ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
امرأة من الحجر
كانت لورين فتاة جميلة، ورشيقة، في الثامنة عشرة من عمرها. وكانت تعمل بوظيفة جيدة في صيدلية سيام في شارع سانت أونوريه. ولم يكن هناك من تعوله؛ ولذا كان كل ما تجنيه من أموال ملكا لها وحدها. وربما كان فستانها مصنوعا من قماش زهيد الثمن لكن تصميمه كان قمة في الأناقة والرقة، وهو ما كان هبة طبيعية حبيت بها الفتاة الباريسية؛ ومن ثم لم يكن الناظر إليها ليفكر في رخص ثمن الفستان، وإنما كان سيعجب بتأثيره الساحر. وكانت تعمل في الصيدلية مسئولة عن الحسابات ومساعدة عامة، وتقيم في غرفة صغيرة في الضفة المقابلة لنهر السين في شارع ليل. وكانت تعبر النهر مرتين كل يوم؛ مرة في الصباح حين تكون الشمس مشرقة، وأخرى في المساء حين تتلألأ الأنوار البراقة المنعكسة عن ضفة النهر وكأنها درر في عقد طويل. وفي كل صباح كانت تسير في حديقة تويلري بعد عبورها الجسر الملكي، لكنها لم تكن تمر عبر الحديقة في طريق عودتها مساء؛ ذلك أن الحديقة في الصباح تختلف عنها في المساء. وفي طريق عودتها كانت دائما ما تسير في شارع تويلري حتى تصل إلى الجسر. وكانت نزهتها الصباحية عبر الحديقة مصدر سعادة لها؛ لأن شارع ليل ضيق وغير متألق بالأضواء؛ ولذا كان من الممتع لها أن تسير تحت الأشجار الخضراء وأن تشعر بالحصى المتغضن الهش تحت أقدامها، وأن تشاهد التماثيل البيضاء اللامعة تحت أشعة الشمس ومياه النافورة المستديرة المتلألئة التي كانت تجلس إلى جوارها في بعض الأحيان. وكان تمثالها المفضل تمثالا لامرأة يستند على قاعدة بالقرب من شارع ريفولي. كانت ذراع المرأة تمتد فوق رأسها، وترتسم على الوجه الرخامي ابتسامة غامضة. كانت تلك الابتسامة تسحر الفتاة حين ترفع نظرها إلى التمثال، وبدا الأمر كأنها تحية الصباح ليومها الحافل بالعمل في المدينة. وكانت الفتاة تقبل أطراف أصابعها حين لا تكون على مرأى من أحد - وهو ما كان عليه الحال غالبا في الثامنة صباحا - وتلقي التحية على التمثال بابتهاج، وكانت المرأة الحجرية تبادلها التحية دائما بتلك الابتسامة الغريبة التي كانت تشير فيما يبدو إلى أنها تعرف عن هذا العالم وأساليبه أكثر مما تعرفه تلك الفتاة الباريسية الصغيرة التي كانت تنظر إليها كل يوم.
كانت لورين سعيدة بالطبع، أليست باريس جميلة دوما؟ أليست الشمس تشرق متألقة؟ أليس الجو صافيا دائما؟ ما الذي يمكن لفتاة يافعة أن تأمله أكثر من ذلك؟ ربما كان هناك شيء واحد ينقصها فعلا، لكن في النهاية تحقق لها ما كانت تريد؛ وهكذا لم يكن في باريس كلها فتاة أسعد من لورين. كادت تفصح لتمثالها المفضل في صباح اليوم التالي بما حدث؛ ذلك أن ابتسامة التمثال بدت لها وكأنها ازدادت اتساعا منذ آخر مرة مرت عليه صباح أمس، وشعرت وكأن المرأة المنحوتة من الحجر خمنت سر الفتاة المخلوقة من لحم ودم.
لاحظته لورين لعدة أيام وهو يحوم حول الصيدلية، وكان ينظر إليها بين الحين والآخر، رأت كل شيء، لكنها تظاهرت بأنها لم تر شيئا. كان شابا وسيما يافعا ذا شعر مجعد ويدين طويلتين نحيلتين وبيضاوين وكأنه لم يكن معتادا على العمل اليدوي الشاق. وذات ليلة تبعها حتى الجسر، لكنها تابعت سيرها بسرعة، ولم يستطع اللحاق بها. ولم يدخل الشاب إلى الصيدلية قط، لكنه كان يتسكع في الأرجاء وكأنه يتحين الفرصة ليتحدث إليها. لم يكن لدى لورين أحد تأتمنه على سرها سوى تلك المرأة الحجرية، وبدا من ابتسامتها أنها تفهم ما تريد قوله بالفعل، وأنها ليست في حاجة لأن تخبرها بأن الشاب الذي ساقه إليها القدر قد أتى. وفي المساء التالي تبعها لمسافة فوق الجسر، ولم تسرع لورين في سيرها هذه المرة. إن الفتيات في مثل وضعها لا يفترض لهن أن يتعرفن إلى محبيهن بالطريقة المعتادة، فكن يعتمدن في ذلك بصفة عامة على التعارف العشوائي، رغم أن لورين لم تكن تعلم ذلك. وتحدث إليها الشاب على الجسر، وبينما هو يحدثها رفع قبعته عن رأسه ذي الشعر الأسود.
كان كل ما قاله لها: «طاب مساؤك!»
فأشاحت بنظرها عنه خجلا لكنها لم تجبه، واستمر الشاب في السير إلى جوارها.
Página desconocida