًا من أنواع الهداية التي هي الهداية العامة، وهي هداية كل مخلوق إلى ما يصلحه ويجلب له النفع ويدفع عنه الضر. يقول ﷿: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه:٥٠] فهذا الطفل عندما يخرج من بطن أمه فورًا تراه يلتقم موضع الرضاع بمنتهى الإتقان، مع أنها عملية ليست سهلة، بل هي عملية معقدة، من الذي هداه إلى كيفية هذا الالتقام؟! والقصص كثيرة جدًا في هذا الموضوع، والخوض فيها يجعلنا نخرج عن موضوعنا الأساسي، فمن الذي ألهم النحل لتفاصيل الحياة العجيبة؟! ومن الذي ألهم النمل هذه العجائب؟! ومن الذي ألهم الطيور العجائب التي نعرفها؟! إن الذي ألهمها هذه الأشياء التي تفعلها هو الله ﷿، وأذكر بعض الأمثلة التي ذكرها ابن القيم في كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، ذكر أن نملة كانت تريد أن تدخل في إناء فيه عسل، لكن صاحب هذا العسل وضعه في إناء آخر فيه ماء؛ حتى لا تستطيع النملة الوصول إليه، فماذا فعلت هذه النملة؟ صعدت النملة على الجدار، ثم صعدت على السقف حتى صارت موازية للإناء الذي فيه العسل ثم أسقطت نفسها عموديًا على العسل! ومن الأمثلة أيضًا: أن فأرًا كان يشرب زيتًا من برميل ثم نقص ذلك الزيت، فكان إذا وقف على حافة البرميل لا يستطيع أن يشرب من ذلك الزيت لبعده، ويخاف أن يقع في البرميل فيغرق في الزيت، فماذا يفعل؟ قام الفأر وملأ فمه ماءً ثم وضع الماء في الزيت حتى يرتفع الزيت ويطفو على الماء فلما اقترب منه الزيت شرب منه. من علّمه ذلك؟! إنه الله، فهذه هي الهداية العامة، فالله هدى كل مخلوق إلى ما يصلحه، ولو حاولت أن تقتل صرصورًا فانظر كيف يحاول الهروب منك وإنقاذ حياته؟! هل عنده عقل؟ لا ليس عنده عقل، لكن الله ألهمه ما يدفع به الشر عن نفسه. والنماذج في هذا كثيرة جدًا، والعلوم الحديثة أَثْرَت المكتبات باكتشافات في غاية الروعة فيما يتعلق بالهداية العامة، من الذي يلهم هذه الكائنات تلك العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها؟ إنه الله ﷾. إذًا: فهل يبعد مع هذا أن يلهمها الله كيف تصلي له وكيف تسبحه؟! هذا بلا شك لا يمكن استبعاده، فظاهر الآية أن الطير تسبح وتصلي صلاة وتسبيحًا يعلمها الله ونحن لا نعلمها، ولذلك قال ﵎: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء:٤٤]. كذلك من عبودية الكائنات قوله ﵎: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن:٦]، وقوله ﷿: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ:١٠]، كان داود ﵇ ينشد الأذكار فتردد الجبال والطيور وهذه الكائنات خلفه ﵇ هذا الذكر. كذلك أيضًا الصلاة واجبة على الجن، فالجن مكلفون بالصلاة كالآدميين، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويًا ما على الأنس في الحد، لكنهم مشاركون الأنس في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم. الملائكة أيضًا يصلون، فقد قال تعالى في حقهم: ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت:٣٨]، وقال أيضًا حاكيًا قولهم: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ [الصافات:١٦٥] أي: عند الله ﷾ يقفون صفوفًا. وقال ﷺ لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ -ثم ذكر كيفية اصطفافهم فقال-: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري. وقد ميز الله ﷾ هذه الأمة وفضلها على بقية الأمم، بأن جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة كما في الحديث الشريف الذي في صحيح مسلم عن النبي ﵊ قال: (جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة). وعن حكيم بن حزام ﵁ قال: (بينما رسول الله ﷺ في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، ولا تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) حديث صحيح. وقال ﷺ: (إني لأرى ما لا ترون، وأسمع مالا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدًا). وفي حديث الإسراء قال ﷺ: (فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) رواه البخاري. وقال ﷺ: (نزل علي جبريل فأمني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات) رواه البخاري. وقال ﵊ في مشاركة الملائكة للمؤمنين في الصلاة: (إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري. وكذا الملائكة تحضر مع المؤمنين صلاة الجمعة، يقول ﷺ: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر).

