وهو بذلك إنما بلغ مرحلة متقدمة نسبيا على مدارج حداثيته، أدت به إلى تقسيم قوى الطبيعة إلى قوتين تعملان في اتجاهين متعاكسين، قوة إيجاب فيها النفع والحياة والوجود والضياء، ممثلة في عطاء الطبيعة وخصب الأرض وفيض النهر وتكاثر الحيوان النافع، وكان هذا هو الخير بالنسبة له، والقوة الأخرى قوة سلب فيها الضرر والموت والعدم والظلام، ممثلة في إمساك الطبيعة عن العطاء. وجفاف الأرض والنبات والنهر، وما يصحب ذلك من سكون وخمود من حوله؛ لذلك نجده يتجه بالعبادة ووسائل التقرب لمظاهر الطبيعة المختلفة، للظواهر الخيرة ليزداد خيرها، وللظواهر التي يرهب جانبها ويخشى بأسها وبطشها ليتحاشى شرها ونقمتها، ويقلل من ضررها.
وقد جاءت نقلته التطورية الأخرى، بعد مشاهدات، لعل أهمها: أنه لاحظ اختفاء أكثر مظاهر الحياة أمام ناظريه بحلول الظلام، وأنه لا يستطيع أن يأمن على نفسه من الضواري ليلا، فاستشعر أن الظلام تصحبه الفوضى وانعدام الأمان، فربط بين الظلام وبين العدم والموت والفوضى، وخاصة بعد تأكده أن غياب الشمس والضياء يعني بدء دورة جديدة للحياة؛ فربط الظلام بالشر، والضياء بالخير؛ لذا يلاحظ أن أغلب عبادات الشعوب القديمة شمسية، تمثل بالشمس إلهها الأكبر.
ومن هنا على ما يبدو، افترض أن الحالة الأولى للكون، كانت تسيطر عليها قوى الشر (الظلام، العدم، الموت، الفوضى)، وبعدها ظهرت في الوجود قوى الخير (الضياء، الوجود، النظام).
ومع تناوب فصول السنة، وما يستتبعه ذلك من موت وجفاف، وعودة للنمو والخصب بالتناوب، فقد افترض العقل البشري، وهو يرتقي درجة أخرى على سلمه التطوري، أن هناك صراعا قائما بين قوتي الخير والشر، فقام يشمر السواعد مساعدا قوى الخير، بزيادة الجهد المثمر في الأرض والتقرب إليها بأبكار ثماره وماشيته، مع طقوس وعبادات خاشعة، بينما اتجه نحو قوى الشر متزلفا بوسائل السحر، اتقاء لشرها، وإبعادا لغضبها. (3) إله الشر الأسطوري
وهذه المعاني نجدها غالبة على أساطير الشعوب الزراعية القديمة في الشرق الأوسط، ففي مصر القديمة - كانت مصر ولم تزل هبة النيل - نجد «أوزيريس
Osiris » إلها للنيل والخير والخضرة والنماء، بينما كان «ست
Seth » إله القفار والصحراء، وكان أيضا زعيم الأشرار ، يحاول دائما إحباط أعمال أخيه النافعة الخيرة.
5
كما نجد الأمر نفسه في حضارة الرافدين القديمة، فيترجم «د. أنيس فريحة» ملحمة
Enuma Elish - هناك ترجمات أخرى متعددة - التي تحكي أن «تيامة
Página desconocida