إليك ...‏

هيكل إدفو‏

شبان مصر‏

الكون والحياة‏

الدنيا الميتة‏

تبسم!‏

المغنم المجهول‏

إليك ...‏

هيكل إدفو‏

شبان مصر‏

الكون والحياة‏

الدنيا الميتة‏

تبسم!‏

المغنم المجهول‏

وهج الظهيرة

وهج الظهيرة

تأليف

عباس محمود العقاد

إليك ...

إليك إهداء أطرابي وأشجاني

لو كنت تعلم إسراري وإعلاني

شعر لحسنك فيه كل قافية

وما تضمن إلا بعض وجداني

يهدى إليك ولم تفطن لدعوته

كأنما هو قربان لأوثان

ولو صمدت بتسبيحي إلى وثن

إذن لأثلج صدري صدق إيماني

وخفف النار: نار الوجد عن كبدي

علمي بأنك لم تجهل بقرباني

لكن جهلت مناجاتي فوا جذلي

لو فزت منك، على علم، بحرمان

يا من هو الناس في عيني وإن كثروا

إني أخص بشعري كل إنسان

أهدي إلى الناس ما أعنيك أنت به

فاقبل، فإنك بعض الناس ديواني

هيكل إدفو

الكون لا حد له في زمان ولا مكان ولا قوة، والإنسان محدود في زمانه ومكانه وقوته؛ أيامه معدودة وحواسه مقيدة، ومداركه على قدر أيامه وحواسه، والعلاقة بين هذين الكونين: الكبير الذي لا نهاية له والصغير المحدود في كل جهة من جهاته هي الدين. فما دام الإنسان يشعر بقوة أكبر من قوته المخذولة ولا يشعر بها على تمامها، وما دام يدرك أبدية الزمان والمكان التي يغرق فيها وجوده الضيق ولا يدركها على جليتها، وما دام هو أكبر من أن يجهل علاقة ما بينه وبين هذا الكون، وأصغر من أن يعلم كل علاقة، فهو مؤمن متدين علم ذلك أو لم يعلم:

الدين باق ما جهلنا سره

ولنبقين بسره جهالا

ظهر الدين في كل أمة وفي كل قبيلة كما ظهر الطعام؛ لأن النفس تطلب الإيمان كما يطلب الجسد الغذاء، فاتخذ الناس في الهمجية وفي المدنية أربابا ومعبودات جسموا فيها شعورهم المبهم باللانهاية، وتمثلوا فيها القوة التي لم يستطيعوا أن يجهلوها ولا يستطيعون أن يعلموها، وبنوا الهياكل على الأرض فكان كل هيكل وضعوه لأربابهم تمثالا صغيرا للكون الكبير، تدخله فتبادرك روعته كما تبادرك روعة العظيم وأنت واقف أمام تمثاله. وقد حذق أجدادنا وسابقونا في وادي النيل صناعة هذه التماثيل: تماثيل الكون، فرفعوها ضخمة مكينة ترى في ضخامتها معنى الخلود، وغشوا باطنها بالظلام الدامس فعكسوا على جدرانها ظلام الغيب المجهول، وأحاطوها بالرموز والأسرار، فقال قوم: ذلك علم لا نعلمه، وقال آخرون: بل مفاتيح لما تحتها من الكنوز!

ولا عجب! أليس في الناس اليوم من يحسب أن رموز الكون الكبير وأسراره إن هي إلا آلات لاختراع البواخر والطواحين وقنص الدراهم والدنانير؟ أليس منا من يزعم أنه ذلل نواميس الطبيعة وقبض على مقاليد الخليقة لأنه يدير للريح شراعه ويجر النور إلى أسلاكه؟! فما الفرق إذن بين هؤلاء الفلاسفة الأعلام وبين الزارع المصري الجاهل المسكين؟ الفرق بينهما أن هذا الزارع يصغر من قدر هيكل لا يجله لأنه لم يؤمن به، ولكنه يؤمن بهيكل آخر يجله ويخشع له، وأما هؤلاء الفلاسفة فيصغرون من قدر الكون وليس لهم كون آخر يجلونه ويخشعون بين يديه!

يقول العلم الحديث: «قد عرفت أسرار الحياة وكشفت حجب الغيب التي خنع لها الهمج الأغبياء.» فليسمع أولئك الأغبياء في قبورهم وليحذروا أن يضحكوا! العلم الحديث قد علم في مائة سنة أسرار الأبد والأزل! اسمعوا أيها الأغبياء في قبوركم وإياكم أن تضحكوا، بروتس يقول ذلك، وبروتس كما تعرفون رجل صادق مجيد.

ويقول العلماء: «لا تؤمنوا بعد اليوم بشيء، فقد عرفتم كيف كان القدماء يؤمنون بالباطل. أما كانوا يؤمنون بالأشجار والأنهار والقطط والثيران والخنافس؟!» فمتى يقول لنا العلماء: «لا تأكلوا بعد اليوم، فقد رأيتم كيف كان القدماء يأكل بعضهم بعضا، وكيف كانوا يزدردون اللحوم النيئة وأوراق الشجر الخضراء!» إنهم لن يقولوا ذلك لأن المعدة تعرفهم كيف يشعرون بها إذا تجاهلوها، ولكن أي شيء يجعل قلوبهم تشعر بنفسها إذا كانت لا تشعر؟

وليس المتدينون الساخرون بأديان القدماء بأقل حمقا وجهلا من الكافرين الساخرين بالأديان جمعاء؛ فإننا لنجد في بعض أديان الأقدمين حكمة نتفقدها في كثير من الأديان الحديثة فلا نجدها؛ لأن أديان الأقدمين نشأت قبل أن تصبح الأخلاق المتخيرة علما يدور على المباحث الذهنية والفلسفة الكلامية، فاستحبوا من الأخلاق والعادات ما هو مستحب بالفطرة، ولم يشغلوا أذهانهم بالتماس وجوه الخطأ فيما نبذوه من هذه الأخلاق والعادات. وأذكر أنني ذهبت مرة إلى هيكل «أنس الوجود» ومعي رجل تربى تربية دينية ولكنه يجهل حكمة دينه، فسأل عن صورة بطليموس وهو يجلد أعداءه، فلما أجبته قال: أما كان أولى بهياكل العبادة أن تنزه عن مثل هذه الصورة؟ قلت: ولم؟ أكنت تريده على أن يعبد ربا لا يرضيه أن ينتصر على أعدائه؟ إن مشيئة الوجود تقضي بأن تتغلب طائفة من الناس على طائفة، فأي عجب في أن يسر المتغلبون بغلبهم أو يشكروا عليه ربهم الذي يمثلون فيه تلك المشيئة؟ وإذا هم لم يشكروه في المعبد فأين يشكرونه؟ على أنه لا يتفق أن يعتقد الإنسان جد الاعتقاد أنه على الحق والصواب ثم يعتقد أن انتصاره على أعدائه ظلم لا يرضي ربه، فلا بد من إحدى اثنتين: إما عقيدة وعصبية، أو لا عقيدة ولا عصبية، والأمم الحية لا تتردد في الاختيار بين هاتين الحالتين، وهذا ما أردته بقولي:

لا تعبدن إذا أردت سيادة

ربا يعين الصيد والأنذالا •••

دار البطالسة الكرام جلالا

زالوا وهذا مجدهم ما زالا

هاتي امنحينا من خلودك نفحة

فنقول فيك من الخلود مقالا

واستفتحي باب الرموز تمدنا

بالسحر لفظا صادقا وخيالا

إني وقفت لديك أرفع أخمصي

حذرا وأخفض ناظري إجلالا

فحنيت رأسا في وصيدك

1

ما انحنى

من قبل إلا للإله تعالى

وذكرت قوما فيك لم يتهيبوا

إلا عروشا ضخمة وظلالا

والغيب أحلك من ظلالك ظلمة

أبدا، وأبعد من ذراك منالا

خلعوا - ولا عجب - عليك سماته

أولست أنت للغزه تمثالا؟

لو لم يرعنا للمهيمن هيكل

باق يجد بقاؤه الأحوالا

أخفى سرائره وأطلع فوقه

نورا يزيد التائهين ضلالا

ما شيد البانون ركن عبادة

كلا ولا شدوا إليه رحالا

الدين باق ما جهلنا سره

ولنبقين بسره جهالا •••

عفت المناسك في ذراك فجددي

نسكا من الشعر الشريف حلالا

قد كنت بالوحي الكريم كريمة

حتى بخلت فما أجبت سؤالا

إلا رسوما في الرسوم نواطقا

بالنصر أبلج والفتوح توالى

رفعت لبطليموس يبسط فوقها

كفا تحوك من الرءوس حبالا

2

يطأ الملوك كأنما تيجانها

أرض وما يخشى لها زلزالا

وترى الجموع وهم ركوع تحته

قصروا من الخوف الذريع وطالا

شأن الأنام قديمهم وحديثهم

من عز فيهم بالسيادة صالا

والملك مغلوب عليه مالك

متعفف لا يغلب الأقيالا

3 •••

يا دار بطليموس حسبك رفعة

وصيانة بين البنى وجمالا

حرص الزمان عليك وهو موكل

بالشامخات يحيلها أطلالا

أبقاك في فك الزمان مصونة

جيلان يبنيك الملوك وصالا

4

لم يبصروا بك موضعا لزيادة

إلا وزادوه علا وكمالا

غدروا ذوي القربى ودكوا دورهم

وتلاحقوا عما إليك وخالا

واستنزلوا الأرباب فيك ليشهدوا

بين العباد تواثبا ونزالا!

