سهرات المسيو دي كومنين
مضت أعوام وأعوام وأنا لا أعرف التسويد ولا التبييض، فكيف اتفق أن أكتب هذه الكلمة خمس مرات، وأتردد في نشرها أكثر من عشرين مرة؟
لقد مزقت ما كتبت، وعدت إلى فطرتي في الإنشاء، عدت إلى الفطرة السليمة النقية التي صقلتها باريس، على أيامها أزكى التحيات. وأنا أكتب هذه الكلمة طوعا للأواصر المتينة التي تجمع بيني وبين المسيو دي كومنين، فإن رضى عنها فذلك ما أرجوه، وإن غضب فليست أول مرة أهتاج فيها ذلك القلب النبيل.
ومن هو المسيو دي كومنين؟
كان التعارف في شهر ديسمبر سنة 1928 بعد عودتي من باريس للمرة الثانية، وكان الذي تفضل بالثناء علي عند مدير الليسيه رجلان من أساتذتي هما: المسيو باباني، والدكتور ضيف، وكان المسيو دي كومنين في ذلك العهد مراقبا عاما لمعهد الليسيه.
ولم يمض أسبوع واحد حتى أصبحنا صديقين، وهي صداقة لا أعرف كيف صرت لها أهلا، فقد غمرني هذا الرجل بأفانين من العطف ما أحسبه تفضل بها على أحد سواي، ومضت المودة تكبر وتعظم وتضخم حتى صار من حقي أن أدخل بيته حين أشاء ولو بعد نصف الليل.
ولم تقف الصداقة عند هذا الحد، بل مضى الرجل إلى أهلي في سنتريس فصادقهم وأحبهم، وتعلق بهم وتعلقوا به أشد التعلق، فكان يسأل عنهم ويسألون عنه في كل حين.
واشتدت الصداقة بينه وبين أبي فكانا يتعانقان عند اللقاء، ويأنس كلاهما بصاحبه أنسا شديدا، مع أن أبي كان يجهل الفرنسية، والمسيو دي كومنين يجهل العربية.
ولما مات أبي رحمه الله عزاني المسيو دي كومنين ببرقية مطولة جدا، ثم تجشم الانتقال إلى سنتريس ليعزي أهلي.
وأرجع إلى سهراتنا فأقول: كان التكليف ارتفع بيني وبين هذا الرجل العظيم، فكنت أمضي إليه قبيل العشاء، وكان لي دائما على مائدته مكان محفوظ، وكان للحديث شجون وشجون، فكنا نتكلم في كل فن، كنا نتكلم في الفلسفة وفي الأدب وفي التشريع، وما أذكر أبدا أن هذا الرجل ضاق علمه أو خياله عن شيء، ومن المؤكد أن هذا الرجل له تأثير شديد في حياتي الأدبية: فعن طريقه تعلمت ما فاتني أن أتعلمه في السوربون.
Página desconocida