وقد أصبحت رغبة السيطرة على البلدان الغنية بالمواد الخام التي لا يستغنى عنها في الصناعة أكثر أهمية في الأزمنة الحديثة من الرغبة في امتلاك الأراضي الخصبة؛ فقد كانت مناجم الفحم والحديد في اللورين سبب النضال بين فرنسا وألمانيا، وترجع حرب اليابان في منشوريا وشمال الصين إلى حاجة اليابان إلى المعادن . ولم تشترك ألمانيا وإيطاليا مع إسبانيا في حربها الأهلية لمجرد نشر آرائها الفاشستية، وإنما كان الدكتاتوران يطمعان في الحصول على مناجم النحاس والحديد في تلك البلاد، وهي المناجم التي كانت قبل اشتعال الحرب تحت السيطرة الإنجليزية. (ح)
وفي ظل الرأسمالية تحتاج الدول الصناعية الكبرى إلى أسواق خارجية؛ لأن الإنتاج يزيد على حاجة السكان، وعلى القوة الشرائية الداخلية. ولقد كان منشأ الرغبة في التوسع الاستعماري عند الدول العظمى في القرن التاسع عشر الحصول على أسواق خارجية تبيع فيها منتجاتها. وما إن ظفرت الدولة بالسوق - إما عن طريق الغزو أو عن طريق التدخل السلمي - حتى شرع أرباب الصناعة الذين يوردون السلع لتلك السوق في إمداد البلدان التي تقوم فيها بالآلات التي تمكنها من إنشاء المصانع والاستغناء عن منتجات الدولة الفاتحة. وهذا العمل من أعجب المتناقضات في نظام الرأسمالية. إن أكثر البلدان المتأخرة في الصناعة قد استوردت الآلات التي تكفيها سد حاجاتها، بل والتي تمكنها من تصدير السلع الزائدة عن حاجاتها إلى الخارج. وقد أمدها بتلك الآلات أصحاب رءوس الأموال الذين كانوا من قبل يتخذون تلك البلاد أسواقا لسلعهم. وتلك ولا شك سياسة جنونية؛ لأن أصحاب رءوس الأموال يفقدون تلك الأسواق في النهاية، فيبحثون عن غيرها، ويثيرون من أجل ذلك الحروب الشعواء. (ط)
ويسوقنا ذلك إلى سبب آخر هام من أسباب الحروب، وذلك هو اهتمام الأقليات القوية بمصالحها الخاصة. وأقوى هذه الأقليات وأسوؤها أثرا جماعة صناع الأسلحة؛ فمما لا شك فيه أن الحرب والاستعداد لها تدر عليهم ربحا عظيما. ولا مراء في أن مصلحة هذه الطائفة في إشعال نار الحرب؛ ولذا تراهم لا يفتئون يثيرون الفتن ويخلقون أسباب الشقاق بين الحكومات، وذلك بشتى الوسائل - من الدعاية إلى الرشوة. وهم يخدمون كل صوت يرتفع مناديا بنزع السلاح؛ ومن ثم فإن أعضاء حزب اليسار ينادون دائما بضرورة استيلاء الدولة على هذه الصناعة. وقد استولت الحكومة الإنجليزية بالفعل على جانب كبير منها، فتحررت من نفوذ أصحاب رءوس الأموال الكبيرة الذين لا هم لهم إلا زيادة الأرباح . ولكنا يجب ألا ننسى أن التسليح تسليح على أية حال، سواء قامت به الحكومة أم الشركات؛ فإن الطائرة التي تصنعها الحكومة تفتك بالناس مثلما تفتك الطائرة التي تخرج من مصنع تديره شركة رأسمالية، بل إن صناعة الأسلحة في مصانع الدولة يجعل هذه الصناعة مشروعة ويبررها إلى حد كبير، وينجم عن ذلك أن إلغاء هذه الصناعة يصبح عسيرا إذا تولت إدارتها الحكومة. ومما يزيد الطين بلة أن الحكومات المركزية - بعدما تسيطر على صناعة التسليح - لا تحب أن تتخلى عنها لأنها وسيلة فعالة للاستبداد. ثم إن الدولة أقوى من كل صاحب مصنع بمفرده، كما أن العمال المشتغلين بصناعة الأسلحة في مصانع الدولة يمكن تحويلهم بسهولة إلى جيش مدرب تسيطر عليه الحكومة.