وضعوك أم رفعوك لما صوروا

فيك السلاح أسنة ونبالا

وتقحموا الحرم الجليل أم ابتغوا

زلفى لديه وقوة ونوالا؟

ضل الذين تطاولوا فتوهموا

أن الأوائل دونهم أفعالا

حسبوا المعابد أرضها وسماءها

كونين عن حكم الطبيعة حالا

5

هبطت من الملأ العلي فأصبحت

فيها الذئاب الضاريات سخالا

ننسى العداوة والصداقة والهوى

فيها وننسى الخوف والآمالا

كذبوا فما تغني الأنام عبادة

تذر القلوب فوارغا أغفالا

لا رب إلا من يمالئ شعبه

عند الكريهة إن جفا أو مالا

لا تعبدن إذا أردت سيادة

ربا يعين الصيد والأنذالا

واعبد إلها يصطفيك بعونه

ويذيق خصمك ذلة ونكالا

من ظن أن ولاته كعداته

عند الإله، فكيف يسعد حالا؟ •••

الناس يغتال القوي ضعيفهم

والدهر يغتال الفتى المغتالا

قهار كل القاهرين تقاصرت

عنه مكائد من طغى واحتالا

ذهبوا فما هوت الكواكب بعدهم

أسفا وما نقص الثرى مثقالا

ملك الفراعنة الحماة وخلفوا

للملك أعلاما بمصر طوالا

وخلا الأكاسرة البغاة كأنهم

عبروا بمدرجة الزمان رمالا

ومضى البطالسة الكماة وهذه

مصر يزيد شبابها إقبالا

تتقوض الأوطان وهي كدأبها

من عهد نوح تربة ورجالا

عهد على الله القدير وذمة

ألا تضيم لها الكوارث آلا

فتجنبوا فيها القنوط وأجزلوا

قسط البنين معارفا وخصالا

إنا لنرجوها ونوقن أنه

ما كان يوما لا يكون محالا

وستستقل فلا تقولوا إنها

صمد الهوان بها فلا استقلالا

بعد عام

كاد يمضي العام يا حلو التثني

أو تولى

ما اقتربنا منك إلا بالتمني

ليس إلا •••

مذ عرفناك عرفنا كل حسن

وعذاب

لهب في القلب، فردوس لعيني

في اقترابي •••

غير أنا لا نرى الفردوس إلا

رسم راسم

وشربنا من جحيم الحب مهلا

شرب هائم •••

لا تلمني أن قلبي خانني

أو عشقتك

لم يكن مني إلا أنني

قد رأيتك •••

كان في الدنيا جمال لا يعد

ثم لحتا

فعددنا الحسن طرا فهو فرد

وهو أنتا •••

أين حسن كان يجلوه النهار

هل لبسته؟

هل ورثت الصبح والصبح منار

أم قتلته؟ •••

تتهادى ويح قلبي في خطاك

لست تدري

لست تدري أي نار إذ أراك

ضمن صدري •••

ضاحكا يفتر نور البشر عنكا

كيف تعلم

أن قلبا دون قيد الرمح منكا

قد تحطم؟ •••

زده داء لا شفى الله جواه

كم أساء

من دعاه للتصابي من دعاه؟

زده داء! •••

أو فحسب القلب ما طم وأربى

لا تبده

قد دعاه الله للحب فلبى

لا تزده •••

نحن قوم يا حبيبي قد خلقنا

للجمال

إن أجاد الله في الخلق أجدنا

في المقال •••

صاغنا الله لشدو وغناء

حيث كنا

ونهانا عن جمود وجفاء

فانتهينا •••

قال غنوا وصفوا خلقي البديع

في القصيد

واطلبوا أجركم عند الربيع

والخدود •••

ليس يعلي آي فني غيركم

حين تعلو

شكرها منكم ومنها شكركم

ذاك عدل •••

ما لكم أجر من الدنيا سواه

فاغنموه

يا ذوي الحسن بذا أوصى الإله

فاسمعوه •••

قد وفينا ديننا فأوفوا الديونا

هل رضيتم؟

وشدونا فتعالوا أسعدونا

لا شقيتم •••

ما أتم العيش لو تصفو القوافي

والغرام

شاعر يشدو ومحبوب يوافي

والسلام

الوقار المستعار

أتعبت نفسك بالوقار فأقصر

والعب كما لعب الصبا وتأطر

6

يغنيك حسن أنت لابس تاجه

عن هيبة السفاح والإسكندر

ما لي أراك وقد علمتك لاهيا

حيران تخطر خطرة المتفكر؟

يعلوك من سيم الجلال مهابة

كالظبي يمرح في إهاب القسور

7

جد حديثك أم لعلك عابث

تلهو بتمثيل الأناة وتزدري

وإذا الفتى جهل الهموم فؤاده

حسب الهموم ملاحة في المنظر

ارحم مجالسك الذي ألبسته

ثوب الوجوم لديك لبس المجبر

هبه اقتدى بك في الوجوم فمن له

بالحسن فيك سفرت أم لم تسفر

أو غاض ماء البشر منه فمن له

بمعين بشر في الصبا متفجر

ظلما تحيل على معارف وجهه

مسخ التقبض فوق مسخ منكر

عجبا لمحسود الرشاقة حاسد

صرعى الخطوب على رزانة موقر

حببت لي الأحزان لما صغتها

حليا على هذا الجبين النير

فدع التجارب فحمها وغبارها

لذوي مناجمها وفز بالجوهر

واخدع جليسك بالقطوب فإنني

أنا لا أغر بضاحك متنكر

هيهات توليك الطبيعة مسحة

مما تروم من الوقار المفتري

أنتم مباسمها وفيكم تنجلي

للناس ضاحكة كأن لم تكدر

ما للطبيعة حين يضحك ثغرها

ضحك سوى الوجه الصبوح المزهر

ومن العجائب أن يقطب عابسا

ضحك، ويظلم كوكب لم يستر

قل للملاحة تدعي ما تدعي

إلا الوقار، فذاك غير ميسر

كأس على ذكرى

يا نديم الصبوات

أقبل الليل، فهات

واقتل الهم بكأس

سميت كأس الحياة

خرب القلب فعمر

ه بجير الساكنات

خمرة تملأ قلبي

بقديم الذكريات

وشجي النغمات

وجني الثمرات

هاتها كالقطر أو كالت

تبر أو كالجمرات

علني أقبس منها

نفسا يحيي مواتي

هي تاج للصعالي

ك وكنز للعفاة

وهي فردوس لمن أف

رد في هذي الفلاة

وهي سكر العين باللو

ن سني اللمحات

وهي سكر الأنف بالعط

ر ذكي النفحات

وهي في الكأس وفي النف

س أحب النشوات

عوض عما يؤاتي

من هوى أو لا يؤاتي

إن في الخمر لصحوا

من خمار الحادثات •••

هاتها واذكر حبيب الن

نفس يا خير ثقاتي

ودع التلميح واجهر

باسمه دون تقاة

8

أترى نحرم حتى

ذكره في الخلوات؟

صفه لي، صفه، وما كا

ن بمجهول الصفات

غير أني أمتع السم

ع بحظ الحدقات

صفه في عيني وما تع

دو به وصف الأضاة

9

صفه في قلبي لو اسطع

ت، وترجم زفراتي

أترى ألبق منه

باصطياد المهجات

أترى أملح من خط

رته في الخطرات

أترى أصبح من خد

يه بين الوجنات

أترى أعدل من قا

مته في الصعدات

10

ذهبي الشعر ساجي الط

رف حلو اللفتات

وحيي لا يحيي

ك بغير البسمات

جاهل بالحب أشكو

ه ولا يدري شكاتي

وغرير القلب لا يف

هم معنى نظراتي

ود لو يسأل مالي

مستهل العبرات

وإذا قلت: «شجاني

من أفديه بذاتي

ليس ينجيني وفي كف

يه لو شاء نجاتي»

قال ما أقساه من جا

ن غليظ القلب عات! •••

هاتها باسم حبيبي

قاتل الله عداتي

آه لو تعلم ماذا

في اسمه من عزمات

أترى الأحرف فيه

غيرها في الكلمات؟

هاتها عشرا وكرر

وصفه العذب مئات

صفه غضبان، وصفه

لاعبا بين اللدات

ضاحكا كالصبح يمحو

بالضياء الظلمات

صفه في كل كساء

صفه في كل الجهات

هو في الروضة إذ يم

شي أحب الزهرات

وهو في القفر رياض

من هوى لا من نبات

تم والله فيا لي

ت به بعض الهنات

11

تم حتى أتعب العي

ن بفرط الحسنات

إن بعض العيب حلي

للسجايا والسمات

12 •••

ما به والله من ص

د ولا منع صلات

غير أن الناس لا كا

نوا تناهوا في الأذاة

ويلهم يحمون ما لم

يملكوا من طيبات

علموه وهو لا يع

لم ما كيد الغواة

ليتني علمته الوص

ل وتكذيب الوشاة

صفه! بل أمسك فقد ها

جت عليه حرقاتي

جمح الوجد بأشجا

ني وضاقت أزماتي

هاتها صرفا وأغرق

في طلاها حسراتي

عوضا عما يؤاتي

من هوى أو لا يؤاتي

الشيب الباكر

ما أقبل الليل حتى طرت بالقمم

يا صبح جرت على الظلماء في القسم

وما انقضى شفق الأيام من عمري

فكيف لحت بفجر منك متهم؟

لو كنت تحسب أيامي لما خطرت

يداك يا شيب في مسودة اللمم

13

دون الثلاثين تعروني وما انصرمت

إلا كما تنقضي الأعوام في الحلم؟

مرت بقادمتي نسر مولية

وكنت أعهد فيها ثقلة الرخم

وما اعتدادك بالأيام تحسبها

وإنما أنت خدن الويل والألم

إذا ألما بإنسان صحبتهما

فانزل فقد نزلا في أعظمي ودمي

ما أنت طارق دار لا رفيق بها

ولست مهرم قلب ليس بالهرم

قد شبت والشعر مسود فما عجبي

من واضح الشيب بعد الشيب في القتم

ما كان مسود شعري وهو مشتمل

عليك إلا كجلباب من الكتم

14

قل لابن تسعين لا تحزن فذا رجل

دون الثلاثين قد ساواك في الهرم

إذا ادكرت شبابا في النعيم مضى

لم يدكر من شباب كان أو نعم

وما انتفاعي وقد شاب الفؤاد سدى

أن لم تشب أبدا كفي ولا قدمي

وليس ما يخدع الفتيان يخدعني

كلا ولا شيم الفتيان من شيمي

يا شيب ضاقت بك الدنيا بأجمعها

فانزل بلا ضائق بالشيب أو برم

15

من لا يبالي أفخر أنت تنذره

بالصبح أم أنت ضوء النجم في الظلم

يا مرحبا بصباح ليس يسلبني

صفوا، وبعدا لليل فيه لم أنم

أمنا الأرض

مغزى هذه القصيدة أن الخوالج التي تحرك الأطفال هي الخوالج التي تتصرف بالرجال، وأن الأقدار تخدعنا ونحن جادون بالحيل التي نخدع بها الأطفال وهم لاعبون، وأنها تؤدبنا فنسخط ونحن نؤدب الأطفال ثم نعجب لأنهم يسخطون.

أسائل أمنا الأرضا

سؤال الطفل للأم

فتخبرني بما أفضى

إلى إداركه علمي •••

جزاها الله من أم

إذا ما أنجبت تئد

16

تغذي الجسم بالجسم

وتأكل لحم ما تلد •••

ألا يا أم كم طلعا

عليك الشمس والقمر

وكم أسنى وكم وضعا

على أرجائك القدر •••

أقاموا أمس وانصرفوا

فليس لفلهم

17

شمل

فأين نفوس من سلفوا

وأين يكون من يتلو •••

فقالت في ملامحكم

يبين الجد والخلف

فجوسوا في جوانحكم

فثم يجوس من سلفوا •••

وأين عظام من نبها

18

من الماضين في السير

فقالت قد صنعت بها

لكم حلوى من الثمر •••

وما المجد الذي أضرى

قلوب بنيك فاشتجروا

فقالت حيلة كبرى

يراها القلب لا البصر •••

فقلت لها فما العمل؟

فقالت خادم الحلم

وما الأحلام والأمل؟

فقالت حيلة الأم •••

وقد يحتال للطفل

على خير له مجد

ألا ينبو عن الأكل

إذا لم يغر بالوعد

19 •••

فقلت لها وما السقم؟

وما الآلام والبلوى؟

وما الآفات تخترم

شباب الأحور الأحوى؟ •••

فقالت إنما البلوى

عقاب الطيش والنهم

فإن جرتم على الحلوى

هززت لكم عصا الألم •••

وقلت لها فما الذهب

وفيم طويته عنا

فماج الناس واضطربوا

فلا عطفا ولا أمنا؟ •••

فقالت لست أحسبه

سوى ضرب من الحجر

وإن الطفل مطلبه

أشد لكل مستتر •••

يجد الطفل مفتتنا

بما لم يبده العلن

ويحسب جهده ثمنا

لشيء ما له ثمن! •••

لزدت بقولها خبرا

وزدت بقولها جهلا

فما ألفيته وعرا

وما ألفيته سهلا •••

وصحت بها إلى أينا

إلى أين المصير بنا؟

فغضت عينها الجفنا

وصدت عني الأذنا •••

بني الدنيا لعاب بها

ففي الأبواب قصاد

لكم يوم بملعبها

وتحت الأرض آباد •••

لها ملهى تكرره

إذا ما انقض لم يعقد

نغاديه فننظره

ويوصد بابه السرمد

شبان مصر

بين شبان مصر فئة معروفة بنزعاتها الوخيمة وأخلاقها الذميمة، ومجالسهم أضحوكة الأضاحيك في خلوها من الجد وإقفارها من معاني الرجولة والاحترام، وهم يجتمعون ويتفرقون لا يحدو بعضهم إلى بعض حب أو إخلاص؛ لأن نفوسهم الوضيعة لا تحب ولا تحب، ولكنها ضرورة الاجتماع ودفع السآمة والنقمة تسوق كلا منهم إلى مساجرة من يكره ومعاشرة من يؤلمه سرورهم ويسره ألمهم؛ ولهذا يدخر كل منهم لصحابته أقصى ما في وسعه من التنغيص والإيجاع، ويتنقل بعضهم في الليلة الواحدة بين عشرة مجالس لا يطمئن إلى مجلس منها، ولكنه يضجر من أحدها فيغشي غيره ليلقي كلمة لمز أو نميمة فيمن كان معهم قبل لحظة. فهو يبغض جلساءه جميعا، وهم لا يلقاهم طائفة بعد طائفة إلا ليشفي نفسه من الغائبين عند الحاضرين، فما أعجبها من مجالس صلتها الكره لا الولاء، ومحورها تبادل الوقيعة والإيذاء، لا تبادل السرور والصفاء. وإنما تنم الوقيعة على شيئين كلاهما شر من الآخر؛ تنم على الضعف فلا يستطيع الرجل أن ينتقم من عدوه إلا بإيغار الصدور عليه، وتنم على سوء ظن الأصحاب، فينجح بينهم السعاة وتروج عندهم الوشاية، وضعف الثقة بين قوم دليل على منزلتهم من الرجولة والمروءة وسلامة الدخلة، فكلهم منتظر منه الخون، مستبعد عليه الوفاء، وهذا أدنأ ما تنحط إليه الأخلاق وتسفل إليه النفوس.

