لا أظن أن من الأقوال التي صدرت عن حكماء الغرب وكتابه قولا هو أبعد عن محجة الصواب من قول الكاتب «كبلنج»: «الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا.» فإنها كلمات أملاها غرور له مبرراته، واعتداد بالنفس له نتائجه ومقدماته. على أن هذا القول لا يدل على شيء بقدر ما يدل على ضيق في النظر وحرج في النفس، سببه حالات قامت في الشرق ناظرتها حالات ارتقائية قامت في الغرب، فقعدت حالات الأول به عن اللحاق بالحد الذي وصل إليه الثاني.
على أن محور هذا القول يدل على عقلية تلزم صاحبها الاعتقاد بأن الشرق لن يستطيع أن ينتحل عقلية الغرب ليلتقي الاثنان في ميدان الجهد الإنساني. ولا جرم أن هذا خطأ كبير وتعميم خطير النتائج بعيد الأثر في الأذهان. وهو بعد ككل التعميمات الفلسفية والاجتماعية والأحكام العامة الرنانة، تطن بعيدا ولكنك لا تجد لها من حقيقة مادية ترتكز عليها، ولعمرك كيف يمكن أن يقبل حكم كهذا الحكم ويؤخذ على أنه قاعدة ثابتة، وأنت لو رجعت إلى التاريخ القديم لوجدت أن اليونان كان لهم الحق في أن يقولوا نفس هذا القول عن الشرق، وأن الشرق قد مرت به أدوار لا دور واحد، كان من حقه أن يقول فيه أكثر من هذا في الغرب وفي أوروبا بالذات! إذن فهو تعميم لا قيمة له من جهة الواقع، وأنه كانت له مبررات زمانية، وظواهر لا يمكن نكرانها في هذا العصر، وأنت إذا رجعت إلى حالات اليوم والساعة التي قال فيها «كبلنج» هذا القول وقستها بحالات الشرق في هذا العصر، لوجدت أن مبررات هذا القول أخذت تتضاءل وتزول أهميتها شيئا بعد شيء، ولا نبالغ إذا قلنا بأن هذه الكلمة التي طنت في أوروبا وتجاوبت بها أنحاء الشرق زمانا كادت تصبح من الأقوال المنبوذة ، بل أصبحت صورة حفرية لعقلية قامت في الغرب في الزمان الذي كان المريض العثماني ملقى فيه على فراش المرض، والإمبراطورية التركية آخذة في سبيل الانحلال، ومصر مستنيمة لحكم الغاصبين، والهند مشغولة بحزبياتها الدينية، وفارس خاضعة لنفوذ روسيا، والأفغان راتعة في جبالها منقطعة عن عمران الحضارة، وشمال إفريقية نهب للجشع الفرنسوي من ناحية، وسوء الإدارة التركية من ناحية أخرى، وسوريا وفلسطين والعراق مستنيمات في سبات عميق، كأن الفلك ما دار من حولهن، وكأن عجلة الزمان ما لفت على أهل هذه البلاد.
ولا شبهة في أن هذه الحالات قد تغيرت الآن فتغيرت معها تلك العقلية التي أملت هذه الكلمات. ويكفيك أن تعرف أن السلطات الاستعمارية أخذت تعترف شيئا بعد شيء بحق الشعوب الشرقية في الحياة، مجبرة على ذلك بحكم المقتضيات التي تلزم الناس والشعوب على تغيير عقلياتها وأساليبها خضوعا لحكم الظروف، ابتغاء الموازنة بين الحاجات والضرورات.
ولقد مرت بأوروبا برهة من الزمان اعتقد فيها المفكرون أن الدين الإسلامي زائل يوما من الأيام، وأن العقلية الشرقية لن تخرج من تلك الدائرة الضيقة التي رسمها الفقهاء خلال القرون؛ فظهر أثر هذه العقيدة الغربية في السياسة الدولية وعملت الدول الأوروبية على تقسيم الإمبراطورية العثمانية إلى مناطق نفوذ، تختص كل دولة بمنطقة منها وتكون من حصتها عند تقطيع أوصال الغنيمة، إذا ما حان لذلك الوقت الملائم. ولقد تمزقت الإمبراطورية العثمانية كما تمزقت الإمبراطورية النمساوية. ولكن من من الأوروبيين يستطيع اليوم أن يدعي أن الشعوب التي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية أقل شعورا بحقها في الحياة، من الشعوب التي انفصلت عن الإمبراطورية النمساوية؟
لقد اعترف للشرق بحق الحياة، واعترف الأكثرون أنه قد يلتقي الشرق والغرب في ميدان الجهاد الإنساني، فلنعمل إذن على تحقيق ذلك في أكبر دائرة من الإمكان. •••
لا نكران مطلقا في أن العقلية التي نشأت في الشرق - ونقصد به آسيا في الغالب - هي العقلية التي لا تلائم مزاج هذه الحياة. هي العقلية التي لا تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا. بل أنت إذا قلبت أوجه النظر في هذه العقلية ألفيتها تلائم من كل نواحيها الحياة الأخرى، نكران لكل مطاليب الحياة، وتواكل على القضاء والقدر، واستسلام صرف لما سوف يأتي به الغد، وإغفال محض لمواعظ الماضي وعظاته، هي عقلية توافق المزاج الإنساني في غرارته الأولى وبساطته وأساطيره، عندما أخذ فجر العقل يتنفس من خلال الظلمات الأولى. ولقد عيب على الشرق أن يكون هذا حال عقلية أهله! وفي الحق أن الشرق يجب أن يعاب عليه تواكله واستسلامه للمقادير وخضوعه لأمرائه من ناحية، ورجال الدين والفقهاء من ناحية أخرى. غير أن أخذ الشرق بهذه المناقض الكبرى من غير تعليلها تعليلا يظهر حقيقتها، غبن فاحش على الشرقيين، واستسلام الشرقيين لمثل هذه التهمة الشنعاء أمر يعابون عليه أكثر مما يعاب عليهم توارثهم لمثل هذه العقلية منذ أبعد عصور التاريخ.
