قال عبد الله: وقد ظننت إذن وظن زوجك أن قريشا عنكما غافلة، هيهات! إن عتبة والوليد بن عتبة ليعلمان من أمر أبي حذيفة مثل ما يعلم سهيل وعبد الله من أمر سهلة، وإن قريشا لتعلم من أمركما مثل ما يعلم أبواكما، ولكن قريشا لا تحبسكما؛ لأن لها في أبويكما وأخويكما أربا، ولكننا نحن لا نحبسكما أيضا؛ لأنا نؤثركما بالحب في أعماق نفوسنا ودخائل قلوبنا، ونكره لكما حياة التستر والاستخفاء هذه التي تحتملانها في مشقة أي مشقة، وعناء أي عناء، ولا نضيق بأن تجدا في هجرتكما هذه أمنا بعد خوف وفرجا بعد حرج، ولولا أن تقول قريش: ضعف سهيل فلم يطق على فراق ابنته صبرا لما زرتك الآن وحدي ولزارك أبوك فنظر إليك قبل فراق ليس يدري ولست تدرين أيطول أم يقصر، ولكنه يرى كما أنك ترين أوله، ولا يعرف كما أنك لا تعرفين آخره، وليس يعنيني ما تقول قريش في، وعسى أن أجد في مقت قريش لي رضا، وفي استخفافها بي حبورا. أسمعت الآن عني؟
قالت سهلة: ألم تر أنك منذ دخلت علي إنما تتحدث وحدك وأنا أسمع ولا أرد عليك؟!
قال عبد الله: بلى! وهذا بعض ما أثار في نفسي ما ترين من العجب، ولكني لم أفهم هذا الذعر الذي اشتمل عليك حين أردت أن أضمك وأن أقبلك مودعا.
قالت سهلة ولم تستطع أن تمنع ابتسامة حلوة ارتسمت على ثغرها وضحكة عذبة جرت في صوتها: فإنك مشرك، وما أحب مس المشركين.
قال عبد الله وقد ظهر في وجهه الحزم: أوقد بلغ بكم حب محمد والاستجابة لدينه أن تصدوا عن إخوانكم؟!
قالت سهلة، وقد زالت ابتسامتها عن ثغرها وجرى في صوتها حزم صارم لم يثبت له قلب الفتى وإنما اتصل له خفقانه: لو قد أحببت محمدا واستجبت لدينه لعرفت أن الصد عن الإخوان والآباء في سبيله ليس شيئا، تعلم
212
يا أخي أنا نحب الله ورسوله أكثر مما نحب آباءنا وأمهاتنا وإخواننا، وأكثر مما نحب الدنيا كلها وما فيها من كل شيء، وأكثر مما نحب أنفسنا، ولقد حدثتني آنفا بأن قريشا راضية عن هجرتنا، فتعلم أنا نحن عنها غير راضين، ولولا أن أذن لنا فيها محمد ودعانا إليها لآثرنا الفتنة والعذاب والموت قريبا منه على الدعة والسعة والراحة والروح والأمن والرضا بعيدا عنه في أي قطر من أقطار الأرض.
قال عبد الله، وقد أطرق مفكرا: هو ذاك إذن! محمد أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم ومن الدنيا كلها ومما فيها من كل شيء! ومحمد أحب إليكم من أنفسكم!
قالت سهلة: ولو قد أحببت محمدا كما نحبه لعرف قلبك الحب الذي يعطي ولا يريد أن يأخذ، والذي لا يبتغي لنفسه ثمنا من لذة الجسم أو نعيم النفس.
Página desconocida