ولو أوعبت ما في نفوس هؤلاء المساكين من الضغن والغيظ والقيح المحقون لهالك الأمر، فحسبتهم يتنافسون على مأرب جسيم أو مأثرة تشخص إليها الأبصار ، ولكنك متى حدثتهم عن هذه المآرب والمآثر وجدتهم يضحكون منها ويخجلهم أن يظن بهم الاشتغال بها والاكتراث لها وأخذها مأخذ الجد والحقيقة؛ لأن ذلك في نظرهم غفلة وجهل بفرص الحياة، وما فرص الحياة في نظرهم؟ اللذة التي يبحثون عنها في كل مكان فلا يجدونها، ولا عجب! فإن اللذة أبعد ما تكون ممن بعدها الغرض الوحيد من الحياة، وأخوف ما نخافه أن تكون هذه الروح الخبيثة قد سرت من الطبقة المترفة إلى العامة - وهم صميم الأمة وبنيتها العضلية - فيموت في نفوسهم الجد ويملكهم العبث والخفة.

ويسوءنا أن نرى بوادر هذه الروح في عامة المدن والبلدان الصغيرة، فقد أصبحوا لا يجلون شيئا عن اللهو والعبث، ولا يرفعون الدين ولا الآداب عن المجانة والرعونة: يؤذن المؤذن فيتطرب في أذانه كأنه يدعو الناس إلى وليمة عرس لا إلى الوقوف بين يدي الله، ويقرءون القرآن تلحينا كأنهم يترنمون بأنشودة غرامية، ويذكرون الله فيرقصون رقص المخنث في مواخير الفجور! ويمشون وراء الميت فلا يذهلهم الموت بسلطانه ورهبته عن التنصت إلى أولئك المنشدين الذين يتسابقون في التنغيم والترخيم لإطراب المشيعين! وهذه هي الأشياء التي إن لم يشعر بجلالها العامة فما هم بشاعرين بعدها بمظهر من مظاهر الجلال، والإحساس والجلال كما لا يخفى عنوان عاطفة الاحترام وتقدير العظمة بين الناس. فكيف يكون في الأمة من يحترم إذا لم يكن فيها من يحترم؟! ألا إن الذل لأفضل من هذه الحالة؛ لأن الذل في جانب يشعر بالبطش في الجانب الآخر، ولكن السفاهة في عامة قوم تشعر بالضآلة في خاصتهم، وما ظنك بأمة تلبسها الحقارة والصغار من أعلاها إلى أسفلها؟!

لو كانت الأمة المصرية كلها على هذا النمط الذي وصفنا؛ لجزمنا بموتها موتا قلما تحيا بعده، ولكنها لوثة أصابت المدن وسلم منها الريف، فبقي رجاله بنجوة من هذا النزق الذي داخل رءوس أهل الحضر ومسخ قلوبهم، وربما أنكرت عليهم بعض العيوب، ولكنها عيوب الصحة لا عيوب المرض، فإن كنا نرجو لمصر سلامة، فبهؤلاء تعقد سلامتها وهؤلاء هم عتاد مصر في ثروتها الأدبية كما هم عتادها في الثروة المادية، وما كان أولى المشرفين على التربية عندنا بإنشاء المعاهد العلمية في القرى ليتخرج منها أبناء الريف؛ صحيحة أبدانهم مطهرة قلوبهم قويمة طبائعهم وأفكارهم، إذ الرجاء قليل في نبوغ أفراد من سكان الحضر يرأبون صدع هذه الأمة ويتداركون خللها، والاختبار حتى في الزمن الأخير يدل على أن أكبر نوابغ مصرهم الذين نشئوا في القرى والكفور ولم يشبوا من طفولتهم بين جلبة المدن وغواية ملاهيها. هذا أيام كانت مصر أشبه بالقرى منها بالحواضر الحاشدة، فما بالك بها اليوم!

1

وقد اجتمعت فيها سيئات المدنيتين والتقت عندها عقابيل الداء القديم وأعراض الداء الجديد؟

كم ذا أعاشر من صحبي وأعدائي

من ليس يعقل آمالي وآرائي

قوم على كثب

2

مني ويفصلني

عنهم مسافة بين الليث والشاء

لو كان يفرقنا بعد الطلاب لما

كنا وكانوا سوى نجم وبوغاء

3

هم الرجال كما قالوا وليس لهم

من الرجولة إلا فضل أسماء

لا كالرجال ولا كالغيد قد صفرت

أكفهم من حلى بأس وحناء

لو تستبين قذارات النفوس لما

مستهم الكف إلا مس إيماء

توعدوني بإعنات وقد صدقوا

قد يعنت النمل أعضاد الأشداء

يخاف بعضهم بعضا ويمنعهم

دوني مغافر

4

أقذار وأقذاء

كم نملة قتلت شبلا ويقعدها

عن مثلها خوف أكفاء لأكفاء

ويلي على مصر! قد أمست وليس لها

سوى اعتزاز منوط بالأذلاء

شبان مصر وما أدري أهم زمر

من الأناسي أم هم رسم وشاء

قد هونوا الأمر حتى لو تكلفهم

صيد النجوم لراموا النجم في الماء

وصوروا المجد في أخلادهم صورا

شوهاء أغنتهم عن كل علياء

يا ليتها صور نمت على شبه

من الحقيقة أو دلت بسيماء

لكنما المجد في تزويق طليتها

ماء السراب لعين الظامئ النائي

خافوا وقالوا: لنا حزم وتجربة!

إن كان ذا الحزم، ما جبن الأخساء؟

تحركوا ثم قالوا لا جمود بنا

أين التأوه من صمت الأصحاء؟

تخايلوا في معاليهم وما علموا

أن التورم لا ينمو بأعضاء

وما تطلع منهم في السماء فتى

إلا بعين عن الأضواء عشواء

آمالهم في المعالي تحت أرجلهم

فما ينالونها إلا بإحناء

قد أكملوا النقص موفورا فلا عجب

ألا يضيقوا بتنقيص الأجلاء

هم أسرع الناس في قدح فإن طلبوا

ما يجلب المدح أعيوا كل إعياء

أستغفر الصدق، بل لا ينظرون إلى

مدح وما كلفوا يوما بإطراء

أستغفر الصدق بل لا يمدحون سوى

ما يخلق الوجه من خزي وإغضاء

نحوا وجوهكم عني فقد سئمت

نفسي المقابر في أسلاخ أحياء

في كل دار شباب ينهضون بها

إلى العلا بين جيران وأعداء

لا يحفلون أعاشوا وهي ناجية

أم أصبحوا طي أرماس وإحناء

يعلو بهم ذكر من بادوا ومن لحقوا

وأنتم عار آباء وأبناء

أإنكم بشر؟! إني برئت إذن

من آدم حين يدعوني وحواء

قدوا ملابسكم عنكم فإن لكم

في كل فعلة سوء ألف عوراء

مقابح لو تواريها لما استترت

بليلة من ليالي الشؤم ليلاء

أهون بإبداء عورات الجسوم إذا

ما عري الخيم

5

من فضل وآلاء

يا سبة الخلق هل في الأرض من دنس

يزري بكم بعد هذا أي إزراء

إن البغي

6

إذا استحيت لساخرة

من الصيانة سخرا يضحك الرائي

وأعجب الأمر أن الفضل يخجلكم

بهرا، ولم تخجلوا من عار نكراء

يطأطئ المرء منكم لو يقال له

صنعت صنع كريم النفس أباء

ينافق المرء منكم وهو يزعمه

ظرفا يشيد به بين الأخلاء

ويغدر المرء منكم وهو يحسبه

عفو البديهة من لؤم وإيذاء

ويضحك المرء منكم وهو عن عرض

يرمي بلمز وإيقاع وبغضاء

يخشى على ثوبه نقط المداد ولا

يخشى على عرضه تمزيق فراء

7

لتحسبن مريد الجاه بينهم

يمشي إلى حانة أو بيت فحشاء

يمشي ولو كان وقرا ما يسير به

من المساوئ أنضته بأعباء

ضاق المجال بطلاب العلا فمشى

إلى العلا كل هماز ومشاء

جدوا وصلى

8

الكرام الصيد خلفهمو

ما الطرف

9

في كل ميدان بعداء

تعيا الجياد وتستن

10

الخراف إذا

تجاولا بين أسداد وأفناء

ويلي على مصر قد أمست وليس بها

ضرب من الصدق إلا قول هجاء

تجنبوا الصدق حاشى في شتائمهم

فهم نبيون في ظن وإنباء

مشهرون أسروا الأمر أم جهروا

فليس إخفاؤهم إلا كإفشاء

الحرام والحلال

أما آن للحسن أن يعدلا

وللقلب في الحب أن يعقلا

لقد وضح الحسن للمبصري

ن، فما لهوى الحسن قد أشكلا

حبيبي الذي لست أعني سوا

ه إذا فهت بالقول مسترسلا

وقبلة شعري التي أنتحي

إذا أجمل الشعر أو فصلا

كأن مآقي ما ركبت

إلا لترعاك أو تأفلا

فما أعشق الحسن إلا علي

ك، وكالوحش بعدك ريم الفلا

وما عمهت مقلتي عن سوا

ك، ولكنما القلب منك امتلا

حذقت بكيدي فهل علمو

ك فما أحسب الكيد مستسهلا

ولو علموك لأخطأتني

فقد يخطئ الطاعن المفصلا •••

أحين صرفنا إليك القلو

ب، قضيت فحرمت ما حللا؟

قبيح بعيني أن تنظرا

ولكن لعينك أن تقتلا

وحب الجمال حرام علي

وأما اختيالك فيه فلا

ولا ضير أنك حلو المذا

ق، شهي العناق سري الحلى

ولكن ضيرا بنا أن نذو

ق، وإن كان لا بد أن نفعلا

ولا بدع أن تذهل الناظري

ن، ولكن من البدع أن نذهلا

وكن أنت شمس الضحى رونقا

وكن أنت نبت الربى مخضلا

فإن نحن كانت لنا أعين

فقد عظم الجرم واستفحلا

ولح أنت في صحراء الزما

ن، نهرا يهيج الصدى

11

سلسلا

فإن قاربتك شفاه الظما

ء عجبت وأعجب أن تجهلا

وكن شجرا موقرا بالثما

ر، وفاخر بتفاحك الحنظلا

وقل: «ثمري الغض أحلاهما

وإن لم يمسا ولم يؤكلا!»

