وفي ذلك ما يفسر لنا قضيتنا: هل الذي رأته هاجر «ملاك الرب» أو الرب «إيل» نفسه، والتفسير ببساطة هو وجود روايات، وربما نصوص من عصور قديمة بيد الكاتب الذي عاش جيلا آخر بعد قرون طويلة من التطور الفكري والديني. إذ أخذت الآلهة المتعددة القديمة تتحول تدريجيا إلى جم غفير من الملائكة؛ نتيجة لاتجاه العقل نحو التوحيد، إلا أن الملائكة ظلت تحمل الطابع الإلهي في أسمائها مثل: «جبرايل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل ... إلخ». ومن هنا نستطيع أن نلمس حيرة الكاتب بين ما بيديه من نتف وروايات قديمة، وبين ما يمليه عليه عقله، ومنطق عصره، والتطور الديني الذي وصل إليه الفكر الديني، مع محاولته الحرص على القديم في الوقت نفسه؛ لذلك ورغم محاولاته الارتقاء بربه عن التجلي والكلام مع البشر، كالبشر، فيتصرف في الصياغة وينسب ذلك إلى ما يسميه «ملاك الرب»، إلا أنه لم يستطع على ما يبدو إلغاء الفقرة الأخيرة «دعت اسم الرب الذي تكلم معها إيل»؛ لأنها على ما يبدو كانت ضمن نصوص مكتوبة ولها قدسيتها، أو ربما لأنه كان مضطرا للحفاظ على جزء مهم في الرواية الأصلية. وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها في كثير من النصوص، ظاهرة تعامل كاتب حديث مع نصوص قديمة. ومثالا لذلك نطالع نصا آخر يحكي لنا قصة القرار الإلهي بتدمير مدينة لوط «سدوم» التي تفشى فيها داء الشذوذ الجنسي. وتبدأ القصة بظهور الرب لإبراهيم، تبشره بغلام بعد أن بلغ وزوجته من العمر عتيا، فتقول:
وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار.
فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة، وسجد إلى الأرض.
وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في
عينيك فلا تتجاوز عبدك .
90
والرب هنا يظهر بوضوح لا يقبل لبسا في هيئة ثلاثة رجال يناديهم إبراهيم «الثلاثة» في صيغة المنادي الواحد: يا سيد، عينيك، لا تتجاوز عبدك، ثم يعود لمناداة ربه بصيغة الجمع، فيقول:
ليؤخذ قليل من ماء، واغسلوا أرجلكم، واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون؛ لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت ... وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا. قالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها ها في الخيمة. فقال «أي الرب» إني أرجع إليك نحو زمان الحياة، ويكون لسارة امرأتك ابن، فضحكت سارة في باطنها ... فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ ... ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم. وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم، فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ ... وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم. وأما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب.
91
واضح إذن أن الرب قد ظهر لإبراهيم في هيئة ثلاثة شخوص، والأكثر وضوحا هو حيرة الكاتب مع ما بين يديه من متناثرات قديمة، وبين اعتقاده في إله واحد، فتضارب النص بين يديه ما بين الإفراد والجمع، ولكن تبقى في الآية الأخيرة مسألة غير مفهومة، وهي أن «الرجال» الدالة على الرب المثلث، قد ذهبوا إلى سدوم، بينما ظل «إبراهيم» مع الرب، لكنها تصبح مفهومة عندما نستمر مع النص فنجده يقول:
Página desconocida