لا تعرف الورق اللجين وإن تسل
تخبر عن القلام والخذراف
وهي شهادة صريحة بأنه كان يحب أن يملك قلوب البغداديين، وكان البغداديون ألفوا حب البادية، وهو مرض فظيع ترك في اللغة العربية أسقاما وعقابيل، وأما اللزوميات فمجموعة شعرية تشهد بأن الرجل خضع لأمراض زمانه أبشع الخضوع، فقد كان الأدباء في صدر القرن الخامس قد ابتلاهم الجهل ببلية سخيفة هي الهيام بالزخرف، والفناء في التزويق والتهويل.
والفرق بين مجموعة سقط الزند ومجموعة اللزوميات فرق عظيم جدا عند من لا يعرف، أما أنا - وأنا باحث يزعم أنه يعرف - فأحكم بأن المعري انتقل من بلاء إلى بلاء، وأراه في سقط الزند مولعا بالإغراب، أعني تصيد الغريب من الأخيلة والألفاظ والتعابير، وأراه في اللزوميات مريضا بعلتين: الاغراب والبديعيات.
هل كان المعري يجهل أنه يجني على اللغة العربية بما صنع؟ هل كان يجهل أنه في أغلب أحواله يخاطب أهل العراق وأهل الشام بما لا يفهمون؟ هل كان يجهل أن في سقط الزند واللزوميات ورسالة الغفران شطرات وفقرات لا يفهمها المتفهم إلا بعد التأمل العميق؟ هل كان يجهل أن البيان الحق هو الذي يروعك لأول نظرة كما يروعك الجمال الفصيح؟
ما كان أبو العلاء يجهل ذلك أو بعض ذلك، وإنما كان رجلا لبقا يعرف مواضع الضعف فيمن عاصروه فغزاهم بلا رحمة ولا إشفاق.
قد يقول القارئ: وما محصول هذا الكلام؟
وأجيب بأن هذه النزعة هي الشاهد على أنه لم يكن في دنياه من الزاهدين، ولو أنه كان زاهدا لانصرف عن حيازة ما يملك معاصروه من زخرف وبريق، وهو قد انتهب ثروتهم فاعتز بها واستطال.
كان المعري سياسيا في حياته الأدبية، والسياسي لا يكون صحيحا سليما إلا إن استراح إلى أوهام الناس فتملق أهواءهم بلا تهيب ولا استحياء، وكذلك صنع المعري فتكلف الغريب من الأخيلة والألفاظ والتعابير؛ لأن الغريب كان في ذلك العهد رائج السوق في مصر والشام والعراق.
ولو كان الرجل زاهدا في المجد الأدبي لظهرت الحكمة على لسانه سمحة سهلة لا يشويها تكلف ولا افتعال، ولكن القارئ لن يسكت، فقد يكون ألأم مني، فيسأل: وأين أنت من الزاهد الذي حرم على نفسه لحم الحيوان؟
Página desconocida