إن الاستياء الذي شعرت به عندما قرأت المقال المشار إليه للمرة الأولى ما زال يلازمني، وقد دفعني إلى أن أكتب هذه الكلمات، موضحا الأمر الذي ما زلت أرى أنه أفظع كارثة حصدت أرواح الكثير من البشر، على الرغم من استخفاف العصر الحالي واستهزائه تجاهها. إنني لن أحاول أن أقدم لمن يقرءون كلماتي هذه أي بيان أو تقرير عن الإنجازات المتعلقة بالفترة الزمنية محل النقاش. لكنني أود أن أقول بضع كلمات حيال الغباء المزعوم للشعب اللندني فيما يتعلق بعدم القيام بأي استعدادات إزاء كارثة كانوا يتلقون تحذيرات مستمرة ومتكررة بشأنها. لقد وضعوا في مقارنة مع سكان بومباي الذين كانوا يمرحون عند سفح بركان. بادئ ذي بدء، كان الضباب أمرا مألوفا للغاية في لندن، لا سيما في فصل الشتاء، حتى إن أحدا لم يكن يوليه اهتماما كبيرا. كان الجميع ينظر إلى الضباب على أنه مصدر إزعاج كبير، يعطل حركة المرور وذو تأثير ضار على الصحة، لكنني أشك إن كان أحد قد فكر أن من الممكن أن تتحول سحابة من الضباب إلى وسادة كبيرة خانقة تضغط على مدينة بأسرها، كاتمة للحياة فيها وكأن المدينة كانت تعاني من داء الكلب العضال. لقد قرأت أن الضحايا الذين عضتهم الكلاب المسعورة كانوا في السابق يجدون حدا لمعاناتهم بتلك الطريقة نفسها، على الرغم من أنني أشك كثيرا إن كانت تلك الأشياء تحدث فعلا، على الرغم من تهم الهمجية والوحشية التي تطلق الآن ضد من عاشوا في القرن التاسع عشر.
ربما كان سكان مدينة بومباي معتادين كثيرا على ثوران بركان فيزوف لدرجة أنهم لم ينتبهوا مطلقا إلى احتمالية أن تدمر مدينتهم بفعل عاصفة من الرماد وفيضان من الحمم البركانية. كان المطر يهطل باستمرار على لندن، وإذا استمر هطول المطر فترة طويلة بما فيه الكفاية، فمن المؤكد أن الأمر كان سيحدث فيضانا يغرق المدينة، لكن لم تتخذ تدابير استباقية إزاء فيضان يأتي من السماء. إذن لماذا نتوقع من الشعب اللندني أن يستعد لكارثة سببها الضباب، خصوصا أننا لم نسمع بمثل هذا في تاريخ العالم كله؟ كان الشعب اللندني أبعد ما يكون عن نماذج الحمقى البطيئي الاستجابة التي يصفهم بها كتاب العصر الحديث ويريدون منا تصديقهم. (3) المصادفة التي وقعت أخيرا
الآن وقد انقشع الضباب عن كل من الأرض والبحر، ولم تر إلا فئة قليلة من الجيل الحالي هذا الضباب، قد يكون الحديث عن الضباب بصفة عامة - وعن ضباب لندن بصفة خاصة - في أسطر قليلة أمرا في محله، حيث يختلف ضباب لندن عن الضباب عموما من خلال بعض السمات الخاصة المحلية. الضباب هو ببساطة بخار ماء يرتفع من سطح الأرض السبخة أو من البحر، أو هو ما يتكثف على هيئة سحابة من الغلاف الجوي المشبع. وفي شبابي، كان الضباب يشكل خطرا كبيرا في البحر، ذلك أن الناس وقتها كانوا يسافرون بالسفن البخارية التي كانت تبحر على سطح ماء المحيط.
