قالت ذلك، ثم استسلمت لعوامل اليأس والقنوط، وعلى إثر ذلك ساد الهدوء والسكون في هذا المكان، ولم يعد يسمع الإنسان غير خرير الماء وحفيف الأشجار، فأحدق السائح نظره بهذه المرأة ليتبين هيأتها، فإذا هي لم تزل في شرخ الشباب وريعان الصبا، ولو أن ما قاسته من تباريح الوجد والحزن كان قد أثر في ملامحها تأثيرا ظاهرا وأفقدها ما جادت به عليها الطبيعة من آثار الحسن والجمال.
وبعد أن مضت على هذه الحال برهة من الزمان رفعت المرأة رأسها ونظرت إلى السائح نظرة العجب والاندهاش، ونادت بصوت خافت ورشاقة غريبة: ولكن من تكون أنت يا سيدي، وماذا تريد مني الآن؟ أجاب الرجل: تقولين من أنا يا مادلين؟ - إذن أنت تعرف اسمي؟ - نعم؛ فأنت مادلين دي راعول على ما أظن. - لا يا سيدي، فأنا أدعى مادلين فقط، فلا تذكرني بذلك اللقب اللعين، ولا تذكر لي اسم «راعول» لئلا ترتعد فرائصي ويقشعر بدني؛ فإن هذا الاسم ليس هو إلا عنوان الشقاء ورمز التعاسة والبلاء، فلا يذكر إلا مردفا بعبارات الشتائم واللعنات؛ فأنا أدعى مادلين، نعم أدعى مادلين فقط؛ لأن هذا هو الاسم المحبوب الذي دعاني به جدي، وكان يدعوني به أيضا جميع سكان قريتي، وهو الذي كان يدعوني به أيضا رفيق حياتي وحبيب قلبي «موريس»، فآه يا حبيبي موريس، أين أنت الآن لترى ما تقاسيه أختك مادلين من أنواع الذل والعذاب، ولكن من أين لك أن تعرفها الآن، وقد غير الحزن هيأتها وأذهبت يد الزمان ملامح جمالها.
قال السائح: يظهر أنك تجشمت أهوالا كثيرة يا مادلين؟ - حياة الإنسان كلها يا سيدي مصائب وأتعاب، ولكني لا أظن أن إنسانا خانه الزمان ولعبت به صروف الأيام وجرعته كئوس الرزايا والأحزان؛ فذاق منها صنوفا وألوانا بقدر ما ذقت أنا الشقية المسكينة التي تراها أمامك الآن. - ربما كنت يا مادلين أكثر من غيرك ميلا إلى الشر؛ فأراد الله أن يعاقبك على سوء تصرفك.
ربما صح هذا الفكر يا مولاي، ولكن كم من الخطاة يمرحون في بحبوحة العز والهناء، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الفصل الثاني
جرى كل هذا الحديث بين ذلك السائح المجهول وتلك المرأة المتسولة عند غروب الشمس؛ فلما انتهى بهما الكلام إلى هذا الحد كان الليل وقتئذ قد أرخى سدوله، وازدادت الطبيعة هدوءا وسكونا؛ فتقدمت المرأة إلى السائح واقتربت منه بلطف، واستأنفت الكلام ثانيا فقالت: اسمع يا سيدي ما أقصه عليك الآن؛ لتعلم كيف أنه يوجد في العالم من الغرائب والعبر ما يفوق حد التصور، ثم احكم بعد ذلك إما لي وإما علي؛ لأني توسمت فيك الصدق والنزاهة؛ فأنا - التعيسة الشقية - لم أحرم في أول حياتي من لذة العيش والهناء، وإذا صح ما يقوله الحكماء من أن تذكر أيام السعادة ينسي المرء ما يصادفه من التعاسة ومتاعب الحياة؛ فأنا أريد أن أذكر شيئا من سابق أيامي وماضي حياتي؛ لأني أرى في ذلك بعض التعزية والسلوى؛ فلقد ولدت يا سيدي في قرية فوجير، وكان أبي يتاجر في الأصواف، وهو رجل نشيط شديد العزم، ولكنه أصيب بزواج امرأة كان لا يحبها ولا يميل إليها، وقد فعل ذلك مضطرا لا مختارا؛ لأنه كانت توجد هناك روابط عائلية، وأسباب مالية حدت به إلى التزوج بهذه المرأة القاسية المستبدة التي نغصت عيشه وحرمته لذة الراحة والهناء، فلم يلبث أن شعر بخطئه؛ لأنه لم يذعن إلى نداء إحساساته وعواطفه، فألقى بنفسه بين يدي امرأة تخالفه في المبدأ والمشرب على خط مستقيم، ولعل هذه أعظم بلية يصادفها الإنسان في حياته، فمادلين التعيسة الشقية يا سيدي كانت ثمرة هذا الزواج الإجباري والارتباط المشئوم.
