فهنا علم إيليا أن الجبانة مضرة، ولا يفيد شيء مثل الجرأة والشجاعة. فقال بنزق وحدة لا سيما وأنه كان يعلم تأثير بعض الألفاظ على أذهان العامة: ألا تخجلون أيها الإخوة من إلقاء الشبهة على مسيحيين مثلكم «باسم الأب والابن والروح القدس» قال ذلك ورسم علامة الصليب على صدره. ثم قال للشيخ والفتاة: برهنا لهم على أنكم مسيحيون أيضا.
فعند هذا الكلام اتجهت جميع الأنظار إلى الشيخ والفتاة. أما الشيخ: فإنه مد يده بكل تأن ورسم علامة الصليب على صدره كما رسمها إيليا، وأما الفتاة: فإن يدها لم تتحرك بل عاودها البكاء.
فهنا علم إيليا الخطأ العظيم الذي حدث، وزاده علما به تهيج العامة حينئذ ونداؤهم «فلتصلب الفتاة فلتصلب الفتاة» أي فلترسم إشارة الصليب على صدرها. فرأى الشيخ حينئذ أن الخطر قد وقع ولا سبيل لرده. فقال بصوت يرتجف من التأثر والانفعال: نعم، هي تصلب يا إخوان، صلبي يا بنية، واسألي إلهنا أن يعينك على المرض الذي تبكين منه.
فشعر إيليا بما في هذا الكلام من المعنى، وحدق في يد الفتاة ليرى أتخلص نفسها ورفيقها أم لا. فإذا بيد الفتاة قد بقيت جامدة وزاد بكاؤها.
فهنا اشتد اللغط والهياج بين العامة، وصار المتحمسون منهم يصيحون: «يهودية يهودية» وسرى كالبرق بين القادمين والحاضرين أنهم مسكوا يهوديا ويهودية. فاشرأبت الأعناق وتطاول الناس لرؤيتهما، وفي هذه الأثناء دنا إيليا من الشيخ وحدثه مليا والناس لا يسمعون حديثهما، وبعد حين التفت إيليا إليهم وقد عدل عن الخطة الأولى إلى خطة جديدة، فقال ضاحكا مخاطبا الجمع: الآن أيها الإخوان عرفت حقيقة المسألة، ويكفي أن أقول لكم: إن هذه الفتاة الصغيرة السن قد قدمت منذ أسبوعين من بصرى.
3
فصاح الجمع حينئذ بأصوات متقطعة متتابعة «بصرى بصرى، ها ها فهي إذن وثنية، بصرى بصرى، صحيح صحيح. لذلك هي بهذا الجمال. إن «باكوس» الملعون قد كساها كل جماله، كيريالايسون كيريالايسون، هلموا بنا إلى بيت لحم لتعميدها في هذه الليلة ليلة العيد».
ثم صاح أحدهم: ورفيقها هذا أهو من بصرى أيضا؟ فأجاب إيليا: لا بل هو من المدينة، ولكنه جاء بها لإرشادها وتعميدها.
هذه هي الحيلة التي دبرها إيليا لإنقاذ الفتاة. فإنه كان يعلم أن العامة يتساهلون مع الوثنية أكثر من اليهودية؛ إذ ليس بين المسيحية والوثنية دم زكي وثأر عظيم فضلا عن أن الأولى كانت على ثقة من أن مصير الثانية إليها، ولم يكن محرما على الوثنيين دخول أورشليم، ومن جهة أخرى: فقد كان يعلم أيضا بناء على ما ظهر له أن تلك الفتاة قد تفضل اسم «وثنية» على اسم «مسيحية».
وبينما كان الناس يتحدثون ويلغطون مسرورين بأنهم سيعيدون في تلك الليلة عيدين؛ عيد الميلاد وعيد هداية نفس بشرية، وإذا بالمشاعل والمصابيح قد ظهرت في الطريق من جهة القدس. فعلم الناس حينئذ أن البطريرك قادم بموكبه إلى بيت لحم استعدادا لصلاة العيد. فسر الحاضرون بذلك لرغبتهم في أن يدفعوا إلى البطريرك الفتاة الوثنية يدا بيد، ولذلك انتظروا جميعا وصول الموكب. أما إيليا فقد لبث واقفا بجانب الشيخ والفتاة يفكر في طريقة لحل هذه المشكلة، وقلبه يتفطر شفقة على تلك الفتاة كلما وقع نظرها الفاتر الكسير على نظره، ولكن الحق يقال: إن عاطفة الشفقة هذه كانت ممزوجة بعاطفة أخرى أيضا ...
Página desconocida