المقدمة
مدخل
1 - عيد الميلاد في بيت لحم سنة 636
2 - يهودي ... يهودي
3 - على الطريق
4 - البطريرك صفرونيوس
5 - النبي أرميا ومشروعه العظيم
6 - أمام دير العذراء
7 - العرب في بيت المقدس
8 - تاريخ حياة إيليا
9 - عقل الشيخ ينبه ضمير الشاب
10 - أنا أعرف الله
11 - الصليب أهون من هذا
12 - بين مسيحي ويهودية
13 - حلم أستير
14 - الكتاب
15 - حصر بيت المقدس
16 - بين أستير وأرميا وإيليا
17 - مخابرات الصلح
18 - الخليفة عمر بن الخطاب
19 - بين الإمام عمر والبطريرك صفرونيوس
20 - في حيز هيكل سليمان القديم
21 - في قبر المسيح
22 - حديث سياسي للشيخ سليمان
23 - أستير في البيت الأحمر
24 - الخاتمة
المقدمة
مدخل
1 - عيد الميلاد في بيت لحم سنة 636
2 - يهودي ... يهودي
3 - على الطريق
4 - البطريرك صفرونيوس
5 - النبي أرميا ومشروعه العظيم
6 - أمام دير العذراء
7 - العرب في بيت المقدس
8 - تاريخ حياة إيليا
9 - عقل الشيخ ينبه ضمير الشاب
10 - أنا أعرف الله
11 - الصليب أهون من هذا
12 - بين مسيحي ويهودية
13 - حلم أستير
14 - الكتاب
15 - حصر بيت المقدس
16 - بين أستير وأرميا وإيليا
17 - مخابرات الصلح
18 - الخليفة عمر بن الخطاب
19 - بين الإمام عمر والبطريرك صفرونيوس
20 - في حيز هيكل سليمان القديم
21 - في قبر المسيح
22 - حديث سياسي للشيخ سليمان
23 - أستير في البيت الأحمر
24 - الخاتمة
أورشليم الجديدة
أورشليم الجديدة
تأليف
فرح أنطون
المقدمة
أهم أنواع الروايات ثلاثة (الأول) الروايات الاجتماعية والأخلاقية وهي أفضلها؛ لأنها تبحث في إصلاح أخلاق الأمة وتكوينها، وتنبيه نفسها إلى ما فيه منفعتها، (والثاني) الروايات التاريخية؛ وغرضها بسط تاريخ الأمم، أي ذكر أسبابه ومسبباته لاستخلاص النتائج منها بحرية تامة بلا تزلف ولا تحامل للوقوف على الفواعل في تقدم الأمم وتأخرها، (والثالث) الروايات البسيكولوجية؛ وتدخل فيها الروايات الحبية التي يصور فيها احتكاك العواطف وتنازع القلوب والأهواء.
على أن هنالك نوعا آخر من الروايات أفضل من هذه الأنواع الثلاثة وهو الذي جمع بينها في سياق واحد؛ فيكون تاريخيا لمحبي التاريخ، فلسفيا اجتماعيا لمحبي الفلسفة والاجتماع، أدبيا حبيا لمحبي الأدب والعواطف الحبية الطاهرة المنزهة عن الخلاعة والغرام البارد، ومن هذا النوع أشهر الروايات الخطيرة التي كان ظهورها عبارة عن حادثة وطنية كبرى؛ لأنها رفعت مبادئ وخفضت مبادئ «كالميزارابل» لفيكتور هيغو و«الجحيم» لدانتي وغيرهما.
ولقد سلكت «الجامعة» هذا المسلك في روايتها الجديدة «أورشليم الجديدة» فجمعت فيها بين الفلسفة والاجتماع والتاريخ والحب والأدب، وفوق ذلك ضمت إليها «الدين» لأن العصر الذي نبحث هنا في شئونه عصر ديني محض، سواء كان ذلك عند المسيحيين أو عند المسلمين. فالكلام عنه يشمل الدين بالطبع والضرورة، وبدونه يكون الكلام ناقصا أهم وجوهه.
وهي على يقين من أن أبناء العصر وكتابه الأفاضل الذين يرومون تنبيه الشرق من سباته، وأن يمحوا عنه عار الاستسلام للسلطات المضرة، ويطلبون الحقيقة أينما وجدوها سينظرون إلى هذا الكتاب نظرا ينسي مؤلفه شيئا من التعب الذي عاناه في تأليفه؛ لأنه لو لم يكن على ثقة من رضاهم وتنشيطهم قياسا على ما مضى، لما وجد في نفسه القوة اللازمة للإقدام على كتاب كهذا الكتاب مع ما هو معروف في بلادنا عن بضاعة العلم والأدب، وما هو مشهور من تهشيم حرية الفكر ونزاهة النشر؛ تزلفا للسذج وذوي المصالح، خصوصا في الشئون الوطنية والمسائل الشرقية.
والمؤلف لا يدعي في هذا الكتاب فضلا أو مزية، ولكنه يصرح بأنه بذل جهده للجهر - بحرية تامة - بكل ما يجب الجهر به عند الاشتغال بمسائل مهمة خطيرة كالمسائل التي في هذا الكتاب، وطلب الحقيقة بين كل الأحزاب باستقلال تام كأن الكاتب غير منسوب إلى أحدها. فإذا كان إخواننا الرصفاء والقراء الكرام يرون بعد مطالعة هذه الرواية أن المؤلف قد قام بهذه الوظيفة، فهذا خير جزاء يريده منهم، وأفضل ثناء يقبله على الطريقة التي أقدم عليها مع معرفته صعوبتها في بدء الأمر في بلادنا الشرقية التي فيها سلطان الجبن والذل والمصلحة، أقوى من سلطان عزة النفس، وحرية الفكر، وجرأة المبدأ. •••
ويجدر بنا في هذه المقدمة أن ننبه القارئ الكريم إلى أمرين: (الأول) الطريقة الإنشائية التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب. فإننا عنينا هنا بما يسميه الإفرنج «جمال التأليف» عناية خاصة؛ لأن المجال في هذا الكتاب واسع لفكر المؤلف وقلمه ولا قيد يقيدهما ألبتة، وهذا الذي يسمونه «جمال التأليف» عليه المعول في كل الكتب الجليلة التي هزت نفوس البشر في الأرض ورقتها وأمالتها نحو الخير والكمال، وبدونه لا يكون للكتابة أثر في النفوس، ولا جاذبية تجتذب القراء للإقبال عليها، وتأليف جمهور مفكر يميز غث الأمور من سمينها وجميلها من دميمها، وهو ما يعبرون عنه بالرأي العام، وهذا الأسلوب الذي اعتمدنا عليه هنا يعتمد على عاطفة الجمال التي في نفس الإنسان، والتي بها يميز عن الحيوان حتى عرفوا الإنسان «بأنه حيوان يعرف الجمال ويشعر به»، ويقول كثيرون من علماء العمران: إن «الجمال» في الفنون والصنائع الجميلة «وصناعة القلم في جملتها» هو أساس نهضة أوروبا. فإن ارتقاء هذه الفنون الجميلة في إيطاليا كان ناشئا عن ارتقاء عاطفة «الجمال» فيها، وهذا الارتقاء لطف الأذواق ورفع النفوس وكبرها، ومن هنا نشأ الميل للحرية والارتقاء فسرى إلى أوروبا كلها، وبناء على أهمية عاطفة الجمال هذه ترى الناس يبتاعون صورة من صور المصور رفائيل مثلا بملايين فرنكات. فهم يبتاعون بابتياعها ثمار أرقى نفس؛ لأن عاطفة الجمال بلغت فيها أقصى درجات الارتقاء الممكن في الأرض. فإذا قابلنا بين هذه العناية «بالجميل» في بلاد المتمدنين، وبين اعتبار بعضهم عندنا الجمال في الكتابة وغيرها شيئا ثانويا، بل تخيلات وتصورات وأدبيات جاز لنا أن نأسف؛ لأننا في الشرق لم ندرك بعد ماهية الارتقاء الحقيقي لكوننا لا نزال نذم الورد على أسلوب ذلك الشاعر العربي الذي شبهه ذلك التشبيه المشهور.
1
ولكن من حسن الحظ أن عاطفة الجمال الطبيعية الموجودة في نفوس الناس في الأرض أقوى من أن تخنق إذا لم يفهمها بعض الناس، ولذلك ترى (جمال صناعة القلم) يؤثر في الناس في الشرق من غير أن يدروا به، وهذا سبب نهضة الشرقيين إلى الكتابة والمطالعة وتعلقهم بهما، وكلما ارتقت فيهم عاطفة الجمال، أي كلما ارتقت «نفسهم نفسها» ارتقى فيهم الميل إلى هذه الصناعة، وجميع الصنائع الجميلة على نسبة واحدة. فمقياس ارتقاء الأمم إذن إنما يكون بالنظر إلى ما تقدر على إبرازه من عاطفة الجمال هذه مقرونة بشقيقتها عاطفة الخير «لأن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن الخير مطلقا» لا بالنظر إلى ما تقدر على تقليده من شئون غيرها، والفلاسفة يضيفون إلى «عاطفتي الجمال والخير» «عاطفة الحق» التي مقتضاها الجهر بالحقيقة، وطلبها باستقلال تام ونزاهة عن كل مواربة وجبن، ويقولون: إن هذه الثلاثة هي أغراض العلم العليا ومواضيع الفلسفة السامية، وهو قول حق؛ ولذلك نتمنى أن يكثر في بلادنا العزيزة كل ما ينمي هذه العواطف الثلاث؛ لأنها أساس كل ارتقاء ونزاهة وفضيلة، ومصدر كل شيء عظيم، والأمم التي لا تؤسس على هذا الأساس المثلث تتعب وتبني عبثا؛ لأنها لا تبني إلا على المصالح المادية والقابلية الحيوانية. (والأمر الثاني) الذي أحببنا التنبيه عليه أن الروايات التاريخية لا يقصد بها سرد وقائع التاريخ وأرقامه. فإن طالب هذه الوقائع والأرقام يلتمسها في كتب التاريخ حيث تكون قريبة المنال؛ لتجردها عما ليس منها لا في الروايات المطولة التي تشتبك وقائعها الخيالية بها، ولا يصبر طالب التاريخ البحت على مطالعتها، وإنما المقصود من الروايات التاريخية (فوق سرد الوقائع والأرقام، وتصوير الوسط المراد تصويره، وإبراز العواطف والأفكار التي كانت تختلج في هذا الوسط) تكميل التاريخ في جوانبه الناقصة.
ونعني هنا «بتكميل التاريخ» أن يضع المؤلف نفسه موضع الأشخاص التاريخيين الذين يتكلم عنهم، ويعبر عن أفكارهم وآرائهم في المواقف التي يصورها لهم، والتي لا أثر لها في التاريخ مستدلا على ذلك بما يعرفه عنهم، وهذا الأمر في روايات «ديماس» المشهور كان أهم الأمور. فكأنه به يحيي الأبطال الذين يتكلم عنهم، ويجعلهم يشعرون بالأمور التي كانت تنطبق على تاريخهم ومقاصدهم، ويكشف لك خبايا كانت مدفونة في صدورهم، ولقد سلكنا هذا المسلك أيضا في هذه الرواية. غير أننا خشينا أن يختلط التاريخ بما ليس هو في شيء منه فيضل القارئ، سيما القليل الاطلاع، فوضعنا علامات للتفريق بين التاريخ وبين التصنيف والاستدلال، وإليك هذه العلامات: «هذه العلامة * (أي النجمة) تدل على أن ذلك القول وارد في التاريخ، والعلامة (- تدل على عكسه أي أنه تصنيف أو استدلال من المؤلف لا أثر له في التاريخ، والكلام الموضوع بين قوسين هكذا « » أو ( ) أو فاصلتين ،، ،، ومعه نجمة * هو نص تاريخي بحرفه، وأما إذا كان الكلام بين هذه الأقواس بلا نجمة أو كان بلا أقواس ولا نجمة فليس هو من التاريخ في شيء، خصوصا إذا كان بين أشخاص الرواية الخياليين - هذا إلا إذا نبه عليه في الحاشية».
وسنتابع هذه الاصطلاحات في كل رواياتنا التاريخية؛ ليتسع لنا مجال الاستنباط والاستدلال التاريخي في أمثال هذه المسائل. إذ بدون هذه الاصطلاحات يشوه الكاتب التاريخ إذا حرص على الاستنباط والاستدلال، ويهمل أهم ما في التاريخ الروائي إذا أهملهما، والقراء في الشرق على الخصوص يعرفون أن الكاتب في شئون المسلمين والمسيحيين في بلادهم لا غنى له عن هذا الاحتياط؛ لحرج الموقف، وصعوبة الطريق.
أما المصادر التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب فهي عدة لمؤلفي العرب والإفرنج، وقد رجعنا في شئون العرب إلى كتب العرب، وفي شئون الروم إلى كتب الإفرنج كما يجب أن يكون ذلك؛ لأن كل قوم أدرى بتاريخهم، ولقد أشرنا في الحواشي إلى أكثر تلك المصادر.
هذا ما قصدنا ذكره في هذه المقدمة، والآن نأخذ بيدي القارئ الكريم؛ لنسيح معه في هذا الكتاب سياحة طويلة.
مدخل
على الأرض السلام
على جبل الزيتون فوق بيت المقدس كان في سنة 636 قبل عيد الميلاد بثلاثة أيام طيف يتمشى متأملا في المدينة تحته وهو يقول كأنه يخطب في الدنيا كلها: منذ نحو ألفي سنة رن في فضاء هذه الأرض التعيسة صوت خارج من جهات مجهولة يقول: «المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة».
ومنذ ألفي سنة والبشر بشر، السلام على شفاههم لا في القلوب. •••
منذ ألفي سنة هجمت المادة الترابية في عالمنا الدنيء للاتحاد بالجوهر الإلهي. فقبضت يومئذ الأرض على قسم من السماء، ولكن السماء عادت فأفلتت منها فعاد إلى الأرض ما هو من الأرض، وإلى السماء ما هو من السماء، واختفى عنا ذلك النور الذي أضاء تاركا البشر في ظلمة ليلاء. •••
منذ نحو ألفي سنة ثارت بين أسوارك يا «ابنة صهيون»
1
الحرب الأبدية بين الحق وبين التقليد الذي يضع نفسه موضع الحق. بين المبادئ وبين المصالح. بين الفكر وبين المادة. بين القديم الذي يظن نفسه قويا راسخا أبديا لا يزعزعه شيء، وبين الجديد الضعيف المسلح بمعول العقل والفكر ولا سلاح له سواه. فزلزلت الجبال، واندكت الأسوار، ونسف الفكر معالم التقليد والمصالح والمادة نسفا، فقلب عالما وأقام عالما.
