El otro rostro de Cristo: la postura de Jesús sobre el judaísmo – Introducción al gnosticismo
الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهودية – مقدمة في الغنوصية
Géneros
ولكن الله الذي يبحث عنه الغنوصي في أعماق ذاته ليس الإله الذي صنع هذا العالم المادي الناقص والمليء بالألم والشر والموت، بل هو الأب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصف أو يحيط به اسم، وهو الذي وصفه كتاب يوحنا السري بالكلمات التالية: «الواحد الموجود بصمديته، القائم بنوره، البداية التي لم تسبقها بداية، بلا حدود ولا أبعاد لعدم حدوث شيء قبله يحدده ويقيس أبعاده، خفي لم يره أحد، بلا أوصاف لأن أحدا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم، لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم، قائم في نفسه ولنفسه وراء الوجود ووراء الزمن»،
3
إن ما يميز المسيحية الغنوصية عن المسيحية القويمة هو أن عالم المادة المرئي ليس من صنع الله، وإنما من صنع إله أدنى هو إله اليهود، الذي يوازي أنجرا مانيو شيطان الزرادشتية. تتصوره الأدبيات الغنوصية على شكل مسخ، مزيج من هيئة الأفعى وهيئة الأسد، وله عينان تشبهان جمرتين من نار، يجلس على عرش يحيط به معاونوه من قوى الظلام المدعوون بالأراكنة (مفردها أركون، أي حاكم باللغة اليونانية)، يدعى بالاسم «يهوه» وبالاسم «يلدابوث»، ويلقب ب «سكلاس» أي الأحمق، وب «سمائيل» أي الأعمى، وب «الديميرج» أي الإله الصانع باللغة اليونانية (
Demiourgos ) أي الأعمى، وعلى الرغم من أن هذا الإله قد صنع الإنسان من مادة الأرض الظلامية نفسها، إلا أنه أخذ روحه من نور الأعالي المسروق وحبسها في قوقعة الجسد، ولكي يبقيه في حجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة التي تشغله عن نفسه وعن اكتشاف الجوهر الحقيقي للروح.
إن مثل هذه التصورات تضع الغنوصية في زمرة العقائد الدينية الثنوية، وهي التي تقول بوجود مبدأين، أو أصلين متناقضين، وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ، وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخر، وصراعهما يدفع عجلة الزمن ويسير بالعالم وبالإنسانية نحو نهاية التاريخ عبر ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى هي مرحلة العصر الذهبي للخليقة، قبل أن يعدو مبدأ الشر على مبدأ الخير، والمرحلة الثانية هي مرحلة الامتزاج عندما عدا مبدأ الشر على مبدأ الخير، فدخل في نسيج الخليقة فأفسدها، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر والقضاء نهائيا على مبدأ الشر؛ ليعود العالم طيبا ونقيا وكاملا كما كان في البدايات، هذا النوع من الثنوية أدعوه بالثنوية الكونية؛ لأن التعارض بين المبدأين يطال الكون بأسره، وهنالك نوع معتدل من الثنوية أدعوه بالثنوية الأخلاقية، لأن صراع الخير والشر لا ينسحب على الكون بأسره، بل يقتصر على المجتمعات الإنسانية، والشيطان فيها لا سلطة له إلا على النفس الإنسانية، التي يعمل على إفسادها وحرفها عن طرق الله، ونجد النموذج الأوضح عن هذه الثنوية الأخلاقية في المسيحية القويمة وفي الإسلام، أما النموذج الأوضح عن الثنوية الكونية فنجده في العقيدة الزرادشتية، التي صاغها زرادشت المولود نحو عام 900ق.م. على ما يرجحه معظم الباحثين اليوم.
تقول التعاليم الأصلية لزرادشت إنه في البدء لم يكن سوى الله الذي يدعوه «أهورا مزدا»، وجود أزلي سرمدي، وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها عما عداها، ثم إن هذه الألوهة اختارت الخروج من كمونها والظهور فيما سواها، فصدر عنها روحان توأمان هما «سبينتا مانيو» و«أنجرا مانيو»، وقد وهبهما الله منذ البداية أهم خصيصة تميز استقلالهما عن مصدرهما، هي خصيصة الحرية. ومنذ البداية أيضا استخدم هذان الروحان حريتهما، فاختار الأول الخير، ومنه جاء اسم سبينتا مانيو، أي الروح المقدس، واختار الثاني الشر، ومنه جاء اسم أنجرا مانيو أي الروح الخبيث، بعد هذا الخيار الأخلاقي للتوأمين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع، لقد كان الله قادرا على محق الشر في مهده، ولكنه قرر عدم التناقض مع نفسه، والسير بخطته التي تقوم على الحرية إلى آخرها، فعمد بمشاركة الروح المقدس سبينتا مانيو إلى إظهار ستة كائنات قدسية إلى الوجود تدعى بالأميشا سبينتا أي المقدسون الخالدون، ليستعين بها على مقاومة الروح الخبيث أنجرا مانيو، فشكلت مع سبينتا مانيو بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام وتعكس مجده، ثم شرع بعد ذلك، وبمعونة هؤلاء المقدسين الخالدين بخلق العالم، وصار الأميشا سبينتا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين العالم، ثم إن هؤلاء قد أظهروا إلى الوجود عددا من الكائنات القدسية الطيبة المدعوة بالأهورا، وراح الجميع يكافحون الشر، كل في مجاله.