كانت لندن في نهاية القرن التاسع عشر تستهلك كميات هائلة من الفحم الحجري الناعم لغرض تدفئة الحجرات وإعداد الطعام. وفي الصباح وأثناء النهار، كانت سحب من الدخان الأسود تتدفق من آلاف المداخن. وعندما كانت كتل البخار الأبيض ترتفع ليلا كانت سحب الدخان تلك تسقط على الضباب، فكانت تضغط عليه للأسفل، وتتسرب ببطء خلاله وتضيف كثافة إلى كثافته. وكانت الشمس ستبدد الضباب لولا طبقة الدخان الكثيفة التي كانت تستقر على البخار مانعة أشعة الشمس من الوصول إليه. وعندما أصبحت تلك الظروف هي الحالة السائدة، لم يكن من شيء ينقي جو لندن سوى نسمة ريح تهب من أي اتجاه. كانت لندن في الغالب تقبع في الضباب لمدة سبعة أيام، وفي بعض الأحيان يكون الجو هادئا لمدة سبعة أيام، لكن هاتين الحالتين لم يتزامنا قط حتى العام الأخير من القرن المنصرم. كان هذا التزامن يعني - كما يعلم الجميع - الموت، وهو موت بالجملة لم تكن حتى أسوأ حرب شهدتها الأرض لتخلف وراءها هذا الكم من القتلى. ولكي نفهم الوضع، علينا فقط أن نتخيل أن الضباب يحل محل الرماد في مدينة بومباي، وأن دخان الفحم هو الحمم البركانية التي كانت تغطيه. وفي كلتا الحالتين كانت النتيجة متشابهة تماما فيما يتعلق بسكان المدينتين. (4) الأمريكي الذي كان يريد البيع
كنت في ذلك الوقت سكرتيرا خاصا في شركة «فولتون آند بريكستون وشركائهما»، وهي شركة في شارع كانون وتعمل بصفة رئيسية في مجال الكيماويات والأجهزة الكيميائية. لم ألتق فولتون قط؛ فقد مات قبل انضمامي إلى العمل في الشركة بوقت طويل. أما السير جون بريكستون فكان رئيسي في العمل، وأعتقد أنه حاز لقب «سير» أو «فارس» نظير خدمات قدمها إلى حزبه، أو لأنه كان مسئولا رسميا في المدينة أثناء فترة شهدت بعض التقدم الملكي فيها؛ ولقد نسيت أي السببين كان صحيحا. كانت غرفتي الصغيرة مجاورة لغرفته الكبيرة، وكانت مهمتي الأساسية هي التأكد دائما من أن أحدا لا يلتقي بالسير جون في مقابلة شخصية إلا إذا كان شخصا مهما أو لديه شأن مهم. كان من الصعب مقابلة السير جون، وكان من الصعب التعامل معه عند مقابلته. فلم يكن يكن الكثير من الاحترام لمشاعر غالبية الناس، ولم يكن يكن أي احترام لمشاعري. وإذا سمحت لأحد بدخول غرفته وكان ينبغي أن يتعامل معه أحد صغار الموظفين بالشركة، لم يكن السير جون ليبذل أي جهد ليخفي رأيه فيما صدر مني. وذات يوم في خريف العام الأخير من القرن، دخل رجل أمريكي إلى غرفتي. وأبدى الرجل إصرارا شديدا على مقابلة السير جون بريكستون. أخبرته أن ذلك مستحيل؛ لأن السير جون كان مشغولا للغاية، وأنه إذا أخبرني بما يريد فإنني سأعرض الأمر على السير جون في أقرب فرصة تسنح لذلك. اعترض الأمريكي على ذلك، لكنه في النهاية رضخ لاقتراحي الذي لا مفر منه. قال إنه اخترع آلة من شأنها أن تغير ملامح الحياة في لندن تغييرا جذريا، وأنه يريد أن تصبح شركة «فولتون آند بريكستون» وكيلا له. كانت الآلة، التي كان يحملها معه في حقيبة يد صغيرة، مصنوعة من معدن أبيض، وكانت مركبة بحيث إذا أدرت مؤشرا فيها فإنها تخرج كميات متفاوتة من غاز الأكسجين. وكان الغاز - حسب ما فهمت - معبأ في داخلها في صورة سائل تحت ضغط هائل، ويدوم لمدة ستة أشهر - إذا كنت أذكر ما قاله لي وقتها جيدا - من