Oasis de la Vida: Autobiografía: Parte Uno
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Géneros
فضحك وقال: «أنت تستشهد بالأدلة التي تؤكد صحة قضيتي! هذا شاعر الفردية، شاعر الملوك الذي ضلل جيلا كاملا أيام الكفاح من أجل الاستقلال! إنه «نصاب» فلقد كان يستمتع بكل لحظة يقضيها في إسبانيا، والناس يظنون أنه يعاني في المنفى .. إنه رمز للشعر الذي ينبغي أن نحاربه!»
ووجدت أن الأمر يقتضي التروي، فقلت له: وكذلك المتنبي وأبو العلاء المعري؟ فقال في ألم: خلاص .. لم يعد هناك أمل فيك! هذا كلام طه حسين ولويس عوض! ثم نهض. وقمت لأحييه قبل الرحيل، فهمس لي: «لقد بدأ لويس عوض بداية طيبة في إنجلترا، وديوانه «بلوتولاند» يشهد على ذلك، ولكن طه حسين ما يزال في أعماقه .. طه حسين الفرنسي لا طه حسين العربي.» وقلت له: «للحديث بقية»، فقال: «لا! بل ليست له بقية. لقد دافع لويس عوض عن «يا طالع الشجرة» .. دافع عن العبث .. وكان الواجب أن يهاجم توفيق الحكيم عندما انحرف .. ولكنها الجامعة التي ستظل تشد لويس عوض إليها رغم كل شيء! هل تعرف لماذا يحجم لويس عوض عن مهاجمة رشاد رشدي رغم كل ما فعله به؟ إنه الانتماء إلى أدب الفرد .. الإيمان بأدب شلي وغيره من شعراء الإنجليز .. ولا تنس أن لوكاتش - الناقد المجري العظيم - قد أثبت أن ذلك كله من تراث العصور المظلمة.» وانصرف أنور المعداوي. ولم أره بعدها حتى توفي، رحمه الله.
كان كتاب النقد التحليلي بمثابة إعلان للحرب على أصحاب النقد الأيديولوجي، ومن ثم وجدت نفسي بين عشية وضحاها «مصنفا» بين دعاة «الفن للفن»! ومن يومها وأنا أحس قوة الشعارات! العبارات التي توجه للجماهير فترددها دون أن تفهم معناها، وانصرف ذهني إلى الناس وما عساهم يقولون، هل يمكن أن يجد الفنان في الناس - الأشخاص العاديين - سندا له ضد هجوم النقاد؟ لقد أيد جمهور القراء وردزورث وكان نجاحه الجماهيري سنده في مواجهة «جيفورد» و«جيفري» وهما الناقدان اللذان هاجماه بكل ضراوة في بداية حياته الفنية وبعد نضجه، ولكن من ذا الذي يمكن أن يناقش قضية شائكة مثل الفن للفن والفن للمجتمع في إطارها الصحيح؟ لقد أصبحت الكلمات ذات رنين سحري، ومن العبث التصدي لما تعجب به العامة، بل من العبث إيضاح أي شيء للعامة. إن الشعب الذي يعاني من الأمية لم يتحول في يوم وليلة بعد قيام الثورة إلى شعب متعلم. ويكفي أن يقول له أحد الساسة كلاما، خصوصا لو كان في شكل شعار جذاب، حتى ينخدع ويصدق. بل إن الشعب نفسه يريد أن يؤمن بشيء ما، بقضية ما، تهب حياته معنى .. خصوصا في تلك الأيام التي أصبح دعاة الدين فيها من دعاة «أفيون الشعوب» (حسبما تقول الشيوعية) وأصبح الإيمان بالغيب سبة ودليلا على الغباء والتخلف. وقلت في نفسي: إن ذلك مما لا يمكن المهادنة فيه .. ولن أنبذ حبي للمتنبي باعتباره من أدب «العصور المظلمة» (وفقا لما يقول جورج لوكاتش) ولن أنبذ الملاحم والسير الشعبية لهذا السبب أو لغيره، ولن يتأثر إيماني بالدين بما يقوله دعاة «التنوير» (وهي الكلمة التي أصبحت موضة هذه الأيام) ودعاة القضايا الاجتماعية! وربما كان من المناسب أن أشير إلى القصيدة الوحيدة التي نشرت لي في مجلة الأدب، وهي التي كان يحررها الشيخ أمين الخولي، والذي حدث أن طالبا نابها في قسم اللغة الإنجليزية آنذاك هو ماهر شفيق فريد (الدكتور) أعجبته القصيدة وعنوانها «الصمت». [وقد نشرتها في ديوان «أصداء الصمت» (1997م)] فنشرها في المجلة رغم أنفي! كان ماهر ذات عبقرية مبكرة، وكان يعمل في المجلة محررا بعد أن اقتنع أمين الخولي (وهو من هو) بمقدرته وموهبته. وكنت ما أزال أحبه حبا جما، وأطلقت عليه ذات يوم صفة «راهب الفكر الصموت» في مقال بالأهرام. وسرعان ما أغفلت القصيدة وإن لم تبرح ذاكرتي، وكان أن أعدت نشرها.
وكان سمير سرحان يشاركني آرائي، وكان هدفنا الآن بعد أن كتب هو كتابه «النقد الموضوعي» في السلسلة نفسها، أن نكتب مسرحا قادرا على الصمود في وجه التيارات المتلاطمة من الآراء النقدية التي تهب مثل رياح الشتاء عاصفة مزمجرة، فبدأت كتابة «البر الغربي» وبدأ هو كتابة «الكدب».
5
كانت جلساتنا أنا وسمير سرحان على شاطئ النيل في كازينور جلسات عمل شاق. كنا نناقش في نزهاتنا على الأقدام جميع التفاصيل الخاصة بالمسرحية، ثم نجلس للتخطيط والكتابة، وكان منهجنا واحدا؛ وهو وضع الخطوط العريضة للمسرحية ككل ثم تقسيمها إلى مشاهد، ثم كتابة الحوار، ولكن الواقع هو أن النتيجة النهائية كانت كثيرا ما تختلف عما خططنا له في البداية! وقد تعلم كلانا من التجربة أن الشخصيات عندما تكتسب حياتها الخاصة، وتصبح كائنات مستقلة، وتكاد تصبح من لحم ودم، تملي أقوالها وأفعالها وأحيانا لا يستطيع المؤلف التحكم فيها! ولم يكن منهجي يختلف عن منهج سمير سرحان إلا في خلفيتي الريفية، فذهني عامر بالشخصيات الريفية التي تعيش في وجداني بأقوالها وأفعالها وملامحها، وكنت دائما أستعين بما أذكره عن رشيد في تصوير الشخصيات، فأجد أن بعض الأشخاص يبرزون بكل ما تتسم به معالمهم البشرية من ضعف وقوة، بينما كان سمير يحب التحديد والإيضاح الحاسم، فهو كما علمنا رشاد رشدي لازم للمتفرج في المسرح، فنحن لا نقدم الحياة كما هي، أو كما نتصورها، بل نقدم منها ما نريد للجمهور أن يتصوره ويحسه!