وخف أن تمد إليها يد

فتجنيها غير أيدي البلى

أليس من الفقد أن تشتهى؟

أليس من الصون أن تذبلا؟

عذيري من الحسن في قصده

وما قصد الحسن إلا غلا

يرى جوده سرفا متلفا

ويفرح بالقصد إن أهملا

فيا ظالمين وما همنا

سواكم من الناس أن يعدلا

ويا باخلين وإن تبخلوا

فأهون بمن شاء أن يبذلا

أبيحوا لنا الحب أو فاحجبوا

قواما تثنى ووجها حلا

ولا توجروا

12

العين خمر الهوى

وتأبوا على القلب أن يثملا

وإلا فكونوا كحور السما

ء يسمع عنها ولا تجتلى

لقد كان وجه الثرى جنة

من القبح لو من جمال خلا

العام الجديد

تمنيت لي الإسعاد فاسعد وأمل

وعللتني بالخير فاسلم وعلل

وبشرت بالعام الجديد كأنني

أبدل حالا بين ماض ومقبل

فبشر بعام زال عنا مذمما

وإلا فما البشرى بعام مزمل

13

برمنا بما يمضي الغداة، فبعده

أحب إلينا من ملاقاة ما يلي

ذر النجم يمضي في الفضاء لشأوه

ويعبر منه منزلا بعد منزل

ويبدل أياما بأخرى ويومنا

على الدهر يوم ليس بالمتبدل

سفاها لعمري عدنا الخطو بعده

إذا كان لا يدنو بنا من مؤمل

بجد فيقصينا عن الغفلة التي

نعمنا بها في أمسنا المترحل

ويبعد ما بين الشباب وبيننا

فيعجلنا عن نظرة المتمهل

ويلقي علينا عند كل محلة

14

بوقر، فما استبشارنا بالتنقل؟

وتالله ما الأيام إلا عداتنا

تدير علينا جحفلا بعد جحفل

تولي بأجزاء الحياة غنيمة

وتقبل إقبال الكمي لأعزل

تولي بمحيانا وتقبل بالردى

ففيم نلاقيها لقاء مهلل

ألا لا تبشرني بما سوف ينجلي

فإنك لا تدري غدا عم ينجلي

إذا ما انثنى الماضي وهيهات ينثني

إلينا فبشرني بماضي واجذل

ألا لا تبشرني بعهد غريبة

لياليه عني، فهو مني بمعزل

وبشر بماضي الحميم فإنما

لياليه من جسمي وقلبي المضلل

ففي كل يوم منه قلب ثكلته

وفي كل ليل منه عرق يحن لي

مصارع لذات وإطلال صبوة

ومدرج أحلام وقبر تعلل

فيا ليت لي في ذلك العهد وقفة

لأقضي حقا عند رسم معطل

ويا ليت لي في ذلك الورد رجعة

لأملأ منه النفس قبل الترحل

وكيف وأيام الزمان مطية

أزمتها في كف أخرق معجل

ومن عاش يوما بعد يوم فإنما

يقطع منه مفصل بعد مفصل

دعوني أسر في ساحة العيش مفردا

مغمى، فلا أدري مصيري وأولي

ولا تعذلوني إن يئست فإنني

أرى اليأس أعلى من رجاء المذلل

أروني رجاء فوق يأسي فأنبري

إليه وعدوا عن رجاء التسفل

إذا لم يكن في النجح فضل لناجح

على مخفق فالنجح بغية أخطل

دعاني أبي (العباس) يا صدق ما دعا

أكان نذيرا لي بما سوف أبتلي

15

ولو شاء لم يجعل إلهي قضاءه

على فم هذا الوالد المتفضل

القريب البعيد

بعيد مدى منك القريب المؤمل

وأقرب منه النازح المتعلل

فما دون من يبغيك في البعد حاجب

ولا للذي يبغيك في القرب موصل

ولو كان للمضنى شفيع من الضنى!

ولكن على قدر الغرام التدلل

تعوضت لما لم أجد عنك منزعا

بذكراك، والذكرى شفاء ومقتل

وأني لأستدنيك والليل بيننا

فتقبل بالذكرى، وما أنت مقبل

وأغمض عيني كي أراك ممثلا

أمامي، فيسليني الخيال الممثل

وأوهم سمعي أنني منك سامع

أحاديث أشواق تجد وتهزل

وأزعم أني نلت من حبك الرضى

وأعلم أني لا أنال فأجهل

ومن لم يفده الصدق فالوهم أجمل

وفي النفس منها مستجار وموئل

عشقناك إنسانا ونلقاك في المنى

خيال سمادير

16

يرام فيجفل

كذلك نرضى من جناك

17

بظله

وأنت مقيم بيننا تتنقل

وما كان حظي منك أبعد غاية

لو انك نجم في السموات تنزل

وما كنت أقصى عن محبك ملمسا

لو انك طيف في مرائيه مقفل

فعش في جوار الناس شخصا مجسما

وعش في فؤادي صورة تتخيل

ودعني أنل منك الرجاء ولم تنل

رجاء فمني نائل ومنول

وأسديك في نجواي شكر لذاذة

لعلك لو تدري بها كنت تبخل

لذاذة حلم لو وجدت زمامها

لديك لما كانت على الصب تسهل

الصبابة المنشورة

18

صبابة قلبي! أقبل الليل غاضيا

19

فهبي فقد يغشى الرفات المغانيا

وقد تهجر الموتى القبور أمينة

إذا الليل غشى بالرقاد المآقيا

وثوبي إلى الدنيا مع النوم فانظري

مكانك قد أقوى وعرشك خاويا

20

ومري به مر الغريب وطالما

تربعت فيه قبل ذاك لياليا

ولا تسألي: من بالديار؟ فإنها

على موثق ألا تجيب مناديا •••

بدا شبح عار من اللحم عظمه

يجاذب أضلاعا عليه حوانيا

يقارب في قيد المنية خطوه

ويمشي به ليلا مع الليل ثانيا

وقال سلام! قلت فاسلم وإن يكن

دعائي لميت بالسلامة واهيا

من الطارق الساري؟ فقال صبابة

نعمت بها حينا وما أنت ناسيا

فقلت أرى جسما عرى من روائه

وعهدي به من قبل أزهر كاسيا

جهلتك لولا مسحة فيك غالبت

بشاشتها أيدي المنون المواحيا

جهلتك لولا هزة في جوانحي

يد الدهر

21

لا تبقي من الشك باقيا

ألا شد ما جار البلى يا صبابتي

عليك، فكيف استل تلك المعانيا

أأنت التي أسهرتني الليل راضيا

وأنت التي أسكرت عيني صاحيا؟

وأنت التي كنا إذا الناس كلهم

تولوا وجدنا مغنما فيك وافيا

وأنت التي جليت لي الأرض جلوة

أسائل عنها الأرض وهي كما هيا

أسائل عنها كل شيء رأيته

أما كنت فينان

22

المحاسن شاديا

نفخت بها روحا فغرد صامت

ورنم جلمود، وأصغيت لاهيا

فلما ألم البين لاذت بصمتها

وأمسيت حتى يأذن الله صاغيا

وهل يسمع الصاغي إلى القبر نأمة

23

ولو كان فيه معبد

24

القوم ثاويا •••

نعم أنت لولا ساتر من منية

وحسبك سترا بالمنية ساجيا

وإن امرءا ماتت خوالج نفسه

لقد جمع الشرين حيا وفانيا

حياة لها حد ولا حد للردى

فليت المنايا والحياة تواليا

كما تتوالى يقظة العيش والكرى

وتعقب أنوار الصباح الدياجيا

إذن لتشوقنا الحمام اشتياقنا

إلى النوم واشتقنا الحياة دواليا

25

الهين الصعب

أكبرت قدرك حتى لست أدركه

وأصغروك فنالوا منك ما طلبوا

فإن تباعدت عني وادنيت لهم

فما توانيت في خطوي ولا دأبوا

يا ليت أنفسنا صيغت كأنفسهم

فلا يميلك عنا الصد والعجب

أو ليت مثلك يدري ما نهيم به

فلا تعز علينا بعض ما تهب

ليلة على موعد

يا ليلة بتنا على موعد

نستكبر البشرى فنستوثق

منتظري الشمس التي ضوءها

للقلب لا للعين ما يبثق

26

شعاعها الآمال وضاءة

وظلها الراحة والرونق

ونورها النور الذي يهتدي

فيه الفؤاد المدلج

27

الشيق

يا ليلة بتنا يغالي ببش

راه الرسول الكيس الأحمق

يسبق بالشك ولا يلحق

ويبدأ القول ولا ينطق

متئد اللفظ وقد أوشك ال

قلب إلى أفواهنا يسبق

وتارة يبسم في ريبة

وتارة يعبس أو يطرق

لقيته! لم ألقه! قادم ...

بل معرض! غضبان بل مشفق

حتى إذا أعلمنا قدر ما

يحمل من بشرى انثنى يصدق

قال سيوفي زائرا في غد

يا لغد! كيف غد يشرق

بالشمس أم شمس غد وحده

مذخورة من أجله تخلق

كيما نرى الدنيا وما شأنها

سربالها المبتذل المخلق

28

في حلة لا تتحلى بها

إلا لمن يعشق أو يعشق

وذلك الأمس بأتراحه

كيف به نسج غد يلفق

29

يا ناسج الأيام ما بال من

والك في أنماطه يفرق

لفقان

30

هذا من جوى حالك

رث، وهذا من سنى يبرق

هذا غد أرقص في ظله

وما تبدى شخصه الأرفق

فكيف لو حل بما صان لي

من متعة قلبي لها يخفق

وضمنا يوم رحيب الضحى

لا خطوه كل ولا ضيق

ونلت في اليقظة ما الحلم لا

يسديه للناس ولا الأولق

31

حسبي من البشرى به ليلة

إلى صباح بعدها آنق

32

درج الحب

33

أبصرته فوددت ألزمه

باللحظ في حل ومرتحل

وطفقت أرجو أن يحادثني

فبلغت ما أرجو على مهل •••

حادثته والنفس شيقة

للنهل من فمه وللعلل

وتهم تتبع كل بادرة

من فيه، باللثمات والقبل •••

قبلته فتجددت علل

غير التي داويت من عللي

الآن أطمع أن أكون له

ويكون إذ يمسي ويصبح لي

وأكاد أشفق أن تراعيه

حرصا عليه، شوارد المقل •••

في القلب شيطان يقول له

زد كلما أوفى على أمل

بالوكف

34

لا نرضى فوا عجبي

كيف ارتضينا أمس بالبلل

نابش القلوب

أنى ينبش القلب عن حبه

ويومئ للعين مستخبرا

أتنبش حبك في لحده؟

ومن أين للميت أن ينشرا؟

ألا فاطمئن فإن الذي

تطلبته بات نضو الثرى

وطارت مع الريح ذراته

فسلها لتجمع ما بعثرا

وإنك عندي كبعض الورى

هوانا، وقد كنت كل الورى

في الربيع

قم حزين العمر فاطرب وارتشف

من كئوس الحب ما يجلو الحزن

أدبر الليل ولم يبق سوى

صيحة الديك وينجاب الوسن

أنت في الصيف وهذا فجره

يفتح الجنة من غير ثمن

ربما عدت إذا الحول انقضى

رمة في الأرض صفراء الكفن

رمة في الأرض لا يبعثها

باعث الأزهار في كل فنن

35

لا تحيي الغيد إن مرت بها

بلسان أو بنان أو بدن

لا ولا يغنم منها لفتة

مبسم عذب، ولا وجه حسن

فاغنم اللذات في أوقاتها

إنما الميت من ينسى الزمن

واقتطف زهر ربيع مونق

نحن إن لم نقطف الزهر فمن ؟!