ولكن ماذا جرى بعد ذلك؟ هل حفظ الغالب السلاح الذي تغلب به؟ أخبرونا يا رجال صهيون الجديدة يا جند إسرائيل الجديد، وا أسفاه إن الغالب عاد إلى عادات المغلوب. إن المادة قويت على الروح، والمصالح على المبادئ، والتقليد على الفكر والعقل. فهاتوا لنا معولا آخر للهدم مرة ثانية. إلينا يا ملائكة السماء بجراح جديد لمداواة هذه الحسناء المريضة، ولكن رحماكم فلتكن سكين هذا الجراح نحيفة. إننا نشفق على جسمها النحيل، وقلبها الرقيق، وجمالها الساحر، ونفوس الملايين العديدة المتعلقة بها. هات روحك يا بوذه لنعلمها الصبر والقناعة. هات فكرك يا كونفوشيوس لنعلمها الحكمة. هات بلاغتك الإلهية يا أفلاطون؛ لندخل إلى عروقها دم الفلسفة ممزوجة بالأنوار السماوية. هات عقلك يا أرسطو لتقوية عقلها. هاتوا يا حكماء منفيس والإسكندرية وأثينا وبيناريس ورومة كل حكمتكم وفلسفتكم لعلها تشفى بها، وإياكم أن تقولوا إنها في غنى عن كل ذلك بما لديها من المبادئ الفطرية الساذجة؛ فإنها نسيت ما لديها ونسيت الفطرة والسذاجة. نعم، إن فاها لا يزال يردده، ويترنم بألفاظه، ولكن يا للأسف إن قلبها لم يعد يفهمه ولا يقنع به، ولذلك ذهبت منها صحتها وجمالها. أجل يا بيت الحكمة الفطرية الساذجة. يا قدس الأقداس القديم. يا مأوى الفكر الحر المطلق والروح المجرد. إن حمامة الروح السماوية قد طارت من بين جدرانك، وهذا هو سبب مرضك. فهلا استعدت روحك لتحيي بها نفسك ويؤهل منزلك. هلا نظرت بإخلاص ونزاهة إلى مرضك؟
إنك لم تريدي ذلك يا ابنة صهيون فهوذا جراح وخصم شديد قادم نحوك، ولكن وا أسفاه؛ إن سكينه ليست بنحيفة كما طلبت، بل هي عبارة عن سيف قوي، ومع السيف رمح ونبلة وترس وجواد عربي. إن رمال قفار العرب قد تحركت يا ابنة صهيون. زحفت نحوك قاصدة الدنيا كلها. فأوسعوا أوسعوا المكان في الأرض لأمة جديدة عظيمة ومدنية جديدة. إن الدنيا تتمخض الآن بدين جديد وسلطنة جديدة. إن أبناء إسماعيل الأقوياء خرجوا من قفارهم الجدباء لملاقاة أبناء إسحق الظرفاء، ولكن يا للأخوة يا لحرمة النسب؛ إن ملاقاتهم كانت للاقتتال على سلطنة الأرض، كأن هذه الدنيا الواسعة تضيق عن أخوين كريمين. فسدوا آذانكم يا أيها البشر؛ فإن أرضكم ستصير ميدانا واسعا للحروب والمجازر المختلفة. ناموا أيها الموتى الشرقيون بأمان، واحمدوا الله؛ لأنكم قضيتم قبل العصر الذي تزحف فيه الأمم والقارات بعضها على بعض ليفني بعضها بعضا، ويا سلطنة بزنطية التي ملأت الدنيا أبهة وسطوة وجلالا استعدي فقد دنت آخرتك، ولا تلومي أحدا غير نفسك. لماذا أهملت شعبك لتشتغلي بالمجادلات الدينية العقيمة؟ لماذا جهلت أن كل بناء لا يبنى على «إصلاح أحوال الشعب» بناء ضعيف يتداعى في مدة قصيرة؟ لماذا حصرت كل قواك في الاختلافات على خلافة الملك وانتقال السلطنة؟ لماذا رمت الاستيلاء على الدنيا كلها بدل إصلاح شئونك الداخلية فجزأت قواك بتجزئة اهتمامك على غير فائدة؟ لماذا هجرت الروح والفكر الذي يجعل الأفراد أقوياء والشعوب منيعي الجانب سعداء. إن الشعب الشاب الحديث الخارج من رمال بلاد العرب قد استولى على ذلك الفكر الذي هجرتيه، وهجم عليك بسلاحك بريئا في أول نشأته من تلك النقائص التي أودت بك. لقد زحف يمثل الوحدة والعصبية والإصلاحات الشعبية والحياة الروحية والمعيشة الطبيعية والمساواة والإخاء والحرية، ومن فرط ثقته من نفسه ومن مبدئه يظن أنه وحده يمثل الوحدانية، وبهذه المناقب سيستولي يوما على الكرة الأرضية، وسيبقى له هذا الملك حتى تفارقه المناقب كما فارقتك فيصيبه حينئذ ما أصابك، وفي ذلك الوقت تنطرحان كلاكما على الأرض أخوين في المصاب تنظران إلى الأمم والمبادئ الأخرى التي تجيء بعدكم وتقوم على آثاركم.
فيا أيتها الأمم المختلفة التي تقوم وتسقط وتتطاحن كحبوب الحنطة تحت الرحى لك أن تقولي «المجد لله في العلى» لأن الله خالقنا عظيم، ولكن لا تقولي «في الأرض السلام، وفي الناس المسرة» فإن الأرض ليس فيها اليوم شيء غير السيف والنار، وليس بين البشر شيء يسر، بل السائد بينهم الفساد والاضطراب والبغض والشقاء والدمار.
الفصل الأول
عيد الميلاد في بيت لحم سنة 636
حالة الإمبراطور هرقل والسلطنة البيزنطية في صدر الإسلام «البيت الأحمر». ***
بيت لحم في يوم عيد الميلاد المسيحي كعبة يحج إليها المسيحيون من كل أقطار العالم، كما يحجون إلى كنيسة القيامة الكبرى في القدس في عيد الفصح الذي هو عيد القيامة. ففي سنة 636 للميلاد المسيحي ليلة عيد الميلاد خلت القدس من أهلها ومن الحجاج لزحفهم إلى بيت لحم لحضور العيد، وقد بدءوا بالسفر إلى بيت لحم منذ يومين رجالا ونساء وأولادا؛ بعضهم يقيمون عند أقاربهم ومعارفهم، وبعضهم يستأجرون غرفا خصوصية لذلك. فامتلأت بلدة بيت لحم على صغرها بأجناس القادمين إليها من نواحي فلسطين، والثغور، وسوريا، ومصر، والأناضول، والقسطنطينية، وقبرص، ورودس، وغيرها، وكان اختلاف أزيائهم ووجوههم مما يروق النظر فيخيل للناظر أن أجناس البشر كلها تعرض له في تلك البلدة الصغيرة.
وكانت كنيسة المغارة التي هي عند الناس مكان ولادة المسيح قائمة في وسط البلدة، وكانت مؤلفة من قسمين: فقسم هو كنيسة المهد نفسه * وهي عبارة عن مغارة منقورة في الصخر مكسوة الجدران بالأغطية الثمينة المزركشة والمزينة أفخر زينة، وفي سقفها عدة مصابيح بعضها يضيء ليلا ونهارا، وقسم هو كنيسة فاخرة كبرى قائمة فوق تلك الكنيسة الصغرى لاجتماع الناس فيها، وقد بنتها هيلانه أم الإمبراطور قسطنطين الكبير
1
وكانت الكنيستان منارتين في تلك الليلة بالمصابيح والشموع المتعددة، وروائح البخور تنبعث عن المباخر، والناس داخلون إلى الكنيسة الكبرى وخارجون منها ولوائح السرور على وجوههم.
فلنترك الناس خارجين وداخلين، ولنذهب بالقارئ إلى منزل كبير قائم تجاه الكنيسة في الجهة الغربية، وهو مدهون بلون أحمر؛ ولذلك يسمونه: «البيت الأحمر»، وقبل الدخول إلى هذا البيت نقرأ على خشبة مسمرة فوق بابه هذه الكتابة باللغة اليونانية: «لا شراب رديء يزعج معدتك، ولا رفيق السوء يزعج نفسك» ذلك أن هذا البيت كان معدا لنزول الضيوف في الأعياد والمواسم والاحتفالات المختلفة.
فإذا دخلنا هذا الفندق وجدناه قسمين: فقسم للرجال؛ وكان يجتمع فيه ضيوف من بيت المقدس وغيره، وقسم للسيدات؛ وكان يجتمع فيه أجمل وأذكى سيدات أورشليم
2
وكان أمام القسمين حديقة واسعة الجوانب مزروعة بالنباتات والأزهار والشجيرات المختلفة، وفي وسطها قاعة المائدة، وهي قسمان أيضا: واحد للرجال، وواحد للنساء.
وكان البرد في ذلك اليوم شديدا، والغيوم متلبدة في السماء تنذر بالمطر، والهواء يهب من الجهة الجنوبية الغربية هبوبا عنيفا، ومع ذلك فقد كان في الحديقة في جهة قسم الرجال رجل يتمشى وفي يده كتاب خطي، وهو تارة يقرأ وطورا يتأمل، وربما يظن القارئ أن ذلك الكتاب كان نسخة من كتاب ديني، ولكن إذا دنونا من الرجل وجدنا على غلاف كتابه هذه الكلمات: «كتاب في النفس - تأليف أرسطو».
وكان الوقت مساء، وصاحب الكتاب يقرأ في كتابه على ذرات ضوء النهار الأخيرة بين مداعبة الريح وقرص البرد وقهقهة الرجال والنساء خارجة من داخل الفندق، بينما صراخ الناس في الشوارع أمام الكنيسة، وأصوات الباعة وضوضاء المغنيين تصم الآذان، وكان هذا الرجل القارئ كلما زادت تلك القهقهة والضوضاء الداخلية والخارجية ينظر باشمئزاز وأنفة إلى الجانب التي خرجت منه، ويقرن اشمئزازه بابتسام الاحتقار. إلا أنه في ذات مرة اشتدت القهقهة والصياح من داخل ومن خارج، فمد يده إلى جيبه وتناول دفترا، وكتب فيه ما يأتي:
الطبقات العالية لا هم لها إلا ملاذها. فهي تفرح وتطرب لأن الإمبراطور يترك لها حرية التمتع بها. فكأن الدنيا كلها عندها أكل وشرب ولذة، والطبقات الواطئة ترضى بأقل شيء، ولذلك يلهونها بأصغر الأمور، ويعملون على ظهرها كل الأعمال. فهل تنفتح عيونها يا ترى يوما من الأيام؟
وما أتى صاحب الكتاب على هذه العبارة حتى اندفع من قسم النساء في الفندق نحو عشرين سيدة ضاحكات مقهقهات وتفرقن في الحديقة. فألقى صاحب الكتاب إليهن نظرة، ثم عاد إلى كتابه بأنفة وكبرياء. أما السيدات: فلم يصرفن أنظارهن عنه، بل أخذن يتأملن فيه. فقالت إحداهن: من هو هذا البارد الذي يقرأ في هذا الظلام والبرد يا أخواتي؟ أظنه راهبا من رهبان دير إيليا. فضحكت رفيقاتها، وأجابت سيدة أخرى: وحياة العذراء يا أخواتي إنني نظرت هذا الرجل قبل اليوم. فإنه في كل مساء يخرج من باب يافا وفي يده كتاب فينحدر إلى الوادي ويغيب فيه.
فرسمت إحداهن علامة الصليب على صدرها، وقالت: «كيريالايسون» (يارب ارحم) أظنه يختلي ببعلزبول. فصاحت بعض رفيقاتها: باسم الصليب الكريم يا تيوفانا إنك تذكرين بعلزبول دائما، فيظهر أنه بينك وبينه شيء من الصحبة. فضحكت السيدات، وأما تيوفانا فإنها رسمت علامة الصليب على صدرها وبصقت على الأرض موجهة هذه البصقة إلى بعلزبول.
أما صاحب الكتاب فإنه لم يسمع من حديث السيدات سوى هذه الكلمة «دير إيليا» فظن أنهن يقلن «اسمه إيليا» فقال في نفسه: من أين يعرفنني هؤلاء السيدات؟
ومن البديهي أنه لا يخرج النساء إلى الحديقة، ويبقى الرجال في الداخل. فخرج الرجال على صوت النساء، وتفرقوا في الحديقة محيين السيدات برءوسهم، وما زالوا يتمشون حتى التقت طلائع الفريقين فتبادلوا التحيات والابتسامات، وتداعوا إلى الجلوس على مقاعد الحديقة مع شدة البرد. فجلس النساء فى صفوف والرجال في صفوف، ودار الحديث بين الفريقين، وصاحب الكتاب في زاوية يصغي ويعي.
فقالت إحدى السيدات: متى يصل مولانا البطريرك؟ فأجابها أحدهم: سيصل في الليل. فقالت أخرى: الظاهر أن هذا العيد سيكون بهيجا؛ لكثرة الحجاج والوافدين. فهز أحد الرجال رأسه وقال: إن أكثر هذه الجماهير فروا من وجه العرب * ولم يقدموا للعيد. فقالت تيوفانا: إذا قصدتم الكلام في السياسة فاخفضوا أصواتكم وانظروا إلى ما حولكم. فرفع حينئذ أحد الرجال صوته وصاح: مم نخاف لقد أضاعوا الإمبراطورية بطياشتهم، وها إن العرب قد صاروا على أبواب المدينة * فبغتت النساء، وصاحت تيوفانا: وهل انكسر مانويلس، فهز الرجل رأسه، وقال: إن قائدنا مانويلس الظريف قد انكسر في «اليرموك» شر كسرة * وهذه الواقعة فتحت سوريا كلها للعرب، كما فتحت لهم واقعة القادسية بلاد الفرس * ومن ذلك يظهر أن الإمبراطور كان مصيبا في ما فعل. قال الرجل ذلك، ثم نظر إلى ما حوله. فقالت إحدى السيدات: ولكن يظهر أن مولانا البطريرك مستاء جدا من صنعه هذا. فقال ذلك الرجل: ولكن ما الحيلة، إنه لم يكن يستطيع أن يعمل غير ما عمل. فإنه بعد أن فتح العرب دمشق لانكسار أخيه تيودوروس أمامهم في أجنادين
3
لم يبق له إلا ترك سوريا وشأنها تدافع عن نفسها بنفسها للعودة إلى القسطنطينية قاعدة مملكته؛ لأن المغول والسلافيين وفيهم البلغار والسرب كانوا يتهددون حياة السلطنة، وقد كسر السلافيون جنده وراء القسطنطينية شر كسرة * وقد بلغني أنه لما خرج من سوريا قادما إلى هنا لأخذ الصليب المقدس من الجلجلة إلى القسطنطينية خوفا * من أن يأخذه العرب كما أخذه الفرس لما فتحوا مدينتنا
4
وقف على نشز في حدود سوريا مودعا وقال: «السلام عليك يا سوريا سلام لا اجتماع بعده»
5
ذلك لأنه علم أنه لا قبل له على حفظ سوريا ووراءه من ذكرنا من أعدائه، ومما زاد الطين بلة أيضا أن الجيش تمرد * وأعلن خلعه. فكيف يبقى في هذه البلاد؛ ليدافع عنها بنفسه، وتلك حال سلطنته وعاصمته؟ إن البطريرك مخطئ في استيائه.
