يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ؟!
وتفرق أولئك الفتية وقد ثاب بعضهم إلى الحق والهدى، وأسر بعضهم الآخر في نفسه أن السلطان عربي لا ينبغي لأحد - ولو كان عمر - أن يصرفه عن العرب وعن قريش خاصة إلى الفرس أو الروم. وكان تفكير هؤلاء الفتية وقوم كثير أمثالهم مصدر شر عظيم للمسلمين.
24
أقام عبد الله بن مسعود بحمص بعد أن فتحت على المسلمين ما شاء الله أن يقيم، مرابطا في سبيل الله، ولكن المهاجرين والأنصار ممن أقام في المدينة ينظرون ذات يوم فإذا هو بين أظهرهم في المسجد، فيستبقون إليه مسلمين عليه، ويسألونه عن مقدمه، فيقول: ما أدري، وإنما دعاني أمير المؤمنين فقدمت. ثم يلقى عمر عبد الله بن مسعود فيخلو إليه، ويخلو من بعده إلى عمار بن ياسر، ويخلو من بعدهما إلى عثمان بن حنيف ثم يعلن إلى المسلمين في أعقاب صلاة من الصلوات أنه قد جعل صلاة الكوفة وحربها إلى عمار بن ياسر، وأنه قد جعل بيت مال الكوفة وتعليم أهلها إلى عبد الله بن مسعود، وأنه قد جعل سواد الكوفة إلى عثمان بن حنيف. فأما أصحاب السابقة من المهاجرين والأنصار فيسمعون ويعرفون في سرائر نفوسهم وفي ظاهر سيرتهم، وأما الذين أسلموا بأخرة من أشراف قريش فيسمعون ويطيعون وينصرفون وفي نفوسهم شيء.
يقول أحدهم لصاحبه: «غفر الله لعمر! ماذا صنع بقريش؟! ألا ترى إليه يجعل إمرة الكوفة لابن سمية، ويجعل بيت مالها وتعليم أهلها لابن أم عبد! وأين هو عن أشراف قريش وعن السابقين الأولين من المهاجرين؟!» فيقول له صاحبه: «أمسك عليك نفسك، لا يبلغ عمر من حديث هذا شيء فيظن بك النفاق ويؤدبك أدبا لا تحبه، إنك لحديث عهد بالإسلام، وما أراك قرأت من القرآن إلا قليلا، ألم تسمع قول الله عز وجل:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ؟! فإن عمر لم يزد على أن أنجز بعض وعد الله - عز وجل - لبعض هؤلاء المستضعفين في الأرض.» قال صاحبه وقد أظهر الرضا: هو ذاك.
وانتهى عمار بن ياسر وابن مسعود وعثمان بن حنيف إلى الكوفة، واجتمع أهلها في المسجد، فقرئ عليهم كتاب عمر، فإذا فيه: «أما بعد، فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا، وابن مسعود معلما ووزيرا، وقد جعلت ابن مسعود على بيت مالكم، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بابن أم عبد على نفسي، وبعثت عثمان بن حنيف على السواد، ورزقتهم كل يوم شاة، فاجعلوا شطرها وبطنها لعمار، والشطر الباقي بين هذين الرجلين.» وقد سمع أهل الكوفة ورضوا وأطاعوا فأحسنوا الطاعة، وأحسن أمراؤهم السياسة.
ونظر عمار بن ياسر فإذا هو أمير لمصر عظيم من أمصار المسلمين وجيش عظيم من جيوشهم، وأكبر الظن أنه استحضر في نفسه ما لقي من الجهد والمحنة قبل أن يهاجر إلى المدينة، وما لقي من الشدة والبأساء مع النبي بعد أن هاجر إلى المدينة، فلم يقع هذا كله من نفسه موقعا غريبا، وإنما آمن بأن وعد الله حق، ولم يدفعه هذا كله إلى تكبر أو تجبر أو استعلاء؛ لأنه استيقن كما استيقن نظراؤه من أصحاب النبي أن هذه الحياة الدنيا غرور، وأنها فتنة يمتحن بها أولو الحزم والعزم في أنفسهم، فمن خلص منها كريما نقيا سليم القلب فهو من الناجين، ومن رتع فيها حتى أرضى غرائزه وشهواته فهو من الذين حبطت أعمالهم وظل سعيهم
265
وعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا.
Página desconocida