أول ما فتحت عيني أمس وجدته أمامي باسما، ولكنه كان أشد اصفرارا مما عهدته. فدنا مني وأخذ يدي ... آه، إنني شعرت حينئذ بنار تحرق كبدي ... ولقد سألني هل ذهب الألم فقلت له قد ذهب كل شيء ... نعم، قد ذهب كل شيء ... وعبثا يحاول تعزيتي وتخفيف مصيبتي فإنني شعرت بأنه لم يبق لي صبر على الحياة ... فقد أضيف إلى الأسوار التي بيني وبينه سور جديد لا يهدم أبدا. هو مسيحي وأنا إسرائيلية فأمته عدوة أمتي خصوصا في هذا العصر الذي كثرت فيه الدماء بينهما. فاقتراني به يكون عارا علي عند قومي. بل أنا نفسي لا أرضاه لنفسي؛ لأنني لا أقدر أن أنسى مصائب أمتي وأحالف أعداءها عليها، وفضلا عن هذا فمن يعقد عقد القران؟ فلا أهله وكهنته يتركون يد كاهن يهودي ترتفع على رأسه، ولا أهلي وكهنتي يتركون يد كاهن مسيحي توضع على رأسي، وأولادنا ماذا يكونون؟ وأي عار يلحقهم حتى ذريتهم كلما قيل لهم عند اليهود إن أباكم مسيحي وعن المسيحيين إن أمكم يهودية، أف ما أشد طياشتي. لقد وصلت في الفكر إلى الأولاد.
ثم ماذا يحل بأمي متى علمت بفعلي. إنني أعرف غضبها ولا أقدر على احتمال سخط عجوز ضعيفة على شفا القبر، وقد سمعتها مرة تقول: خير لها أن تموت من أن ينقذها مسيحي.
ولكن كل هذا يا إيليا شيء يسير بالقياس على السر الجيد الذي فضحه أرميا على مسمع مني. أنا ابنة جاسوس؟ أنا يتجر بي للوصول إلى أسرار الناس وخفاياهم؟ تقول: إنك لم تصدق ذلك، ولم تعبأ به، وتستشهد بأرميا على قولك هذا، ولكن أنا أنا ماذا أفعل بضميري. ماذا أفعل باعتقادي بنفسي ... آه آه. إن هذه الضربة قطعت حبل آمالى في هذه الحياة، ومنذ إصابتي لم تبق لي قوة على النظر إليك. لما فررت منك من المزرعة يا إيليا فررت وأنا شامخة الرأس؛ لأنني علمت أنك تفهم قصدي هذا، وتثني عليه، ويزداد إكرامك لذكري. أما الآن فإنني صرت أشعر بكل جوانحي أنني صرت صغيرة ذليلة في نظرك وفي نظر نفسي، وإذا كنت أنت شهما كريما تتجاهل ذلك وتتناساه إكراما لي فأنا لا يمكن أن أنساه أبدا، إنني كلما وقع نظري عليك أقول في نفسي: «إنه الآن يتذكر أنني كنت من بنات الجاسوسية، وقد اتجرت بجمال وجهي». فيا إيليا سامحني على الأمر الذي عزمت عليه. لقد عزمت على الفرار منك ثانية، ولكنني هذه المرة سأرحل إلى مكان لا تستطيع أن تتبعني إليه.
آه يا إيليا، إنني هذه المرة سأفارقك إلى الأبد فراقا حقيقيا. •••
قلت آنفا: إن فراقنا إلى الأبد. فعفوك يا إلهي. إنني كفرت بنعمك ولم أدر. ليس فراقنا إلى الأبد يا عزيزي إيليا بل إلى الملتقى. نعم، إلى الملتقى هناك فوق يا إيليا حيث لا مسيحي ولا يهودي ولا وثني، بل كلنا بشر متساوون نستريح أو نتعب تبعا لأعمالنا الصالحة أو السيئة في هذه الحياة. اضحك معي هنا من أنني صرت فيلسوفة مثلك. آه إنني لا أنسى حتى في الدار الأخرى خطبتك بجانب قبر الراهب ميخائيل، وإن يدي لترتجف إذا رمت أن أسطر لك الآن رأيي فيها، ولقد تأملت كثيرا في موضوعها بعد رحيلي من المزرعة فوجدت أنني لو بقيت فيها لما كتبت لك الكتاب الذي كتبته.
نعم، إلى الملتقى يا صديقي، وهذا هو الأمر الذي يقويني على فعلي؛ لأنني لو كنت أعتقد أنه لا ملتقى لنا بعد فراقي هذه الدنيا لارتعدت فرائصي، وأحجمت عن الأمر الذي عزمت عليه؛ إذ أين أجد حينئذ القوة على فراقه فراقا لا لقاء بعده؟ أما الآن فإنني قوية على ذلك راغبة فيه؛ لأنني أعلم أن دمي سيغسلني في نظره ونظر نفسي، وإذا حال هذا الدم دون سعادتنا هنا فسيجعلني قادرة أن أكون سعيدة معه هناك، وأعيش بجانبه دون أن أخجل منه أو يستحي بي، ولا ريب أن الله يسامحني على فعلي.
يوم الأحد
بما أنني عازمة على فراقه فقد صرت أجد في نفسي قوة على محادثته ومضاحكته، ولقد دخل علي اليوم ضاحكا مسرورا فاستقبلته ضاحكة مسرورة أيضا. لماذا أجلب له الكآبة والحزن منذ الآن. أما يكفيه منهما ما سيصيبه بعدي ... آه. إيليا إيليا، إن كل دمعة تنحدر من عينيك على قبري ستبرد بها عظمي ... إيليا إيليا، إن كل مرة تراني فيها في أحلامك فإنني أرسل إليك بدلها بركة سماوية من منزلي الأبدي. فبحياة عينيك لا تنسني. إنني أعرف قلوب الرجال، فهم يقولون: إنهم يحبون إلى الأبد، ولا تمر عليهم سنة أو شهر حتى ينسوا حبهم وعهدهم. آه يا إيليا لا أطلب منك كل يوم إلا زهرة واحدة على قبري. •••
يا إيليا، أين تدفنونني؟ آه إنني أشعر منذ الآن ببرودة وثقل التراب الذي سينهال على جسمي النحيف، أف لقد ضاق صدري، وأوشك أن يغمى علي، آه يا إلهي ارحمني، لكن وا فرجاه وا فرجاه، إن صدري يتسع ونفسي ترتفع حينما أذكر في موقف كهذا الموقف كلمة «إلهي» آه ما أحلى هذه الكلمة يا إيليا في أفواهنا وقلوبنا في حال كحالتي. اسمع ها إنني بعد أن تلفظت بها وأحضرتها في فكري وقلبي صرت قادرة على سحق الموت بقدمي. فتعال أيها الموت، إنني لا أخشاك؛ لأن نفسي الخالدة أقوى منك. تعال أيها التراب البارد الثقيل فإنك لست بأبرد ولا أثقل من جسدي، ولكن ... لكن يا إيليا أين تدفنونني؟
هل تدفنوني خارج المدينة في مكان مهمل مجهول؟ لا لا إنني أرتعد من وحشة القفر ويخيفني رقص الذئاب والضباع فوق قبري في ظلام الليالى المدلهة. هل تدفنوني في «طبريا» حيث يولد المسيح وفي «صفد» حيث يقام عرشه
Página desconocida