W. R. Smith
أن الأساطير القديمة كانت بمثابة الاعتقاد الديني؛ لأن التراث المقدس كان يتخذ شكلا قصصيا يدور حول الآلهة، ويقوم في الوقت نفسه بتفسير الأفكار الدينية وتوضيحها بشكل أبسط، بحيث كانت الأسطورة جزءا من بنية الدين وطقوس العبادة، لكنها لم تتخذ صفة الإلزام، فخضعت لحرية الإنسان؛ مما جعلها عرضة دائمة للتغير من قبل كافة القوى التي يمكنها الاستفادة منها، كذلك يذهب «مالينوفسكي» إلى أن الأسطورة كانت بمثابة الدستور الاعتقادي الذي يفسر الحاضر ويؤمن المستقبل، وأنها كانت ذات غايات عملية، تهدف إلى ترسيخ عادات اجتماعية، أو تدعيم سلطة عشيرة بذاتها، أو إقامة نظام اجتماعي بالذات ... إلخ.
ولا يجد المهتم جهدا كبيرا في التوصل إلى الرأي الأقرب للقبول العلمي بشأن الأسطورة ونشأتها، في أن ضعف قوى الإنتاج في المبتدأ المجتمعي، لم يساعد الإنسان على اكتشاف الأسباب الحقيقية لما يقع أمامه من ظواهر، وهنا تقدمت الأسطورة لتقوم بهذه المهمة الأولى للتفسير، وهو الدور نفسه الذي قام به الدين في سدله الأستار على التفسير الموضوعي للواقع، والتعويض عن عجز الإنسان عن الوصول لإجابات صادقة، مع تبرير مرارة الواقع، وتقبل هذا الواقع على أساس خلاص قادم، واستعجال هذا القادم بتقديم القرابين والقيام بطقوس معينة، وبذلك تمكنت الطبقة السائدة من توفير الدخل المناسب لمنظريها وكهانها - ممثلا في قرابين ونذور ... إلخ - من فائض عمل الأجراء أنفسهم، بعد القسمة الطبقية التي خلقت ثنائية انتهت لاعتبار الفكر هو الأصل الواقع، وأن هذا الفكر مستقل بذاته كناتج طبيعي لصعود طبقة لا تعمل. مما ابتعد بالفكر كلية عن الواقع الذي نشأ منه ليكون الدين، الذي قدم بدلا من التفسيرات القديمة لغة رمزية تحل مشاكل الوجدان في عالم تصوري هلامي، وللتذكرة فما زلنا نتحدث عن الأديان الابتدائية.
ولعل مبتدأ فكرة الثنائية وميلادها ليس أمرا مبكرا في تاريخ الفكر الإنساني، وربما تصور الإنسان في البداية أن ثمة كيانا مخالفا للمادة، يترك الجسد الحي مع الموت، وربما تصوره الدم أو نبض القلب أو هواء التنفس؛ لتوقف كل هذا بالموت (ومن النفس تأتي كلمة النفس)، وفي تلك الحقبة القديمة كان واضحا أن الإنسان قد تصور هذه النفس تموت بدورها، وتمثلها في اسم الشخص أو ظله، أو طيف يزور أحلامه، أو حيوان كان يألفه ويعاشره، ثم أخذ يقلص المادية في تصوره للنفس ويجردها، حتى انتهى لتصورها باقية يمكنها تجاوز حدود المكان والزمان وتقمص الأجساد، ثم اللاموت والأبدية، ثم ارتفع بها إلى عالم الألوهية، وقد اتفق العلماء تقريبا على تقريب مراحل الاعتقاد الرئيسية، بدءا من عبادة ظواهر الطبيعة، ثم عبادة الأجداد أو العكس في بعض المدارس، ثم عبادة أرواح نصف مادية، ثم عبادة آلهة متعددة، ثم إله قومي واحد، ثم إله عالمي. كما اتفقوا على أن ضعف الإنسان جسديا وعقليا تجاه الطبيعة وامتنانه لعطائها، كان الثغرة التي دخلت منها التصورات الدينية، مع نشوء علاقات اجتماعية تسلطية حولت الألوهية من الطبيعة إلى الإنسان، وكان فشل محاولات التمرد على الأوضاع الظالمة عاملا مهما في تثبيت الوعي عند الحالة التي كان فيها ليبقى الدين عبودية ذاتية للمضطهدين.
