أغلقت أبواب الجهاد الأكبر - جهاد النفس - في وجه أبي العلاء منذ أصبح رهين المحبسين، ومنذ اكتفى بالطعام الذي لا يوقظ شهوات الحواس، ولكن بقى أمامه باب واحد من أبواب الجهاد، هو نزاهة الأذن ونزاهة اللسان، فماذا صنع؟
لقد أصبح أبو العلاء في ذمة التاريخ، وما يضره أن نتجنى عليه، ولو كنت أعتقد أنه يتأذى لحبست عنه قلمي، وفي حدود هذا التحفظ أقول إن الرجل أقام أذنيه مقام عينيه فعرف من صور المجتمع كل شيء، وكان له فيما أفترض أصحاب ينقلون إليه سوءات الناس فيمضي في ثلبهم وذمهم وتجريحهم بلا ترفق، وكذلك حرم من روح التصوف فلم يعرف معنى العطف على مصائب الناس. •••
قلت إن أبا العلاء كان ينتقم من المجتمع، وأقول مرة ثانية إن ذلك دليل الحيوية، فمن الذي يحرم على هذا الرجل أن ينتقم من أهل عصره وقد آذوه أشنع إيذاء؟
ومن الذي يملك من الصبر ما يكف به لسانه عن عورات الناس في بعض الأحيان؟
إن أبا العلاء هجم على المنافقين، والقرآن استباح الهجوم على المنافقين، وما يمكن أن نعيب على أبي العلاء ما استباحه القرآن. إن أبا العلاء هجم على رجال الدين، ولا غرابة في ذلك، فرجال الدين أنفسهم يهجم بعضهم على بعض، إن أبا العلاء أعلن يأسه من الإنسانية، فهل استطاعت الإنسانية أن تحمي أهل الصدق والوفاء؟ إن أبا العلاء سخر من تعدد الديانات والمذاهب، فهل استطاع المصلحون أن يمحوا أسباب الخلاف بين الديانات والمذاهب؟
إن أبا العلاء جزم بأن بني آدم:
ما فيهم بر ولا صالح
إلا إلى نفع له يجلب
فهل استطاع بنو آدم أن يقيموا الدليل على خطأ هذا الظن الأثيم؟
إن أبا العلاء حكم بأن المرأة إذا شربت الكأس فقد تعرت، فهل اكتسى من بعده النساء؟ إن أبا العلاء حدثنا بأن ناسا ينهون عن الخمر في الصباح ويشربونها في المساء، فهل انقرض هذا النوع من النفاق البغيض؟
Página desconocida