الكون والحياة

أيهما أكبر: الكون أم الحياة الإنسانية؟ إن الحياة إن لم تكن لها غاية بعيدة موصولة بالغاية التي يسعى إليها الكون برمته فهي ولا ريب أصغر من أن تقاس إليه، أو يفاضل بينها وبينه. وقد كان يكفينا على هذا الفرض كرتنا الأرضية وحدها أو نظام واحد من أنظمة الشموس التي لا عداد لها. وإذا كانت الحياة الإنسانية هي الحس الشاعر المفرد في الوجود، فلم لم يكن لها من الإحساس القدر الكافي لمعرفة الوجود حق المعرفة؟ ولم لم يتناسب العارف والمعروف أو يتقاربا؟ ألا نفهم من ذلك أنه لا بد في الوجود من قدرة تعرفه المعرفة الخليقة به؟ هذا هو الخاطر الذي قام بنفسي عند نظم الأبيات الآتية: •••

رب إن لا يكن لحي حياة

غير ما قد علمت دهرا فدهرا

من جسوم من الثرى وإليه

ونفوس عن طلعة الحق حسرى

فحياة الأنام أهون من أن

تتحرى لها الدنى مستقرا

وهي أدنى من أن تدير عليها

فلكا عاليا وشمسا وبدرا

فبحسب الحياة قفر يباب

يسع العالمين أولى وأخرى

ما جمال الأرضين تزخر بالذ

ر وحسن النجوم في الأفق تترى

1

ما امتداد الفضاء إن كان هذا الج

سم للنفس لا محالة قبرا

أنت هيأتنا لأمر فهل هي

أت للكون غير ذا الأمر أمرا؟

فاجعل الكون كالحياة وإلا

فاجعل الساكنيه بالكون أحرى

ما أجل الوجود غفرانك الل

هم عن ساكنيه قدرا وعمرا

أنت الملوم

أمسى يعد لنا القطوبا

ذنبا، وما عرف الذنوبا

ويلومنا فيما نلو

م الناس فيه والخطوبا

عتب الغني على الفق

ير يعالج العيش الجديبا

يلحاه أن يدع الدمق

س ويلبس الطمر المعيبا

لو كنت تنصف ما عذل

ت على كآبته كئيبا

أحسبتنا نقلي السرو

ر ولا نهيم به قلوبا

من كان يضحك حيث شا

ء رأى البكى شيئا عجيبا

مهلا لتعلم من تلو

م إذا كرهت بنا قطوبا

أنت الملوم فلو أرد

ت رأيتني جذلا طروبا

من ذا تلوم الشمس إن

عابت على الدنيا شحوبا؟

وإذا المحب شكا فلا

تلم المحب بل الحبيبا

الدنيا الميتة

يقول بعض الفلاسفة: إن المادة ليست بذات وجود حقيقي، وإن العالم لا أثر له في الخارج، وإنما هو وهم معكوس عن حس الإنسان وتصوره، وهذا لعمري إغراق في التجريد يقرب من الجنون. ولكن مما لا ريب فيه أن للعالم في كل ذهن صورة تختلف عن صورته في سائر الأذهان، فليس في هذه الأمم رجلان يريانه على مثال فرد، وقد ترى الرجلين يجلسان في حجرة واحدة أحدهما يود لو يبخع نفسه لقبح الدنيا في عينيه، والثاني يود لو يعمر أبد الأبيد ليشتف جمالها وبهجتها. فهل يقال في هذين إن عالمهما واحد؟ فمن هنا ساغ لنا أن نقول إن العالم تموت نسخة منه كلما مات إنسان، أو إن العالم كله يموت في النفس الخامدة الشقية، إذ كان لا يغني عن الإنسان شيئا بقاء العالم للناس إذا مات عالمه الذي يراه في خواطره وأحلامه، كذلك تعرض لنفس الإنسان في الحياة غمات تشوه صورة الدنيا عنده أو تكاد تقتلها، فيحق له أن يرثيها رثاءه الميت المفقود، وهو لا يرثي في الحقيقة إلا نفسه التي فقدت لذة الشعور بجمال الحياة وحياة الدنيا فيه:

أحبك حب الشمس فهي مضيئة

وأنت مضيء بالجمال منير

أحبك حب الزهر فالزهر ناضر

وأنت كما شاء الشباب نضير

أحبك حبي للحياة فإنها

شعور، وكم في القرب منك شعور

فهل في ابتغائي الشمس والزهر سبة

وهل في ولوعي بالحياة نكير

وهل في الهوى معنى سوى أن مقلتي

تراك، وأن الحسن فيك طرير

1

وأنك تسبي الناظرين وأنني

بإحباب سابي الناظرين جدير

ألا لا تدعنا نلحظ الحسن أو أجز

لنا الحب، فاللحظ اليسير يجور

وما من سبيل أن تراه عيوننا

وتغمض عنه أنفس وصدور

فأما وإعشاء النواظر مطلب

عسير، وقد يهوى الجمال ضرير

فدع ما يقول الناس واعلم بأننا

على غير ما سار الأنام نسير

لنا عالم طلق وللناس عالم

رهين بأغلال الظنون أسير

ووا أسفا! ما أنت إلا نظيرهم

وإن لم يكن للحسن فيك نظير

وحاكيتهم ظنا، فليتك مثلهم

محيا فلا يأسى عليك ضمير

ويا عجبا منا نسائل أنفسا

إذا سئلت حارت، وليس تحير

2

أنشقى بدنيانا لأن منعما

من الناس بسام الثغير غرير

أيذوي الصبا فينا لأنك ناشئ

ربيع الصبا في وجنتيه غضير

أتعشى مآقينا لأنك أحور

بعينيه من ومض الملاحة نور

ألا نتملى

3

الحسن والحسن جمة

مطالعه إلا وأنت سمير

فيا ضيعة الدنيا إذا لم يكن بها

غنى عنك للمحزون حين يثور

ويا ضيعة النفس التي لا يجيرها

من البث والشكوى سواك مجير

إذا الشمس غابت لا نبالي غيابها

وإن غبت آض العيش وهو كدور

وليتك مثل الشمس ما فيك مطمع

فيهدأ قلب بالضلال نفور

قربت ولم يخطئ عطاش تلهفوا

على جدول في السمع منه خرير

وسرت على الأرض التي أنا سائر

عليها، ولم تضرب عليك ستور

فلو لم نول القلب شطرك لامنا

على الجهل كون بالجمال فخور

لديك مقاليد السرور وديعة

وما لمحب في سواك سرور

فإن تأذن الدنيا أباحت شوارها

4

وغنت عصافير وفاح عبير

وإلا فما في الأرض حظ لناظر

ولا النجم في عليا السماء يدور

فيا خازن الأفراح ما لقلوبنا

خواء وأفراح الحياة كثير

وما لك ضنانا بما لو بذلته

لما ضاع منه بالعطاء نقير

تضن بشيء لست تعلم قدره

ونعلم ما نسخو به ونعير

نجود بحبات القلوب وبالنهى

وليس لنا في النائلين شكور

وما الشيء مزهودا وإن جل قدره

لدى الناس كالمطلوب وهو يسير •••

عذيري وهل للناقمين عذير

وأين لمخذول الفؤاد نصير!

لقد ماتت الدنيا وقدما رأيتها

عروسا حفا فيها عرائس حور

نعم ماتت الدنيا بنفسي ومن يعش

وقد ماتت الدنيا، فأين يصير؟

وأحنو على الدنيا ويا ربما حنت

على الميت الثاوي بهن قبور

بكائي عليها يوم أن كان أفقها

يضيء وكانت بالأنيس

5

تمور

وكانت يتيه اللب كيف بناؤها

فأمست يتيه اللب كيف تبور!

فما كان أسناها مدارة أنجم

ومنبت ريحان يكاد ينير

وأخصب مرعى اللهو في جنباتها

وما من جنى إلا منى وغرور

نعم ماتت الدنيا بنفسي فهل لها

بعطفك من بعد الممات نشور

فأحي بإحيائي فديتك عالما

عييت بحمله، فأنت قدير

ولا تسألني: كيف أحييك؟ هازلا

فأنت بإحياء النفوس خبير

ففي كل نفس عالم يرهب الردى

ومن كل حسن حين يعطف صور

لك الحسن فامنعه ولكن من يغل

من الناس دنياهم فذاك مغير

تبسم!

النفس أنفر ما تكون من مشاهدة الهول، ولكنها إذا أمنت شره كانت مشاهدته متعة تلتذها وتسعى إليها، كما يخف المرء إلى رؤية البركان الهائج من مكان بعيد، أو يود النظر إلى السباع في أقفاصها وهو يتحاشى المرور بها في عرينها، وهذا مرادنا بقولنا:

ويا رب مرهوب السطا وهو مطلق

إذا كف أضحى متعة للنواظر

وصورة الهول في الذهن أبعد الأشياء عن صورة الجمال فيه، فلا نسبة بين شجن المروع بالهول ومرح المزهو بالجمال، ولكن إذا كان الجمال هو غل الهول ومروضه فليس أقرب من أحدهما إلى الآخر ولا أدعى إلى اجتماعهما واتصال كليهما بصاحبه. وقد أجاد الأقدمون في التعبير عن هذه الصلة العجيبة بما تخيلوه من حكايات المردة الذين يختطفون الحسان ويتلطفون إليهن ويحملونهن على كواهلهم، وحكايات الحسان اللواتي يألفن أولئك المردة ويأنسن بعشرتهم، ذاهبات مع الدهش والرغبة، مفتونات بالعجب والغرابة، فإن شئت فسم ألفة هؤلاء الحسان الآسرات المأسورات حبا بلغ مداه، وإن شئت فقل إنها من أشبه العواطف بالحب إن لم تكن هي إياه، وكذلك الحب سكر لا تحس مبتدأه ومنتهاه، أو هو الاسم لا يعرف المسحور به كيف يضعه على مسماه.