دون الحاجة إلى إعادة ملء الآلة وشحنها به. كما كان بها أنبوب مطاطي متصلة به قطعة توضع في الفم، وقال الأمريكي بأن المرء إذا استنشق منها عدة مرات في اليوم، فإنه سيحظى بنتائج ذات نفع له. ومن هنا، أدركت أن عرض الآلة على السير جون لم يكن يجدي نفعا على الإطلاق؛ لأننا كنا نعمل في مجال الأجهزة البريطانية القديمة، وليس في أي من الاختراعات الأمريكية الجديدة. وبالإضافة إلى ذلك، كان السير جون متحيزا ضد الأمريكيين، وبت متأكدا من أن ذلك الأمريكي سيثير سخطه؛ ذلك أنه كان نموذجا شديد الشحوب من العرق البشري، وكان يصدر من أنفه خنينا عاليا، ومخارج الحروف عنده يرثى لها، وحديثه مليئا باللغة العامية، كما كانت تصدر عنه عادة بعض السلوكيات العصبية تجاه الأشخاص الذين كان هو بالنسبة إليهم شخصا غريبا تماما. ومن ثم، كان من المستحيل بالنسبة إلي أن أسمح لرجل كهذا أن يدخل إلى السير جون بريكستون، وعندما عاد بعدها ببضعة أيام شرحت له - وآمل أنني فعلت ذلك بكياسة ولطف - أن رئيس الشركة آسف للغاية لعدم قدرته على النظر في عرضه بشأن الآلة. ويبدو أن حماسة الأمريكي لم تتأثر مطلقا بهذا الرفض. وقال بأنني لم أستطع أن أشرح إمكانيات الآلة للسير جون بطريقة ملائمة؛ فقد كان يقول بأنها اختراع عظيم، وقال بأنها تمثل ثروة لأي شخص يحوز على حق الوكالة عنها. وألمح إلى أن هناك شركات أخرى مرموقة في لندن متحمسة للحصول على هذا العرض، لكنه - لسبب ما - لم يذكر أنه كان يفضل التعامل مع شركتنا نحن. ثم ترك بضعة كتيبات مطبوعة بخصوص آلته، وقال بأنه سيعرج مرة أخرى. (5) الأمريكي يقابل السير جون
لطالما فكرت في أمر ذلك الأمريكي المثابر، وتساءلت إن كان قد غادر لندن قبل وقوع الكارثة، أم أنه كان ضمن الآلاف الذين دفنوا في مقابر مجهولة دون معرفة هوياتهم. ولم يكن ليتبادر إلى ذهن السير جون حين طرده من مكتبه بشيء من القسوة أنه كان يرفض عرضا يساوي حياته، وأن الكلمات القاسية التي استخدمها كانت في واقع الأمر بمثابة حكم بالإعدام أصدره بحق نفسه. ومن جانبي، فإنني نادم على أنني انفعلت على الأمريكي وقلت له بأن أساليبه في العمل لم تكن تثير إعجابي. ربما لم يشعر هو بقسوة تلك الكلمات؛ فأنا متأكد من أنه لم يتأثر؛ ذلك أنه أنقذ حياتي من دون أن يعلم هو ذلك. لكن، أيا كان الأمر، لم يبد الرجل استياء من جانبه، بل دعاني على الفور إلى تناول شراب معه، وهو عرض كنت مجبرا على رفضه. لكنني أسبق أحداث قصتي الآن. في الواقع، عدم اعتيادي على الكتابة يجعل من الصعب علي أن أسرد الأحداث في تسلسلها الصحيح. زارني الرجل الأمريكي عدة مرات بعد أن أخبرته أن شركتنا لا يمكنها العمل معه. ثم اعتاد الرجل على زيارتي من دون سابق إعلان منه، وهذا أمر لم أكن أحبذه كثيرا، لكنني لم أعطه أي توجيهات بشأن تطفله؛ لأنني لم تكن لدي أدنى فكرة عن مدى السوء الذي يمكن أن يصل إليه تصرفه ورد فعله حيال ذلك. وذات يوم، وبينما كان يجلس بالقرب من مكتبي يقرأ جريدة، استدعاني السير جون لفترة وجيزة إلى غرفته. وعندما عدت اعتقدت أنه رحل وأخذ آلته معه، لكن بعد لحظة صدمت حين سمعت خنينه العالي يأتي من حجرة السير جون ويتناوب مع صوت رئيسي الرخيم، الذي كان من الواضح أنه لم يكن يثير في نفس الأمريكي أي شعور بالجفول