وكان هذا الحديث هو الأخير الذي دار بيني وبين جونسون. وبعد أسبوع تقريبا قرأت في قائمة الزوار أن اللورد سومرسيت كامبل - الذي كان نزيلا في فندق فيكتوريا (وهو الفندق الأفخم في المكان) - قد غادر من شويندلبورج إلى إنسبروك.
إصلاح جو هولندز
كانت الحانات في طريق بورويل - وهي كثيرة وممتدة على طول الطريق - تفخر بجو هولندز. كان نموذجا مثاليا للأشخاص الذين تفرزهم بيئة الحانات. كان جو على الأرجح هو السكير الأكثر مثابرة على طول هذا الطريق، وكان مشهد الشرطة وهي تلقي القبض عليه هو أحد المشاهد المألوفة في الشارع. كان الكثير من مرتادي تلك الحانات يحتاجون إلى رجل شرطة واحد لاقتيادهم إلى القسم، ويحتاج البعض إلى رجلين، لكن جو كان يحتاج في المتوسط إلى أربعة من رجال الشرطة لاقتياده. وعرف عن جو أنه يتفاخر أن الأمر تطلب ذات مرة سبعة من رجال الشرطة لاقتياده إلى القسم، إلا أن ذلك كان قبل أن تدرس الشرطة حالة جو وتقرر حجم القوة الصحيح المكافئ لقوته. كان رجال الشرطة الآن يطرحونه أرضا؛ حيث يمسك أحد رجال الشرطة بإحدى قدميه العصية ويمسك آخر بالقدم الأخرى، فيما يتولى الشرطيان المتبقيان أمر الجزء العلوي من جسده. وهكذا حملوه، وتبعهم الحشد المتعجب، وأخذ السكارى الآخرون يشاهدونهم وقد تملكتهم الغيرة؛ إذ لم يكن الأمر يتطلب معهم سوى شرطي واحد حين يتعرضون لموقف مماثل. وكان جو يتمكن أحيانا من تسديد ركلة مؤثرة للغاية إلى بطن رجل الشرطة، وحين ينزوي الشرطي على نفسه بعيدا عنه كان القتال يستأنف في غضون بضع لحظات، ويكون القتال صامتا من جانب رجال الشرطة وصاخبا مجلجلا من طرف السكير الذي يتمتع بلسان سليط لا يكف عن السباب. ثم يستمر الموكب مجددا، وكان من غير المجدي تماما أن يوضع جو في عربة الإسعاف التابعة للشرطة؛ ذلك أن الأمر كان يتطلب ركوب شرطيين معه لكبت حركته والسيطرة عليه أثناء نقله، والعربة غير مصنوعة لتتحمل مثل هذا الحمل.
وبالطبع، كانت عربة الإسعاف تقوم بواجبها حين يخرج جو مترنحا من الحانة ويسقط في القذارة، فكان يدفع بمجهود إلى مكان سكنه، لكن المرح الحقيقي حدث عندما ألقي القبض على جو أثناء المرحلة الثالثة من نوبته. اجتاز جو المرحلة الخطابية، ثم المرحلة العاطفية أو الشعورية، ومنها انتقل إلى مرحلة الاشتباك والشجار التي عادة ما يلقى به في الشارع خلالها؛ حيث يبدأ على الفور في إثارة الصخب في أرجاء المدينة وتلوين شوارعها بالدماء. وعندئذ، تدوي صفارة الشرطة وتدرك الشرطة أن جو متحفز للقتال وأن نداء الواجب يدعوهم إلى ساحة الوغى.
