وعندئذ صرخت مادلين بأعلى صوتها.
ومن تكون أنت يا سيدي ومن أين لك أن تعرف هذه الأسرار كلها؟
قال السائح: رحماك يا مادلين! ألم تعودي تعرفين شخص حبيبك وأسير هواك موريس التعيس؟ فتفرست مادلين في وجه هذا السائح المجهول فانقشعت عن عيونها غياهب الشك والارتياب وعلمت أنه هو بعينه، فألقت بنفسها بين ذراعيه، وهي لا تستطيع الكلام من شدة الفرح والسرور.
ومن ثم عاد موريس مع حبيبته مادلين إلى مدينة «فوجير مسقط رأسهما ومنبت شعبتهما»، وهناك بنى قصرا جميلا تكتنفه حديقة أنيقة فيها من كل فاكهة زوجان، وقد شيد فيها غرفة بديعة الصنع نقلت إليها: جثتا روبير وجيلبير، وقد عقد موريس إكليل الزواج على حبيبته مادلين وجعلها زوجته الشرعية وعاشا في غاية الهناء والصفاء إلى أن أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات.
نصيحة ختامية
يشهد التاريخ أن وضع الروايات والقصص التمثيلية وغيرها كان قديم العهد، وآثار المصريين واليونان والرومان القدماء تنطق بهذا القول وتؤيد حقيقته وتثبت صحته من كل الوجوه، فليست الروايات إذن من نفحات هذا العصر واختراعاته الحديثة كما يتوهم البعض.
على أن أغلب الروايات - وخصوصا التمثيلية منها - لم يكن يقصد من وضعها بادئ ذي بدء إلا الزهو واللهو وترويح النفس ورياضة الجسم؛ فكانت أشبه شيء بالألعاب الرياضية والملاهي البسيطة، وأما في هذا العصر الذي بزغت فيه أنوار الحضارة والعرفان واتسع نطاق التمدن والعمران؛ فقد أصبحت هذه الروايات التمثيلية وغيرها من أكبر الحاجيات وأهم وسائل التربية والتهذيب، والمشتغلون بها يعتبرون في اعتقاد العقلاء من مهذبي النفوس ومربي الأخلاق، ورافعي لواء الفضائل والآداب وقادة العقول والأفكار، وقد شوهد بعد الاختبار والتحري الدقيق أن الاعتماد على هذه الوسيلة النافعة في بث روح التقدم والإصلاح أفاد الأمم والشعوب كل الفائدة وأتى بالغاية المقصودة؛ ولذا راج سوق الروايات في عالم التمدن وأقبل الناس عليها إقبالا عظيما ووجد المشتغلون بها من الهيئات الحاكمة والمحكومة كل المساعدة والتعضيد .
والذي يراجع تاريخ الأمة الفرنساوية الحديث يعلم أنها لم تقم لها قائمة ولم تنهض من حضيض الانحطاط والارتباك إلى أوج التقدم والنجاح، إلا بفضل كتابها الذين اتخذوا وضع الروايات التمثيلية وغيرها ذريعة إلى تحسين العادات وإصلاح المختل وتقويم المعوج وتربية ملكة الغيرة والشهامة في نفوس الأهالي، فاندفعوا في تيار التقدم وأدركوا ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات، فانتبهوا من غفلتهم وهبوا لطلب المزيد من التنور والإصلاح.
وقد كان للكاتب العظيم «موليير» وغيره من كتاب الروايات والقصص - وخصوصا العالم الطائر الصيت إسكندر دوماس - الفضل الأول في هذه النهضة الأدبية الشريفة.
أما في الشرق فلم يظهر من الكتاب المعدودين الذين أحيوا هذا الفن في البلاد إلا النذر اليسير، ولكن الشاعر العربي يقول:
Página desconocida