لقد خلق أهورا مزدا العالم المادي على ست مراحل، وكان الإنسان آخر ما خلق في المرحلة السادسة (قارن مع سفر التكوين: 1 و2). خلق الله العالم والإنسان في أحسن تكوين، وكان هذا الخلق الطيب والحسن بداية للصراع الحقيقي بين الخير والشر، فقد استنفر الشيطان وأعوانه كل قواته لمهاجمة خلق الله وتشويهه، فزرعوا كل نقيصة في الخلق الطيب، وزينوا للإنسان كل خطيئة، وجففوا المساحات الخضراء وصنعوا الصحارى، ونشفوا الينابيع، وأفسدوا ماء البحر بالملح، وبثوا في الأرض الأفاعي السامة والعقارب وكل دابة مؤذية، وعلى الرغم من أن الأميشا سبينتا قد تصدوا للهجوم وباشروا بإصلاح ما خربه الشيطان، فإن العالم لن يعود إلى سابق عهده من النقاء، إلا بعد كفاح طويل يلعب فيه الإنسان دورا مركزيا، عندما يعي مسئولياته الخلقية ويدعم قوى الخير بفكره وقوله وفعله، وبدون عون الإنسان لن يتم حسم هذا الصراع الكوني، ودفع التاريخ إلى نهايته، عندما تتم تنقية الوجود المادي والروحاني مما داخلهما من خبث الشيطان، وقد ابتدأت هذه المرحلة الأخيرة بميلاد زرادشت، وتأتي إلى خاتمتها بميلاد المخلص المدعو ساوشنياط، الذي يقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام، ويقضي على الشيطان وأتباعه، عند ذلك يتطهر العالم ويعود إلى كمال البدايات، ليعيش فيه المؤمنون حياة أبدية بعد أن يسقوا شراب الخلود.
4
تقوم العقيدة الثنوية الزرادشتية بشكل أساسي على فكرة توكيد العالم وتمجيد الحياة الإنسانية، فالعالم من خلق الله، وهو طيب وحسن من حيث الأصل كما أراد له خالقه أن يكون، وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان فعندما خلق الله الزوجين الأولين قال لهما: «أنتم الإنسان، وأنتم سلف البشرية، خلقتما كاملين، فحافظا على الفكر الحسن والكلمة الحسنة والعمل الحسن، ولا تخضعا للشيطان.» من هنا، فإن فساد العالم ليس خصيصة أصلية فيه، وإنما هو أمر طارئ من صنع الشيطان، وخلاص الإنسان لن يتأتى من خلال إدارة ظهره للعالم والهروب منه، وإنما من خلال الانغماس فيه حتى النهاية بوعي كامل لمسئولياته الأخلاقية، وانخراط كامل في عون القوى الإلهية الخيرة على قهر قوى الشر، وهنا يكمن الفارق الأساسي بين الثنوية الزرادشتية والثنوية الغنوصية، ففي مقابل توكيد الزرادشتية على العالم، فإن الغنوصية تنفي العالم؛ لأنه ليس من صنع الله الكامل وإنما من صنع الإله الديميرج الجاهل والناقص، الذي صنع من المادة الظلامية عالما كله فساد وخداع وموت وآلام، ومن هذه المادة الظلامية نفسها صنع جسد الإنسان، إن الإله الزرادشتي، على علوه وتنزيهه، منغمس في شئون العالم والإنسان، شأنه في ذلك شأن نقيضه أنجرا مانيو، وهو الذي يوجه حركة التاريخ نحو النهاية السعيدة المنشودة، أما الإله الغنوصي فمتعال على كل ما يجري في العالم المادي، ولكنه مع ذلك حريص على خلاص الإنسان من سجن المادة؛ لأن البشرية هي العنصر الوحيد في هذا العالم الذي ينطوي على قبس من نور الأعالي ينبغي تحريره وعودته إلى أصله السماوي، ومسئولية هذا التحرير تقع بالدرجة الأولى على عاتق الإنسان نفسه. الله ينادي الإنسان، وما على الإنسان إلا أن يتلمس هذه الدعوة في أعماق نفسه، ويصحو على حقيقة شرطه، ذلك أن الإنسان ليس خاضعا بكليته إلى إله هذا العالم، وإنما بجسده فقط الذي صنع من مادة العالم، أما في جزئه الأنبل والأسمى، وهو الروح، فحر وقادر على تخطي شرطه الأرضي من خلال فعالية العرفان.
Página desconocida