فقال رجل آخر: وهناك سبب آخر يوجب على البطريرك أن لا يستاء من ترك الإمبراطور سوريا وفلسطين وشأنهما تعتمدان على قواتهما الداخلية فقط، وهو اعتلال صحته واضطراب عقله. فإنني شاهدت الإمبراطور مرتين: المرة الأولى منذ ثماني سنوات لما عاد إلينا من حرب الفرس ظافرا منصورا بعد أن سحق سلطنة كسرى الكبير، وهدم معابد النيران، واسترد الصليب، وجاء لإعادته إلى الجلجلة * فإنه كان يومئذ في أوج عزه وعظمته، وكانت الإمبراطورية كلها تتحدث يومئذ بسطوته، وشاعره «الراهب جاورجيوس بيسيديس» الذي هو معلم اعترافه أيضا ينشر فيه القصائد الرنانة التي تثير الأفكار ويشبهه بالبطل أشيل وقسطنطين الكبير * فيومئذ كان الإمبراطور معبودا عند شعبه، وكانت لوائح السعادة تظهر على وجهه، ولست أنسى في حياتي منظره لما حمل في كنيسة الجلجلة في مدينتنا الصليب بنفسه، وصعد به وحده إلى موضعه في الجلجلة لنصبه بيده * فقد كانت لوائح القوة والصحة ظاهرة عليه. أما المرة الثانية التي شاهدته فيها فهي منذ مدة لما عاد إلينا من أنطاكية بعد استيلاء العرب على دمشق؛ ليأخذ الصليب إلى القسطنطينية، وينصبه في كنيسة هاجيا صوفيا * ففي هذه المرة كان الاضطراب والضعف باديين في وجهه، وصحته كانت في أسوأ حال، وهذا ما منعه من قيادة جيوشه بنفسه * للدفاع عن دمشق، وإلقائه عهدة ذلك إلى أخيه ثيودوروس الذي أساء في الدفاع فناله غضب الإمبراطور * ثم نظر المتكلم إلى ما حوله كأنه خائف أن يسمعه أحد، وقال: وهناك أخبار جديدة وردت في هذا الأسبوع من القسطنطينية تثبت أن الإمبراطور أصبح في حالة صعبة لطف الله به. فإن عقله صار مضطربا * لكثرة مشاكل السلطنة، ويخشى أن يفقد صوابه * وقد علمت عن ثقة أنه لما وصل إلى قصره في القسطنطينية اضطر رجاله أن يبنوا له على البوسفور أمام قصره حواجز خشبية على صفين من الجسور وتغطية هذه الحواجز بالخضرة والنباتات * لإخفاء منظر البحر عنه؛ لأنه أصبح يخاف خوفا شديدا لمجرد وقوع نظره على البحر * فهل من حق البطريرك أن يلوم رجلا هذه حالته العقلية والصحية؟
وكان بين الرجال رجل يتشاغل عن هذا الحديث بفرك يديه ووجهه من البرد، فلما فرغ المتكلم من كلامه التفت إلى الحاضرين وقال: هل تعتقدون أن البطريرك مستاء من الإمبراطور من أجل مسألة الدفاع عن سوريا وفلسطين فقط. كلا فإن الاستياء بينهما قديم.
فقال الرجل الذي تكلم سابقا: نعم، نحن لا نجهل ما قام بينهما من الخلاف في المسألة الدينية * ولكن ما هذا وقته الآن. فإن الواجب علينا لوطننا وديانتنا ومملكتنا أن نكون كلنا يدا واحدة ونفسا واحدة أمام العدو، وإلا كانت العاقبة وخيمة علينا.
فانبرت هنا إحدى السيدات وصاحت: يا لله إننا قدرنا على سلطنة عظمى كسلطنة الفرس فسحقناها واحتللنا عاصمتها * وقبائل بدو ضعاف حفاة كقبائل العرب لا نقدر عليها.
فساد السكوت حينئذ بين الحاضرين؛ لأن هذا السؤال البسيط نقل الحديث إلى أهم المواضيع، أي إلى أسباب ضعف الإمبراطورية يومئذ مع قوتها في ما سبق. فنظر الحاضرون بعضهم إلى بعض وابتسموا، وكان فيهم السوريون واليونان بين شرقيين وغربيين * فكأنهم أرادوا بابتسامهم أن يقولوا إن ذلك العيد يوم فرح وسرور لا يوم مناقشات ومخاصمات في أمور سياسية دينية جنسية * فقد كفى الناس مخاصماتهم في هذه الأمور في باقي أيام الأسبوع. *
الفصل الثاني
يهودي ... يهودي
في أن العامة في كل مكان تصدر أحكامها بلا تحقيق ولا محاكمة. ***
أما إيليا فإنه كان يضحك من زاويته؛ لترك الرجال سؤال السيدة بلا جواب، وكأن السيدات شعرن حينئذ بقرص البرد لانقطاع الحديث، فنهضن مبتسمات مرتجفات من القر، وأسرعن إلى داخل الفندق، وكان صاحبنا إيليا قد مد يده إلى جيبه؛ ليتناول دفتره، ويجاوب فيه عن ذلك السؤال، وإذا بصيحة شديدة علت في الشارع، وصار الناس يصرخون ويجلبون. فهرع الرجال إلى الباب، وفي مقدمتهم صاحب الكتاب، وجمدت السيدات في مكانهن مرعيات السمع؛ لمعرفة سبب ذلك الصياح. فسمعن العامة يصيحون: «غضب الله غضب الله» «يهودي يهودي في المدينة» فلما سمع صاحب الكتاب، وقد عرفنا أن اسمه إيليا، كلمة «يهودي» وثب إلى الشارع، وهو يقول في نفسه: «هذه رواية جديدة لم نمثلها منذ زمان» فوجد الناس في هياج شديد لا مزيد عليه، وهم يروحون ويجيئون باحثين مفتشين عبثا. فهذا يقول: «رأيته مر من هنا وهو بلحية طولها كالذراع، ووجه أصفر كوجه الأموات» وآخر يقول: «لا بل هو بلا لحية، ولكن قامته بطول أربعة أذرع، ورأسه صغير صغير كالرمانة» وذاك يقول: «لا لا لم أره هكذا، وإنما رأيته قصيرا لا يتجاوز الذراع، ولحيته تكنس الأرض من قصره» فضحك إيليا من هذه الأقوال المتناقضة، واستوقف أحد الصارخين، وكان من أكثرهم تحمسا، وقال له: أخبرني أيها الرفيق، ما سبب هذا الاضطراب؟ فأجاب الرجل وهو يلهث من تعبه في الصراخ: ألا تعلم السبب؟ إن يهوديا اجترأ ودخل بيت لحم ليلة العيد، فيجب أن نمسكه ونصلبه. فقال إيليا وقد ارتعدت فرائصه من ذكر الصلب: ومن أين علمتم ذلك إذا كنتم لم تمسكوه بعد؟ فأجاب الرجل: علمنا ذلك بأعجوبة سماوية. فإن المصباح في مغارة المهد انطفأ من تلقاء نفسه، وكلما راموا إشعاله لا يشتعل، وهذه علامة قطعية على وجود يهودي في المدينة يغضب وجوده أهل المقام.
فهز إيليا رأسه وقال في نفسه: الويل للبريء الذي يشتبه به العامة، ويقبضون عليه بدعوى أنه يهودي، فإنه يذوق العذاب والإهانة قبل أن يستطيع أن يثبت أنه ليس بيهودي. ثم قال للرجل: أتريد أن أبرهن لك أنه لا يهودي في بيت لحم الآن. فقال الرجل محملقا: وما برهانك؟ فقال إيليا: اذهب معي إلى مغارة المهد، وهناك أصب أمام عينيك شيئا من الزيت في المصباح الذي انطفأ من تلقاء نفسه، فتعلم حينئذ أنه لم ينطفئ إلا من نفاد زيته.
فرسم الرجل حينئذ علامة الصليب على صدره صائحا «باسم الصليب الكريم» ثم صرخ مشيرا إلى إيليا «هذا هو اليهودي فإنه ينكر العجيبة» (أي المعجزة).
فلم يكن كلمح البصر حتى تألب حول إيليا جمهور من العامة، وأخذوا بثيابه ويديه وعنقه، وكان أحدهم يلطمه في كتفه، وآخر يدفعه في صدره، وثالث يصفعه على قفاه، وهم يصيحون بأعلى أصواتهم «مسكناه مسكناه، يهودي يهودي» وكان إيليا في أثناء ذلك يتملص منهم، ولكن على غير فائدة، وما زالوا يجرونه ويدفعونه والجماهير تزداد التفافا حوله حتى وصلوا به إلى باب الكنيسة أمام البيت الأحمر، وكان الضيوف في البيت الأحمر قد خرجوا إلى الشارع حين سماعهم تلك الجلبة، والسيدات وقفن في الباب ينظرن إلى هذا الاضطراب. فلما وقعت أنظارهن على إيليا بين تلك الجماهير في تلك الحالة شهقن شهقة واحدة من الاستغراب والدهشة، وصاحت تلك التي قالت في ما تقدم إنها كانت تنظره يخرج من باب يافا: وحياة العذراء مريم إن هؤلاء الناس معتدون على هذا الرجل. فإنني متحققة أنه ليس بيهودي؛ لأنني نظرته مرارا ينحني أمام الصلبان والرهبان حين دخولهم في بعض الاحتفالات من باب يافا، وأنا أنظره في المدينة منذ سنوات. فازدادت النساء حنانا وشفقة على الرجل، وقد قالت تلك السيدة هذا القول دون أن تخشى لائمة فيه مع معرفتها أنه يحتمل التأويل عليها، ولكن قلبها كان في تلك الساعة كبيرا؛ لرغبتها في إنقاذ رجل بريء فافتكرت بغيرها لا بنفسها.
وبينما كانت هؤلاء السيدات مشتغلات بالأسف والكلام كانت واحدة منهن، وهي تيوفانا التي تقدم ذكرها، قد ركضت إلى داخل الفندق أول ما وقع نظرها على إيليا بين الجموع، وبعد بضع دقائق عادت ووراءها رجل غريب المنظر، وهو يفرك عينيه من النعاس، كأنه كان نائما وأيقظته، وكان هذا الرجل كبير الهامة عريض الأكتاف طويل القامة شعره منتشر على كتفيه كشعر الرهبان، وفي عينيه لوائح الغلظة والحدة والذكاء. فلما رأته السيدات صرخن: «أهلا وسهلا بالنبي أرميا» وقالت له تيوفانا مشيرة إلى إيليا بين الجموع «انظر إلى هذا المسكين فاذهب وخلصه».
ولكن ما وقع نظر النبي أرميا على إيليا حتى أسرع إليه متفرسا فيه من بعيد. ثم صاح بأعلى صوته «النبي إيليا» فالتفت حينئذ إيليا وإذ أبصر الرجل القادم صاح به: «إلي يا صديق» فهجم النبي أرميا على الجموع صائحا: إليكم عنه إليكم عنه. فانزاحت الجموع من طريق الرجل القادم، وهم يصيحون مسرورين «أهلا بالنبي أرميا. سلموه اليهودي ليصلبه» فسلمه العامة إيليا وهم يحومون حوله، وإيليا يلهث من التعب والألم لا من الخوف. فأخذه إيليا من يده، ودنا منه فقبله أمام الحاضرين، ثم قال على مسمع منهم: «إذا كنت أنا يهوديا فهذا الرجل يهودي» فدهش الحاضرون حينئذ، وأخذوا يتفرقون عن إيليا، وهم نادمون لإساءتهم إليه. أما إيليا فأخذ يصلح ملابسه، ثم إنه شكر للنبي أرميا مساعدته، وأوصاه أن يبلغ السيدات شكره، وبعد ذلك استأذن أرميا بمفارقته للتفتيش على الرجل الذي كان السبب في الإساءة إليه، وعاهده على أن يلاقيه في المكان الذي اعتاد ملاقاته فيه.
وبينما كان إيليا يفتش في ذلك الشارع عن الرجل الذي حرض الناس عليه، وهو لا يزال في أشد هياج، كان العامة قد عادوا إلى الاضطراب والحركة، وأخذوا يتصايحون قائلين: «فتشوا على اليهودي، وإلا لم يقم عيد ولا احتفال؛ لأن المصابيح «تأبى» الاشتعال، هل وجدتم اليهودي؟ هل بحثتم في ذلك الشارع؟ هل قلبتم الحجارة في الطريق لعله مختبئ تحت أحدها».
فمن هذا المزاح يظهر أن العامة كانت بذلك تقصد الهزل على الأكثر؛ إذ لم يكن لديها شيء يلهيها، وهذا ما يحدث في أكثر الفتن والاضطهادات. فإن المضطهد (بكسر الهاء) والمضطهد (بفتحها) كثيرا ما يكونان كالهر والفأر؛ الأول يلعب، والثاني يتعذب.
وكان إيليا قد بلغ حينئذ طرف الشارع دون أن يجد الرجل الذي كان يبحث عنه، وكان ذلك الجانب يكاد يكون خاليا من الناس لبعده عن الكنيسة. فلما وصل إلى منعطفه هم أن يقفل راجعا، وإذا به يسمع هامسا يقول: «أسرعي يا أستير».
فلما سمع إيليا اسم «أستير» حتى أجفل وهرع نحو الصوت. فشاهد شبحي رجل وامرأة يسيران في الشارع الثاني. فوقف مبهوتا ينظر إليهما، وقد اشتبه في أمرهما من اسم «أستير» اليهودي. فقال في نفسه: ترى هل صدق ظن العامة ودخل بعض الإسرائيليين إلى هذه البلدة في ليلة العيد لمشاهدته مع ما هو مشهور من تحريم الدخول عليهم إلى أورشليم ونواحيها، ولما كاد الشبحان يتواريان أسرع إيليا فقطع عليهما الطريق من شارع الكنيسة، ثم عطف على الشارع المقابل لشارعهما فصار أمامهما. فسمع الرجل يقول للمرأة باللغة العبرانية همسا «لا تخافي لا تخافي» فتحقق إيليا حينئذ أن الرجل والمرأة إسرائيليان لا شك فيهما. فاضطرب لذلك اضطرابا شديدا ... ووقف في زاوية ينتظر مرورهما عليه في ذلك الشارع الخالي، وكان سبب اضطراب هذا الشاب يدل على أخلاقه. فإنه لم يضطرب لمنظر الدم الذي سفك دما زكيا عنده. فإن نفسه كانت أرقى من نفوس العامة بكثير؛ بل كان اضطرابه لعلمه أن العامة إذا ظفروا بهذا الرجل ورفيقته فإنهم يقيمون الدنيا ويقعدونها عليهما لمخالفتهما أمر الحكومة بمنع دخول الإسرائيليين إلى بيت المقدس ونواحيه، وربما لقيا من الحكومة أشد عقاب من أجل أمر صغير كهذا الأمر.
وبعد دقيقة وصل الرجل والمرأة إلى محاذاة إيليا فأمعن إيليا من زاويته النظر فيهما فإذا به يرى رجلا في نحو الستين أو السبعين من العمر وفتاة في نحو العشرين، وكانت ملابسهما كملابس رجال وسيدات أورشليم، وكان الخوف باديا على وجهيهما، إلا أن خوف الفتاة كان يطبع على وجهها جمالا سماويا ساحرا، وكانت الزفرات تتصاعد من صدرها وهي سائرة فتخنقها، ولكنها تتمالك نفسها رغما عنها لئلا يسمع صوتها في هدوء ذلك الليل.
فلما لمح إيليا في ذلك الليل هذا الجمال الخائف، وطرقت أذنه تلك الزفرات المتصاعدة عن قلب مضطرب متألم من عدوان البشر شعر الشعور الذي يشعر به كل رجل كريم يعرف واجباته الإنسانية في حال كهذه الحال. فقال في نفسه: إنني سأكون ألزم لهذين الخائفين من ظلهما. فسأتبعهما وأحرسهما من بعيد، وإذا طرأ عليهما سوء وقيتهما منه بنفسي - وعلى ذلك أخذ يسير وراءهما.
أما الشيخ والفتاة فإنهما ما قطعا البلدة حتى وصلا إلى الطريق العمومية الموصلة إلى القدس فهناك تنفسا الصعداء قليلا، وكان في ذلك المكان محطة للخيل والبغال، فاستأجرا بغلين إلى القدس، وركبا قاصدين المدينة. فجاء إيليا بعدهما واستأجر جوادا وسار وراءهما.
الفصل الثالث
على الطريق
في أن الفتاة قد تكون أشد تمسكا بمبدئها من الشيخ لأن نفسها عذراء لم يلوثها الخوف والجبن ورجاء الفائدة. ***
وكان الناس لا يزالون يفدون على بيت لحم من القدس، وهم منتشرون على طول الطريق بين مشاة وركاب، وفيهم المغنون والعازفون بالآلات الموسيقية. فلما رأى الشيخ والفتاة ذلك علما أنهما ما زالا في خطر، وفي الحقيقة أن الناس كانوا ينظرون إليهما حين المرور بهما نظر الاستغراب؛ لعودتهما في تلك الساعة من بيت لحم مع أن جميع الناس كانوا حينئذ ذاهبين إليها.