أو الوجل مثلما كان يحدث لدى من اعتادوا سماعه. دخلت حجرة السير جون في الحال، وكنت على وشك أن أشرح له أن الأمريكي قد دخل إليه من دون تواطؤ من جانبي، حين طلب مني رئيسي أن ألتزم الصمت، ثم استدار إلى زائره وطلب منه في فظاظة أن يكمل حديثه المثير للاهتمام. لم يكن المخترع بحاجة إلى دعوة ثانية ليفعل، فاستطرد حديثه العفوي، فيما كان عبوس السير جون واحمرار وجهه يزيدان تحت حدود شعره الرمادي. وعندما انتهى الأمريكي من حديثه، أمره السير جون في فظاظة أن يغرب عن وجهه ويأخذ معه آلته اللعينة. وقال بأنه من المهين لرجل طاعن في السن يكاد يقترب من نهايته أن يحضر ما يطلق عليه اختراعا صحيا إلى رجل قوي لم يصبه المرض يوما، ولا أعلم لم استمع مطولا إلى الأمريكي على الرغم من أنه كان قد اتخذ قراره منذ البداية ألا يتعامل معه، اللهم إلا إذا كان الهدف من ذلك هو معاقبتي على أنني سمحت لهذا الأمريكي من دون قصد أن يدخل إليه. ضايقتني كثيرا هذه المقابلة، حيث كنت أقف عاجزا، وأنا أعلم أن السير جون يزداد غضبا مع كل كلمة ينطقها ذلك الأجنبي، ولكن نجحت في النهاية في سحب المخترع وآلته إلى غرفتي وأغلقت الباب. كنت أتمنى بكل صدق ألا أرى ذلك الأمريكي مرة أخرى، وتحققت أمنيتي. فقد أصر على تشغيل آلته ووضعها على رف في حجرتي. وطلب مني أن أدسها في غرفة السير جون ذات يوم يعج بالضباب وأن ألاحظ التأثير. وقال الرجل بأنه سيأتي مرة أخرى، لكنه لم يفعل قط. (6) كيف ضغط الدخان على الضباب
هبط علينا الضباب ذات يوم وكان يوم جمعة. كان الطقس جميلا للغاية حتى منتصف شهر نوفمبر من ذلك الخريف. ولم يبد أي شيء غريب بشأن الضباب. لقد شهدت الكثير من نوبات الضباب التي تفوق ذلك سوءا. ولكن، بمرور الأيام، أصبح الجو أكثر كثافة وقتامة، وأعتقد أن ذلك كان سببه الحجم المتزايد من دخان الفحم الذي كان يستقر على طبقات الضباب. وكان الغريب بشأن تلك الأيام السبعة هو سكون الهواء التام. لقد كنا تحت مظلة تمنع الهواء، وكنا نستهلك الأكسجين واهب الحياة حولنا ببطء وثبات، وكنا نستبدل به غاز حمض الكربونيك السام، ولكننا لم نكن نعلم ذلك حينئذ. ومنذ ذلك الوقت، أوضح العلماء أن عملية حسابية بسيطة كانت تخبرنا متى بالضبط ستستنفد آخر ذرة أكسجين من الجو، لكن من السهل أن تتحلى بالحكمة بعد وقوع الكارثة. عثر على جثة أفضل عالم رياضيات في إنجلترا على الساحل. وكان قد وصل ذلك الصباح قادما من كامبريدج. وأثناء فترة الضباب، كانت هناك دائما زيادة ملحوظة في معدلات الوفاة، وفي هذه المرة، لم تكن الزيادة أكبر من المعتاد حتى اليوم السادس. وفي صباح اليوم السابع كانت الصحف تعج بإحصاءات صادمة، لكن لم يكن هناك من يدرك الدلالة الكاملة لتلك الأرقام المقلقة أثناء نشرها في الصحافة. ولم تكن المقالات الافتتاحية في الجرائد الصباحية خلال اليوم السابع تتضمن أي تحذير بشأن الكارثة التي كانت ستعقب ظهورها بسرعة بالغة. كنت في تلك الفترة أعيش في إيلنج، وهي ضاحية غربي لندن، وكنت آتي كل صباح إلى شارع كانون بالقطار في موعد محدد. ولم يكن الضباب يسبب لي أي إزعاج حتى اليوم السادس، وكنت مقتنعا تماما أن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى عمل الآلة الأمريكية الذي لم يكن يفطن إليه أحد.
