15

جلس كلود يتفكر في حقيقة أنه لم يسبق له قط أن عاد إلى المنزل بتلك المعنويات المرتفعة. حدث له شيئان مبهجان من وقت أن ذهب في هذا الطريق منذ ثلاثة أشهر.

بمجرد أن وصل إلى لينكن في سبتمبر، سجل في جامعة الولاية من أجل برنامج دراسي خاص في التاريخ الأوروبي. في العام السابق، سمع محاضرة ألقاها رئيس هذا القسم أمام إحدى الجمعيات الخيرية، وقرر وقتئذ أن يدرس تحت إشراف ذلك الرجل حتى لو لم يتمكن من تغيير الجامعة. البرنامج الدراسي الذي اختاره كلود كان من البرامج الدراسية التي يمكن للطالب أن يخصص لها الوقت الذي يختاره. وكان يعتمد على قراءة المصادر التاريخية، وكان الأستاذ معروفا بشرهه إلى دفاتر الملاحظات الممتلئة بالكتابة. وكان دفتر كلود واحدا من تلك الدفاتر. كان كلود يظل يدرس في مكتبة الجامعة أوقاتا طويلة، وغالبا ما كان يتناول عشاءه في المدينة ويعود للقراءة حتى وقت إغلاق المكتبة. للمرة الأولى كان يدرس موضوعا بدا حيويا بالنسبة إليه؛ إذ يتعلق بالأحداث والأفكار بدلا من المعاجم وكتب القواعد. كم تمنى أن يقابل إرنست في المحاضرات! كان يستطيع أن يرى إرنست وهو يستوعب كامل محتوى تلك المحاضرات، ويتفق معه أو يعارضه بطريقته المستقلة. كان عدد الطلاب كبيرا للغاية، وكان يتحدث الأستاذ من دون ملاحظات أمامه؛ كان يتحدث بسرعة كبيرة وكأنه يتحدث مع مكافئين له، ولا يتخلل العرض طريقة الإقناع المتزلفة التي كان معتادا عليها طلاب كلية تمبل. كانت محاضراته مكثفة وكأنها مذكرة قانونية، غير أن صوته كانت تتخلله حماسة واهنة، وعندما كان يقاطع عرضه من حين لآخر لإبداء تعليق شخصي بحت، كان يبدو أنه تعليق قيم ومهم.

عادة ما كان يخرج كلود من هذه المحاضرات بشعور أن العالم مليء بالمحفزات، وأنه محظوظ لأنه حي وبإمكانه العثور على تلك المحفزات. وبفضل القراءة في ذلك الخريف، بدا المستقبل بالفعل أكثر إشراقا في عينيه؛ إذ بدا أنه يبشره بشيء. من الصعوبات الأساسية التي كانت تواجهه دوما أنه لم يستطع أن يجعل نفسه يؤمن بأهمية كسب المال أو إنفاقه. كان يرى أنه إن كانت تلك هي الحياة، فإنها لا تستحق العناء.

الشيء الجيد الثاني الذي حدث له هو أنه تسنى له التعرف على بعض الأشخاص الذين أحبهم. حدث هذا التعارف من غير ترتيب، بعد مباراة كرة قدم أمريكية بين فريق كلية تمبل وفريق جامعة الولاية؛ كانت مجرد مباراة تجريبية للفريق الأخير. كان كلود يلعب في مركز الظهير المساعد في فريق كلية تمبل. وقرب نهاية نصف الشوط الأول من المباراة، أتم تدخله في الطرف الأيمن بسلام، وأوقف هجمة كادت أن تنهي اللعبة، وانفرد بالكرة مسافة تسعين ياردة، وأخذ يعدو حتى وصل إلى منطقة الجزاء. واستطاع أن يساعد فريقه على تقديم عرض جيد في المباراة. هنأه أعضاء فريق جامعة الولاية بحرارة، حتى إن مدربهم لمح له بأنه لو أراد يوما تغيير فريقه، فسيجد مكانا له ضمن فريق جامعة الولاية.

حظي كلود بلحظة فخر، ولكن حتى وقت حديثه مع المدرب بالينجر، اندفع طلاب كلية تمبل من المدرج وهم يصيحون، ورمت أنابيل تشابين - التي كانت تظهر بمظهر مضحك لما ارتدت بدلة رياضية من تصميمها، كانت مزينة بألوان كلية تمبل، وأخذت تنفخ في بوق لعبة - بنفسها في أحضان كلود. خلص نفسه ولكن ليس بلطف بالغ، ومشى بعيدا مكتئبا إلى غرفة تغيير الملابس؛ فما الفائدة إذا كنت دائما مع الأشخاص الخطأ؟

أخذه جانبا يوليوس إرليش - الذي لعب نصف شوط مع فريق جامعة الولاية - وتحدث إليه بود قائلا: «تعال إلى المنزل كي تتعشى معي هذا المساء يا ويلر وتقابل أمي. تعال معنا وارتد ملابسك في المبنى العسكري. لديك ملابس في حقيبتك، أليس كذلك؟»

رد كلود مترددا: «إنها ملابس لا تكاد تصلح للزيارة.» «أوه، هذا لا يهم! إننا جميعا فتية في المنزل. لن تمانع أمي إن أتيت بملابسك الرياضية.»

وافق كلود قبل أن يتوفر له الوقت كي يخيف نفسه بالتفكير في الصعوبات. كثيرا ما كان يجلس بجواره الفتى إرليش في محاضرة التاريخ، وكان قد تحدث بعضهما إلى بعض عدة مرات. حتى ذلك الحين، كان يشعر كلود أنه «لا يستطيع فهم إرليش»، ولكن لما كان يرتديان ملابسهما بعد الاستحمام بعد ظهر ذلك اليوم، أصبحا صديقين مقربين في غضون بضع دقائق. على الأرجح، لم يشعر كلود بالتقييد في تفكيره وحركاته مثلما هو معتاد. وذهل بشدة لما وجد نفسه على وفاق وعلاقة ودية مع إرليش، حتى إنه لم يشغل باله بقميصه الذي كان يرتديه لليوم الثاني على التوالي، وبياقته ذات الحافة المتهالكة؛ وهي من الأمور البائسة التي اعتاد أن يشغل باله بها.

لم يمشيا أكثر من مربعين سكنيين بعد المبنى العسكري حتى دخل يوليوس إلى منزل خشبي كبير غير مخطط جيدا يضم حديقة غير مسيجة ومدرجة. قاد كلود إلى الجناح ودخلا من باب زجاجي إلى غرفة كبيرة، كانت ثلاثة جدران منها عبارة عن نوافذ بأعلى المنجور. وجد الغرفة ممتلئة بالفتيان والشباب الذين كانوا جالسين على أرائك، أو جاثمين على أذرع مقاعد كبيرة منجدة، ويتحدثون جميعا في وقت واحد. وعلى واحدة من تلك المقاعد، كان يضطجع شاب يرتدي سترة تدخين، ويقرأ بهدوء كما لو كان بمفرده.

قال المضيف: «خمسة من هؤلاء إخوتي، والباقون أصدقاء.»

Página desconocida