ولم يصل الشيخ والفتاة إلى محاذاة المكان المعروف بقبر راحيل حتى سمع للفتاة شهيق وزفير ضعيف. فصاح بها الشيخ هامسا: إياك والبكاء يا أستير وإلا تفضحينا. فقالت الفتاة: لست أبكي على راحيل، بل على أنفسنا وعلى حياتنا التعيسة.
1
ولقد أحسنت الفتاة بترك البكاء في ذلك الحين؛ إذ بعد دقيقة سمع على الطريق أمامهما جلبة شديدة، وكان السبب في ذلك قدوم شرذمة من الجنود الفرسان مسرعة من القدس؛ لأن والي المدينة بلغه خبر الاضطراب في بيت لحم وهياج الشعب لظنهم أن في المدينة رجلا إسرائيليا فرأى زيادة الجند هناك. فلما نظرت الفتاة لمعان السلاح في الليل وسمعت ضوضاء الخيل ارتعدت فرائصها وغار الدم إلى قلبها. فشجعها رفيقها بكلام رقيق تظهر فيه القوة مع أنه كان خائفا مثلها. أما الجند فمرت خببا بانتظام جميل. فتنفس الصعداء، وكان إيليا قد دنا منهما أكثر حين سماعه تلك الحركة.
فلما مرت الجنود صار الناس يتساءلون عن سبب إرسالها بسرعة كهذه السرعة، ولما عرفوا السبب انتشر بينهم بسرعة البرق فضحك منه الراكبون لعدم تصديقهم إياه، وأما المشاة فإنهم جدوا في السير لمشاهدة المصابيح التي أبت أن تشتعل واليهودي الذي أمسكه الناس، وكانوا في أثناء سيرهم يتهددون ويتوعدون ذلك اليهودي الذي كدر صفوهم في ذلك العيد. فلما وصلت طلائع هذه الجماعات إلى الشيخ والفتاة وسمعا حديثهم عراهما حينئذ خوف شديد. أما الناس فلما أبصروا الشيخ والفتاة أخذوا يحدقون فيهما ويعجبون بعودتهما في تلك الساعة قبل الاحتفال بالعيد، وكانت تصوراتهم ملتهبة للقصة التي سمعوها عن بيت لحم فأخذوا يقتربون من البغلين ويتفرسون في صاحبيهما وهم سائرون. فأصاب الفتاة ضعف شديد فمدت يدها وغطت بها وجهها؛ لتخفي لوائح الاضطراب والاصفرار، وفي الوقت ذاته بدرت منها زفرة رغما عنها؛ لأن صدرها ضاق بما كانت تجده من الاضطراب. فازدادت شبهة الناس فيهما، وصاروا يلتفتون نحوهما من كل جانب. ثم قوي قلب بضعة من المتحمسين منهم فاتجهوا نحو البغلين وأمسكوهما ليسألوا الراكبين عن حادثة بيت لحم وبذلك ينبشون حقيقة أمرهما.
فلما رأت الفتاة ذلك لم تتمالك أن أجهشت بالبكاء، وأطلقت لزفراتها العنان. أما الشيخ فقد صار وجهه كوجوه الموتى من الاصفرار؛ لأنه تحقق الخطر، وأما إيليا فإنه أعمل المهماز في شاكلة الجواد، وبوثبتين صار بجانب البغلين.
وكان الناس قد تألبوا حول الشيخ والفتاة من كل صوب حتى سدت الطريق، وصار كل قادم ينضم إليهم مستخبرا مستعلما، وكان هذا يقول: إنهم قد ألقوا القبض على اليهودي الذي فر من بيت لحم، وذاك يقول : بل هذا رفيقه لا هو نفسه؛ لأن ذاك مسجون في بيت لحم الى أن يحضر البطريرك، وهكذا شبهات العامة وتصوراتها أحيانا تكون مصيبة وأحيانا مخطئة. فإذا أصابت اكتشفت ما لا يستطيع أحد غيرها اكتشافه؛ لأن اكتشافه إنما يكون بالشبهة والتهمة أي بالصدفة، وإذا أخطأت فالويل للبريء الذي ينشب فيه سهم خطأها.
فلما وصل إيليا إلى الجموع المتألبة صاح بها بلغة يونانية فصيحة: أفسحوا الطريق يا إخوان، فإننا نريد المرور. فقال له أحدهم: ولماذا تركتم بيت لحم في هذه الساعة هل تكرهون حضور العيد والقداس في الصباح؟ فقال إيليا: أنا سائر إلى المدينة في شأن خصوصي، وسأعود قبل الفجر لحضور القداس معكم
2
فسأله الحاضرون: ورفيقاك هذان؟ فأجاب: أنا سائر وحدي، ومن هما هذان المسافران؟ ثم التفت إلى الشيخ وسأله: أيها الأخ، هل أنت ذاهب مثلي إلى المدينة لتعود قبل الفجر؟ فقال الشيخ حينئذ بلغة يونانية عامية: نعم أيها الأخ الكريم. فقال إيليا: أنت أكرم يا أخي، فهلم بنا نسير معا. فأفسحوا الطريق يا إخوان، ولتهنئوا بالعيد المجيد.
ولكن الجمهور لم يتفرق بل كانت أنظاره متجهة إلى تلك الفتاة الحسناء التي بكت منذ حين بكاء يدل على الخوف. فقال أحدهم: ولكن لم تخبرونا شيئا عن اليهودي الذي قبضوا عليه في بيت لحم، فماذا صنعوا به؟ فهنا ظهر الارتعاد على الفتاة رغما عنها، وما الحيلة بأعصاب النساء فإنها ضعيفة. فازدادت شبهة المتحمسين، وصاح أحدهم: الحق نقول لكم إننا لا نترككم تمرون إلا إذا وجدنا بيننا من يعرفكم وقد رآكم في المدينة. فهلموا بنا إلى دير مار إلياس القريب على الطريق * وهناك نراكم على النور.
فهنا علم إيليا أن الجبانة مضرة، ولا يفيد شيء مثل الجرأة والشجاعة. فقال بنزق وحدة لا سيما وأنه كان يعلم تأثير بعض الألفاظ على أذهان العامة: ألا تخجلون أيها الإخوة من إلقاء الشبهة على مسيحيين مثلكم «باسم الأب والابن والروح القدس» قال ذلك ورسم علامة الصليب على صدره. ثم قال للشيخ والفتاة: برهنا لهم على أنكم مسيحيون أيضا.
فعند هذا الكلام اتجهت جميع الأنظار إلى الشيخ والفتاة. أما الشيخ: فإنه مد يده بكل تأن ورسم علامة الصليب على صدره كما رسمها إيليا، وأما الفتاة: فإن يدها لم تتحرك بل عاودها البكاء.
فهنا علم إيليا الخطأ العظيم الذي حدث، وزاده علما به تهيج العامة حينئذ ونداؤهم «فلتصلب الفتاة فلتصلب الفتاة» أي فلترسم إشارة الصليب على صدرها. فرأى الشيخ حينئذ أن الخطر قد وقع ولا سبيل لرده. فقال بصوت يرتجف من التأثر والانفعال: نعم، هي تصلب يا إخوان، صلبي يا بنية، واسألي إلهنا أن يعينك على المرض الذي تبكين منه.
فشعر إيليا بما في هذا الكلام من المعنى، وحدق في يد الفتاة ليرى أتخلص نفسها ورفيقها أم لا. فإذا بيد الفتاة قد بقيت جامدة وزاد بكاؤها.
فهنا اشتد اللغط والهياج بين العامة، وصار المتحمسون منهم يصيحون: «يهودية يهودية» وسرى كالبرق بين القادمين والحاضرين أنهم مسكوا يهوديا ويهودية. فاشرأبت الأعناق وتطاول الناس لرؤيتهما، وفي هذه الأثناء دنا إيليا من الشيخ وحدثه مليا والناس لا يسمعون حديثهما، وبعد حين التفت إيليا إليهم وقد عدل عن الخطة الأولى إلى خطة جديدة، فقال ضاحكا مخاطبا الجمع: الآن أيها الإخوان عرفت حقيقة المسألة، ويكفي أن أقول لكم: إن هذه الفتاة الصغيرة السن قد قدمت منذ أسبوعين من بصرى.
3
فصاح الجمع حينئذ بأصوات متقطعة متتابعة «بصرى بصرى، ها ها فهي إذن وثنية، بصرى بصرى، صحيح صحيح. لذلك هي بهذا الجمال. إن «باكوس» الملعون قد كساها كل جماله، كيريالايسون كيريالايسون، هلموا بنا إلى بيت لحم لتعميدها في هذه الليلة ليلة العيد».
ثم صاح أحدهم: ورفيقها هذا أهو من بصرى أيضا؟ فأجاب إيليا: لا بل هو من المدينة، ولكنه جاء بها لإرشادها وتعميدها.
هذه هي الحيلة التي دبرها إيليا لإنقاذ الفتاة. فإنه كان يعلم أن العامة يتساهلون مع الوثنية أكثر من اليهودية؛ إذ ليس بين المسيحية والوثنية دم زكي وثأر عظيم فضلا عن أن الأولى كانت على ثقة من أن مصير الثانية إليها، ولم يكن محرما على الوثنيين دخول أورشليم، ومن جهة أخرى: فقد كان يعلم أيضا بناء على ما ظهر له أن تلك الفتاة قد تفضل اسم «وثنية» على اسم «مسيحية».
وبينما كان الناس يتحدثون ويلغطون مسرورين بأنهم سيعيدون في تلك الليلة عيدين؛ عيد الميلاد وعيد هداية نفس بشرية، وإذا بالمشاعل والمصابيح قد ظهرت في الطريق من جهة القدس. فعلم الناس حينئذ أن البطريرك قادم بموكبه إلى بيت لحم استعدادا لصلاة العيد. فسر الحاضرون بذلك لرغبتهم في أن يدفعوا إلى البطريرك الفتاة الوثنية يدا بيد، ولذلك انتظروا جميعا وصول الموكب. أما إيليا فقد لبث واقفا بجانب الشيخ والفتاة يفكر في طريقة لحل هذه المشكلة، وقلبه يتفطر شفقة على تلك الفتاة كلما وقع نظرها الفاتر الكسير على نظره، ولكن الحق يقال: إن عاطفة الشفقة هذه كانت ممزوجة بعاطفة أخرى أيضا ...
الفصل الرابع
البطريرك صفرونيوس
الذي فتح العرب بيت المقدس في زمنه
وبعد عشر دقائق وصل البطريرك.
وكان جالسا في مركبة خصوصية له تتقدمه المشاعل والمصابيح وشرذمة من الجند وراء المركبة وأمامها، ووراء الجند حاشية من الرهبان يركبون جيادا كريمة، وكان الجميع سكوتا كأن على رءوسهم الطير إلا جماعة الرهبان في المؤخرة فإنهم كانوا يتحدثون همسا؛ إذ من طبعهم أنهم لا يستطيعون السكوت.
ولما ظهرت مركبة البطريرك للجموع تتقدمها الأنوار أخذ الحاضرون يستقبلونه متغنين بهذا النشيد الذي هو نشيد عيد الميلاد: «المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة» وكانوا في أشد حالات الهياج من التحمس الديني، وكان بعضهم سكارى؛ لأن يوم العيد يوم فرح وشراب عند العامة. فقال إيليا حين سماعه ذلك النشيد الجميل: «نعم، السلام في الأرض لقسم من سكان الأرض. أما هذا الشيخ والفتاة فأين السلام منهما الآن».
ولما وصل البطريرك كان النشيد والهتاف متصلين فمد يده وبارك الحاضرين في الجانبين، أي أنه رسم بيده علامة الصليب في الهواء بجهة الحاضرين. ثم وقفت المركبة واستفهم البطريرك عن سبب ذلك الاجتماع والضوضاء، فأبلغه أحد الرهبان السبب. فطلب أن يرى الفتاة فقدموها إليه ووراءها الشيخ وإيليا. فأجال فيها البطريرك نظره بدون اهتمام، ثم أمر بأن تعاد إلى بيت لحم حيث هم ذاهبون وهناك يرى رأيه.
فلما سمع إيليا ذلك رأى أن الخطر قد ازداد شدة. فإن البطريرك إذا دخل في موكبه مع تلك الفتاة إلى بيت لحم في تلك الليلة فإن المتحمسين يقيمون الدنيا ويقعدونها بتحمسهم وتجمهرهم، وإذا عرفوا الحقيقة بعد ذلك فالله يعلم العاقبة. فخطر له أن يجرب تجربة لعله ينجح فيها. فانفرد عن الناس، وكشف رأسه، وانحنى للأرض أمام البطريرك، ثم تناول يده فلثمها، وقال بيونانية سليمة من كل شائبة: هل تسمحون غبطتكم لابنكم المطيع بأن يحدثكم على انفراد؟
وكانت على وجه البطريرك لوائح الضجر واشتغال البال، ومع ذلك أشار بيده إشارة فانزاح الحاضرون عنه وبقي منفردا مع إيليا.
فقال له إيليا: مولاي إن الهياج شديد في بيت لحم كما بلغكم ولا شك، والشعب كاد يفتك بي أنا ابنكم بمجرد الشبهة. فكيف يكون حاله إذا دخلتم بهذه الجماهير مع الفتاة الغريبة وهو لم ينس بعد ما لقيه المسيحيون من إمبراطرة رومة أنصار الآلهة.
فأجاب البطريرك وهو يفرك أنفه بمنديل أسود لتدفئته: أيها الشاب، إن إرسال الفتاة إلى بيت لحم حيث نحن موجودون أصون لها من إرسالها إلى المدينة وحدها.
فعلم إيليا أن حيلته لم تجد نفعا، فلم يبق له إلا مصارعة الحقيقة وجها لوجه. فقال للبطريرك بصوت يرتجف: وإن ظهر هناك للشعب يا مولاي أن الابنة ليست بوثنية؟
فأجاب البطريرك متضجرا: فلتكن مسيحية فإن هذا يسر كل واحد منا.
فقال إيليا: وإن لم تكن مسيحية؟
فهنا بهت البطريرك وحدق في إيليا. ثم راجع نفسه فتظاهر بأنه لم يفهم كلام إيليا. فقال له: اركب يا ولدي اركب، وسنتباحث في هذه الأمور هناك.
فحينئذ تنفس إيليا الصعداء، ورجع باسما نحو الشيخ والفتاة؛ لأنه قرأ في عيني البطريرك ما يريد معرفته.
وفي ذلك الحين تحرك الموكب تتقدمه وتتلوه الجموع والجنود والمصابيح والرهبان، وإيليا والشيخ والفتاة على مطاياهم في المقدمة، والناس ينشدون حولهم نشيد العماد المشهور مشيرين إلى الفتاة وطالبين تعميدها:
باعتمادك يا رب في نهر الأردن، ظهرت السجدة للثالوث، وصوت الآب تقدم لك بالشهادة مناديا إياك ابنا محبوبا، والروح كهيئة حمامة يؤكد تجسيد الكلمة، فيا من أنقذت العالم من الخطيئة يا رب المجد لك.
وما زالوا بهذا النشيد والهتاف والضحك حتى وصلوا إلى بيت لحم فدوت البلدة من جهاتها الأربع، وانضم المجتمعون فيها إلى القادمين، ودخلوا بالبطريرك وإيليا والشيخ والفتاة على نغم هذا النشيد المشهور:
أوصنا في الأعالي. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنا في الأعالي.
وكان للبطريرك قصر رحب قائم وراء الكنيسة يقيم فيه مع حاشيته كلما قدم إلى بيت لحم. فبعد أن استراح فيه هنيهة أمر بأن يستدعوا إليه الشاب إيليا. أما الشيخ والفتاة فإنهما أدخلا إلى إحدى غرف القصر وأقفل عليهما الباب.