وإذا كان الدين الابتدائي بهذا المعنى انعكاسا لواقع انفصل عن واقعه، وعاد ليؤثر في الناس كقوى مجردة، وعكست فيه الأدوار بحيث تتحكم الروح بالجسد ويصبح المخلوق خالقا، فإن الأسطورة كانت بدورها انعكاسا للواقع بحسبان الأسطورة أصل الدين كما يرى الباحثون الثقات، لكن ما يهمنا هنا رصده وتأكيده كوجهة نظر خاصة، هو أن الأسطورة - لا شك - كانت تختلف عن الدين في مسألة جوهرية، سواء من حيث المنشأ أم الغرض، فهي بعكس الدين نشأت استجابة لحاجات مادية وموضوعية وطبيعية ملحة. مما يشير إلى أن بدايتها سابقة لطور تقسيم العمل ونشوء الطبقة، وإن استمرت زمنا تعايش هذا الطور لتنضج بعد ذلك في الرداء الديني، وكان الغرض منها ليس تسكين أوضاع، أو أن غير المرغوب سينهزم بمجرد تلاوتها كما في الدين، بل على العكس كانت تحفيزا للعمل وللطاقات البشرية، وشحذا للهمم لتغيير الواقع وصد أخطار الطبيعة (وهو ما يمكن للقارئ أن يجد تطبيقا له في كتابنا هذا)، وربما عاصرت كبرى الأساطير مثل «أسطورة أوزيريس» الطور الطبقي، لكن الواضح أن الأسطورة حينذاك لم تعد أسطورة إنما أصبحت محل اعتقاد، أصبحت دينا.
أما الأساطير الأولى التي سبقت تقسيم العمل في شكله الحاد والإلزامي، ولازمته في أطواره الأولى، فلم تكن صنعة طبقية، قدر ما كانت استجابة لضرورات موضوعية، وظهر الدين مع الطور الطبقي وتقسيم العمل والكون إلى عقل وجسد. ومع التفرغ اللازم من العمل اليدوي، تمكنت الطبقة المسيطرة من تنمية ثقافتها الدفاعية، واستثمار التراث الأسطوري السابق بعد تفريغه من محتواه الموضوعي، وتحويله إلى خدمة الأغراض الجديدة، واحتساب التراث الأسطوري جزءا لا يتجزأ من الثقافة الجديدة المتمثلة في الدين، وتحول الفكر الأسطوري الذي كان جزءا من فاعلية الإنسان في الطبيعة وجزءا من خلقه وتقدمه، إلى لبنات ضمن البنية الدينية، وأصبحت قوى الأسطورة الفاعلة - مع الوضع الطبقي - قوى مفارقة لا أرضية، مهمتها المحافظة على ذلك الوضع، والتحالف مع الناس بقدر خضوعهم لها؛ لأنها تمثل الطبقة السائدة.
وهو ما يفسر لنا لماذا كان الأبطال في أساطير حضاراتنا القديمة - وخاصة ذات الصبغة الشعبية - يقومون بأفعال خارقة وتحولات سحرية، ويحققون كافة الرغبات والأماني، ويهزمون الملوك والآلهة؟ مما يشير إلى افتلات لمكبوتات اللاوعي الشعبي، كما يفسر لنا لماذا كان الملوك في أساطير الديانات الرسمية أبناء آلهة أو آلهة؟ ولماذا لا بد أن تقترن طاعة أولي الأمر بطاعة الله؟
ولا بأس هنا من إطلالة سريعة على أهم المدارس التي تناولت الأساطير بالدراسة، وأطروحاتها لتفسيرها. وربما أشهر الباحثين هو
k. o. Muller
الذي احتسب الأسطورة أحاديث مصورة لأحداث تاريخية حقيقية واقعية، وتابعه في ذلك مع بعض الاختلافات الجزئية كل من جاكسون
Página desconocida