كان يعتقد في الحي أن جو خريج جامعي، وكان هذا يعلي شأنه لدى معجبيه. فكانت فصاحته وبلاغته أمرا مفروغا منه، بعد تناوله بضع كئوس من الشراب تختلف في عددها تبعا لقوة تأثير ما تحتويه من شراب، وكان من يستمع إلى كبار المتحدثين السياسيين في تلك الفترة يقر بأن أحدا من هؤلاء لا يضاهي جو حين يتحدث في أمر مظالم العمال وطغيان صاحب رأس المال واستبداده. ومن المفهوم بصفة عامة أن جو كان في مقدوره أن يصبح أي شيء يريده، وأنه لم يكن عدو أحد سوى نفسه. كما ألمح إلى أن في وسعه أن يسدي النصائح إلى كبار الشخصيات إذا ما استشاروه وسألوه رأيه في شئون الدولة.
وذات مساء حين كان جو يتقدم ببطء كالمعتاد نحو قسم الشرطة؛ حيث كان يصطحبه العدد اللازم من رجال الشرطة وقدمه مرفوعة في الهواء وهو يخطب في الحشد أثناء ذلك ملهبا إعجابهم به، وقفت امرأة وظهرها ملاصق للجدار الحجري وكانت مرعوبة من هول ما ترى. كان وجه المرأة شاحبا وصافيا وترتدي ثيابا سوداء. وكانت مهمتها التي فرضتها على نفسها محصورة في هؤلاء الناس، لكنها لم تكن قد رأت جو من قبل وهو يقتاد إلى قسم الشرطة، وكان المشهد الذي تراه صادما بالنسبة إليها، رغم أنه كان مسليا بالنسبة إلى الحي. فتساءلت عن أمر جو وسمعت القصة المعتادة بأنه لم يكن عدوا لأحد إلا لنفسه، وإن كانوا إحقاقا للحق قد أضافوا أنه كان عدوا للشرطة. إلا أنه نادرا ما كان ينظر إلى رجال الشرطة على أنهم آدميون في هذا الحي. أطلعت السيدة جونسون لجنة الرابطة الاجتماعية على القضية، وطلبت مشورة أعضائها. وعندئذ، عقد العزم على إصلاح جو هولندز.
تقبل جو السيدة جونسون في إجلال مكبوت وسلوك دل بكياسة على معرفته بسمو منزلتها عنه وتدني قدره. كان يعلم كيف ينبغي التعامل مع امرأة حتى ولو كان سكيرا، وذلك طبقا لما أخبر به المقربين منه بعد ذلك. وكان جو على استعداد تام لترويضه وإصلاحه. فحتى هذه اللحظة من حياته، لم يكن أحد قد مد إليه يد العون. كان ما يحتاجه جو هو التعاطف الإنساني، ونادرا ما كان يحظى به. كان ما تلقاه ذلك الرجل الفقير في حياته من الركل والرفس يفوق بكثير ما معه من مال. ولم يكن الأثرياء يكترثون بما يحل بالفقراء؛ فلم يلقوا بالا لهؤلاء، وهي مسألة كانت السيدة جونسون ترفضها بشدة.
كان أحد مبادئ اللجنة أن يمد الأغنياء يد العون إلى الفقراء متى كان ذلك ممكنا. ومن ثم، عقد العزم على أن يحصل جو على ملابس لائقة وأن يبحث له عن مكان يعمل فيه ليتمكن من مساعدة نفسه. وكانت السيدة جونسون تجوب الحي وتجمع التبرعات لعملية الإصلاح. وكان معظم الناس يرغبون في مساعدة جو، وإن كان يرى بصفة عامة أن الشارع سيبدو أقل إمتاعا حين يقلع جو عن الشراب. ولكن، في إحدى الغرف في الحي، لم تستطع السيدة جونسون الحصول على المال الذي كانت تسعى في طلبه.
قالت المرأة التي كان ابنها الشاحب الضعيف يتعلق بذيل تنورتها: «لا يمكننا أن ندخر ولو بنسا واحدا. لقد سرح زوجي مؤخرا من العمل مرة أخرى، ولم يكن قد مضى على عمله سوى أربعة أسابيع هذه المرة.»
جالت السيدة جونسون بنظرها في أرجاء الغرفة وعرفت السبب وراء عدم وجود الأموال. كان من الواضح تماما أين ذهبت أموال الزوج.
Página desconocida