وفي اليومين الخامس والسادس لم يأت السير جون إلى المدينة، لكنه كان في مكتبه في اليوم السابع. كان الباب بين حجرته وحجرتي مغلقا. وبعد أن تجاوزت الساعة العاشرة بقليل سمعت صرخة في حجرته وتبعها صوت ارتطام شديد. فتحت الباب ورأيت السير جون ممددا على الأرض ووجهه للأسفل. وبالإسراع نحوه، شعرت للمرة الأولى بالتأثير القاتل للهواء الخالي من الأكسجين، وقبل أن أصل إليه سقطت أولا على ركبتي ثم على وجهي. شعرت أن حواسي كانت تفارقني، فزحفت بدافع غريزي نحو غرفتي حيث انقشع عني ضيق صدري في الحال، ووقفت مرة أخرى على قدمي أشهق. أغلقت باب حجرة السير جون حيث ظننت أنها كانت مليئة بالأبخرة السامة، وقد كانت كذلك بالفعل. صحت طالبا المساعدة، لكن لم ألق ردا. وحين فتحت باب المكتب الرئيسي وجدت مجددا ما اعتقدت أنه أبخرة سامة. وعندما أغلقت الباب بسرعة، ذهلت من الصمت المطبق الذي صار يغلف المكتب الذي لطالما كان يعج بالصخب دائما، ورأيت أن بعض الموظفين كانوا يرقدون بلا حراك على الأرض، وآخرين يجلسون إلى مكاتبهم ورءوسهم منكبة عليها وكأنهم نيام. وحتى في تلك اللحظة المرعبة، لم أدرك أن ما أراه كان يشمل لندن بأسرها، وأنه ليس كارثة محلية كما تخيلت تسبب فيها كسر في بعض الدمجانات في السقف. (كانت تلك الدمجانات مملوءة بأنواع شتى من المواد الكيميائية، التي لم أكن على دراية بخصائصها؛ حيث كنت أعمل مع محاسب الشركة ولم يكن لي دخل بالجانب العلمي فيها.) ثم فتحت النافذة الوحيدة في حجرتي وصحت مرة أخرى طالبا المساعدة. كان الشارع ساكنا ومظلما في ذلك الضباب القابع المشئوم، والشيء الذي تجمدت له أوصالي من الرعب في تلك اللحظة كان أنني وجدت نفس الهواء الخانق والقاتل الذي كان قابعا في الأرجاء. وفي أثناء سقوطي أغلقت النافذة، فحجبت الهواء السام. عدت للحياة مرة أخرى، وبدأت أستعيد كامل وعيي وأدرك حقيقة الأشياء من حولي رويدا رويدا.
