Oasis de la Vida: Autobiografía: Parte Uno
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Géneros
وعندما خرجت من غرفة الأساتذة، وعقلي يموج بهذه الأفكار، استوقفتني أنغام صادرة من غرفة مجاورة، اتضح أنها غرفة الموسيقى، فدخلتها مستفسرا فلم يعبأ بي أحد، وتأملت الطلبة والآلات في أيديهم، والمدرس وهو يجلس إلى البيانو، ثم خرجت وظللت واقفا أنصت. كان رنين الأوتار ذا قوة قاهرة ساحرة.
ونظرت إلى عود مهجور؛ إذ كان الجميع يعزفون آلات غربية، مثل الأكورديون (نصحي بقطر، والحاجري وخاطر)، والماندولين (عبد المتعال)، والبيانو طبعا (طلعت بقطر) - ولكن العود مهجور! واقتربت من الأستاذ علي حنفي مدرس الموسيقى وسألته عن العود فقال ببساطة: «خذ .. اتمرن عليه!» ولكن كيف؟ قال لي «أهم حاجة ضبط الريشة!» وبين لي مواضع السلم على الأوتار وأماكن «العفق» أي وضع الأصابع (أصابع اليد اليسرى طبعا) وقال لي: تفضل! وفي شبه ذهول جعلت أضرب على العود سلالم صاعدة هابطة حتى مللت، فعدت إليه فقال: «لن أعلمك شيئا حتى تحكم ضبط الريشة !» وكانت «الريشة» قطعة رقيقة من البلاستيك (الباغة)، وبعد أن «شبعت» من السلالم، وأضجرتني صعودا ونزولا قررت مفاتحة الأستاذ في الموضوع، فأعطاني نوتة مبسطة وتركني. وعكفت عليها حتى أتقنتها وقلت له أريد المزيد! فاعترض وقال إن علي أن أقنع بتدريب واحد مرة كل يوم فقط، وألا أتخطاه إلى غيره إلا بعد أن أكون قد أحكمته إحكاما!
وعندما اصطحبت العود الساذج إلى المنزل ذات يوم لأستكمل المران هاج والدي وماج، واتهمني «بالمجون» وهي صفة أبعد ما تكون عني، ثم إنه هو الذي أورثني حب الموسيقى! ولم أجرؤ أن آتي بالعود ثانيا إلى المنزل، ومعنى ذلك أنه كان علي قضاء وقت أطول في المدرسة للتمرين، وكنت مقبلا على العود إقبال من يرى فيه روحا جديدة، ولكنني لم أكن أتحدث في موضوع الموسيقى كثيرا بسبب الضغوط التي كنت أحسها من جميع من حولي. وكم حز في نفسي ألا أستطيع شراء عود خاص بي؛ فالعود الفاخر يتكلف خمسة جنيهات، ولا يوجد عود يقل ثمنه عن جنيهين، وكان ذلك قطعا فوق طاقتي.
وكان يجلس إلى جواري في الفصل طالب من إيران اسمه مهيار صادق نشأت، وكان حاد الذكاء، وقد انتقل إلى جواري ليحل محل يحيى يوسف، بعد أن لاحظ أنني يمكن أن أرشده إلى بعض دقائق الفصحى التي كانت تدق عليه، واغتنمت الفرصة لأعرف شيئا عن اللغة الفارسية، ولم يكن ضنينا بعلمه، والحق إنه كان يجيد العربية إجادة تامة ويتحدث العامية القاهرية كأحد أبنائها، وتوثقت صداقتنا فكان يصطحبني إلى دار الإذاعة حيث يقدم نشرة الأخبار الموجهة إلى إيران، وبرنامجا آخر، ثم ساعد أخاه شهيار في وقت لاحق في الحصول على عمل بالإذاعة أيضا. واستمرت معرفتي به حتى تخرج في كلية الحقوق ثم التحق بعمل في الأمم المتحدة في جنيف.
وكان من أعلام «خامسة أدبي» آنذاك محمود دويدار (رحمه الله) الذي كان يعتز بأصوله التركية، ويؤكد أن اسمه تركي، وهو في الحقيقة (كما علمت أخيرا) مركب من كلمة عربية هي الدواة وكلمة فارسية هي دار، أي دوادار بمعنى صاحب الدواة، أو الكاتب (بمعنى الوزير الحالي). وكانت له أختان هما زينب (واسم التدليل «زته»)، وأحلام التي سمعت أنها توفيت منذ أعوام (ومصدر معلوماتي هو شوكت دويدار الذي كان معنا في المدرسة، وهو ابن عم محمود، وكان زميلا لأخي الصغير). وكانت الأسرة تقيم في فيلا من بقايا عصر العز القديم في شارع عبد الرحيم صبري في العجوزة، وهي المكان الذي احتفلنا فيه في العام التالي بحفل رأس السنة. وكان يجلس إلى جانب دويدار طالب مهذب اسمه كمال عبد الرحمن، كان يقيم في شارع ظليل متفرع من شارع الدكتور شاهين، وكنت كثيرا ما أذهب إليه للاستذكار؛ فقد كان على مبعدة خطوات من شارعنا، وفي منزله سمعت أغنية عبد الوهاب «أنا والعذاب وهواك» لأول مرة، وعندما حاولت عزفها على البيانو لديه فوجئت بأن اللحن بالغ السهولة وبأنه لا يتضمن أية أرباع أنغام (أو ثلاثة أرباع على نحو ما يؤكد الدكتور زين نصار) مما يميز الموسيقى الشرقية، ويحفل به العود، فدهشت دهشة بالغة.
كانت دروس القسم الأدبي ممتعة إلى أقصى حد، وكان أهم شيء في المدرسة هو «النشاط المدرسي» فكان لدينا أستاذ للتمثيل، هو الفنان عبد المنعم مدبولي، وكان هو الذي نصحني بعد أن قرأ المسرحيتين اللتين كتبتهما بألا أحترف التمثيل، وقال لي إن موهبتك موهبة مؤلف لا ممثل، وإن علي أن ألتحق بقسم اللغة الإنجليزية فأقرأ «شكسبير والكلام ده» ثم اكتب بعد التخرج. وسرعان ما لاحت فرصة لإثبات قدرتي على الكتابة على مستوى المدرسة؛ إذ قرر السيد العجان، مدرس أول اللغة العربية، بالاتفاق مع الناظر خليل أبو طور، عقد مسابقة عامة في الشعر والقصة والخطابة. وقررت الدخول في المسابقة بفروعها الثلاثة، ولكنني اكتشفت أن بعض مجالات المنافسة لها المبرزون فيها في المدرسة من قبل، ومنها الخطابة (إذ كان طالب يدعى بازرعة مشهودا له بالامتياز) ومن ثم اقتصرت على الشعر والقصة، وكان المشرفون قد حددوا موضوعات معينة لكل فرع، وكان موضوع الشعر هو السيل الذي اجتاح قنا في صعيد مصر، وكان موضوع القصة هو «من التاريخ». وقررت أن أكتب قصيدة تصور مأساة أم تحمل أطفالها بعد أن شردها السيل، وكان مطلع القصيدة:
ترسل دمع من المقلتين
وسار حثيثا على الوجنتين
وسارت تبعثر خطواتها
ألا كيف تمضي الحيارى وأين
Página desconocida