كان الشرق مهد الإنسان، فيه ظهرت جماعاته الأولى، وفي وديانه الخصيبة نشأت الحضارات البدائية التي جاهد الإنسان في سبيل الفوز بها، وتناحر من أجلها مع وحوش الغابات وميكروبات الماء والهواء والطفيليات، وجالد العناصر الطبيعية وقواسر المناخات المختلفة، حتى استطاع في النهاية أن يستقوي عليها جميعا، فيرث الأرض ومن عليها، ويشيد تلك الحضارات العجيبة تتلو إحداها الأخرى كأنها في ظلال التاريخ أشباح مردة من الجن أو جبابرة من الخيال تتصارع في أفق الروايات الإنسانية صراع الكواسر عضها الجوع، أو أخذتها غضبة الأنانية؛ فتلوح كأنها في ميدان حرب تتناوب فيه الغلبة حينا والانكسار حينا آخر. وأنت بين هذا وذاك ترى المدنيات تنشأ تدرجا وتقوم لماما على المسرح الإنساني، ثم لا تلبث أن تراها تنهار وتتقوض دعائمها، كما لو كانت جدرانا متداعية، وضع الفأس في أصولها جبار قوي الأصلاب.
ترى هل كان غير الشرق من بقاع الكرة الأرضية ميدانا لمثل هذا الصراع؟ وهل كان غير الشرق مسرحا لتغالب هذه القوى وتفانيها؟ هل كان غير الشرق مهدا للجماعات الإنسانية الأولى؟ كلا، ففي ذلك الوقت الذي جالدت فيه جماعات الإنسان الأولى الوحوش والعناصر؛ لتفوز بالغلبة عليها في أنحاء الشرق، كانت بقية الكرة الأرضية ملكا لغيره من الحيوانات العليا من ذوات الثدي، غير أننا نتساءل وقد نشأ الإنسان نشأته الأولى ضعيفا في القوة البدنية، بل حيوانا شجريا بسيطا من حيث القيمة الجثمانية، كيف استطاع أن يتغلب - مع هذا - على غيره من الحيوانات الكبيرة؟ استطاع أن يتغلب عليها بكفاءاته العقلية التي نشأت فيه على مر الأزمان واستطاع بها أن يتغلب على غيره، فلما احتاج إلى زيادة استعمالها، نمت وكبرت مع الزمان وتطورت نشوءا على مدى الأحقاب. وفي هذا الطور، الطور الذي بدأ الإنسان يدرك فيه أنه سيد المخلوقات، وأنه يمتاز عليها بقوة العقل، بدأ طور الفلسفة على قدر ما استطاع الإنسان أن يدرك من حقائق الموجودات. وكانت النشأة الأولى بالضرورة من موضوعات تفكيره، فقد رأى الحياة يتلوها الموت، والموت تتلوه الحياة، على التعاقب والتواتر، ففكر في تخيل ثم استوى على الصورة اللاهوتية الأولى التي هي أول مدارج العقل الإنساني في تقسيم «كونت» لصور النشوء الفكري في الإنسان.
وكان من نتاج ذلك، أن يختص الشرق بوراثة متأصلة في تضاعيف فطرته، وحاجة لا شعورية جرى عليها، هي الحاجة إلى القيادة الروحية والاستسلام إليها، فنشأت عن ذلك صور متخالطة من صور الميثولوجيا، دارت كلها حول الخلق والعدم والحياة الأخرى. وكان من الضروري، ما دامت الحياة فوق هذه الأرض لا دوام لها، وكانت باقية في العالم الثاني، أن ينصرف اللاهوت في الشرق ناشئا عن الميثولوجيا القديمة إلى الحياة الأخرى، وأن يبشر بهذه الأسطورة لأهل الشرق، ولكن العجب أن يظل الشرق عاكفا عليها، في حين أن الغرب يتغلب ويستقوي عليها، فيفوز الغرب بالحياة ويفوز الشرق بخيال الآخرة. هذا مع اليقين بأن الغرب قطعة من الشرق انفصلت عنه، كما انفصل القمر عن الأرض منذ بداية التكوين.
لا شك في أننا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة تعليلا طبيعيا؛ فإنك إذا تخيلت قبيلة من القبائل بدأت هجرتها من أواسط صحراء «التبت» مثلا متجهة نحو الغرب، وأردت أن تعرف أي عناصرها الأقوى، على فرض أنها أخذت تهاجر، مستمرة في هجرتها إلى آخر مدى يمكن أن يبلغه أفرادها، فلا شك في أنك تحكم بأن أقل أفرادها قوة هم الذين يقفون عند حدود فارس وأوسطهم الذين يبلغون العراق وأشدهم الذين يجتازون مضيق البوسفور. تجربة طبيعية تدل على صفات كامنة. وهي إن دلت في أول ما تدل عليه على صفات جثمانية فائقة، فهي راجعة إلى صفات نفسية أيضا، إلى صفات الإقدام والشجاعة والتغلب على المخاوف، تلك الصفات التي لا يمكن أن تبرئها من أثر القوة العقلية أو تبرئ القوة العقلية منها.
Página desconocida