تبسم فإنا لا نطيق تبسما

حمانا

1

الأسى إلا ابتسامة ساخر

تبسم فقد طالت على الورق غفوة

وفي ثغرك الوضاح فجر الدياجر

تبسم فهذا اليأس أعشى نفوسنا

وفي وجهك الضاحي جلاء البصائر

تبسم وزودنا القليل فإننا

على سفر يا نعم زاد المسافر

ننوء بأعباء الطريق وليتنا

ننوء بها زادا لجولان حائر

2

ننوء بها في كل فج وما بها

وقاء لسار أو بلاغ لسائر

تبسم فإن القلب يسعد بالذي

سعدت به واضحك وغرد وخاطر

يلذ لنا منك اغترارك بالصبا

غرور الصبا روح لقلب المحاذر

ويعجبنا أنا نرى فيك معجبا

مدلا على الأيام إدلال ظافر

بشوشا تكاد العين تلمح قلبه

وتسرد في نجواه نظم السرائر

إذا غامت الجلى تبلجت بينها

تبلج ومض البرق بين المواطر

3

وتضحك والأتراح حولك جمة

تخافك خوف الجن رجم الزواهر

4

ونبكي وأفراح الحياة كثيرة

يحاذرننا من حولنا كالطوائر

فيا قرب ما بيني وبينك في الهوى

ويا بعد شقي دارنا في الخواطر

طوى الحب ما بيني وبينك من مدى

فنحن قرينا موطن متجاور

أيا من رأى صبحا وليلا تلاقيا

وإلفين من صفو وشجو مخامر

لئن تخش مني الليل صعبا مراسه

لقد بت أخشى منك شمس الهجائر

فيا لي من ليل بحبك موثق

وثاق الضواري في كناس الجآذر

تطالع منه الهول سهلا مقاده

رخاء غواشيه، شجي الزماجر

ويا رب مرهوب السطا وهو مطلق

إذا كف أضحى متعة للنواظر

أنا الليل فاطرقني على غير خشية

ولج باب أحلامي وجل في حظائري

وسر حيث يخشى غيهب الليل نفسه

وتعثر بالظلماء ظلماء كافر

5

لتعلم ما الدنيا إذا غال غولها

وأنت أمين من طروق الدوائر

وتعلم أن الشمس تكذب قومها

إذا حدثتهم عن خفي وظاهر

فكم بين لألاء الضحى من مناظر

طوتها يد الأحداث عن كل ناظر •••

أنا الليل والسحر القدير أخو الدجى

قديما، فعاهدني، ألست بساحر؟

ألست ترينا حسن وجهك مفردا

على حين إشراق الوجوه السوافر؟

ألست ترينا القفر جنات رحمة

إذا شئت، والجنات شبه المقابر؟

فيا ساحرا، إني لسحرك هيكل

فزخرف بوشي السحر كنز ذخائري

ويا ساحرا، ما السحر إلا ابتسامة

تشب بها روحي وتطفئ ثائري

تبسم ألا يرضيك أن ابتسامة

بثغرك أمضى من صروف المقادر

وأن السموات العلى لا تنير لي

طريقا، ولكن أنت تهدي ضمائري

وأن رياض الأرض ليست تسرني

بشيء، ولمح منك يفعم خاطري

وأن جميع الناس لا ينصرونني

وإن جهدوا، لكن حبك ناصري

وأنت إلى لهو الطفولة مرجعي

ولن يستطيع الدهر إرجاع غابر

فلا تبتعد عني فإنك راجع

متى تبتعد عني بصفقة خاسر

ومن لك بالقلب الذي أنت مبصر

به كل إعجاز لحسنك باهر

تراه عصيا - إن نأيت - على الرضى

ولا قلب أرضى منه إن كنت زائري

وفي الناس مطوي الضلوع على الشجا

ولا مثل شجوي بين باد وحاضر

إذا شاركوني في هواك فما لهم

سروري بما أصفيتهم وتباشري

تبسم وشاهد آي قدرتك التي

علوت بها عن كل ناه وآمر

فإني رأيت الناس من نال قدرة

أبى أن يراه الناس ليس بقادر

تبسم وقل: إني أنا الرائش الذي

6

أصاب الأسى في حصنه المتعاسر

وإلا فإن أبلغ من الشقوة المدى

أمنت فلا شيء على الأرض ضائري

ألف على قلبي المهيض غيابة

7

أوائلها معقودة بالأواخر

حسبي

فاض عليك الصبا وروعته

وغاض منك الوفاء وانحسرا •••

الورد يشفي بالعطر من نشقا

والماء يروي الغليل والحرقا

والبدر يجلو بنوره الحدقا

والحسن، ما فضله وبهجته

إذا اعترى بالهيام من نظرا؟ •••

أنت شفاء للقلب أم وصب؟

وفيك أمن للنفس أم رهب؟

ومنك ننجو أم منك نقترب؟

ومن تسر الفؤاد رؤيته

إذا ارتقى معجبا ومحتقرا؟ •••

لا تخجلنك الشكاة والعذل

واحكم بما شئت فالصبا دول

للزهر والماء والسنى علل

ولا تعيب الجمال فتكته

الفتك حق لكل من قدر •••

قد يوبق

8

الورد لونه النضر

والماء فيه الحياة والخطر

وقد يجن الضمائر القمر

وأنت أنت الغراء طلعته

قد برز الموت فيك واستترا •••

حسبي من الورد وخز شوكته

حسبي من الماء طعم غصته

حسبي من البدر مس جنته

والحسن حسبي، إن شئت، لوعته

طال عليها الزمان أو قصرا

المغنم المجهول

إذا اعتلجت بالنفس عاطفة قوية أثارت رواكدها واستفزت رواقدها فانكشف للإنسان من نفسه ما لم يكن يعرف، واختبر من قواه وطباعه ما كان خافيا عنه فصحح نظره في الحياة، وتغيرت بين يديه حقائق الأشياء فرآها كما ينبغي له أن يراها؛ لأن معرفة النفس مقياس معرفة الوجود، ومن أخطأ تقدير نفسه لم يصب في تقدير ما حوله؛ لأنه يقيس الأشياء بمقياس مختل مجهول. والحب أقوى العواطف وأعمقها تفتيشا في النفس، فهو ينبه فيها الإعجاب والعبادة والبغض والألم والغيرة والاحتقار والشفقة والقسوة وكل ما تشتمل عليه من حميد الخصال وذميمها، فإذا وقف الإنسان على حقيقة نفسه وقف على كل حقيقة يتاح له الوقوف عليها، وكان الجمال له معلما يستفيد منه ما لم يعلمه الجمال نفسه، ومنعما يهبه ما لا يملك، كالشموس والأقمار التي تضيء للعين المنظورات وهي بلا عين تبصر أو نفس تشعر، فإذا خسر الإنسان في الحب غرضا أراده ربح منه غرضا لم يرده، وكان ما جاءه من الربح عفوا أكبر مما توخاه عمدا، وهذا فحوى قولنا:

محضتني سر الحياة وسرها

خاف عليك جليله والضامر •••

لهجت بحسنك ألسن وخواطر

وصبت إليك جوانح ونواظر

وجرى غرامك في دمي فتوهجت

قطراته، فهو الحميم الفائر

وشغلتني عما يحب كأنما

هذا الوجود على جمالك دائر

ونسيت فيك الخلق، فهو كأنه

لما يصوره

1

الإله الفاطر

لازمتني في غفوتي وتسهدي

طيف يساور أو سواد عابر

أمسي وأصبح ما بقلبي جانب

مني، وفيه لك الجناب العامر

فإذا صحوت فأنت أول خاطر

وإذا غفا جفني فأنت الآخر

أويعبد الإنسان وا عجبا له

حبا، وما هو بالعبادة شاعر

كالدمية

2

الحسناء تعبدها وسي

يان المسبح عندها والكاسر

لحسبت لو أني كلفت بدمية

كلفي به، لدرت بما أنا ساتر

ولدب فيها، والحياة من الهوى

روح، وأنطقها القريض الفاخر

يا من لديه من المحاسن كلها

عوض، وما فيهن منه نظائر

3

لو شابهتك لكان لي في بعضها

سلوى، فلم تفطر عليك مرائر

ولأنت نور للمحاسن لا يرى

لولاك منها غامض أو سافر

ما النجم مثلك في افترار ضيائه

كلا، ولا الزهر الأريج الناضر

والليل إن لم تسر فيه بوجهك ال

فضاح فهو جوى ووجد زافر

واللب يثمر ما اجتلاك فإن تبن

عنه حلاك فكل لب عاقر

أغليت حسنك مذ علمت مكانه

وكذاك يغلو لي العزيز النادر

لهفي عليك أكل حظي في الهوى

شعر أرتله ولفظ ثائر

وتأوه يفري الضلوع وحسرة

تنفي الهجوع وأدمع تتقاطر؟

لو كان نظم الشعر يفثأ غلة

لعفا الهيام جديده والدائر

لكنها النيران ليس بناقص

منها اقتباس النور وهي سواعر

صعب الجمال فليت حب صفاته

صعب ، فيسلم إذ يراه الناظر

وأما وعيشك ما العيون قواصر

عنه، ولكن الأكف قواصر

الحسن أعجب من رآه فعانه

ممن يجد إليه وهو مغامر

أوليس من عجب جمال باهر

فينا ولا حب هنالك قاهر

أوليس من عجب جبين واضح

يبدو ولا قلب إليه يبادر

ونواعس الأجفان سوداواتها

تمسي، ولا جفن عليها ساهر

الحب محي النفوس وقاتل

ومسرح للعاشقين وآسر

كفريسة العنقاء يقتحم السما

وات العلية وهو عان حائر

4

وإذا أردت من الحياة طلاقة

في غير ما قيد فما لك ناصر

الكون أعظم ما رأيت، مقيد

يمشي له في كل صوب زاجر

والله ألزم نفسه ميعاده

وهو المصرف للقضاء الآمر •••

يا من عليه تلهفي وتلددي

قد جرت فلتهنأ بأنك جائر

وأريتني ما لا ترى ووهبتني

ما لست تملكه فما لك شاكر

محضتني سر الحياة وسرها

خاف عليك جليله والضامر

إن الضياء يري العيون ولا يرى

والحسن يوقظ وهو غاف سادر

فلئن بخلت بما ملكت فحسبنا

ما لست تملك، فهو عندك وافر

أنسيتني نفسا وقد أذكرتني

نفسا، وخيرهما التي أنا ذاكر

لكشفت باطنها فقد أنكرتها

لما بدا منها القرار الغائر

فامنح وصالك أو قلاك فإنني

راض بكلتا الحالتين وصابر

يخافني وأخافه

وقائل لي: أخاف منك فقد

تعلم في النفس ما أداريه

لم أخف سرا إلا علمت به

كأنني بالكلام مبديه

فقلت إني أخاف منك فقد

تجهل قلبي وما يعانيه

أبدي لك الحب غير كاتمه

كأنني في الضمير أخفيه

الجهل خطب كالعلم نحذره

لكنما العلم خطب أهليه

الفجر الأول

من رأى أول فجر

في فضاء الكون لاحا

من رأى الشمس استقلت

وهي تشتق الضراحا

5

واستعارت من مطار ال

زمن الساري جناحا

من رأى الليل ضميرا

أبصر النور فباحا

باح بالكون فما ازدا

د مع النور افتضاحا

من وعى أول صوت

أكبر الشمس فصاحا

وانتشى أول عرف

في نسيم الصبح فاحا

ما رأت ذلك عين

لا، ولا كان مباحا

كم تجلى من صباح

قبل أن يدعى صباحا

إلى القمر

ما زلت يا بدر من همي ومطلبي

والعمر غض وجلباب الصبا نضر

وفي السماوات أقمار نهم بها

وثبا، ويصغرها في وهمنا الصغر

فاليوم أنت تحيينا وتؤنسنا

وليس يخدع فيك الظن والبصر

كأنما أنت في محل وفي بعد

سجن الملائك «لا ماء ولا شجر»

عليك سيمة حزن من لواعجهم

ومن لواعج سمار الدجى أثر

إيه يا دهر

إيه يا دهر هات ما شئت وانظر

عزمات الرجال كيف تكون

ما تعسفت في بلائك إلا

هان بالصبر منه ما لا يهون

هنيئا لك

هنيئا لك السهم الذي أنت جارح

به كبدا لا تستطيع شفاءها

قدرتم على جرح النفوس وليتكم

قدرتم فداويتم من الحب داءها

لحن

يا رب لحن خلت من وقعه

كأنني أخطر فوق السماء

أرى على البعد هوان الدني

من حيثما ألمس مجد البقاء

الخداع القاتل

إلام تخدعني عيني وما انخدعت

نفسي ولكنها تهفو مع البصر

جربت كل خليل في مودته

فما جمعت يدي إلا على صفر

6

أكلما ضاء لي نجم فأتبعه

خبا الضياء فلم أبصر سوى كدر

أكلما قلت هذا جوهر، نطقت

عليه دون بناني خسة الحجر

أكلما لاح لي صيد فأحسبه

صيد الأسود، إذا الجرذان في الأثر

أكلما قلت هذا كوثر خصر

تجمع الصاب لي في الكوثر الخصر

7

ويلاه! ما أحقر الدنيا وأبغضها

لم ينج أحسن ما فيها من القذر!