1 / 14

الصلاة خير موضوع وضعه الله وشرعه إن الصلاة خير موضوع يشتغل به الإنسان على الإطلاق، يقول رسول الله ﷺ: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) حديث حسن. يعني: الصلاة أفضل ما وضعه الله وشرعه من العبادات، ففرضها أفضل الفروض، ونفلها أفضل النوافل. يقول ﷺ: (أفضل الأعمال الصلاة لوقتها) رواه مسلم. وقال ﷺ: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) حديث صحيح. قوله: (استقيموا ولن تحصوا) يعني: لن تحصوا ثواب الاستقامة؛ لأن ثوابها عظيم، يقول ﷿: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:٣٤] أو (استقيموا ولن تحصوا) يعني: لن تطيقوا أداء التقوى والاستقامة حق الأداء، لكن عليكم بما يسهل عليكم من هذه الأمور. قوله: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) أي: لا يمكن أن يعمل الإنسان عملًا خيرًا من الصلاة. قوله: (ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) أي: لما كانت الصلاة هي خير الأعمال ربطها بمفتاح الصلاة وشرطها وهو الطهور. وعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: (لقيت ثوبان مولى رسول الله ﷺ فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت: أخبرني بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته، فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله ﷺ فقال: عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة ﵁: (أن رسول الله ﷺ مر بقبر فقال: من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان، فقال ﷺ: ركعتان إلى هذا أحب إليه من بقية دنياكم) يعني: هذا الشخص المدفون الآن في القبر لو خير بين أن يعود إلى الدنيا ويركع ركعتين نافلتين خفيفتين ويدخل القبر بعدها، بحيث يضاف ثوابهما إلى ميزان حسناته، لو خير بين هذا وبين أن يعود إلى الدنيا ويستمتع بكل ما تبقى على الدنيا من نعيم إلى أن تقوم القيامة، فإنه قطعًا وجزمًا سيختار ثواب الركعتين القصيرتين الخفيفتين. وفي رواية: (ركعتان خفيفتان بما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم) أي: لو خير بين أن يصلي ركعتين خفيفتين جدًا مما يحتقرهما الناس من النوافل ويدخل القبر بعدها، وبين أن يعود إلى الدنيا ويستمتع بكل ما على الدنيا بلا استثناء إلى أن تقوم القيامة؛ لفضل ولآثر أداء هاتين الركعتين وزيادتهما في ميزان حسناته.

1 / 15

معنى الاستكثار من الصلاة نريد أن ننبه بالنسبة لقول الرسول ﵊: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، وكذلك قوله: (عليك بكثرة السجود لله) أن المقصود بالكثرة هنا النوافل، أما الفرائض فلابد من أدائها كما هي بدون زيادة ولا نقصان، فلا يمكن أن يزيد الإنسان في صلاة الصبح أو غيرها؛ لأن عدد الفرائض ثابت، لكن المقصود بهذا النوافل، والنوافل على نوعين: الأول: تنفل مطلق. الثاني: تنفل مقيد. والتنفل المقيد هو السنن الرواتب وغير الرواتب، مثل: راتبة الوتر، أو سنة الفجر ونحو ذلك، فهذه مقيدة مقيد بعدد معين مثل ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، أو أربع ركعات قبلها وأربع بعدها، أو أربع قبلها وركعتين بعدها، أو ركعتين قبلها وأربع بعدها، هذه كلها في صلاة الظهر، وكذلك في العصر أربع قبلها، وكذلك قبل المغرب صلاة ركعتين، وركعتين بعد المغرب، وركعتين سنة العشاء بعدها وهكذا، فهذه نوافل مقيدة بعدد. أما التنقل المطلق فشرطه أن يؤدى في أوقات غير أوقات النهي عن الصلاة، فممكن للإنسان أن يزيد ما شاء، ويصلي ما فتح الله عليه. إذًا: المقصود من الاستكثار هو الاستكثار من النوافل بنوعيها، فلا يفهم من الحديث كما يفهمه بعض المبتدعة، أن قوله: (فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) يعني: له أن أن يخترع صلوات لم تثبت في الشرع؛ لأن المقصود النوافل بنوعيها، لا كما قام أحد المبتدعة واخترع صلاة سماها: صلاة بر الوالدين، والثاني اخترع صلاة مؤنس القبر، فهذه فهذا بدعة وضلالة، ومعلوم ما ورد في البدع والضلالات من الزجر، يقول ﵊: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) لكن تصلي بما ثبت، أو تتنفل تنفلًا مطلقًا ركعتين ركعتين مثلًا، وتزيد ما شئت من العدد، فهذا مستحب، ولك أن تزيد ما استطعت؛ لقوله ﷺ فيما يريوه عن ربه ﵎:: (ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) إلى آخر الحديث القدسي. كان ثابت بن أسلم رحمه الله تعالى يقول: الصلاة خدمة الله في الأرض، ولو كان شيء أفضل منها لما قال الله ﵎ ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ [آل عمران:٣٩].

