============================================================
فيهم كثرة فلا تزدهم على الكسب والتمر. وأكثر منهما ما استطعت. ففعلت ما أمرني به، وانصرفت إلى آبي عبدالله (ابن حنبل) فأخبرته. فحضر بعد المغرب، وصعد غرفة في الدار، فاجتهد في ورده إلى آن فرغ، وحضر الحارث وأصحابه، فاكلوا. ثم قاموا الصلاة العتمة، ولم يصلوا بعدها وقصدوا بين يديه وهم سكوت، لا ينطق واحد منهم إلى قريب من نصف الليل يستمعون إلى كلامه.
فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبدالله، فوجدته قد بكى الى آن غشي عليه فانصرفت إليهم، ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا وتفرقوا فقلت : كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبدالله؟ قال : ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، وعلى ما وصفت (لك) من أحوالهم فإني لا أرى لك صحبتهم .
فابن حنبل على جلالة قدره وإمامته لأهل عصره، يبكي حتى يفشى عليه، ويشهد بأنه لم يسمع في علم الخقائق مثل كلام المحاسبي، ولم يعلم أنه رآى مثل أصحابه معه، ثم لا يرى لإسماعيل السراج صحبته ولا صحبهم، والمحاسبي بلا شك يعلم أنه لا ينطق بما يخرج عن نطاق الشريعة السمحة، ثم يعلم تنفير الإمام ابن حبل للناس من حوله، كل ذلك كان جديرا بأن يحفظ المحاسبي على ابن حنبل وأبي زرعة وأمثالهما- ولكن الرجل العميق الايمان، العارف بربه، لا تهزه أمثال تلك البسائط مما يحدث من حوله، ويعبر عن ذلك المذهب في حديثه مع الجنيد حين قال له الجنيد: عزلتي أنسي، وتخرجني إلى وحشة رؤية الناس في الطرقات؟ فيقول له المحاسبي : كم تقول لي أنسي في عزلتي؟ لو أن نصف الخلق تقربوا مني، ما وجدت بهم أنسا، ولو أن النصف الآخر نأى عني ما استوحشت لبعدهم 5- حينما يتحدث عن النوافل، فإنه يلق، ويلق، في تصحيح نيتها وتخليصها من الشوائب، فالناس يقومون بالنوافل طلبا لزيادة الأجر، ولطلب محبة الرب، ولكنه يرى أن نية النافلة يجب أن تكون لجبر النقص في الفرائض،
Página 46