فتثاءب سليم وقال: أف! لأجل هذا أشعر بنعاس شديد، وأكاد أنام على ظهر الجواد.
ولما رأى صاحبنا جرجس أن الحديث لا يطول بينه وبين رفيقه، بل هما يتحادثان معا لوحدهما، رأى أن يسلي نفسه بنفسه، وكان الجو صافيا كأنه مرآة الغريبة، والنجوم تسطع فيه كمصابيح بعيدة معلقة في قبة الفلك، فلا تكاد تنير طريق الجوادين في سيرهما.
ولكن الجوادين كانا قد اعتادا السير في ظلام الليل؛ ولذلك كانا يبصران الطريق المخططة كأنهما في نهار، وهذا ما جعل الفارسين يعجبان له، وكان الهواء يهب في خلال نور النجوم الضئيل باردا ضعيفا، فيشرح الصدر وينعش الفؤاد، وتلك الطبيعة القروية الساذجة كانت ساكنة هادئة كأنها تستريح تحت جنح الليل من عناء النهار. فأثار هذا المنظر الجميل في نفس جرجس عاطفة الجمال الكامنة فيها، فاندفع ينشد الأناشيد التي يعرفها؛ فهل درى حينئذ ذلك القروي الجاهل الساذج أنه بعمله دل على أن نفسه كانت في تلك البرهة أرقى من نفسي رفيقيه الحضريين؟!
إن نفسه لدى مناظر الليل البهية ثارت على غير علم منها، واندفعت تترجم بالغناء والنشيد عما كان يختلج فيها حينئذ من عاطفة الجمال بسبب تلك المناظر، وأما نفسا رفيقيه الحضريين فقد كانتا مشغولتين بالتثاؤب والنعاس عن الجمال الذي كان يحيط بهما، فلا ريب أن ذلك كان من أفضل الأدلة على أن النفس الأولى ربيت في أحضان الطبيعة قليلة الحاجات قوية على كل متاعب الحياة، والنفسان الأخريان ربيتا ضعيفتين بين جدران المدن لا تستطيعان مقاومة سلطان ضعيف كسلطان النعاس الذي هو - لمن نام ساعتين أو ثلاثا - أخف الحاجات الطبيعية.
ولما أخذ جرجس في الإنشاد أصغى إليه كليم وسليم. وقال كليم: اسمع أغاني الجبل. وكان جرجس ينشد:
حنيانا يا حنيانا يا حنيانا
يا قمر سلم على غيابنا
فضحك كليم وقال: من سوء الحظ أن القمر غائب أيضا. فضحك سليم لهذه الحاشية، أما جرجس فإنه كان مستمرا في الإنشاد:
يا ظريف الطول وقف تقولك
رايح عالغربه وبلادك أحسن لك
Página desconocida