وكثيرا ما كان أصدقاؤنا يدهشون من حواراتنا وأسئلتنا. وأذكر مرة أننا كنا منهمكين في التخطيط والتشكيل حين هبط علينا نفر من أصدقائنا، من بينهم عبد المنعم حجاب وفاروق فريد وسيد الناصري ونعيم اليافي وماهر البطوطي! وجلس الجميع يتأملون صفحة النهر ويناقشون إمكانيات العمل في الجامعة وخارجها، حين سألني سمير فجأة: «لكن ما الذي يدفع كمال إلى مصارحة نجية؟» وقلت له بثقة: «مرت به لحظة يأس! لم يعد يرى أملا سوى في اليأس!» وقال ماهر البطوطي: قصدك على كمال زغلول (وهو أحد أصدقائنا من خريجي قسم اللغة الإنجليزية ويقيم الآن في اليابان)؟ وضحك الجميع. ثم قال عبد المنعم حجاب: نجية دي اللي بيرمز لها نعيم بحرف نون؟ وعادوا للضحك! وقام سمير وناداني للانفراد به في مكان آخر وقال لي: إحنا لازم ننتهي من مشكلة مصارحة كمال النهارده؛ قل لي إزاي يفاتحها وإيه رد فعلها؟ ويبدو أنني أجبت بصوت مرتفع اجتذب بعض أفراد الشلة فتعالت ضحكاتهم من جديد، ولم نقل لهم آنذاك إن هذه كانت شخصيات في مسرحية «الكدب» التي يكتبها سمير، وكان يعتبرني مسئولا عن أي خلل قد يراه النقاد، مثلما كنت أعتبره مسئولا عن أي خلل في مسرحية «البر الغربي»! وانصرف الأصدقاء بعد فترة، ثم عدنا أنا وسمير للكتابة.
كان عبد المنعم حجاب وفاروق فريد وسيد الناصري من خريجي قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، وكانوا جميعا منتدبين للتدريس في الكلية، وقد وعدهم الدكتور خفاجة بالتعيين فيها، حينما تتاح وظائف مدرسي اللغة، وكان قد مضت عدة سنوات دون توافر هذه الوظائف، فأصبحنا نطلق على أقدم المنتدبين وهو عبد المنعم حجاب لقب «رئيس قسم الانتداب»، وكان فاروق فريد قد مل الانتظار، فحصل على وظيفة بالمكتبة المركزية لجامعة القاهرة، أما سيد الناصري فكان حديث التخرج وكان مرشحا لبعثة دراسية في إنجلترا.
كان حجاب وفريد يقيمان في شقة بالعجوزة قريبة من منزلنا، وقد اشتهر عن الأول إحساسه بالعظمة في ملبسه وسلوكه، وطيبة قلبه ولين معشره، ومعاناته الدائمة من ضيق ذات اليد. وعلى كثرة ما يكسبه من نقود من الدروس الخصوصية، كان دائما بحاجة إلى المال، وكان يقترض من الجميع، وكنا لا نبخل عليه بأي شيء، ولكنه كان متلافا يؤمن بمبدأ «اصرف ما في الجيب»، وقد انتهى به الأمر إلى أن حصل على إجازة دراسية، وفي الطائرة، حسبما تقول الشائعات، تعرف على سيدة أمريكية أقرضته عشرة دولارات، ثم صادقها أو تزوجها، ولكن أخباره انقطعت عنا ردحا طويلا حتى علمنا بعد سنوات طويلة أنه اعتنق الكاثوليكية ودخل ديرا في حلب ليصبح من الآباء الكاثوليكيين في سوريا. وأما فاروق فريد فقد حصل على بعثة دراسية وحصل على الدكتوراه لكنه - رحمه الله - لم يكتب له أن يعيش حتى يعود إلى عمله بالكلية، وقد فوجئت هذا العام (1996م) بأن له ابنة تعمل معيدة لدينا في قسم اللغة الإنجليزية.
وأنا أذكر هؤلاء الزملاء ذكرا عابرا بسبب الارتباط الشديد الذي كنا نحس به وما نزال في قسم اللغة الإنجليزية مع قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، فكنت أهوى الترجمة عن اللاتينية وأخطئ، فيتولى هؤلاء تصحيح أخطائي، وكنت أحب كتابة عبارات قصيرة بتلك اللغة، أو تبادل عبارات حوارية مع أصدقائي منهم بها، وكانت إحدى هذه العبارات قد التصقت بعبد المنعم حجاب وهي (
Página desconocida