فلما ولدت وترعرعت كنت أرى من والدي الحب والحنان، ومن والدتي الضغط والإرهاب؛ فرأيت نفسي مضطرة إلى مجاراة هذين التيارين المتعاكسين؛ فإذا زجرتني والدتي بادرت مسرعة إلى والدي؛ فألقيت بنفسي بين ذراعيه فيقبلني قبلة الحنو والشفقة؛ فعند ذلك أنسى معاملة والدتي وصعوبة مراسها وشدة استبدادها، وبعد مضي خمسة سنوات من تاريخ ولادتي توفي أحد العمال المشتغلين مع والدي في تجارته، وكان رجلا غيورا على مصلحته ومتهالكا في خدمته، وأمينا في كل أعماله وتصرفاته، وترك المتوفى بعده ابنا لا يزيد سنه عني غير سنة واحدة، وهو شاب جميل الصورة حسن الخلق، ورث من والده كل صفاته ومكارم أخلاقه؛ فرأى والدي أن من الواجب عليه إعالة هذا الابن المسكين والاعتناء بأمره، ولا سيما لأن والدته كانت قد انتقلت أيضا من عالم الأحياء؛ فأصبح وحيدا فريدا، وهذا الابن المسكين يدعى «موريس»، وهو وإن كان حديث السن، إلا أنه كان كثير الشعور والإحساس، أبي النفس عفيفا، وعلى جانب عظيم من اللطف والوداعة؛ فكان بعد وفاة والده لا يهنأ له حال ولا يهدأ بال، بل يقضي أغلب ساعات النهار في البكاء والنحيب؛ فكنت أنا ووالدي نبذل كل ما في وسعنا لتسكين روعه وتسلية خاطره؛ لأنه أصبح من أعضاء عائلتنا وأهل بيتنا فيشق علينا أن نراه في هذه الحالة التعيسة.
أما والدتي القاسية القلب؛ فكانت تظهر التململ والتذمر من وجود هذا الطفل الحزين بيننا، وتقول: إنه جاء ليكون حملا ثقيلا على كاهلنا، فكان والدي يحاول إقناعها بحقيقة خطئها، ويظهر لها أن ما فعلناه مع هذا الطفل اليتيم إن هو إلا أول واجب تقضي به علينا قواعد الإنسانية والمروءة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
على أن هذا الحال لم يلبث أن تغير بعد مضي مدة من الزمان؛ فإن هذا الطفل لما أظهرناه له من دلائل الشفقة والحنان نسي جميع أحزانه ورأى في وجوده معنا كل التعزية والسلوى.
ومن ثم ابتدأت عوامل المحبة والألفة تتولد في قلبينا؛ فكنت أنا أشعر بميل شديد وانعطاف زائد إلى أخي «موريس»، وهو يظهر لي هذا الميل عينه، وكلما شببنا شب هذا الحب معنا حتى أصبح ميلا غريزيا وطبعا فطريا فينا، وكنت أرى أن هذا الاتحاد الطبيعي موضوع سعادتنا ومصدر سرورنا وتعزيتنا، وأقسم لك يا سيدي أني لم أر في أيام حياتي كلها أسعد من هذا الوقت الذي توفرت فيه لدينا جميع معدات السرور والصفاء، وأطلق لنا العنان لنمرح في بحبوحة العز والهناء.
Página desconocida