ثم التفت إلى أصحابه وقال: «أقيلوا عثرتي أقال الله عثرتكم يوم القيامة فقد كاد أميركم أن يهلك بما دخل قلبي من العجب والكبر، وإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر» ولقد كاد أن يهلكني ثوبكم الأبيض وبرذونكم المهملج.» * ثم إن عمر خلع الثوب الأبيض وعاد إلى مرقعته وبعيره.
فيا لجمال هذه الحركة التي نبذ بها عمر الثوب المصري الأبيض؛ ليعود إلى لبس المرقعة الصوفية، وأبعد الفرس المختال؛ ليعود إلى البعير الذلول المتضع، وربما يظهر ذلك لأبناء هذا العصر حتى المسلمين أنفسهم أمرا غريبا صغيرا، ولكن الذين يعرفون سر فعل عمر لا يستغربون صنعه. نعم، إن كل ما في الأرض من شقاء وشرور وفساد مصدره شيء واحد وهو «كبرياء الإنسان» فالإنسان لا يحلل كل المحرمات في سبيل جمع المال وإنماء الثروة إلا إرضاء لكبريائه. لا يسطو فرد على فرد أو شعب على شعب لإذلاله وسلب ما في يده إلا لإرضاء كبريائه. لا يرى الإنسان متصدرا مختالا فخورا كأنه مفرد في الدنيا كلها وكأن الدنيا كلها ملك يده مع أنه أصغر من فيها، إلا إرضاء لكبريائه. لا تسخر الألوف من البشر في بناء المدن والقصور وصنع الزخارف وحشد الجنود وإقامة المعامل التي تشقى فيها فئة من البشر لتستعد بها فئة أخرى، إلا إرضاء لكبريائه. فمتى محيت هذه الكلمة «الكبرياء» من قواميس البشر ومن نفوسهم فحينئذ تصبح الأرض مكانا طيبا ويبطل أصل الفساد فيها. حينئذ لا يعود فيها سيد ومسود، وعبد وحر، وكبير وصغير، وغني وفقير. بل يكون الجميع أخوة في الاتضاع والدعة والسذاجة ومكارم الأخلاق كما يكون الأولاد في طور سذاجتهم، فلنخفضن هنا رءوسنا احتراما للإمام الجليل الذي رام بتلك الحركة الجميلة سحق أفعى الكبرياء في نفسه ونفس أمته، ولنؤاخين بين هذه الحركة الجميلة وقول كتاب المسيحيين: «إن لم ترجعوا وتصيروا كالأولاد فلا تدخلوا ملكوت السموات» - فإن هذه بمعنى تلك وتلك بمعنى هذه.
الفصل التاسع عشر
بين الإمام عمر والبطريرك صفرونيوس
فتح المدينة صلحا
ثم سار عمر من الجابية وحوله أمراء المسلمين، وما زال سائرا حتى أشرف على معسكر الجند وبيت المقدس. فلما ظهرت له المدينة صاح: «الله أكبر، اللهم افتح لنا فتحا يسيرا، واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا.» * وما أشرف عمر بموكبه على المعسكر حتى قامت العشائر والقبائل على ساق وقدم، وهرعت لاستقباله بالتهليل والتكبير * فارتجت الأرض، وأشرف أهل المدينة من على الأسوار؛ ليعلموا سبب تلك الضجة الهائلة، ولما علموا بمقدم عمر ذهب أحدهم وأخبر البطريرك: «فأطرق البطريرك ولم يتكلم.» * أما عمر فإنه نزل في خيمة من شعر * ضربت له بجانب خيمة أبي عبيدة * «فجلس فيها هناك على التراب. ثم قام يصلي أربع ركعات». *
وبات العرب تلك الليلة فرحين بمقدم أميرهم وخليفتهم. فلما كان الغد وصلى عمر صلاة الفجر قال لأبي عبيدة: «يا عامر تقدم إلى القوم وأعلمهم أني قد أتيت.» * فذهب أبو عبيدة، وأبلغ الواقفين على الأسوار هذا الخبر. فذهبوا وأعلموا البطريرك «فخرج البطريرك من كنيسته وعليه المسوح، وترجل الرهبان والقسس والأساقفة معه، وقد حمل بين يديه صليب لا يخرجونه إلا في عيدهم، وسار معه والي المدينة وهو يقول للبطريرك: يا أبانا إن كنت تعرفه معرفة حقيقية وإلا فلا تفتح له، ودعنا وهؤلاء العرب؛ فإما نبيدهم وإما أن يبيدونا.» * فأجابه البطريرك (- يا ولدي، إن ولدنا إيليا الذي تعرفه كان يطوف أمس على الأسوار فأبصر الفارس الذي ذكره لنا، وهو ابن معدي كرب، فأرسل إليه هذا الفارس نبلة وقد ربط بها كتابا فيه ثلاث كلمات باللغة اليونانية، وهي هذه: «لقد وفد عمر» ولست أشك في صدق هذا الرجل بعد ما بلغني عنه، وفضلا عن ذلك فإن ولدنا يوحنا الغساني يعرف الأمير؛ لأن بعض عرب المدينة وصفوه له. فقال الوالي: وما صفته؟ فقال البطريرك: هو في الخامسة والخمسين من العمر
1
Página desconocida