فلما مثل إيليا بين يدي البطريرك أمره بالجلوس بإزائه فجلس إيليا محتشما.
وكان البطريرك صفرونيوس مهيب المنظر جميل الهيئة، وهو في نحو السبعين من العمر، وكان شعره الأبيض يكلل هامته العالية، ووجهه الناصع البياض الشديد الحمرة تلمع فيه عينيان زرقاوان حادتان لم تكسر السنون قوتهما، وكان له فوق هاتين العينين القويتين حاجبان كثيفان واسعان كأنهما حرشان مشتبكان فإذا قطبهما خلت أن العينين صارتا بركانين يقذفان نار الغضب والحدة، وكان بدنا ممتلئ الجسم، وعليه ثوبه الكهنوتي الحريري الأسود يعاكس لون وجهه الأبيض فيزيده جمالا وجلالا.
فلما جلس إيليا سأله البطريرك أن يقص عليه القصة من أولها، وأن لا يكتمه شيئا. فقص عليه إيليا حادثته، وكيف خلصه النبي أرميا. فابتسم البطريرك لذكر النبي أرميا لأنه كان مشهورا. ثم استطرد إيليا من ذلك إلى حادثة الشيخ والفتاة لحين وصول البطريرك. فأصغى إليه البطريرك ساكتا، وبعد أن تأمل قليلا سأله: وما هو غرضك يا بني من المداخلة في هذا الأمر؟ فأجاب إيليا مضطربا: لي غرضان؛ واحد للدفاع عن النفوس البشرية التي حرم الله أذيتها، وواحد للدفاع عن ديانتنا.
ولكن من يعرف أسرار إيليا فإنه لا يشك في أنه يكتم غرضا ثالثا، وهو الميل الذي بدأ يشعر به نحو تلك الفتاة الحسناء.
فحدق البطريرك في وجه الشاب مدهوشا، وقال: فسر كلامك يا بني.
فقال إيليا، وقد بدأ يتحمس: يظهر أن غبطتكم يسركم أن تسمعوا من فمي ذلك، وإلا لاكتفيتم بما تعرفونه من هذا القبيل، وحسبي ما فهمته منكم على الطريق، فإنه من المشهور يا مولاي أن الخصم لا يستمال بالعنف والشدة والبغض. فإذا وقع بين أيدينا كان حكمه علينا تابعا لمعاملتنا له. فإذا أحسنا معاملته وأغضينا عن إساءته قال إننا قوم كرام متمدنون، وربما عاد وانقلب فصار ميالا إلينا، وإن عاملناه بالعكس قال بالعكس، وازداد بغضا لنا. فيجب علينا في رأيي أن نحسن معاملة غيرنا لنثبت له فضل مبدئنا، وإلا كان محقا في كرهه لنا ولمبدئنا.
فأطرق البطريرك يفكر. ثم سأل الشاب هل اسمك الخواجا إيليا يا بني؟ فقال الشاب مدهوشا من نقل الحديث، ومعرفة البطريرك اسمه: نعم يا مولاي.
فقال له: وهل أنت الذي يراك رهباني هائما على وجهك في جبل الزيتون، ووادي سدرون، وحول المدينة المقدسة؟ فقال الشاب وقد زادت دهشته: تلك طريقي يا مولاي إلى المزرعة التي أنا مستخدم فيها. فقال البطريرك وقد هز رأسه: إنك تعني مزرعة الشيخ سليمان الذي حرم على الكهنة الدخول إليها وجعلك «كاهنا عاميا» لها، ولذلك يسميها «أورشليم الجديدة» بدل أورشليم مدينتنا. فأطرق الشاب هنا خجلا واستحياء من شيخوخة البطريرك ورقته. فقال البطريرك مظهرا الاستياء: لا بأس لا بأس، ولكنني أنصحك يا بني أن تخفف على نفسك فلقد نظرتك أمس من نافذة قصري في المدينة تنظر إلى القصر وسكانه بهيئة الازدراء والاحتقار، وكنت في تلك الساعة أقرأ تقريرا فيك مقدما من أحد عارفيك. فما لنا يا بني والاهتمام بما لا يعنينا. إنما علينا أن نعيش بحب وسلام مع جميع الناس. فإن الصغار أخوة لنا كالكبار، وكلنا عائلة واحدة بالرب، وأنت لا تزال شابا، ولذلك يغلي دمك في عروقك، وحسبي دليلا على ذلك اللهجة التي سمعتها منك الآن. فإن غيري لو كان في مكاني لما قبلها منك. فهل تعدني أنك تعدل عما مضى، وتترك ما لا يعنيك.
فلما سمع إيليا هذه العظة الصغيرة التي لم يكن يتوقعها أسقط في يده، واحتار في الجواب. فأدرك البطريرك اضطرابه فمد يده وأمرها على رأس الشاب تحببا، وقال: حسن حسن ستترك كل ما مضى ولا شك. فلنعد إلى أمر الشيخ والفتاة. هل تعرف منزلهما؟ فأجاب الشاب: كلا يا مولاي، فقال: ومن أين قدما؟ قال: لا أعلم. فقال: وما سبب مجيئهما إلى هنا مع معرفتهما أن الدخول إلى المدينة المقدسة محرم قطعيا على اليهود؟ فقال: لا أعلم يا مولاي، فقطب البطريرك حينئذ حاجبيه، وقال: إنك لا تعلم شيئا من أمرهما ومع ذلك تتوسط لهما بالعفو بحجة الرفق والرحمة. فالرفق والرحمة يا بني فضيلتان واجبتان، ولكن يجب أن نبحث هل وراء هذين الشخصين دسيسة لنا أم لا؟
فضحك إيليا في نفسه من هذا الفكر، ونظر إلى البطريرك مبهوتا. فقال له البطريرك: لعلك لم تفهم كلامي بعد، إنني أريد قبل كل شيء أن أعلم هل الشيخ والفتاة هما جاسوسان للعرب أو الفرس أم لا؟
فلما لفظ البطريرك هذه الكلمة استنار عقل إيليا بغتة فرأى أن صاحبيه قد وقعا في ورطة جديدة أشد من الأولى. فأصغى قليلا ثم أجاب: لم أفطن إلى هذا قبل الآن، وإلا فإنني ما كنت أتوسط في إطلاق سراحهما قبل تحقيق أمرهما. إلا أنني أستأذن مولاي البطريرك في إبداء ملاحظة صغيرة، وهي أن الفرس مشتغلون عنا الآن بمصائبهم مع العرب الذي يفتحون بلادهم * وفضلا عن ذلك فإنهم علموا من حروبنا معهم منذ بضع سنوات وهدمنا مملكتهم أنه لا قبل لهم بنا * وحسبهم عدوا واحدا الآن، ولذلك لست أظنهم يتحرشون بنا بالتجسس علينا، وأما العرب فإن اليهود غضابى عليهم؛ لأن أول عمل عمله أميرهم عمر بن الخطاب بعد وفاة أميرهم أبي بكر هو إجلاؤه اليهود والمسيحيين عن نجران وسائر بلاد العرب * لكي لا يبقى فيها إلا دين واحد، وغبطتكم تعلمون أن بعض النجرانيين المسيحيين قد لجئوا إلى مدينتنا هذه. فكيف يمكن بعد هذا أن يأتمن العرب يهوديا على أسرارهم مع معرفتهم استياء اليهود منهم.
فهنا تنفس صفرونيوس الصعداء، وقال: هذا برهان ضعيف، فإن اليهود كانوا أكبر أعوان الفرس والعرب علينا في جميع حروبنا معهم * وقد بلغت بهم الجرأة أن ثاروا بأنطاكية، وقتلوا بطريركها كما تذكر * وثاروا أيضا بصور ليغتالوا المسيحيين ليلا * فرد الله كيدهم في نحورهم، ولا يزالون يتآمرون سرا في فلسطين مع يهود سوريا للثورة علينا * وأعظم من ذلك كله أنهم اشتروا من الفرس عشرات ألوف من أسرانا وذبحوهم انتقاما منا * فبغض كهذا البغض يا بني لا يحول ولا يزول، ولذلك أعتقد أن اليهود يحالفون علينا كل الأمم التي تقوم لانتزاع البلاد من قبضتنا؛ لأنهم لا يزالون يحلمون بإعادة مملكتهم، وما أدرانا أن العرب لم يعدوهم بمساعدتهم على ذلك إذا هم ساعدوهم علينا.
فهم إيليا بأن يجيب البطريرك بأن اليهود ما تطرفوا هذا التطرف القبيح إلا لظلم المسيحيين لهم واضطهادهم إياهم، ولكنه رأى الاختصار أولى في هذا المقام فأجاب: إن مولانا البطريرك أدرى منا بهذه الشئون، وله رأيه الموفق. إنما ما زلت أرى أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون جاسوسا؛ لأنه لو كان كذلك لما جاء بابنته معه ليلقيها بهذه النار إذا كشف أمره.
فابتسم البطريرك وقال: إن الجواسيس لا تكمل جاسوسيتهم إلا بالنساء. خصوصا النساء الحسان.
فاجتهد إيليا حينئذ في أن يقنع البطريرك بإطلاق سراح الفتاة على الأقل، ويبقي الشيخ لديه ليفحص أمره، فرفض البطريرك ذلك رفضا قطعيا؛ لأن الشعب كان يطلب تعميد الفتاة في حفلة عمومية، وقد قال البطريرك للشاب في هذا الشأن كلمة جميلة وهي: «إيليا إيليا إنك ملق بنفسك في مضيق لا مخرج منه. فدع الفتاة وشأنها فإن بينك وبينها هاوية عظيمة، ثم ألا تعلم أنني الآن مسئول لدى الله ولدى ضميري عن هذه الفتاة وإن كانت يهودية، فكيف تريد أن أطردها وحدها إلى معترك العالم، وأسجن عندي حارسها وسندها؟»
لكن يظهر أن البطريرك كان يرغب في استمالة إيليا إليه لمآرب له فرضي أن يطلق سراح الشيخ، ويبقي الفتاة في دير الراهبات في جبل الزيتون حتى يسكت الشعب عنها، وتنتفي الشبهة عن أبيها، وقد قال لإيليا: إن هذا كل ما يمكنه صنعه، وبعد ذلك بعث يسأل في «البيت الأحمر» عن السيدة تيوفانا المشهورة في القدس برقة عواطفها وخدمة الأديرة وقد تقدم ذكرها، وإذ وجدوها وكل إليها البطريرك أن تأخذ في صباح الغد تلك الفتاة إلى دير العذراء في جبل الزيتون، وتوصي بها الراهبات خيرا.
فلما بلغ الفتاة أنها ستنفصل عن أبيها، وتقيم بين راهبات مسيحيات في دير مسيحي أخذت تبكي وتنوح، ولكن أباها أقنعها بأن أسرها لا يتجاوز الأسبوعين، وأنه لا سبيل إلى غير ذلك نظرا لهياج الشعب بشأنها وطلبه تعميدها. فسكنت الفتاة، ونامت مع أبيها في إحدى غرف القصر في تلك الليلة؛ لتذهب في صباح اليوم الثاني معه إلى دير الراهبات في جبل الزيتون، وقد صرف أبو الفتاة نصف الليل وهو يوصيها بما أراد أن يوصيها به؛ لتتمكن من اجتياز المصاعب التي كانت أمامها.
ولما خرج إيليا من لدن البطريرك وجد في الباب راهبا ووراءه رجل يروم الدخول على البطريرك. فدهش إيليا حين مشاهدة الراهب ووقف حائرا لظنه أنه يعرفه. أما الراهب فابتسم ابتسام الازدراء؛ لأنه عرف إيليا، وصار يقلب فيه نظره بجسارة وتهكم. فقال إيليا في نفسه وهو خارج: لا ريب في أن هذا هو أخو الراهب متى؛ لأن فيه ملامح منه، وهو سكرتير البطريرك على ما أعلم. فلو كان الشيخ سليمان مكاني لأراه عاقبة مقاومته لأخيه.
وكان الرجل الذي وراء الراهب رسولا قادما من أجنادين حيث يقيم قائد الروم * وهو يحمل كتابا منه إلى البطريرك. فلما رآه البطريرك عبس؛ لأنه تشاءم من إرسال الرسول في أسبوع العيد، ولكنه تناول الكتاب باهتمام لا مزيد عليه، وصار يقرأه بعينين متقدتين غيظا وأملا، وما أتى عليه حتى صار يرتجف من الغضب، فألقاه بنزق إلى المقعد، وأشار إلى الرسول أن يخرج. فجثا الرسول ثلاثا، ودنا فلثم ذيل البطريرك، ثم خرج باحترام ظهره إلى الباب ووجهه إلى البطريرك، وهو يمشي القهقرى. فلما خرج صاح البطريرك بالراهب بغضب: مرهم أن يعجلوا في صلاة العيد؛ لنعود إلى المدينة، وإلا خفنا أن يباغتنا العرب هنا وإن كانوا لا يزالون بعيدين عنا. ثم أطرق البطريرك يفكر، وبعد حين صاح: إن الله سينتقم منهم لتركهم مدينتنا المقدسة بلا مدد جديد لتعزيز حاميتنا، فانحنى الراهب باحترام موافقة على كلام رئيسه.
وفي أثناء ذلك كان الشعب في الأسواق لا يزال يضج ويلعب، ويطلب تعميد الفتاة، فأبلغوه أنهم قرروا إرسالها إلى الدير، وبعد ذلك يرون رأيهم فيها.
الفصل الخامس
النبي أرميا ومشروعه العظيم
في السبب الذي لأجله أحب إيليا حبا فجائيا. ***
وانقضى ذلك العيد في بيت لحم بفرح وسرور بين طبقات الشعب، إلا أن البطريرك صفرونيوس وقائد الحامية في القدس وواليها كانوا في شغل شاغل وهم شديد، وفي يوم العيد بينما كان الناس منتشرين على طريق بيت لحم عائدين إلى القدس كان إيليا على طريق جبل الزيتون فوق القدس صاعدا إلى الجبل بخطى ثقيلة ورأسه إلى الأرض كأنه يعد خطاه أو يفتش عن شيء أمامه، والحقيقة أنه كان يتأمل ويتفكر.
وإنما كان إيليا يفتكر بحوادث أمس، وسوء حظ تلك الفتاة اليهودية، وكان إيليا كلما افتكر بها شعر بذوبان في قلبه وشفقة لا حد لها، وقد يستغرب القارئ أن يحب هذا الشاب الفتاة من أول نظرة، ويخاطر بنفسه وبراحته في سبيلها، ونحن نشاركه في هذا الاستغراب لو لم يكن هنالك سر صغير بث في دمه سم الحب بقوة الصاعقة وسرعتها، وإليك هذا السر الصغير الحقيقي الذي لم يطلع عليه أحد قبل الآن.
