فمنذ خمسة عشر عاما كان في القاهرة منزل الصوفاني بالحلمية الجديدة، وكانت لذلك المنزل تقاليد، وإنما خصصت ذلك المنزل بالذات لأن رمضانياته كان لها أثر في الحياة السياسية والاجتماعية.
وفي هذه السنين لا أعرف في القاهرة منزلا يحافظ على تلك التقاليد غير منزل عبد الرازق وهو المنزل الذي يعمر اليوم بالأخوين النبيلين علي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق، ففي ذلك المنزل تلتقي الوفود في كل مساء، وفيه تجرى أطيب الأسمار وأظرف الأحاديث، وفي ذلك المنزل تلقى من تشاء من الرجال فتحادث الشيخ الزنكلوني ولطفي باشا السيد والدكتور منصور فهمي والدكتور طه حسين.
وهناك منزل في حي السكرية هو منزل القاياتي، وقد خلا من الغطاريف البهاليل، ولم يبق فيه من الخير إلا وجه الشاعر المطبوع السيد حسن القاياتي، ومن طرازه منزل السيد عبد الحميد البكري الذي كان مرجع الصوفية إلى عهد قريب والذي شب فيه صاحب صهاريج اللؤلؤ، نضر الله مثواه. •••
فإن سألتم وأين يلتقي أدباء القاهرة في ليالي رمضان، فإني أخبركم بأن ذلك لا يقع إلا في المقاهي والأندية، ولكل أديب مشهور مقهى خاص، فالشاعر محمد الهراوي ينتظر إخوانه في مقهى لونابارك، واللغوي محمد وحيد الأيوبي ينتظرهم في مشرب السلام، والصحفيون يسمرون في بار اللواء، وكذلك تهجر البيوت وتوصل المقاهي في ليالي رمضان.
ولكن من العدل أن ننص على أن تلك المقاهي سيكون لها تأثير عميق في الأدب الحديث، وهل يمكن تناسي صولات الجدل في قهوات شارع عماد الدين؟ هل يمكن أن نتناسى قهوة ريجينا حيث يسمر الممثلون والفانون والصحفيون؟ هل يمكن أن نتناسى بار اللواء وفي أجوائه رنت أصوات محمد هلال ومنصور فهمي ومحجوب ثابت وحفني محمود ومحمد خالد وأنطوان الجميل وداود بركات؟
إن تلك المقاهي خليقة بأن تعد في طليعة الأسواق الأدبية التي تذكر بالمربد وعكاظ، وهي بفضل من تعرف من الكتاب والخطباء والشعراء والفنانين والمفكرين خليقة بالبقاء، ففيها تجري الطرائف من أطايب الأسمار والأحاديث، وفيها تحيا فنون الأدب الرفيع.
وما يصح أن توصف به مقاهي القاهرة ينطبق تمام الانطباق على مقاهي الإسكندرية، فهناك القهوة التجارية التي يسمر فيها أدباء الثغر على ذلك الشاطئ الجميل.
ولأسمار الإسكندرية لون خاص، فشعراء الإسكندرية هم اليوم يتفردون بإحياء فن الدعابة الأدبية، وهي دعابة طريفة يتفق لها في أحيان قليلة أن تقارب الهجاء، وليالي الإسكندرية لها في أنفس القاهريين مكان، ومنهم من يرحل إلى هناك ليقضي ليلة أو ليلتين في الاستماع إلى محاورات الأساتذة عبد اللطيف النشار وعتمان حلمي وعلي البحراوي وخليل شيبوب ولا سيما بعد أن انتقل الدكتور أبو شادي إلى شاطئهم الساحر فأهدى إليه مادة نفيسة من الجدل العنيف.
هنالك أيها السادة يقع الشعراء بعضهم في بعض، ويتقارضون الهجو في المحضر والمغيب بألسنة عذاب فصاح، ومن شمائل أولئك الشعراء صدق العطف على أدباء القاهرة فهم يلقونهم بالترحيب ويمتعونهم بأطايب السمك وأطايب الحديث.
ولا بد من الإشارة إلى أن لسمار القهوة التجارية في الإسكندرية أشباها في القاهرة، هم السمار الذين يعرفون لجنة الترجمة والنشر والتأليف، حيث تطيب النكتة على ألسنة أحمد أمين وعبد الحميد العبادي ومحمد عوض، وحيث ترهف الآذان من أمثال الأساتذة أحمد زكي وأحمد حسن الزيات.
Página desconocida