1 / 16

لماذا نصلي؟ [٢] إن للصلاة خصائص ومزايا كثيرة منها: أنها حفظ وحماية وحراسة للعبد المؤدي لها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فهي حفظ له في نفسه وعرضه وماله، وهي حفظ له في دينه وإيمانه، وهي كذلك ملجأ المؤمن ومفزعه عند الكربات والشدائد، وهي أيضًا مفتاح الهداية للعالمين.

2 / 1

الصلاة حفظ وحماية وحراسة للعبد في الدنيا والآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد: فإن الصلاة تحفظ العبد المؤدي لها من البلايا والمحن، يقول الله ﵎: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ [البقرة:٤٥]، وهي أيضًا تحفظ العبد من عذاب النار يوم القيامة، وأدلة هذا كثيرة، وأشهرها الحديث الذي فيه أن الملائكة يبحثون في النار عمن يستحقون الخروج من النار وعدم الخلود فيها، فيعرفون أهل الكبائر بعلامة الصلاة؛ لأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود. إذًا: المصلي في حماية الله ﵎ وحراسته كما بينا، فإن الله ﵎ قال في الحديث القدسي: (يا ابن آدم اكفني أول النهار أربع ركعات أكفك آخره أو أكفك بهن آخر يومك). والمراد: صلاة الضحى أربع ركعات في أول النهار، والجائزة قوله: (أكفك بهن آخر اليوم) أي: أحفظك طوال هذا اليوم حتى آخره. كذلك يقول ﵌: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم. قوله: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) أي: في حراسة الله وفي خفارة الله وفي حمايته وحفظه وكلئه. قوله: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء) يعني: أن الذي يصلي صلاة الصبح هو في جوار الله، فإياكم أن تخرقوا هذا الجوار، فتؤذوا أو تعتدوا على من هو في حماية الله. وفي عرف الناس إذا دخل رجل في جوار رجل وفي حمايته، فإذا حصل عدوان على المستجير به الذي دخل في حمايته فإنه يعتبر عدوانًا على المجير. فهنا يخبر النبي ﷺ أن من صلى الصبح فهو في ذمة الله وفي جوار الله وفي حماية الله، فإياكم أن تؤذوا من هو في ذمة الله. قوله: (فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) أي: فمن لم يراع حرمة هذه الصيانة وهذه الحراسة الربانية فقد عرض نفسه للخطر الذي توعده الله ﵎ به، وهو أن يخلع عنه رداء عونه وتأييده، بحيث لا يبقى له أي ملاذ أو ملجأ، وسيجد نفسه يواجه الشيطان بمفرده بعد أن خذله الله تعالى، ولذلك يقول بعض الصالحين: والله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تخلى عنك المولى، فلا تظنن أن العدو غلب، ولكن الحافظ أعرض عن حفظك. ويقول ﵌ في رواية أخرى: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء) وفيه وعيد لمن آذى المؤمن الذي يصلي الفجر؛ لأنه انتهك حرمة من هو في جوار الله وحمايته، وقد قال ﵎ في الحديث القدسي: (من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)، ولا شك أن ولي الله لابد أن يكون مصليًا، كما أنه لابد أن يكون مسلمًا. وعن عبد الله بن عمرو ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: (ست مجالس المؤمن ضامن على الله تعالى ما كان في شيء منها، فذكر منها: في مسجد جماعة، وعند مريض، أو في جنازة، أو في بيته، أو عند إمام) إلى آخر الحديث، إي: إذا وجد الإنسان في أي من هذه المجالس فهو في ضمان الله وحراسته وحفظه. وقال ﷺ: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة -وذكر منهم-: من خرج إلى المسجد) فالخارج إلى المسجد عنده ضمانة من الله، إن مد الله له في الأجل رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة. فذكر في هذا الحديث: (ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله). وفي الحديث المشهور عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ﵌ قال له: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة). قوله: (احفظ الله) يعني: احفظ حدود الله وحقوق الله، واحفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب. ويقول ﵎: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ [ق:٣٢]. (أَوَّابٍ) يئوب ويرجع إلى الله ﷾، (حَفِيظٍ) أي: حافظ لأوامر الله ﷿، وحافظ لذنوبه كي يتوب منها ويستغفر منها باستمرار. ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله ﷿ الصلاة، كما قال الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة:٢٣٨]. ومدح الله المحافظين عليها بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المعارج:٣٤]. ونلاحظ في سورة المؤمنون وفي سورة المعارج حينما ذكر الله ﷾ صفات المؤمنين المتقين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، أنه جعل أول صفة وآخر صفة المحافظة على الصلاة، فكأن هذا هو السياج الذي يحوط كل الأعمال الصالحة. وقال ﵌: (من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة). وقال ﷺ في الصلوات أيضًا: (من حافظ عليهن كن له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة). وقال ﵌: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). إذًا: من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل.

