Oasis de la Vida: Autobiografía: Parte Uno
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Géneros
سرت الرعشة في غصن الحياة الذابلة،
ثم هبت من ربا الموت حياة حافلة،
ثم سارت عبر واحات القرون القافلة!
كنت عندما أقرأ مثل هذا الشعر يتنازعني الإعجاب والحسد، وكثيرا ما كنت أتساءل في نفسي كيف تتفاوت الموهبة من شخص لآخر؟ وكيف تستمر الموهبة وكيف تنمو؟ وظلت تلك جميعا أسئلة بلا إجابة، وإن كنت قد قرأت فيما بعد ما خفف من ظلمات جهلي بها.
2
والحق أن قضية «الإنشاء»، أو قضية اللفظ والمعنى، ظلت قائمة دون حل بحيث بدت كأنما تستعصي على الحل. وذات يوم كنا في الفناء في فترة الراحة الأولى (الفسحة الصغيرة) حين استمعت بالمصادفة إلى الأستاذ حسيب أستاذ اللغة العربية وهو يتكلم في هذا الموضوع الشائك، وكان ينصح أحدهم أن يفكر أولا ثم يكتب، أي أن يحدد ما يريد أن يقوله ثم يقوله، وتدخلت قائلا: ولكن التفكير يجري باللغة، ولا بد من اللغة لصياغة الأفكار، ومعنى صياغة الأفكار هو التفكير! فقال لي إن هذا منطق مغلوط، فالفكر سابق على اللغة، وهو الذي سيأتي بالألفاظ، فكر جيدا تكتب جيدا! وعدت أقول ولكنك لن تستطيع التفكير جيدا إلا إذا توافرت لك أدوات التفكير الجيد ... فقاطعني قائلا: كلنا لديه ألفاظ! ولكن المهم أن ندرب أنفسنا على أن تكون للألفاظ دلالات محددة واضحة، وعندها سنعرف كيف نفكر ونعرف كيف نكتب!
وكانت هذه نظرة جديدة لم آلفها بل لم أسمع بها من قبل! وعلى الفور بدأت أنشد أمثلة تؤكد أو تنفي ما قاله الأستاذ حسيب، ووجدتني أثناء حصة التاريخ أشرد في مسألة الفكر واللغة، ولا أكاد أتصور فكرا دون لغة إلا أن يكون صورا متتابعة في الذهن أو مشاعر مبهمة لا يمكن تحديدها إلا إذا وضعت في قالب لغوي. كيف يستطيع الفكر أن يسبق اللغة إذن؟ إننا حتى إذا افترضنا أن هذه الصور أو المشاعر التي لا تكتسي ثوبا لفظيا هي المادة الخام للفكر، فكيف يمكن للذهن أن يجعل منها أفكارا بغير اللغة؟ وفي المساء كنا نتنزه أنا وأحمد السودة فذكرت له ما قاله الأستاذ حسيب فأيده بشدة وقال إن الأفكار، بغض النظر عن صورتها اللفظية هي المهمة، وهذا الذي يجعلنا نقرأ العقاد وسلامة موسى ولا نجد شيئا نخرج به من كلام المنفلوطي والرافعي! وانتهى بنا الأمر في شارع عبد الرحيم صبري إلى منزل نبيل رضا أبو العلا وأخيه محمد، اللذين كانا معنا في الفصل. وعندما عرضنا المسألة على نبيل قال لي: «لغة إيه؟ بابا لا يفكر إلا باللون والشكل!» وكان والده رساما عظيما، وانضم إليه محمد قائلا: وكذلك نحن! كل شخص في حدود لغة الحرفة!
كان جوهر الخلاف غير قابل للحل على ضوء التجارب الشخصية، ولم نكن قد أوتينا من العلم والخبرة ما يمكننا من القطع برأي مقبول فيه، ومن ثم عدنا إلى الفكرة الأساسية التي كنا تجاهلناها في حوارنا وهي الوضوح وتحديد معاني الألفاظ. إذ كنت في تلك السن المبكرة مولعا بما يمكن أن يوحي به اللفظ من معان قد يصعب تحديدها، وكان جرس اللفظ نفسه ذا جمال وقدرة على الإيحاء، وكنت لا أتصور أن يختصر الكاتب كلامه ويحدد معانيه ويوضحها؛ لأن ذلك قد يفقدها «سحرها» وحلاوتها! لم نكن نعرف أننا نتكلم عن لونين مختلفين من الكتابة، بل عن تطور بالغ الأهمية في أسلوب الكتابة الأدبية نفسها، سواء كان ذلك بالعربية أو بلغة أخرى. ولكن هذه المناقشات ظلت حية وماثلة في ذهني حتى ذهبت إلى البعثة الدراسية إلى إنجلترا وبدأت أقرأ الفلاسفة المحدثين، وأحاول فهم ما يقولون.
كان عام 1954م يطوي صفحته، حين قرر نبيل رضا أن يحتفل بليلة رأس السنة في منزل محمود دويدار، فاجتمع الأصدقاء، وقرروا المساهمة بقرشين ونصف قرش لكل منهم، وتبرع محمود بالطعام والموسيقى، وكان الجميع يضمرون أملا في رؤية أختيه الجميلتين، وكان من أفراد الشلة عادل مجدي الذي كان يتمتع بموهبة كبيرة في فن التمثيل، وأخوه التوءم نبيل الذي كان قد التحق بكلية التجارة، وكانا يسكنان في شارع سليمان جوهر بالدقي، ورأت أخو نبيل رضا الأصغر الذي كان في مدرسة إيطالية، وغيرهم. واشترى نبيل (باعتباره الخبير) زجاجة أو زجاجتين من البيرة المصرية، وكان سعر الزجاجة أحد عشر قرشا، وتناولنا الطعام، وأقنعني نبيل بتذوق البيرة فوجدتها مرة فقال «حاول تاني .. إنها طعم الزيتون المخلل!» الغريب أن هذه المقادير الضئيلة من البيرة أوجدت أو أوحت بحالة من السعادة الغامرة، وعندما حل منتصف الليل، ووصل عام 1955م، أطفأ محمود الأنوار ثم أضاءها، ثم انصرفنا، وقد نسينا الأمل في رؤية الفتاتين الشقراوين البيضاوين ذواتي الشعر المنسدل الأصفر!
وسمعت الصوت الداخلي يهمس في ذهني وأنا عائد بأبيات من الشعر لم أنم حتى كتبتها، وما زلت أذكر مطلعها:
Página desconocida