منذ عشر سنوات كان إيليا في يافا لحاجة له، ولما قصد العودة منها إلى القدس ركب في قافلة وسار معها، ولكنه قبل المسير رأى في المحطة قافلة أخرى تستعد للمسير وراء قافلته وفيها رجل يهودي ومعه فتاة في نحو العشرين من العمر، وكان إيليا يومئذ في السادسة عشرة من العمر، وكان هوائيا شديد التصورات والانفعالات، وقد قرأ بإمعان التوراة وتاريخ يوسيفوس في حروب اليهود وأخبارهم، فصار يرى في اليهود معاصريه بقايا أمة عظيمة، ومما كان يفتنه منها على الخصوص قوة نفوس نسائها وجمالهن الذي حل في التاريخ مشاكل كثيرة، فخيل له أن للمرأة الإسرائيلية نفسا خصوصية جاذبيتها أشد من كل جاذبية. فما وقع نظره على تلك الفتاة التي هي من ذلك الدم القديم حتى شعر بانجذاب شديد إليها، وكان جمال الفتاة ولطف عينيها الهادئتين الصافيتين مما ساعد على أسر ذلك الفتى الصغير، وكان على جبينها عصابة بيضاء مزركشه تزيد وجهها بياضا وجمالا. فسار الفتى إيليا في قافلته تاركا قلبه الصغير لدى تلك الفتاة الكبيرة، وكان كلما نزلت القافلة على الطريق يشخص في أنوار القافلة القادمة بعدها، ويود لو تصل إلى قافلته لتسيرا معا، وكان يخيل له حين رؤية أشباح تلك القافلة في الظلام من بعيد أنه يرى تلك العصابة البيضاء ذات الزركشة اللامعة وتحتها العين اللامعة، وبالحقيقة أنه كان يراها بعين بصيرته، ولما سمع أن أحد اللصوص هاجم على القوافل افتكر إيليا الصغير بذات العصابة البيضاء قبل افتكاره بنفسه، وعلى ذلك كان حب ذلك الفتى الصغير حبا حقيقيا؛ لأن هذا هو مقياس الحب الحقيقي، وقد بقي إيليا على هذه الحال وبهذه الأماني حتى غابت القافلة، ولم يعد يرى لها أثرا، فعلم أنها حادت عن طريق القدس إلى بلدة غيرها. فأطرق الصغير حينئذ يتأمل في ذهاب حبه سدى، فكان ذلك أول هم دخل قلبه الخلي. فيا حب الملائكة إنك لا تكون أبدا أطهر من هذا الحب ولا أثبت منه؛ لأن إيليا الصغير بقي يتذكر حتى في أحلامه تلك الرؤيا التي مرت أمام عينيه كشهاب أضاء فكان نوره أول نور دخل إلى قلبه.
ولكن بعد عشر سنوات لما وقع نظر إيليا في بيت لحم على الفتاة أستير في ظلمة الليل وهي مضطربة خائفة، وعلم أنها من دم تلك الفتاة التي أحبها في أحلامه في صغره ثارت نفسه دفعة واحدة، وأحبها من أول نظرة، وخيل له أنه يحب في هذه الفتاة حبيبين: الحبيب الحاضر الذي يستحق كل حب، والحبيب الغائب الذي ذهب في أوقيانوس العالم ذهاب حجر في البحر فلم يعد يظهر له أثر، وكأن إله الحب قصد إيليا بسوء فأرسل إليه أستير شبيهة بفتاته الأولى في كثير من ملامحها وسنها وقوامها، ولم تكن تنقصها وا أسفاه غير العصابة البيضاء المزركشة ...
فصعد إيليا الجبل وهو يفتكر بالفتاتين معا، ولكن أستير - وهي الحاضرة - بدأت تحتل محل الخيالية الغائبة، وكان يتساءل كثيرا عن سبب وجودها مع أبيها في بيت لحم في تلك الليلة، ويعد نفسه بلقاء أبيها في ذلك اليوم للوقوف على سر هذه المسألة.
وما زال إيليا صاعدا حتى انتهى إلى أعلى الجبل فقصد أرزة كانت قائمة هناك كملجأ لطيور السماء في ذلك المكان الجاف
1
ولما وصل إليها عطف إلى جهتها الشرقية حيث بني كوخ صغير مستند إلى جذعها، وكان في الكوخ رجل جالس ورأسه بين يديه متأملا متفكرا وأمامه كتاب مفتوح. فلما تحقق إيليا وجود الرجل صاح: السلام على النبي أرميا، فنهض الرجل، وقال: أهلا بكيريه إيليا، هل تذهب مرة ثانية إلى بيت لحم؟ فضحك إيليا لهذا السؤال، وقال: جئت أشكرك يا صديقي لأنك أنقذتني أمس، ما لك جالس هنا وظهرك إلى المدينة المقدسة؟
فتنفس أرميا الصعداء وخرج من كوخه إلى مقابلة أورشليم، وبعد أن ألقى إليها نظرة قال: إذا كان الله قد غضب عليها أفلا أغضب عليها أنا أيضا، إنني صرت أكره النظر إليها، ولذلك نقلت كوخي من أمامها إلى جهة الشرق. نعم، لقد صرت مجوسيا أستقبل الشمس بدل مدينة داود.
فضحك إيليا، وقال له: ماذا، هل جد شيء؟ فقال أرميا متعاظما: ماذا تريد أكثر من ضياع بلادنا وخراب مملكتنا كما خربت مملكة اليهود قبلنا، فها العرب زاحفون إلينا ليأخذوا أملاكنا، وها المسيح الدجال يتركنا ويذهب كأنه يسر بسقوط مدينتنا وديانتنا. فقال إيليا مدهوشا: ومن تعني بالمسيح الدجال؟ فصاح أرميا والجنون ظاهر في عينيه: الإمبراطور. فصرخ إيليا: اسكت. اخفض صوتك يا أرميا وإلا ألحقوك بسميك القديم. فهنا بلغ الغضب من أرميا مبلغه، فصاح ونار الجنون تستطير من عينيه: دجال وألف دجال. فإن سقوط ديننا ومملكتنا سيكون على يده، وهل تريد دليلا على أنه المسيح الدجال أعظم من مقاومته بطريركنا صفرونيوس حتى في المسائل الدينية التي لا يفهم هو منها شيئا، إن بطريرك أورشليم يجب أن يكون أرفع البطاركة كلمة، وأصدقهم رأيا؛ لأنه قريب من المهد والقبر والجلجلة - تلك الأماكن التي توحي إلى النفس الحقيقة والحكمة، ولذلك يجب أن لا يتبع رأي غير رأيه، وأما صاحبنا الإمبراطور فإنه استمال إليه بطاركة القسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية وكذلك أسقف رومة، وقرروا مسألة الطبيعتين والمشيئة الواحدة * وأنا أقول الآن لك ولهم وللأرض والسماء أنهم مخطئون جانون على الكنيسة، والحق مع البطريرك صفرونيوس الذي يعلمنا أن المسيح بطبيعتين ومشيئتين. *
فهنا تنفس إيليا الصعداء وقال: رجعنا يا أرميا إلى المجادلات الدينية، بالله دعنا منها فقد عافتها نفسي.
فابتسم النبي أرميا ابتسام الاحتقار، وقال: هل تظن إذا تركناها أنها تتركنا هي؟ هيهات هيهات. فإنها قابضة علينا وعلى روح مملكتنا بمقبض من حديد، فإما أن نحلها أو تحلنا؛ فضحك إيليا لهذه التورية في كلام المعتوه، وقال له: إنك اليوم بليغ يا أرميا فما سبب بلاغتك؟ يظهر أنك لا تزال صائما؛ لأنك ذكرت لي يوما أنك لا تكون حسن البلاغة إلا إذا كنت صائما. فقال أرميا: نعم، ما زلت صائما ولم أتناول طعام العيد بعد، ولكنني أهزأ بطعام العيد وبكل طعام. ألا يكفينا خبز الروح الذي هو غذاء النفس. نعم، هو يكفي كل رجل صالح، وأما الأشرار والخنازير البشرية الذين آلهتهم بطونهم فلا يكفيهم خبز الروح، ولكن لا تنقل الحديث الأول فإنني أريد إتمامه لأبلغك أمرا مهما، هل تريد أن تسعى معي سعيا عظيما؟
فحدق إيليا في المعتوه، وقال: ما هذا السعي؟ أخبرني عنه وأنبئني أولا هل حديثك طويل فإن لي حديثا مهما معك.
فضرب أرميا يده في الهواء وقال: لا حديث أهم من الحديث الذي أروم الدخول معك فيه فتعال نجلس في الشمس أمام الكوخ، وهناك أطلعك على مشروعي.
فقال إيليا وهو يضحك في نفسه من مشروعات أرميا: بل دعنا نجلس هنا أمام المدينة المقدسة فإن المنظر في غاية الجمال.
وفي الحقيقة إن منظر القدس تحتهما كان مما يروق النظر في تلك الساعة؛ فإن الشمس أطلت على المدينة في صبيحة عيد الميلاد من وراء غيومها السوداء تنثر على أرض القدس نورها الذهبي، وكانت المدينة تحت الضباب الرقيق المخيم عليها بين أسوارها السمراء الشاهقة المحيطة بها تشبه حمامة بيضاء في قفص مكمد اللون عليها غلالة من القطن المندوف، وكان الناس في سفح الجبل على الطريق يسيرون ذهابا إلى المدينة وإيابا منها، وهم كلما التقوا صافحوا بعضهم بعضا تقبيلا، وتبادلوا التهنئة بالعيد، وكان منظر الأفق وراء المدينة وإلى جوانبها متسعا للجالسين على الجبل فكان إيليا يسرح طرفه مبتهجا، وأما أرميا المسكين فإن نفسه كانت لا تشعر بذلك الجمال الطبيعي ولا تلتفت إليه.
ولما جلس الاثنان تجاه المدينة كان أرميا يفكر باهتمام. فقال له إيليا باسما: هات الآن ماعندك، واختصر بقدر الإمكان.
فقال أرميا بجد ورزانة: إن العلة متى استعصت صار شفاؤها متعذرا إلا بعملية جراحية كبيرة أو بعناية إلهية. أما العناية الإلهية فيظهر أنها غضبى منا؛ لأنها لا تساعدنا في شيء فيجب أن نستعمل العملية الجراحية. فأنا قد بدا لي أمر عظيم، فإنك تعلم أن الإمبراطور قد أيد الطبيعتين والمشيئة الواحدة * وهو يتداخل في شئون الكنيسة * مع أن ذلك ليس من وظيفته. فقال هنا إيليا: إنك تتكلم الآن يا أرميا كلام عقلاء. فقال أرميا: لا تقطع حديثي واسمع التتمة، وأنا متحقق أن البطريرك صفرونيوس مستاء من مداخلات الإمبراطور هذه، والكلام بيني وبينك أن هذه المسألة ليست بمسألة دينية فقط فإنها مسألة جنسية أيضا * فإننا نحن السوريين قد سئمنا النير اليوناني * وقد مضت علينا عشرة قرون واليونان متحكمون فينا منذ فتح الإسكندر بلادنا * فلماذا لا نكون أمة مستقلة وحكومة مستقلة. إن نفسي تحدثني الآن بهذا الأمر، وها العرب قد كادوا يملكون فلسطين، وغدا يصلون إلى مدينتنا. ففي نفسي متى وصل ملكهم إلى أسوارنا أن أذهب إليه، وأعرض عليه أن نتفق معه، ونكون من حزبه على شرط أن يحمي بطريركنا ويجعله ملكا مستقلا في سوريا كالإمبراطور، وحينئذ يمكن البطريرك أن يقاوم الإمبراطور، ويؤيد مذهبه في الطبيعتين والمشيئتين، ولا ريب عندي في أنه سينتصر عليه انتصارا عظيما، ويتبعه كل أصحاب العقول في الأمة، وأول انتصاراته تكون في مصر؛ لأن الأقباط فيها مثلنا يئنون تحت نير اليونان * وقد اغتنموا فرصة القول بالطبيعتين والمشيئة الواحدة للانفصال عن الكرسي الإسكندري والقسطنطيني * والمقوقس كبيرهم وواليهم يجامل العرب الآن نكاية بالإمبراطورية
2 * فما قولك في هذا المشروع العظيم؟
فعجب إيليا من هذا الرأي الذي ارتآه معتوه كأرميا. فسأله: وهل أظهرت رأيك هذا لأحد قبل الآن؟ فقال أرميا: نعم، لواحد فقط. فقال إيليا مستغربا: ومن هو؟ فقال أرميا: الله. فضحك إيليا بعد اهتمامه وقال: إنك تحسن صنعا بإبقائه بينك وبينه، وإلا أخذوك يا أرميا إلى القسطنطينية، وألقوك للأسود لتلغ بدمائك. فقال أرميا مزمجرا: وهل مثلي يرهب الموت؟ فإنهم يقتلون جسدي، وأما نفسي فلا يقدرون عليها، وحسبي فخرا أن أموت في سبيل رفع شأن المملكة وإنقاذها من الهلاك. فضحك إيليا وقال: أؤكد لك يا صاحبي أنه إذا اجتمع أهل الأرض طرا لرفع شأن المملكة من الطريق التي تذكرها فإنهم يخيبون سعيا ويضلون سبيلا، وسأطلعك في فرصة أخرى على الطريقة الحقيقية لرفع شأن المملكة. فاكتم مشروعك هذا لئلا يضرك إفشاؤه، وأصغ إلي الآن لأحدثك في الأمر الذي جئت إليك من أجله. فقال أرميا وهو غير راض عن جواب إيليا: وما ذاك؟ فقال إيليا: هل بلغك خبر الفتاة الوثنية التي وجدوها أمس على طريق بيت لحم؟ فقال أرميا ضاحكا: نعم نعم، فقد شاهدتها اليوم هنا في الجبل حين مجيئهم بها إلى دير العذراء لإدخالها فيه هداية لها، وكان معها سيدة وشيخ وراهبان، ولكن يا لله ما أجملها. حقا لا أعلم لماذا تكون الوثنيات جميلات هكذا. فقال له إيليا: فاسمع الآن لأذكر لك ما أطلبه منك.
ثم دنا إيليا من أرميا، وانحنى نحوه، وصار يحادثه همسا حديثا سريا. فلم يكن يسمع من حديثه سوى كلمات متقطعه مثل : أبواها وثنيان ... إيصال رسائلهما إليها ... جائزة سنية لك ... هل يمكن دخول الرجال إلى الدير ... هل ترضى بأن تصير مسيحية أم ترفض ... أية راهبة هي أشد الراهبات تقوى وأطلاهن حديثا ... وكان أرميا يجاوب باهتمام شديد، وإيليا مرتاح إلى أجوبته، وعلى وجهه لوائح الرضى.
الفصل السادس
أمام دير العذراء
في أن الحب ليس بنبتة تغرس طوعا وتقلع طوعا. ***
ولما فرغ إيليا من مسارة أرميا نهض وودعه، وانصرف فبقي أرميا وحده مفكرا تحت الأرزة، وسار إيليا في طريقه يقصد دير العذراء القائم على مقربة من الأرزة في جهة الشمال على منبسط من الأرض فوق الجبل، وكان هذا الدير مبنيا هناك لتنقطع الراهبات فيه إلى الله، وهو أكرم أديار أورشليم لقيامه على جبل الزيتون المشهور في تاريخ المسيحية في عصر المسيح، وكان محظورا على الرجال أيا كانوا الدخول إليه قطعيا لاختصاصه بالنساء.
1
فلما وصل إيليا إلى الدير أخذ يقلب طرفه في جدرانه البيضاء الشاهقة، ويسترق النظر من ثقب الباب الكبير، ثم قصد الحديقة الممتدة وراء الدير والمسورة بسور عال، فصعد إلى أكمة تقابلها من بعيد، وألقى نظرة على نوافذ الدير الخارجية التي تطل على الحديقة فلم ير أحدا. فتنهد ونزل عن الأكمة، وصار يدور حول الدير، وكأن لسان حاله ينشد:
أمر على الأبواب من غير حاجة
لعلي أراكم أو أرى من يراكم
وبعد برهة سمع صرير قفل الباب فالتفت نحوه فأبصر سيدة خارجة منه، ووراءها مكار معه حمار. فتأمل إيليا فيها جيدا، ولكن أول ما وقع نظره عليها عرفها فخطا نحوها مسرعا بهيئة جدية، وكانت السيدة قد عرفته أيضا فوقفت له مبتسمة. فلما وصل إيليا إليها قال: سلام على السيدة الشريفة، وكل عام وهي بخير وعافية. فقالت السيدة: وكل عام وجنابك بخير أيها الرجل الكريم. أرجو أن لا تكون الغوغاء قد أساءت إليك ليلة أمس في بيت لحم. فضحك إيليا، وقال إنني أول ما نظرتك أيتها السيدة الكريمة أسرعت لأهديك شكري على مساعدتك لي أمس بواسطة أرميا فإنني لولا هذه المساعدة لأصابني ما لا أحب. فقالت السيدة وقد نظرت إليه بعينين براقتين لهما حديث سري: اشكر مريم العذراء التي أنقذتك من أيديهم.