2 / 2

أنواع حفظ الله ﷿ للعبد الصالح الحفظ يدخل فيه نوعان: الأول: حفظه له في مصالح دنياه. الثاني وهو أشرف النوعين: حفظه إياه في دينه وإيمانه. أما الحفظ الأول: فهو حفظ الله ﷿ العبد في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله ﷿: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد:١١] يعني: كل إنسان له معقبات -وهم ملائكة- من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر تخلوا عنه حتى يصيبه ما قدره الله له). ومن دعاء النبي ﵌: (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا). قوله: (واجعله الوارث منا) هذه مبالغة في حفظ الحواس لتبقى سليمة معافاة ليس فقط إلى حين الموت، لكن تبقى سليمة حتى بعد الموت، كأن صحتك وسمعك وبصرك وقوتك بعد موتك تبقى سليمة وترثك، فهذه من المبالغة في سؤال حفظ الله ﷾ العبد من الآفات. وكان من دعائه ﵌ الذي كان يكرره صباح مساء: (اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي). ومن حَفِظ الله ﷿ في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه في سمعه وبصره وحوله وقوته وعقله، وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته، فإذا كان العبد صالحًا محافظًا على الصلاة وعلى أوامر الله ﵎؛ فإن الله ﷿ يحفظه في ذريته، ليس فقط في حياته، بل وبعد مماته. فمن أراد أن يحفظ الله ﷾ ذريته من بعده إذا خشي الموت أو غير ذلك؛ فأعظم ذخيرة يدخرها لهم هي أن يتقي الله ﷾ في حال حياته، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهذه هي أعظم وثيقة تأمين على الأولاد والذرية، وهي ليست المال، وليست العقارات، وليست أمور الدنيا، ولكن حفظهم بتقوى الله سبحانه، يقول ﷿: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء:٩]. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله تعالى في عقبه وعقب عقبه. يعني: أولاده وأولاد أولاده. وقال ابن المنكدر رحمه الله تعالى: إن الله ليحفظ للرجل الصالح ولده وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر. يعني: بركة الصالح تتعدى المكان وتتعدى الزمان، تتعدى الزمان حيث تمتد إلى ولده وولد ولده فيحفظون؛ لأن أباهم كان رجلًا صالحًا، وتتعدى المكان حيث تمتد إلى الدويرات التي حوله وجيرانه فما يزالون في حفظ من الله وستر ببركته. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلى هذه الآية: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف:٨٢]. ومن عجيب حفظ الله ﵎ لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، مثال ذلك: قصة سفينة ﵁ وهو من أصحاب النبي ﵌، وهو مولى رسول الله ﷺ، ركب سفينة ﵁ البحر فانكسر به المركب وخرج إلى جزيرة، فلما خرج إلى هذه الجزيرة رأى الأسد، فجعل ينادي الأسد بكنيته: يا أبا الحارث! أنا صاحب رسول الله ﵌، فجعل الأسد يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوصله الأسد إلى رأس الطريق جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه وهذا الأثر رواه الطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. فالأسد من أعظم ما يضرب به المثل في الإهلاك، فانظر كيف حفظ الله ﷾ هذا العبد الصالح من أصحاب النبي ﵊ من هذا الأسد الذي هو مؤذ بطبعه، والأذى كامن فيه، ومع ذلك حفظه الله ﷿ من هذا الشر، أما من ضيع أمر الله فإن الله ﵎ يضيعه، حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه، يقول الفضيل رحمه الله تعالى: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي. يعني: إذا عصيت الله عرفت شؤم المعصية في الاعوجاج الذي يصيب دابتي، بحيث لا تنقاد له، وكذلك الخادم يفعل خلاف ما يأمره به سيده. هذا ما يتعلق بالنوع الأول من حفظ الله ﷿ العبد، وهو حفظه في نفسه وفي ماله وفي ذريته وسائر شئونه. النوع الثاني: حفظ الله العبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه حتى يتوفاه على الإيمان، ويرزقه حسن الخاتمة. كان ﵌ يقول عند نومه: (إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). وعلم عمر رضي الله تعالى عنه أن يدعو الله ﷿ بهذا الدعاء: (اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تشمت بي عدوًا حاسدًا). وكان ﵌ إذا ودع من أراد سفرًا قال له: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، وكان يقول: (إن الله إذا استودع شيئًا حفظه)، فهو كان يقول هذا حتى يحفظ الله على هذا العبد دينه وأمانته وخواتيم عمله. وقول النبي ﵌: (احفظ الله تجده تجاهك) وفي رواية: (أمامك) معناه: أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويحفظه ويسدده، فإن الله ﷾ يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:١٢٨]. قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.

