ثم نظر البروفيسور إلى الحضور أمامه في تعاطف ولطف بينما كان الخليط الأصفر ينسل ببطء من بين أصابعه إلى الصندوق مرة أخرى. ثم راح البروفيسور يكرر تلك الحركة مرات ومرات.
وتبادل أنصار اللاسلطوية الموجودون في الغرفة فيما بينهم نظرات تنم عن القلق والاضطراب.
ثم استطرد البروفيسور قائلا: «لكن، سيكون من المفيد لنا أن ننظر في أمر هذه المادة لبضع دقائق، وذلك بغرض المقارنة ليس إلا.» ثم قال وهو يدس يده في صندوق آخر ويخرج أمام أعينهم حجرا أصفر اللون: «هاك هو الديناميت في صورته المنضغطة. يوجد هنا ما يكفي لتدمير هذا الجزء من مدينة لندن. يمكن لهذا الحجر الصغير أن يحول كاتدرائية القديس بولس إلى خراب؛ ولذا مهما بدا أن الديناميت قد عفا عليه الزمن، فعلينا دوما أن ننظر إليه بإجلال واحترام، تماما كما ننظر إلى المصلحين من القرون السابقة الذين هلكوا في سبيل إعلاء آرائهم، وإن كانت آراؤهم اليوم متأخرة كثيرا عن ركب آرائنا الآن. وسأسمح لنفسي بإجراء بعض التجارب باستخدام حجر الديناميت هذا.» وبقوله هذا، أمسك البروفيسور بحجر الديناميت بيده السليمة وأطاح به على طول الممر حيث سقط على الأرض فأصدر صوتا مكتوما بغيضا. فوثب الحضور كل عن مقعده وتراجعوا للخلف بعضهم فوق بعض. وانطلقت في الهواء صرخات الذعر، لكن البروفيسور نظر في هدوء إلى الجمع المضطرب أسفل منه وعلت وجهه ابتسامة شامخة وقال: «أستميحكم عذرا أن تعودوا إلى مقاعدكم، ولأسباب شرحتها لكم بالفعل، أثق أنكم لن تستحسنوا أيا مما أقول لكم. لقد جسدتم الآن إحدى الخرافات الشهيرة بشأن الديناميت، وقد برهنتم بأفعالكم هذه كيف أن هذه المحاضرة مهمة للغاية للوصول إلى استيعاب أفضل من جانبكم للمادة التي عليكم التعامل معها. إن هذا الحجر غير ضار بالمرة؛ لأنه مجمد. إن الديناميت في حالته المجمدة لا ينفجر، وهي حقيقة يعرفها جيدا من يعملون في المناجم وجميع من يتعاملون معه، والذين يفضلون بصفة عامة تفجير أنفسهم إلى أشلاء في محاولة إذابة الثلج عن هذه المادة أمام اللهب. هلا أحضرتم لي هذا الحجر من فضلكم، قبل أن يذوب الثلج عنه بفعل حرارة الغرفة؟»
تقدم أحد الرجال بحذر شديد وحمل الحجر وهو يمسك به بعيدا عن جسده، وسار على أطراف أصابعه نحو المنصة ووضعه بحذر شديد على المكتب أمام البروفيسور.
قال البروفيسور بنبرة لطيفة: «شكرا لك.»
شهق الرجل شهيقا عميقا ينم عن شعوره بالارتياح بينما كان يعود إلى مقعده.