عز الكمال على خلق الخيال فما

طماعة المرء أن يلقاه في البشر

ولا كمال ولكن ربما زعموا

أن الثرى نير في البعد كالقمر

إن الأمائل والأوغاد ما اصطلحوا

على هوى قط إلا فتنة الصور

لا يسلم المنهل المطروق من دنس

أيسلم الرونق المطروق بالنظر؟

وطن فؤادك لا فضل ولا شيم

ولا جمال ولا حول بلا وضر

8

هي الحقيقة أنساها وأذكرها

في كل يوم ولما يجدني حذري

وا رحمة لك من موت تكابده

يا قلب، من حيث ترجو غبطة العمر!

طاو على طعنات فيك قاتلة

مشي الجريح بنصل فيه منكسر

وما دهى القلب من رزء يهشمه

مثل انتزاعك منه حب محتقر

الناسخ والمنسوخ

يا مبدعا للناس دينا

مهلا نخبرك اليقينا

مهلا على قدر الهوى

منا ولسنا آمرينا

مهلا ولو أمهلتنا

لم يمهل الحزن الحزينا

ولئن شفيت شجوننا

فالنفس محدثة شجونا

خلقت تعاهد حزنها

أبدا وتشفق أن تخونا

تأبى الشفاء كأنه

داء سيوردها المنونا

ويح امرئ نصبت له

نفس نظن به الظنونا

حالفت نفسي يا حبي

ب علي فاترك لي معينا

لا تبلون قلوبنا

إنا بحسنك مؤمنونا

أمصدقون معذبو

ن؟ فكيف حال الكافرينا

يا مدخلي نار الهوى

نار الهوى للظالمينا

لمن النعيم تعده؟

أتعده للناهبينا؟

أم للذين تسللوا

ختلا فطوبى للذينا ...

لحسبت من خبث الحيا

ة وحكمها في العالمينا

أن السماء تحوزها

بالختل أيدي الفاسقينا •••

كم ذا أعالج أن أغن

ي بالحياة وأن أبينا

وأصوغ من لحن المنى

صوتا يسر السامعينا

فإذا شدوت إخاله

شدوا فألفيه أنينا

وإذا ضحكت فما البكى

بأمض

9

من ضحكي رنينا

ضحك يعلم من بكى

كيف انتحاب الناحبينا

نغمات نفس شابها

10

صرف الحياة فلن تلينا

عقد الأسى أوتارها

من قبل أن كانت جنينا

فأنامل الأفراح تج

ري فوقها ألما دفينا

11

ألما يمر بها صدا

ه على اختلاف العازفينا

يا حب يا محيي النفو

س وباعثا فيها اليقينا

يا شمس يا أم الحيا

ة ويا إله الأقدمينا

يا زهر يا ريا

12

الغرا

م نسوفه

13

حينا فحينا

أحي الخلائق واقتلينا

وصلي الأحبة واهجرينا

وتفنني فإذا فرغ

ت، فوحدي فينا الفنونا

وإذا ابتكرت فقلدي

نغم الأسى والشجو فينا

لسنا عليك ولا على

نغم الشقاء بعاتبينا

كيف الشكاة من الشقا

ء ولا أزال له مدينا

حجب الفؤاد فصانه

ومن المهالك أن يصونا

أنا لابس من نسجه

درعا توقيني الفتونا

يا ليت أعلم آلسها

م أشد أم درعي طعونا؟! •••

ما لي أثير دفائني

وأحرك الجمر الكمينا

إني لأحلم بالدجى

والصبح يفتتن العيونا

أأنوح أم أصف الجما

ل الرائع البهج الضنينا

نصف الجمال بما ينا

ل به الجوانح والجفونا

بالنار ذاكية وما

ء الدمع منهلا سخينا

والطرف ينظر حائرا

والقلب ينظر مستكينا •••

خلق الجمال سدى وإلا

ما لعاشقه غبينا

خلق الجمال سدى وإلا

ما لصاحبه مهينا

ينأى به عن عارفي

ه ويمنح المتطفلينا

يا باخلين أضعتم

من حسنكم ما تمنعونا

لا تزهون بحسنكم

والعيش مملوء شجونا

ما فضل حسن وجوهكم

إن لم تسروا العالمينا

يا ماسخي حسن الدنى

أجمل بكم من ماسخينا!

شوهتم الكون البد

يع وما أقول لكم مجونا

ونسجتم من حسنكم

كفنا لرونقه ثمينا

ونكستم آياته

فنسختموها أجمعينا

تبدو ذكاء

14

ولا ترى

ألحاظنا الصبح المبينا

والنجم يومئ طرفه

فنخاله أرقا سجينا

والروض يذكرنا بكم

فنجن بالذكرى جنونا

والليل أسكن ما سرى

لا نستطيب له سكونا

والكأس تظمئنا إلي

كم وهي تروي الشاربينا

أتهجنون

15

لنا المحا

سن أم تزينون الهجينا

غيرتم الدنيا فقد

أغرت بحسنكم السنينا

تالله ما ظلمتكم الد

دنيا ولكن تظلمونا

والعدل يقبح وقعه

فيكم وإن لم تنصفونا

فسلوا الوذائل

16

في غد

أين المحاسن واخبرونا

أين الوجوه الناضرا

ت؟ وأين أين العاشقونا؟

ذهب الشباب فلا وعو

د ولا صدود ولا حنينا

فإذا نسينا عهدكم

بعد التصوح

17

فاذكرونا

وإذا نشدتم باكيا

يأسى عليكم فانشدونا

نبكي على الطلل الذي

قد زال عنه الآهلونا

نبكي على الدوح الذي

هجر الجمال له غصونا

لسنا عليكم باخل

ين بعبرة يا باخلينا

المعري وابنه

قال المعري:

وإذا أردتم بالبنين كرامة

فالحزم أجمع تركهم في الأظهر

فهو والد رءوف صد أبناءه عن الحياة رحمة بهم، فيا لها من رحمة لا يعرفها له أبناؤه! ومتى كان الأبناء يعرفون البر للآباء؟ والقصيدة الآتية محاورة بين المعري وابن له في الغيب يتوسل إليه أن يريه الحياة وهو يذوده عنها وينصح له بالبقاء في عالم العدم:

يا أبي! طال في الظلام قعودي

فمتى أنت مخرجي للوجود؟

طال شوقي إليك فاحلل قيودي

يا أبي عالم الظلام مخيف

ليس يقوى عليه طفل ضعيف

فأجزني من ظله المسدود

حدثونا عن الحياة العجاب

فلهجنا بحسنها الخلاب

وظمئنا لحوضها المورود

حدثونا عن الدجى كيف يسطو

وعن الصبح بعده كيف يعطو

وعن النحس فيهما والسعود

حدثونا عن دارها وبنيها

وجهاد يمنى

18

به القوم فيها

وعن الموت بعدها والخلود

أرني الجهر يا أبي والخفاء

أي شيء ذاك المسمى شقاء؟

أي سر يراد بالمولود؟

ما الوجوه الحسان؟ ما النوار؟

ما الدراري؟ ما الفلا؟ ما البحار؟

إن دأب الوليد حب الجديد

لي جدود وليس لي أبوان

ولئن شئت آن فيكم أواني

وتمليت قسمتي في الوجود •••

ولدي! إنني أبوك الرحيم

أنا بالعيش يا بني عليم

لا تصدق مقالة من بعيد

ما حياة تشقى وتسعد فيها

تتعنى لكن بما يعنيها

في عظيم تبلى به أو زهيد

يحسب الحي جهده لهواه

جهل الحي، جهده لسواه

إنما المرء آلة للجدود

19

إن غنم الحياة من لم يجده

لم يمتع به، ولم يفتقده

فاغتنم ربح شرها المفقود

شرها يا بني شر ثقيل

خيرها يا بني خير قليل

أهلها يا بني أهل حقود

زعموها إلى الخلود تؤدي

ما رأينا سوى فناء ولحد

فيه مود على تجاليد مودي

قف بباب الحياة لا تدخلنها

واعتصم يا بني ما اسطعت منها

سوف ألقاك - فانتظر - بالوصيد •••

هكذا أقنع المعري الوليدا

فتنحى عن الحياة بعيدا

والتقى الشيخ وابنه في اللحود

داوني

دواني يا طبيب واعرف دوائي

لست أبغي الشفاء كل الشفاء

داوني واقتصد، ففي البرء لو كا

ن سقامي، وفي السقام دوائي

إن دائي كالسهم أنشب في القل

ب وكالسم قر في الأحشاء

لبثه موجع وأوجع منه

نزعه، والهلاك في الإبطاء

داوني أيها الطبيب، أما دا

ويت مثلي من مثل هذا البلاء؟

واشف قلبي، فلست أول شاك

فوق هذا الثرى وتحت السماء •••

مسقمي، أنت علتي وطبيبي

ضلة من سواك أبغي نجائي

20

إن في هذا الكنانة تريا

قا لما في سهامها من تواء

21

واللحاظ التي أصابت فؤادي

عندها طب هذه البرحاء

بين إيماضتين: صد وعطف

هذه كربتي وهذي رجائي

ما عليها والعطف مثل التجافي

لو تحل الرضى محل الجفاء

قد تساوى في لحظك الغض والمي

ل وليسا في مهجتي بسواء

ما سواء لعمرك الأمن والخو

ف وليس النعيم مثل الشقاء

شد ما قربتهما عينك الوس

نى وما قط آذنا بلقاء •••

مرسل السهم حلية في فؤادي

يا لعجبي بحليتي وشقائي

هل مجيري من المنية إن الس

سهم يزري بالعسجد الوضاء؟

يا حياة القلوب! ما راعني المو

ت، فما دون سهمه من وقاء

إنما الغبن أن نعيش بقلب

ميت بين زمرة الأحياء

ذلك الموت أتقيه وأرجو

منه للنفس موئلا للنجاء

22

وأناديك كلما روعتني

جفلات من ظلمه في القضاء

داوني! داوني! فقد كان عيسى

يبعث الداثرين بالأسماء

23

وكلا الحب والعبادة وحي

فوق ذرع الحجى، وفوق الذكاء

لو بغير الوحي الإلهي يزهى

كنت فينا كأضعف الضعفاء

داوني واقتصد، فإني لأهوى

كل داء لديك منه دوائي

سكران

هذا بشير الزمان

فانشر دفين الأماني

على دعاء المثاني

24

وضجة الندمان •••

وناد بالخمر جوبي

في كل عرق طروب

وخالطي في القلوب

مواضع الأحزان •••

قل للوئيدة غدرا

هم قد أجنوك دهرا

فجددي اليوم عمرا

قضيته في القناني •••

ردي حياتك فينا

فإن حييت حيينا

نعم وعشنا سنينا

في ساعة من زمان •••

واشفي فؤاد الكليم

من كل جرح قديم

فأنت أم النعيم

يا بنت كرم الجنان •••

وأبعدي الأرض عنا

وقربي الخلد منا

قد كنت فيه وكنا

فنحن نبتا مكان •••

صلي بهذا العفاء

يا كأس ملك السماء

صلي الردى بالبقاء

والله بالإنسان •••

وعلمينا مليا

كيف الملائك تحيا

وحطمي سور دنيا

كثيفة الجدران •••

إن الجهاد حجاب

وأنت للجسم باب

منه يطل التراب

على الوجود الفاني •••

وا غبطة الهالكينا

لو أشبهوا الخالدينا

ألا يروغون حينا

من لعنة الحرمان؟ •••

هات اسقني يا نديم

إن الرجاء عقيم

داء الحياة قديم

معي على الإمكان •••

أسعد فؤادا شجاه

أحبابه وعداه

فأين يلقى مناه

في غير بنت الدنان •••

لا تعذلونا عليها

فما لجأنا إليها

إلا لنلقى لديها

ما ضل بين الحسان •••

ولو شفانا الغرام

لما سبتنا المدام

وهل تلذك جام

بعد الثغور اللدان؟ •••

ولو جلون الوجودا

كما نحب سعودا

لما ابتغينا شرودا

عن ظله الفينان •••

وأين أين الفرار

وهل سوى الأرض دار

فيها يقر القرار

لمطلق أو لعان •••

اشرب نديمي سلافا

اشرب وأنت معافى

مما ألم فحافا

على أخيك المعاني •••

وإن هذيت فصبر

أو ضل رشدي فعذر

فإنما بك سكر

فرد وبي سكران

القدر (مترجمة عن بوب الشاعر الإنكليزي.)