فلا ريب في أن القارئ عرف السيدة تيوفانا التي كانت في البيت الأحمر ليلة أمس، وعهد إليها البطريرك أن توصل الفتاة اليهودية إلى هذا الدير، وكانت تيوفانا في نحو الثلاثين من العمر، وهو عمر النساء الكامل الذي تصبح فيه السيدة سيدة تامة لامتلاكها عقلها وعواطفها، ومعرفتها طرق السيادة على قلوب الرجال وعقولهم، وكان كل شيء في وجهها يدل على أنها يونانية عريقة في اليونانية. فإنها كانت حنطية اللون مذهبته من فعل شمس الشرق الكاوية. بعينين زرقاوين نافذتي السهام فيهما الابتسام دائم، وشفتين رقيقتين وراءهما لؤلؤ الأسنان لا يختفي أبدا لاشتراك الشفتين مع العينين في ذلك الابتسام المستمر، كأن النفس التي توحي إليهما ذلك الارتياح الباطني نفس طفل لا تعرف الهم والغم؛ بل هي في ربيع أبدي، وتحت ذلك عنق لو نظره العربي لشبه أعناق الغزلان به بدل أن يشبهه بأعناق الغزلان.
والحق يقال: إن إيليا لم ينتبه كثير إلى هذا الجمال الفتان، ولا إلى تلك الابتسامات الجذابة؛ لأن الفتاة اليهودية - الموجودة والخيالية - كانت قد ملكت زمام قلبه، والقلب النقي الذي يعرف الحب الحقيقي لا يسع اثنتين. فرام سؤال تيوفانا عنها؛ لعلمه أنها هي التي أتت بها إلى هذا الدير. فسألها: هل أرسلوا الفتاة الوثنية إلى هذا الدير أيتها السيدة؟ فقالت تيوفانا وقد غضت من طرفها بدلال: نعم أيها الأخ المحبوب بالرب، وهل رأيتها قبل أن جئنا بها؟
وكان سؤال تيوفانا هذا سؤالا جديرا بأن يصدر عن امرأة في شأن امرأة أخرى يسأل أحد الرجال عنها، ولا ريب في أنه كان فيه شيء من الحسد والاستفحاص؛ لأن المرأة لا تقدر أن تسمع رجلا يسأل عن امرأة أخرى باهتمام إلا وتحب أن تعرف سبب ذلك السؤال وذلك الاهتمام. فأجابها إيليا أنه هو الذي توسط لها لدى البطريرك؛ ليحسنوا معاملتها، ولا يسيئوا إليها. فضحكت تيوفانا، وقالت: فإذن أنت تعرفها. ثم قالت متهكمة: فيا ليتك تستعمل معرفتك لها لإقناعها بترك العناد والشراسة. فحملق إيليا، وقال: وماذا صنعت؟ فضحكت تيوفانا في نفسها وقالت: لما وصلنا إلى هذا المكان مع الشيخ والراهبتين صارت الفتاة تبكي ورفضت الدخول. فخرجت إليها الرئيسة ولاطفتها وأدخلتها بعد أن أجبرتها على ترك الشيخ. فعاد الشيخ والراهبان إذ لا يسمح للرجال بالدخول إلى الدير، وكان الشيخ يبكي أيضا حين فراقه لها مع أنهم قالوا إنه غريب عنها. فلما دخلنا ذهبت بها الرئيسة وحولها الراهبات بالشموع والزينات إلى كنيسة الدير، وكانت الفتاة تظن أنهن ذاهبات بها إلى إحدى الغرف. فلما دخلت باب الكنيسة كان أول ما وقع عليه نظرها رسم سيدنا المسيح مصلوبا على صليب صغير معلق في صدر المكان اتجاه الباب. فصاحت صياحا هائلا، وسقطت على الأرض مغشيا عليها. فأسرعنا ونضحنا وجهها بالماء، ونحن مسرورات بإغمائها؛ لظننا أن الشيطان الذي فيها قد صرع ومات أول ما وقع نظره على الصليب، ولكنها لما انتبهت زاد بكاؤها وزفيرها، وصارت أحيانا تلطم نفسها، وتهم أن تنطرح من النافذة كأنها تريد أن تنتحر، وقد رفضت الأكل والشرب رفضا قطعيا. فباسم الصليب الكريم أيها الأخ بالرب إنني ما رأيت في حياتي وثنية شرسة متعصبة كهذه الفتاة، وقد قالت لي الرئيسة أنها تشك في اهتدائها ونزول السلام المسيحي والوداعة المسيحية عليها بعد ما ظهر من عنادها وشراستها.
وقد ظنت تيوفانا أنها بهذا الذم والتنديد تجعل الشاب يزدري الفتاة، وتبعد قلبه عنها، وما درت أنها بهذا الوصف الذي آلم قلب إيليا قد زادته تعلقا بالفتاة وشفقة عليها. فأطرق يفكر، ثم قال للسيدة جوابا على سؤالها الأول: نعم، إنني أبذل جهدي لمساعدة الرئيسة على تسكين هياج هذه الفتاة التعيسة إذا شاءت وأذنت لي بالدخول؛ لأنني كنت من مساعدي البطريرك على ذلك. فضحكت تيوفانا ضحكة معناها «لست ساذجة إلى هذا الحد لأسعى لك في ذلك» ثم قالت: ولكن يا للأسف إن دخول الرجال إلى الدير ممنوع قطعيا.
ولكن ما أتت تيوفانا على هذه الكلمات حتى سمع صوت بعيد ينادي نداء شديدا. فالتفت إيليا وتيوفانا فإذا برجل يعدو كالبرق من جهة الأرزة، وهو يخبط الهواء بيديه، ويصيح بجنون - إيليا. إيليا. العرب العرب! لقد وصلوا إلى المدينة.
فصاحت تيوفانا: هذا أرميا ماذا جرى له. أما إيليا فهرع نحوه وسأله: ما بالك؟ فصاح أرميا وشعره منتشر على كتفيه ونار الجنون تتقد في عينيه: لقد وصل العرب. لقد وصل العرب. فذعرت تيوفانا عند اسم العرب، وصاحت بخوف متراجعة نحو باب الدير.
وفي هذه الأثناء كانت الضجة والجلبة حول أسوار أورشليم، وكانت جنود العرب تهتف هتافا طبق السماء «الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله» * وكثيرون من أهل المدينة حول الأسوار * يشاهدون القبائل البدوية الهاجمة عليهم، وبعضهم يضحكون، وبعضهم يتأملون - وما دروا أن كثيرا من الضحك عاقبته البكاء.
الفصل السابع
العرب في بيت المقدس
وفي تلك الساعة كان البطريرك ووالي المدينة وقائد الحامية فيها منفردين في إحدى قاعات المقام البطريركي بجانب كنيسة القيامة في القدس، وكانت لوائح الغضب بادية في وجه البطريرك، وهو مطرق يفكر، ويده تعبث بلحيته البيضاء الطويلة المنتشرة على صدره، وكان الوالي وقائد الحامية يتحادثان همسا احتراما له.
وكان الوالي يقول للقائد: هل إذا هاجمونا وعدتهم مائة ألف يقدرون على أخذ مدينتنا؟ فأجاب القائد: إن القدس لا تفتح أبدا إلا صلحا خصوصا في هذا الفصل فصل الثلج والبرد والمطر. فقال الوالي: قد قيل لي: إن العرب حفاة، فلنطاولهم ما استطعنا فإن البرد يهرأ أقدامهم فتسقط أصابعهم. فهز القائد رأسه وقال: أما هذا فلا سبيل إليه؛ لأن أصابع رجالنا مع احتذائهم تسقط من البرد، وأصابعهم هم لا يصيبها أذى؛ لألفة أجسامهم المشقة وشظف العيش * فقال الوالي: لا شك أن ذلك كان من أسباب قوتهم.
وبينما هما يتناجيان وإذا براهب قد دخل مسرعا، وقال للبطريرك: إن الرسول في الباب. فأمر البطريرك بإدخاله على عاجل. فأدخل عليه بدوي بملابس العرب وهيئتهم. فسأله البطريرك باليونانية: هل عرفت ما نريد معرفته يا يوحنا. فأجاب البدوي باليونانية أيضا: نعم يا مولاي. فقال البطريرك: اجلس وقص علينا كل أخبارك.
ولا ريب أن القارئ قد أدرك أن هذا البدوي العربي الذي يتكلم باللغة اليونانية واسمه يوحنا إنما كان من الغسانيين وهم عرب الشام النصارى * الذين كانوا يعاونون الروم على المسلمين والفرس في حروبهم معهم * وقد حاربوا في اليرموك في جيش الروم حربا شديدة. *
فجلس البدوي يوحنا على مقعد بعيد، وكان قد تزيا بزي البدو؛ ليسهل له الاختلاط بالعرب إخوانه بالنسب والجنس تنسما لأخبارهم، ثم أخذ يقول: لما توفي نبي المسلمين وخلفه أبو بكر أنفذ الخليفة وصية النبي في استعمال أسامة بن زيد على جيش وإرساله لفتح الشام * وكان العرب قد أخذت ترتد عن الدين الإسلامي لموت النبي * فلما رأت مسير الجيش للشام هابوا الخلافة وقالوا *: «لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه».
1
فكأن جيش الشام كان عونا شديدا للعرب في الداخل، وبعد إخضاع المرتدين من العرب أبلغ أبو بكر عدد هذا الجيش إلى 124 ألف مقاتل * وقد قسمه إلى جيشين: جيش لمقاتلة الفرس، وجيش لمقاتلتنا * ومن فرط دهائه أوصى الجيشين بأن يلبثا دائما أحدهما على مقربة من الآخر؛ ليتمكنا من الاتحاد في ساعة الخطر * وقد فتح جيشهم في الفرس بلاد بابل كلها ودعوها العراق العربي * وكان قائدهم فيها خالد بن الوليد الذي يلقبونه «سيف الله» * وهو الذي وثب بعد ذلك بأمر أبي بكر من العراق إلى الشام ففتح غزة، وكتب إلى الإمبراطور يطلب منه أن يسلم إليه دمشق، فأجابه الإمبراطور بهذا الجواب «ملكك القفر فعد إليه» * ولكن لما توفي أبو بكر بعد أن استخلف عمر بن الخطاب عزل عمر خالدا، وولى الشام أبا عبيدة الملقب بأمين الأمة * ويظهر أن أبا عبيدة يقصد دولتنا أكثر من دولة الفرس * لأنه بعد إسقاطنا دولة الفرس يعلم أنه إذا أسقط مملكتنا لا سمح الله استولى على الكرة الأرضية كلها، وهذا ما سمعته من أحد رجاله، ولذلك يريد الاستيلاء على مدينة القدس عاصمة المسيحية بعد استيلائه على دمشق عاصمة سوريا.
وقد تحققت أن العرب سلموا من الاضطرابات والفتن الداخلية التي كانت تتهددهم، وذلك بأمرين: الأول: شدة أميرهم عمر وحزمه وعدله، والثاني: انصرافهم إلى فتح الشام وفارس، وهذا ما كان من أكبر أسباب اتحادهم وقوتهم؛ لأنهم لو أقاموا في بلادهم، ولم يشتغلوا بمقاتلتنا لانصرفوا إلى مقاتلة بعضهم بعضا كما كانوا من قبل، وهذا من دهاء أبي بكر وعمر بن الخطاب وسياسته. *
فهز البطريرك هنا رأسه، وكان الوالي والقائد مصغيين كثيرا، فأردف الرسول بقوله: أما ما علمته عن زحفهم إلينا فهذا:
2
بعد أن فتح أبو عبيدة دمشق، وأقام فيها شهرا يتمتع فيها مع جنده بمناظرها الجميلة، ويستريح بعد عناء القتال جمع إليه أمراء المسلمين، وقال لهم: «أشيروا علي بما أصنع وأين أتوجه» فاتفق رأي المسلمين إما إلى قيسارية (قيصرية) وإما إلى بيت المقدس.
3
فقال معاذ بن جبل: «اكتب إلى أمير المؤمنين، فحيث أمرك فسر، واستعن بالله» فقال: «أصبت الرأي يا معاذ» فكتب كتابا إلى الأمير، وأرسل الكتاب مع عرفجة بن ناصح النخعي. فلما قرأ أميرهم الكتاب جمع إليه أعوانه ومشيريه فاستشارهم في ذلك. فقال له علي بن أبي طالب: «يا أمير المؤمنين، مر صاحبك أن يسير إلى بيت المقدس فيحدقوا بها ويقاتلوا أهلها فهو خير الرأي وأكبره، وإذا فتحت بيت المقدس فاصرف جيشه إلى قيسارية فإنها تفتح بعدها إن شاء الله تعالى. كذا أخبرني رسول الله» * فقال له الأمير: «صدقت يا أبا الحسن» * فإننا إذا ملكنا بيت المقدس خارت عزائم الجند والشعب، وفتحها يعدل فتح القسطنطينية من هذا الوجه. (- وكان عثمان بن عفان حاضرا فقال: (- رأي الأمير صائب وموفق إن شاء الله. إلا أنني أخشى أمرا. فقال الأمير: (- وما هو أيها الناصح النصوح؟ فقال: إن الروم لم تدب فيهم الحماسة وينهضوا على مملكة الفرس نهضة واحدة إلا لأخذ الفرس صليبهم من بيت المقدس وإحراقهم كنيسة القيامة * فأخشى أن نثير حميتهم التي خمدت إذا أخذنا بيت المقدس، فنكون كأننا أضرمنا النار بيدنا (- فقال علي: (- والله إنني لا أرى مناسبة بيننا وبين الفرس؛ فإن الفرس يدخلون المدن هادمين مخربين منتقمين، وأما نحن فندخل مسالمين مصلحين.
فقال الأمير: (- أجل إن الفرس هجموا على الشام لسحق الرؤساء والشعوب معا، أما نحن فندخل الشام للإنصاف بين الشعب والرؤساء، فدخولنا نعمة للشعب لا نقمة. ثم تناول الأمير حينئذ رقا وقلما، وكتب إلى أبي عبيدة يقول: * «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام أبي عبيدة. أما بعد؛ فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه، وقد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها، وقد أشار ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالسير إلى بيت المقدس؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - يفتحها على يديك، والسلام عليك».