كنت في واحة ملأى بالأكسجين، وتكهنت في الحال أن الآلة الموجودة على الرف هي المسئولة عن وجود هذه الواحة وسط صحراء شاسعة من الغاز المميت. أنزلت الآلة الأمريكية عن الرف، وقد تملكني الخوف من أنني قد أوقف عملها إذا ما حركتها. ثم وضعت القطعة المخصصة للفم بين شفتي ودخلت حجرة السير جون، من دون أن أشعر هذه المرة بأي آثار سلبية. كان رئيسي المسكين قد تخطى مرحلة الإنقاذ بكثير، وباتت حالته ميئوسا منها تماما. وكان من الواضح أنه لا يوجد أحد على قيد الحياة في البناية سواي. وفي الشارع كان كل شيء ساكنا وقاتما. كان انبعاث الغاز قد خمد، لكن في المتاجر المنتشرة هنا وهناك كانت المصابيح المضيئة لا تزال تتوهج على نحو غريب، معتمدة في ذلك على المراكم وليس على الطاقة المباشرة للمحركات. توجهت تلقائيا نحو محطة شارع كانون وكنت أعلم طريقي إليها حتى ولو كنت معصوب العينين، وكنت أتعثر في الجثث المنتشرة على الرصيف، وأثناء عبوري الطريق اصطدمت بحافلة متوقفة وكانت تبدو في الضباب وكأنها شبح، والجياد نافقة عند مقدمتها بينما يتدلى لجامها من يد السائق الميت الواهنة. وكان الركاب الشبيهون بالأشباح لا يحركون ساكنا مثلهم، يجلسون معتدلين في جلستهم، أو معلقين على حافة المقاعد بأوضاع جسمانية بشعة ومثيرة للرعب. (7) القطار ذو العربة المليئة بالموتى
لو كانت قوى التفكير والمنطق يقظة ومنتبهة لدى المرء في مثل ذلك الوقت (وأعترف أنها لدي كانت في سبات عميق) لعرف أن من غير الوارد أن يوجد أي قطار في محطة شارع كانون؛ ذلك أنه إذا لم يكن يوجد من الأكسجين في الجو ما يكفي لكي يبقى المرء على قيد الحياة، أو لكي يظل المحرك النفاث الغازي قيد التشغيل، فمن المؤكد أنه ما كان ليوجد ما يكفي من الأكسجين لتظل نار المحرك متقدة، حتى ولو كان العامل لديه من الطاقة ما يكفي لإنجاز مهمته. ولكن في بعض الأحيان تكون السليقة أنفع من العقل، وقد ثبت ذلك في هذه الحالة. كانت القطارات القادمة من إيلنج في تلك الأيام تسير تحت المدينة في نفق عميق. وربما يبدو أن غاز حمض الكربونيك في ذلك الممر النفقي قد يجد له مكانا يستقر فيه وذلك بفعل وزنه، لكن لم يكن هذا هو واقع الحال. أتصور أن تيارا من الهواء جاء عبر النفق من المناطق النائية حاملا معه هواء نقيا نسبيا حافظ على الحياة لبضع دقائق بعد وقوع الكارثة. وأيا كان الأمر، كانت الأرصفة الطويلة في محطة شارع كانون النفقية تمثل مشهدا يبث الرعب في النفوس. كان هناك قطار يقف على الرصيف السفلي. وكانت المصابيح الكهربائية تنير على نحو متقطع. كان الرصيف يعج برجال يحارب بعضهم بعضا كالشياطين، من غير سبب واضح على ما يبدو؛ لأن القطار كان مليئا بالناس بالفعل بقدر ما يمكنه أن يحمل. كان المئات قد لقوا حتفهم تحت الأقدام، وكانت تأتي بين الحين والآخر هبة من الهواء الفاسد عبر النفق وعندئذ يرخي مئات آخرون من الناس قبضتهم ويذعنون للموت. وعلى جثثهم كان الناجون يتصارعون بأعداد تتناقص باطراد. بدا لي أن معظم من كانوا على متن القطار الواقف ميتون. وفي بعض الأحيان كانت مجموعة يائسة من المتناحرين يتدافعون بعنف فوق أكوام الجثث ويفتحون الباب ويلقون بالركاب الموجودين بالداخل فيأخذون أماكنهم وهم يلهثون. ولم يظهر من كانوا في القطار أي مقاومة، فكانوا يرقدون بلا حراك حيث يقعون، أو حيث يتدحرجون بلا حول منهم ولا قوة تحت عجلات القطار. شققت طريقي على طول الجدار قدر ما أمكنني متجها إلى القاطرة حيث يوجد المحرك، وكنت في ذلك أتساءل لم لم يتحرك القطار. كان العامل يرقد على أرضية مقصورته وكانت نار المحرك خامدة.
Página desconocida