وأخيرا يجب ألا نغفل عن المشاكل الدولية التي تترتب على تحويل هذه الصناعة إلى صناعة قومية. إن الدولة التي تصنع الأسلحة تطمع في الربح كما يطمع الأفراد؛ ولذا تراها تبحث عن الدول الضعيفة في هذه الصناعة كي تبيعها أسلحتها. وهي لا تجني من وراء ذلك الربح فحسب، بل إنها تستطيع بذلك أيضا أن تسيطر على سياسة الحكومة المشترية. وهذا من دواعي المنافسة بين الدول الكبرى التي تصنع الأسلحة. وهو لون جديد من ألوان المنافسة، وسبب آخر للنزاع الدولي ولاشتعال الحروب؛ فاستيلاء الدولة على هذه الصناعة إذا معناه استبدال شر بشر. إننا لا نبغي نقل هذه الصناعة من أيدي الأفراد إلى أيدي الحكومات، إنما نبغي محوها محوا تاما. ولا يكون ذلك إلا إذا اقتنعت الأغلبية بضرورة الإلغاء، وسنتحدث فيما يلي عن طريقة إقناع الأغلبية.
ومن خطل الرأي أن نصب اللوم على صناع الأسلحة وحدهم؛ فإننا جميعا لملومون، وكلنا يتجر بالموت؛ لأننا نؤيد الحكومات التي تسير على سياسة إعادة التسليح، ونعضد سياسة البلاد الاقتصادية والدبلوماسية والحربية التي ترمي إلى التوسع الاستعماري. غير أن التبعة التي تقع على عاتق الأقوياء والأغنياء أجسم من التبعة التي تقع على كواهل الضعفاء والفقراء. وتبعة التاجر الذي يستغل ماله في المستعمرات لا تقل عن تبعة الرجل الذي يصنع السلاح؛ لأن التاجر والصانع كلاهما يجد في المستعمرات مرتزقا ومغنما.
وطائفة التجار والصناع كثيرا ما تجر الدول إلى التطاحن لأنها ترى مصلحتها في هذا التطاحن. وهي تستطيع عن طريق الصحافة أن تقنع العامة الجاهلة البريئة. وإنه ليسيء هذه العامة الساذجة أن ترى دولة أجنبية (لمصلحة أغنيائها) تهدد مصالح الأغنياء من أبناء أمتهم! فتقاتل بحماسة شديدة وتريق دماءها في مصلحة الأقلية الغنية. (3) العلاج والسياسة الجديدة
نكتفي بما قدمنا عن طبيعة الحرب وأسبابها، ونبحث الآن في الطرق التي يمكن اتباعها لمنع اشتعال الحروب، وفي طرق إخمادها بعد أن تشتعل، ثم نبحث بعد ذلك في السياسة الجديدة التي يمكن أن تحل محل السياسة القديمة، وفيما يمكن أن يقوم مقام الحرب من الناحية السيكولوجية.
ويجمل بنا أن نذكر الطرق القائمة الآن فعلا لمنع الحروب. وهي طرق برهنت كلها على الفشل، ولا بد أن نستبدل بها غيرها.
من هذه الطرق عصبة الأمم، وقد انتهت بالفشل والخذلان؛ وذلك لأنها لم تؤسس على المبادئ الصحيحة، وساعد على فشل العصبة أن أمريكا رفضت أن تنضم إليها، كما أن الروسيا والدول المعادية أبعدت عنها عدة سنوات. ولكن العصبة - حتى إن ضمت إليها أمريكا وألمانيا والروسيا - لن تنجح في تحقيق الغرض منها، لأسباب أخرى. إن العصبة تسمح بعضوية الجماعة التي تمتلك جيشا، مهما تكن هذه الجماعة قليلة العدد، في حين أن الجماعة التي ليس لها جيش لا يكون لها حق العضوية في العصبة، مهما تكن كبيرة. إن العصبة تعرف الأمة عمليا ونظريا «بأنها مجتمع منظم للحرب». والواقع أن هذا التعريف ينطبق على كل أعضاء العصبة. أما أي تعريف آخر يبنى على أساس العنصر أو اللون أو اللغة أو الثقافة، أو حتى الحدود الجغرافية، فهو تعريف ناقص غير جامع ولا مانع؛ فالعصبة إذا إن هي إلا عصبة من مجتمعات منظمة للحرب.
والروح العسكرية التي تسود العصبة تتبين واضحة في الوسيلة التي تقترحها العصبة لضمان السلام؛ فلقد وضع مؤلفو العصبة عبارة في قانونها تقضي بفرض العقوبات الاقتصادية أولا، ثم العقوبات العسكرية ثانيا ، على كل دولة معتدية؛ فالعقوبات العسكرية هي الحرب بعينها. والعقوبات الاقتصادية إذا كانت صارمة أدت في النهاية كذلك إلى إعلان الحرب من جانب الدولة التي تفرض عليها، فتقابلها الدول الأخرى بالمثل. ويسمي مؤيدو فكرة العقوبات الحرب بأسماء مختلفة؛ فهم يسمونها «سلامة المجموع» أو غير ذلك. ولكنا يجب ألا تخدعنا الألفاظ؛ فإن «سلامة المجموع» معناها تحالف حربي في وجه تحالف حربي آخر، وتسمى دول الحلف الأول بدول العصبة، ودول الحلف الثاني بالدول المعتدية.
Página desconocida