واستطرد البروفيسور قائلا: «هذا هو الديناميت المجمد، وهو كما قلت غير ضار من الناحية العملية. والآن، سيكون من دواعي سروري أن أجري أمامكم تجربتين مذهلتين على الديناميت وهو غير مجمد.» وحين انتهى من هذه الجملة قبض على حفنة من الغبار المبلل الأشبه بنشارة الخشب ورشه على سندان صغير من الحديد كان موضوعا على الطاولة. وقال: «ستستمتعون بهذه التجارب؛ لأنها ستريكم كم من السهل التعامل مع الديناميت. ومن الأخطاء الشائعة أن الديناميت ينفجر بفعل الصدمات. يوجد ما يكفي من الديناميت هنا لتدمير هذه القاعة وإرسال كل من فيها إلى غياهب النسيان، لكنكم سترون بأنفسكم إن كانت الصدمات تؤدي إلى تفجير الديناميت أم لا.» ثم أمسك البروفيسور بمطرقة وهوى على المادة الموجودة على السندان مرتين أو ثلاثا، في حين وثب من هم أمامه من مقاعدهم واندفعوا بعنف تجاه زملائهم من خلفهم، وقد سرت القشعريرة في أجسادهم. توقف البروفيسور عن طرقه وحدق فيهم بنظرة فيها توبيخ لهم، ثم بدا أن شيئا على السندان قد جذب انتباهه. فانحنى عليه وراح ينظر بدقة إلى سطحه الحديدي. ثم انتصب في وقفته مرة أخرى وقال: «كنت على وشك أن أوبخكم على ما قد يبدو لأي رجل آخر دليلا على الخوف، لكنني أدركت خطئي. كنت على وشك أن أرتكب خطأ فادحا. لقد عانيت بنفسي بين الحين والآخر من أخطاء مشابهة. لقد لاحظت على السندان بقعة شحم صغيرة، ولو تصادف أن طرقت على تلك البقعة بالمطرقة لكنتم جميعا الآن تتلوون في سكرات الموت تحت أطلال هذه البناية. لكن لن يمر الدرس المستفاد هنا مرور الكرام. إن بقعة الشحم تلك هي من النتروجلسرين الحر الذي نضح به الديناميت. وربما كان هذا هو مصدر الخطر الوحيد في التعامل مع الديناميت. وكما أوضحت لكم، يمكنكم أن تسحقوا الديناميت على سندان دون خطورة، ولكن إذا تصادف أن وقعت المطرقة على بقعة من النتروجلسرين الحر، فسينفجر الديناميت في لحظة. وأستميحكم عذرا أن تغفروا لي إهمالي اللحظي العابر.»
هنا نهض رجل في منتصف القاعة، ومر بعض الوقت قبل أن يستجمع شتات نفسه ليتحدث، ذلك أنه كان ينتفض وكأنه مصاب بالشلل. وفي النهاية، قال بعد أن بلل شفتيه بلسانه عدة مرات: «أيها البروفيسور، إننا نتوق إلى أن نستمع إلى ما لديك حيال تلك المادة المتفجرة. وأعتقد أنني أتحدث باسم زملائي ورفاقي جميعا هنا. إننا ليس لدينا أدنى شك حيال ما تعلمنا إياه، ونود كثيرا أن نستمع إلى ما سوف تقول عن موضوع المحاضرة، ولا نريد منك إهدار المزيد من الوقت الثمين على التجارب. إنني لم أستشر زملائي قبل حديثي هذا، لكنني أعتقد أنني أنطق هنا بصوت المنطق لديهم.» فدوت صيحات «هذا صحيح، حقا.» في جميع أرجاء القاعة. فنظر إليهم البروفيسور مرة أخرى بنظرة ود وامتنان.
وقال لهم: «ثقتكم في مؤثرة بالفعل، لكن إلقاء محاضرة كيميائية من دون إجراء التجارب هي كجسد من دون روح. إن التجارب هي روح البحث العلمي. ويتعين علينا في مجال الكيمياء ألا نسلم بأي شيء جدلا. لقد أريتكم كيف أن الكثير من الأخطاء الشائعة قد ظهرت فيما يتعلق بالمادة التي نتعامل معها. وما كان من الممكن إبراز كل تلك الأخطاء الشائعة لو أن كل شخص قد أدى التجارب بنفسه؛ وعلى الرغم من أنني أشكركم على ثقتكم التي منحتموني إياها، فإنني لا أستطيع أن أحرمكم المتعة التي ستحصلون عليها من إجراء تجاربي. وهناك خطأ شائع آخر مفاده أن النار تؤدي إلى تفجير الديناميت. وهذا ليس بصحيح أيها السادة.»
أشعل البروفيسور عود ثقاب على بنطاله وأشعل المادة الموجودة على السندان. فاحترقت المادة بلهب أزرق شاحب، وراح البروفيسور ينظر إلى الرفاق اللاسلطويين حوله في نظرات تنم عن انتصاره.
Página desconocida