فقر رأيهم على أن يتريثوا في تعيين الخليفة حتى يتم خلع يزيد!
واستحوز عليهم عداء جنوني - لا يحدوه رشد - فلم يتبصروا عواقب هذا الاندفاع وكيف تقف مدينة واحدة أمام جيوش الإمبراطورية الإسلامية العظيمة كلها.
ولقد حاول عبثا أحد المدنيين - وكان قد عاش في بلاط الخليفة ثم أوفده سيده إلى المدينة - أن يبين حقيقة الخطر لمواطنيه، ولكن الغضب أعماهم؛ فأصبحوا لا يعيرون الناصحين التفاتا، ولا يصيحون إلى أية موعظة تقدم إليهم بحسن نية. •••
وحينئذ رأى الخليفة أنه مضطر إلى الالتجاء إلى القوة، فأرسل إليهم جيشا عهد بقيادته إلى «مسلم»، وكان «مسلم» أقرب إلى الوثنية منه إلى الإسلام، فأمره أن يترك لأهل المدينة ثلاثة أيام يفكرون فيها، فإذا أبوا أن يخضعوا - بعد ذلك - هاجمهم ودمر مدينتهم تدميرا في ثلاثة أيام أخرى، ثم أخذ على من فيها المواثيق بأنهم عبيد يزيد، وأمرهم أن يقسموا على ذلك، فإذا رفض أحدهم أن يفعل قطعت رقبته.
ولم يكد يبلغ أهل المدينة رسالته حتى هبوا ثائرين أنفة من الخضوع، وأعدوا عدتهم للقاء العدو، وجاهد الفريقان بشدة وصبر نادرين - وكانت موقعة الحرة سنة 683م - وظهرت الخسائر من الفريقين متكافئة، وكان أهل المدينة متحمسين يذكي فيهم الحرارة والقوة تعصبهم الشديد، واعتقادهم الثابت أنهم المختارون، وأن أعداءهم - من جيش سوريا - هم عند الله كالوثنيين سواء، وكانوا على يقين من أن خصومهم إذا ماتوا صبت عليهم اللعنات وباؤوا بغضب من الله؛ أما هم فإنهم سالكون - بلا شك - مسالك الشهداء والأبرار.
وبقي مصير الحرب معلقا في كف الأقدار زمنا طويلا؛ حتى كشفت الخيانة عنه، فقد ارتشت أسرة من المدنيين؛ ففتحت أحد أبواب المدينة لفرقة من جيش العدو، فدخل السوريون وسمع أهل المدينة من خلفهم - فجأة - صيحات النصر من أفواه السوريين، فضاع كل أمل لديهم في الفوز والغلبة، وأصبحت المدينة في قبضة العدو، وصار كل هجوم عبثا ومستحيلا، على أن جمهرتهم لم تفكر في الخطر المحدق بها، فهجم أهل المدينة على أعدائهم فرادا، وباعوا حياتهم بأغلى ثمن استطاعوا أن يبيعوها به!
وكان من بين القتلى سبعمائة من حفظة القرآن، وأربعة وعشرون من الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة الذين حاربوا مع النبي قد حارب - بعد أن نصروه في حرب بدر على المكيين - حتى شهدوا هذا اليوم المشئوم.
ودخل «المدينة» فرسان سوريا، فلما لم يجدوا مكانا يربطون فيه خيلهم ربطوها في مسجد المدينة، بين جدث النبي وكرسيه؛ أي في نفس المكان الذي طالما سماه النبي نفسه جنة «من جنان الفردوس». •••
ثم نبهوا المدينة في ثلاثة أيام، وسبوا كل من فيها من نساء وأطفال؛ ولم ينج أحد ممن بقي من أهلها - وقد فر أكثرهم - إلا بعد أن أقسم أن يكون عبدا من عبيد يزيد. وهكذا أقسموا جميعا على أن يكون الخليفة «يزيد» سيدهم ومولاهم، وأن يكون في حل من التصرف فيهم بما شاء، من عتق أو بيع، كما أقسموا أن يكون له الحق في كل ما تملك أيمانهم من نساء وأولاد وأرواح.
ولما رأى أبناء مؤسسي الإسلام أنهم مضطهدون معذبون، وأن بني أمية قد أرهقوهم إرهاقا، لم يجدوا أمامهم وسيلة إلا المهاجرة؛ فهاجر الكثيرون منهم إلى حيث انضموا إلى جيش أفريقيا، ثم انضم أغلبهم - فيما بعد - إلى جيش العرب في إسبانيا.
Página desconocida