2 / 3

الصلاة ملجأ المؤمن عند النوازل والكربات إن من فضائل الصلاة أنها ملجأ المؤمن في الكربات، فإذا ألمت بالمسلم الكربات أو نزلت به النوازل فالصلاة ملجأ له، وليس هذا إلا للمؤمن؛ لأن الله ﵎ قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة:٤٥] أي: يستثقلها عامة الناس ما عدا الخاشعين ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة:٤٦]. في الصلاة استجابة لغريزة البشر النوعية، غريزة الافتقار والضعف والطلب، فالإنسان من حيث هو إنسان فيه هذه الغريزة أو هذه الفطرة، فالإنسان مهما نال من الأماني أو من الأشياء التي يحس أنه مفتقر إليها، فإنه يشعر أن الفقر مازال صفة لازمة له، فهو لا يستقر قلبه ولا يطمئن ولا يشعر بالغنى إلا إذا ظفر بمحبوبه الأعلى وهو الله ﷾، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لقد كان يسبي القلب في كل وليلة ثمانون بل تسعون نفسًا وأرجح يهيم بهذا ثم يألف غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن خبائك يبرح فالشاهد أن القلب لا يمكن أن يسكن ويستقر إلا إذا وصل إلى الله ﷾، واستغنى بالله عما عداه، أما ما دون ذلك فلا يقنع؛ لأنه سريع التحول والبحث، ففطرة الإنسان أنه دائمًا يشعر بالافتقار إلى من يحتمي به ويلجأ إليه، يقول ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:١٥]. ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بيتًا في نفس هذا المعنى: والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي أي: كما أن من صفاته الذاتية الغنى أبدًا، كذلك العبد من صفاته الذاتية من حيث لا يمكن أن يكون إنسانًا إلا إذا كانت فيه هذه الصفة وهي الفقر أبدًا. فالإنسان كما ذكرنا فيه غريزة الاحتياج والافتقار والضعف والطلب ممن هو أغنى منه، أو ممن هو أقوى منه فهو يطلب منه الحماية والمال والرزق والعافية والأمان وغير ذلك، فالصلاة نفسها هي عبارة عن استجابة لهذه الغريزة الفطرية الموجودة في الإنسان.

2 / 4