إنما الغيب كتاب صانه

عن عيون الخلق رب العالمين

ليس يبدو عنه للناس سوى

صفحة الحاضر حينا بعد حين

غرام الصبا

أين الصبا وغرام ما علمت به

كأنه قبلة في ثغر مخمور

كنا نغني ولا ندري فحين درت

أسماعنا اللحن لم نظفر بطنبور

ونشرب الماء لم نعطش فمذ عطشت

قلوبنا جف ماء الود في الحور

وقار الشيخوخة

لا يذل الشيوخ في العيش إلا

كافر بالحياة والأقدار

معبد للحياة نكسه الده

ر فأعظم بالمعبد المنهار

الهجر الصادق

تجشم فيك القلب ما ليس يعذب

أما آن لي منك النجاء المحبب

فهجرا فهذا القيد قد طال عهده

أليس لقلبي غير حبك مذهب؟

هجرتك هجر المرء أسود سالخا

يمج حماما كيفما يتقلب

هوى الموت أحلى من هواك لأنه

هوى صادق الميعاد لا يتذبذب

وما كنت فتانا ولكن فتنتني

بما صنعت عيني من الحسن أعجب

فلا تغترر مني بما قد عهدته

لدن كنت أعفو إذ تسيء وتذنب

فما كل حين يغلب الحب ربه

ولا الصبر في كل المواطن يغلب

لتظمأ ليال كان دمعي شرابها

فحسب الليالي دمع من لم يجربوا

أنا اليوم في هجري على الكره صادق

وقد كنت في هجري على الكره أكذب

تمثال رمسيس

25

رمسيس أين جنودك البسلاء

ومواكب لك في البلاد وضاء

وبشائر بك كلما طال المدى

وتقدمت بإيابك الأنباء

والجيش حولك كالغمائم فوقهم

للملك والفتح المبين لواء

متهللين غداة أطفأ شوقهم

نيل أتوه وهم إليه ظماء

فني الجنود فهم حيالك عثير

26

ساف وأنت جلامد صماء

متخير الصحراء دار إقامة

إن الليوث ديارها الصحراء

وتكنفتك

27

من الخلود مسافة

لا يستبيح ذمارها الأحياء •••

لجلال وجهك يا ابن (سيتي) هيبة

تعنو لها الآماد، فهي هباء

لما وقفت لديك زالت أعصر

بيني وبينك وانطوت آناء

وتقشعت عني الدهور فها هنا

تلك الديار وها هنا القدماء

سيناء تطويها بجيشك غازيا

في حيث توجف

28

وحدها النكباء

حرمتها بالمعجزات وعزمة

فيها من القدر العزيز مضاء

والشام لم تلد المسيح وما رأت

موسى الكليم وقومه سيناء

أرض لو أن الريح تعقل ما عفا

أثر لجندك فوقها ووطاء •••

لك في الشآم جحافل جرارة

وعلى الفرات كتائب شعواء

وعلى متون

29

اليم طود سابح

يرسو بأمر الملك حيث تشاء

توليك «بابل» ما تروم «ونينوى»

ويمدك الأنصار والأعداء

فخر الملوك رجاء عفوك عنهم

ورضاك أكبر ما ابتغى الأمراء

والأمر أمرك ما قضيت فنافذ

فيهم وما لم تقض فهو هراء

والنيل يجري حيث سار عليه من

أجناد مصرك عصبة زهراء •••

وكأن طيبة والهياكل حولها

ملء الفضاء أواهل شماء

يشدو بذكرك شيخها ورضيعها

ويحبك السادات والوضعاء

في كل يوم يستطير جنانهم

نصر يزف ومنحة غراء

لسمعت «بتنامور» ينشد شعره

فتهز ساحة قصرك الأصداء

ورأيت قصرك في المدائن يحتمي

فيه الضعيف ويخبت العظماء

30

والقوم حولك خاشعون كأنهم

بحمى «أمون» لجمعهم إصغاء

تلقى الوفود العائذين وكلهم

بيضا وسودا، أعبد وإماء

ثم انتبهت كأنما هي في الكرى

رؤيا تلفق نسجها الظلماء

فبكيت مصر وهل يفيد إذا جرى

حكم القضاء على الديار بكاء •••

رمسيس أية صخرة بين الصفا

31

قد شرفتها هذه السيماء

رجحت بها التبر السبيك نفاسة

ما التبر والذكر المقيم سواء

حفظت سماتك بيننا وتطلعت

تبغي علاك فعازها الأجواء

وشكت مواقفة الزمان ولم يكن

يعروك أنت بموقف إعياء •••

رمسيس! هل ترضى مقامك بينهم

لو تستقل بنهضك الأعضاء؟

عيناك لو رأتا الضحى أعماهما

من أرض مصر وقومها أقذاء

شعب يعاف النابهون جواره

ولو انهم حجر عليه عفاء

هل يسمعون؟ فقد كفاهم واعظا

صخر أصم ودمية خرساء

إني لأعذلهم وبي من جهلهم

داء تهون بمثله الأدواء

فعليهم مني السلام إذا صحوا

يوما وطال بجفني الإغفاء

نفثة

ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا

عذب المدام ولا الأنداء ترويني

حيران حيران لا نجم السماء ولا

معالم الأرض في الغماء تهديني

يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا

نيني، ولا سمر السمار يلهيني

غصان غصان لا الأوجاع تبليني

ولا الكوارث والأشجان تبكيني

شعري دموعي وما بالشعر من عوض

عن الدموع نفاها جفن محزون

يا سوء ما أبقت الدنيا لمغتبط

على المدامع أجفان المساكين

هم أطلقوا الحزن فارتاحت جوانحهم

وما استرحت بحزن في مدفون

أسوان أسوان لا طب الأساة ولا

سحر الرقاة من اللأواء يشفيني

سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا

عجائب القدر المكنون تعنيني

أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني

على الزمان ولا خل فيأسوني

يديك فامح ضني يا موت في كبدي

فلست تمحوه إلا حين تمحوني

صوت نذير: إلى الشبان

شبان مصر أتسمعون لناصح

منكم فأنشد بينكم أشعاري

أنتم خلاصتها فليس لغيركم

يتوجه الخلصاء بإلإنذار

للمرء أعمار عداد عهوده

وهي الشبيبة أنفس الأعمار

وشبيبة الأقوام في شبانها

أبد الزمان جديدة التكرار

فإذا سعيتم فالبلاد فتية

وإذا ونيتم فهي في إدبار

في وسعكم نفع البلاد وضرها

فخذوا الأمان لها من الأضرار

من لي، وإن كذبت عيني، أن أرى

فيكم شمائل فتية الأمصار

لبسوا الشباب فعطروا أردانه

ولبستموه فرث كالأطمار

هموا بتذليل الصعاب وهمكم

باللهو بين الكأس والأوتار

وتناهبوا فرص الحياة وأنتم

نهب لفرصة لذة وخسار

وتحدثوا بالمكرمات وأنتم

بالمنديات حديثكم والعار

وسموا إلى طلب الفخار وأنتم

رصد لكل متيم بفخار

رفعوا على الأعناق مجد بلادهم

ووضعتموه على شفير هار

يا معشر الشبان أي فعالكم

سلمت معارضها من الإنكار

عمرت منازل للخراب وأقفرت

سبل المحامد أيما إقفار

سبحان من يرضي الذليل ولو درى

بمصابه، لأوى إلى الأجحار

يغلي الحياة وليس أبخس قيمة

من عيشة تغلو على الأخطار

من لم يبع بالحمد ذخر حياته

باع الخلود بأرخص الأسعار •••

إني لأنكر في الوظائف أمة

منكم بلا همم ولا أفكار

جهلوا الحياة فباع كل قسمه

في الباقيات بفضلة الدينار

بيد الرءوس صعودهم وهبوطهم

فكأنهم سلع من التجار

لا يرتجى منهم لنصرة نفسه

أحد، فكيف به لنصر الجار؟ •••

إني لأنكر في المحافل مجلسا

عقد اللواء به على المهذار

يطغى به صوت المجون سفاهة

ويضل صوت الجد في التيار

متضاحكين على الشجا وذحولكم

في الصدر كامنة كمون النار

ما كان بعضكم لبعض مبغضا

في مشكلات للأمور كبار

لكنه بغض الصغير ولم يزل

بغض الصغار مظنة الأقذار

وإذا التنافس لم يكن لعظيمة

رجح القميء

32

به على الجبار •••

إني لأنكر جمعكم في معهد

رحب الجوانب شامخ الأسوار

تتلقفون به الحروف كأنما

عند الحروف حقائق الأخبار

يا قارئا في طرسه وكتابه

ما العلم حظ القارئ الثرثار

العلم ما كشف الحقائق نوره

وأراك كيف يكون صنع الباري

والعلم ما نفض الكرى عن أهله

فأقام بعد الليل ضوء نهار

والعلم نار في القلوب كأنه

حر الهجيرة لا سنى الأقمار

والعلم، علم الكون، في صفحاته

لا في قراطيس ولا طومار

والعلم وصف الله فاعلم تستطع

تصريف ما في الكون من أسرار

فإذا درستم في الكتاب فحققوا

مصداقه في حكمة القهار •••

إني لأنكر جمعكم في بيئة

خفيت طرائقها على الأبصار

سدروا

33

فما لحياتهم من غاية

وتفرقوا فهم بغير قرار

سلهم عن الدنيا يقولوا انها

يوم فيوم دائب التكرار

من كل ساه ليس يذكر أمسه

إلا ليذكر أسوأ الأوزار

لم تبق أية غدوة من عمره

لمسائها، أثرا من الآثار

العجز أذهل نفسه عن نفسه

والحرص أذهله عن الأغيار

فاعجب له من ذاهل متذكر

شر الذهول وأقبح التذكار •••

يا من يقول لمصر من شبانها

لبيك حين تقول مصر بدار

تعطي الجزيل وما تجشم قومها

خوضا لمقتلة ولا لأسار

فوحق مصر ما بمصر حاجة

إلا إلى العزمات والإيثار

ووحق مصر ما بمصر حاجة

إلا إلى شيم ورأي وار

فتخلقوا فالخلق أوثق ما ابتنى

بان، وأجمل زينة وشعار

وتعلموا فالأرض دار لم يعش

فيها الجهول بسرها من دار

وثقوا بأنفسكم فليس لباخس

مقداره حظ من الأقدار

من لم يكذبه الزماع فما له

في الناس أو في الحادثات ممار

وإذا تطاولت الرقاب تعجرفا

فحذار من خفض الرقاب حذار

ثبت القديم لكم بغير منازع

فتداركوا العهدين بالآصار

ما غير الله السماء ولا الثرى

والنيل في أرض الكنانة جار

والمجد كان ولا يزال غنيمة

للعاملين أواخر الأدهار

Página desconocida