فلما عاد الرسول بهذا الكتاب إلى أبي عبيدة وجده في الجابية * فقرأه أبو عبيدة على المسلمين؛ فهللوا وكبروا، وفرحوا بمسيرهم إلى بيت المقدس * ثم «دعا أبو عبيدة بيزيد بن أبي سفيان
4
وعقد له راية على خمسة آلاف، وأمره أن يزحف إلى بيت المقدس وفلسطين، وقال له: يا بن أبي سفيان ماعلمتك إلا ناصحا. فإذا أشرفت على بلد إيلياء (أي بيت المقدس) فارفعوا أصواتكم بالتهليل والتكبير، واسألوا الله بجاه نبيه ومن سكنها من الأنبياء والصالحين أن يسهل فتحها على أيدي المسلمين. فأخذ يزيد الراية وسار. ثم دعا أبو عبيدة شرحبيل بن حسنة الذي كان كاتب وحي نبيهم، وعقد له راية، وضم إليه خمسة آلاف فارس من أهل اليمن، وقال له: سر بمن معك حتى تقدم بيت المقدس، وانزل بعسكرك عليها، ولا تختلط بعسكر من تقدم قبلك. ثم دعا بالمرقال بن هشام بن عتبة بن أبي وقاص، وضم إليه خمسة آلاف فارس مع جمع من المسلمين، وسرحه على أثر شرحبيل بن حسنة، وقال له: انزل على حصنها، وأنت بمعزل عن أصحابك. ثم عقد راية رابعة فسلمها للمشيب بن نجية الفزاري، وأمره أن يلحق بأصحابه، وضم إليه خمسة آلاف فارس من النخع وغيرهم من القبائل، وعقد راية خامسة وسلمها إلى قيس بن هبيرة المرادي، وضم إليه خمسة آلاف فارس، وسيره وراءه. ثم عقد راية سادسة وسلمها إلى عروة بن المهلهل بن زيد الخيل، وضم إليه خمسة آلاف فارس، وسيره وراءهم - فكان جملة من سرحه أبو عبيدة إلى هذه المدينة خمسة وثلاثين ألفا» وقصده بذلك إرهابنا بنزول أمير علينا في كل يوم، وهذه مقدمة جيشهم، وقد سمعت واحدا منهم يقول بعد وصولهم: «ما نزلنا ببلد من بلاد الشام فرأينا أكثر زينة ولا أحسن عدة من بيت المقدس، وما نزلنا بقوم إلا وتضعضعوا لنا وداخلهم الهلع وأخذتهم الهيبة إلا أهل بيت المقدس فلا يكلمنا منهم أحد ولا ينطقون غير أن حارسهم شديد وعدتهم كاملة».
5
فهنا ضحك الوالي، ونظر إلى القائد، فابتسم القائد افتخارا بشهادة العدو بثبات جأش الجند والأمة. فقال الوالي ليوحنا: وماذا سمعت عن باقي مدن فلسطين؟ فقال الرسول: إن جند العرب تفرقوا فيها، وهاجموها من كل صوب؛ فبيسان وطبرية واللد والرملة ويافا وقيسارية (قيصرية) وغزة ونابلس وعمواس وبيت جبرين وأجنادين - بعضها وقع وبعضها سيقع في قبضتهم. فقال القائد: وهل سمعت شيئا عن الشام؟ فقال الرسول: إن أبا عبيدة قصد حمص من دمشق بعد إرساله الجند إلى فلسطين. فلما علم جيشنا بذلك ظن أنه قادر على استرداد دمشق فزحف إليها، فعاد أبو عبيدة وخالد بجندهما، ولاقياه في مرج الروم قرب دمشق فكانت الغلبة لجيش العرب أيضا * ويقال: إن قائد العرب أبا عبيدة سيقصدنا في وقت قريب.
وما أتى الرسول على هذا الكلام حتى دخل راهب، وأخبر البطريرك أن في الباب سيدة وشيخا يستأذنان بالدخول، وكانت السيدة هي أم تيوفانا قدمت وهي تبكي خوفا من العرب على ابنتها التي ذهبت لتوصل الفتاة الوثنية إلى دير العذراء، وأما الشيخ فهو أبو أستير وقد جاء خائفا على ابنته أيضا؛ ليلتمس من البطريرك الإذن له بالذهاب إلى الدير لافتقاد ابنته. فضجر البطريرك من مقابلتهما، وأمر الراهب أن يبلغهما أن العذراء تحمي ديرها، وتسهر عليه. ثم أردف بقوله: إن العرب ليسوا كالفرس؛ بل هم يعبدون الله مثلنا، ولذلك يحترمون المنقطعين إليه تعالى
6
فلا تخافوا منهم على الدير.
الفصل الثامن
تاريخ حياة إيليا
قبل الحوادث التي تقدمت
ولما رجعت تيوفانا القهقرى إلى الدير عند ذكر العرب جرت معها إيليا بيدها، وهي تقول: هلم بنا إلى الدير يا كيريه إيليا فإننا نخشى أن يقصد أحد منهم هذا المكان، ولكن رئيسة الدير لما سمعت من تيوفانا خبر وصول العرب هزت كتفيها غير مبالية، وقالت بتسليم ملائكي: لدينا جيش أقوى من جيش الروم والعرب وهو حماية الله، ثم رفضت قبول إيليا وأرميا رفضا قطعيا، وأدخلت إلى الدير تيوفانا وحدها.
فبعد إقفال باب الدير قال إيليا لأرميا: هل تذهب معي إلى المزرعة يا كيريه أرميا أم تبقى هنا للسعي كما ذكرت لك؟
فقال أرميا: كنت في هذا الصباح في المزرعة فلست أعود إليها، وقد سمعت فيها أن الجميع كانوا ينتظرونك؛ لتتناول معهم طعام العيد في الصباح، ولكن بعيشك قل لي ماذا يصنع كيريه سليمان إذا وصل العرب إلى مزرعته؟ فقال إيليا: سأسأله عن ذلك الآن. أما أنت فدبر شغلك كما أخبرتك.
ثم إن إيليا ودع أرميا، وأخذ في الانحدار عن الجبل لا من جهة المدينة، بل من جهة طريق وراء الجبل تؤدي إلى مزرعة كانت قائمة في الجهة الشرقية.
وبينما إيليا سائر نحو المزرعة يحسن بنا الآن أن نذكر شيئا من تاريخ حياته فقد آن ذلك، لا سيما وأن ما يلي متعلق بما تقدم. •••
كان إيليا ابن فلاح من الناصرة يكسب رزقه من حراثة الأرض، فربي إيليا بين النباتات والأزهار والحقول، وكانت أمه قد نذرته للعذراء، ورغبة منها في أن تخصه العذراء بعنايتها كانت في كل مساء يوم أحد تأخذه إلى البيت الذي قيل إنه كان منزل العذراء في الناصرة، والذي كان قد أقيم عليه كنيسة احتراما له، وهناك تجعله يفرق بين الفقراء المجتمعين حول الكنيسة أرغفة خبز تصنعها له أمه خاصة لهذا اليوم، وكان كلما ناول الصغير إيليا أحد الفقراء رغيفا وهو يبتسم ضاحكا بفمه الوردي كانت أمه تقول للفقير: «ادع لإيليا» فيقول الفقير متحمسا بالدعاء لذلك الولد اللطيف: «إن شاء الله سيصير بطريرك القدس» فكان إيليا يقرع كفا بكف من فرحه، والدموع تترقرق في عيني الأم من حنانها وتأثرها، وفي ذات يوم قدم الناصرة عالم عظيم من القسطنطينية؛ ليزور الأماكن المقدسة. فلما شاهد إيليا يفرق أرغفته الأسبوعية، وسمع دعاء الفقراء له أخذ العالم رأس الصبي بين يديه، وقال: «نعم يا بني، ستكون بطريرك أورشليم الجديدة».
وكان الناس في فلسطين يتزاحمون على هذا العالم من كل صوب؛ لأنه كان منجما عظيما، وكان تلميذ أسطفانوس الإسكندري الذي كان يلقب «معلم المسكونة» * والذي أقامه الإمبراطور في قصره في القسطنطينية مع اثني عشر عالما من العلماء؛ لتعليم الفلسفة والطب والموسيقى والهندسة وباقي فروع العلوم
1 * فلما سمعت أم إيليا نبوءة العالم وتنجيمه زاد اعتقادها بعظمة مستقبل صغيرها. فصرفته عن الأمور المعاشية إلى الوظيفة الدينية التي تجتمع فيها أعظم الأشياء وأشقها، أي الرئاسة والخدمة.
أما العالم القسطنطيني فإنه لم يتنبأ تلك النبوءة للصغير إيليا عبثا؛ بل كان له منها غرض أسمى من الغرض الذي فهمته أمه. فإنه كما تقدم الكلام كان قادما من القسطنطينية، وكان لا يزال يدوي في أذنيه ما رآه وسمعه فيها من المجادلات الدينية الفارغة والانقسامات السياسية وضوضاء المدنية البالغة حدود التهتك والإفراط، فلما رأى ذلك الصغير الناصري على أبواب الكنيسة يوزع الخبز على الفقراء مع أنه يكاد يكون فقيرا مثلهم شعر حينئذ بعظمة التدين الحقيقي؛ فقال في نفسه: إن هذا الطفل وأمه أقرب إلى الله من كل أصحاب تلك المجادلات والمشاحنات التي يدعون بها التقرب من الله، وأعجب بصدق العواطف الدينية في الشرق وبساطتها بإزاء القسطنطينية التي صارت فيها العواطف الدينية آلات للسياسة والرئاسة والربح. فقال حينئذ لإيليا ما قاله مشيرا إلى أن صنع الخير المجرد عن كل مصلحة خصوصية ونقاء العواطف وصدق الضمير وسذاجة القلب هذه هي المبادئ التي ستكون في المستقبل أساس أورشليم الجديدة، وإلا فلا يكون هنالك أورشليم.
أما أم إيليا فإنها لما بدأت تدفع ابنها في الطريق الإكليريكية صارت تجلب له الكتب لمطالعتها، فكانت لا تلقى رجلا من رجال الدين حتى تطلب منه كتابا، وكان إيليا يقرأ كل ذلك بلذة وصبر عجيب، وكانت أمه أمية لا تحسن القراءة، ففي ذات يوم لقيت في كنيسة الناصرة راهبا غريبا فطلبت منه كتابا لابنها، وأخبرته أنها ستدخله دير القدس. فقال لها الراهب: سأعطيه كتابا يعلمه، ويجعله أكبر من أكبر بطريرك. ففرحت الأم وقويت ثقتها بابنها، وكان عنوان الكتاب الذي أخذته من هذا الراهب الغريب: «ثلاثة في المسيح» فدفعته إلى ابنها دون أن تعلم بموضوعه، وكان ذلك الراهب نسطوريا، وموضوع هذا الكتاب تعاليم نسطوريوس وأوتيشيوس وآريوس الذين مذاهبهم في المسيح أقلقت الكنيسة وضعضعت المعتقدات فاضطر الإمبراطرة أن يجمعوا المجامع للحكم فيها تسكيتا للاضطراب الذي حدث في المملكة.
فلما وقع هذا الكتاب في يد إيليا هم أن يصيح بموضوعه أمام أمه، ولكنه كتم الأمر إلى ما بعد الاطلاع عليه، وكان إيليا يومئذ في التاسعة عشرة من العمر، وكان قد أصبح فتى قوي البنية رقيق العود طويل القامة أبيض اللون أسود العينين جميل الهيئة قليل الحركات كثير السكنات، وكان يلذ له الصعود إلى الجبال التي فوق الناصرة للتأمل فيها. حتى إنه لو كان رنان في عصره ونظره يتأمل من تلك الجبال في المناظر الشائقة التي تحت قدميه؛ لظن أن الناصري عاد إلى الأرض مرة أخرى فولد من عذراء وشب حتى صار فتى، وجلس على تلك الجبال التي كان يلذ له الجلوس عليها؛ للتفكير بإنقاذ العالم مرة أخرى.
فقرأ إيليا هذا الكتاب، وأكثر كتبه الأخرى هناك في ذلك المكان البديع، وما فرغ من كتابه حتى تغير رأيه في الثلاثة الذين تقدم ذكرهم. فإنه كان قبل قراءة الكتاب يبغض اثنين منهما بغض الشيطان لما قرأه وسمعه حتى إنه كان يرى الناس إذا ذكروا أمامه أحدهما فإنهم كانوا يصلبون استعاذة منه بالله، وأما الآن بعد قراءة تاريخ حياتهم فقد ذهب بغضه لهم؛ لأنه لم يرهم سودا كما وصفوا له؛ بل إنه أعجب بجرأتهم على الجهر بما اعتقدوه حقا، وذكر لهم فضل العمل والصدق في الفكر والقول، ولكنه لم يقتنع بمذهبهم؛ لأن أمه أرضعته مع اللبن حب كنيسته وأمه الحنون التي سيندمج في سلك أبنائها بعد حين، ولذلك أطبق الكتاب بعد الفراغ منه، وتنهد قائلا: «لا تدينوا لكي لا تدانوا» إلا أنه بقي في ذهن الفتى برق من هذه المطالعة السرية وهو حب البحث وحرية القول والفكر.
وفي العام التالي أخذته أمه إلى القدس؛ ليندمج في السلك الإكليريكي. فذهب إليها إيليا بسرور وشوق كما يذهب إلى الفردوس الأرضي لو علم بمكانه، ودخلها كملاك خلقا وخلقا، وقلبه يرقص طربا؛ لأنه سيكون في المستقبل من أولئك الرجال الضعفاء الذين تحنى أمامهم رءوس القياصرة والملوك والكبراء، ولا سلاح لهم غير ثوبهم الأسود.
ففي القدس لقيت أم إيليا في كنيسة القيامة الراهب النسطوري الذي أعطاها الكتاب الذي تقدم ذكره؛ فقدمت إليه ابنها المحبوب، وأطلعته على نيتها، وكان ذلك الراهب يدعى «ميخائيل» وهو شيخ في الخمسين من العمر أصله من بلاد الكلدان، ولكنه يقيم في بيت المقدس. فلما وقع نظره على الفتى وآنس في وجهه الروح الملائكي الذي تقرأ النفوس الكبيرة آياته في عيون النفوس الكبيرة التي لا تزال صغيرة قرع ظهره بيده تحببا، وقال: «فلتكن روح سيدنا المسيح معك يا بني، إنني أرى نورا إلهيا في وجهك، ولو لم ينقض عصر الأنبياء لقلت إنك ستكون النبي الذي تنتظره المسيحية».
فبكت أم إيليا من هذا القول المؤثر، ولم يبق لديها شك في أن ابنها فوق البشر تقريبا، ولا نكتم القارئ أنها فتشت في السر كثيرا في التوراة والإنجيل؛ لتعلم هل هنالك نبوءات عن ظهور نبي جديد من الناصرة أم لا، ولولا مجيء ابن الإنسان منذ نحو 628 عاما، فربما كان حنانها الوالدي أطلق على صغيرها النبوءات الواردة في التوراة بشأن مجيئه.
وكان الراهب ميخائيل قد اهتم بإيليا اهتماما شديدا؛ فلزمه إيليا، وصار يزور الآثار المقدسة معه، وفي عيد الإمبراطور في ذلك العام أقيم قداس حافل أمام القبر، فذهب إيليا والراهب لحضور هذه الصلاة، وكانت هذه أول مرة يحضر بها إيليا صلاة هيئة دينية كبيرة، وكان أسقف بيت لحم هو المتولي رئاسة القداس، وحوله الكهنة والشمامسة والرهبان صفوفا صفوفا، وكلهم متجهون إلى القبر المقدس، وحولهم الجموع. فلما حان وقت تلاوة الإنجيل مد الأسقف يديه ليتناول الكتاب المقدس. فتقدم شماس ليفك أزرار كمه فاضطرب وأبطأ، فغضب المطران ولطمه على وجهه بيده اليمنى الممدودة، ويظهر أن الشماس الذي ذهب ليأتي بالإنجيل أبطأ أيضا، واضطر الأسقف أن ينتظر قليلا، فلما جاءه بالإنجيل لطم بيده اليسرى ذلك الشماس؛ لئلا تغار من اليمنى، وهو يقول له باليونانية كأسد يزمجر «دياولي».
2
فلما رأى إيليا ذلك المشهد الغريب ارتعدت فرائصه، وصبغ الدم وجهه حتى كاد يخنقه. ثم نظر إلى الأسقف ليرى هل يجترئ بعد صنعه هذا على مس الإنجيل بيده الضاربة؛ فوجد أنه تناول بها الكتاب بكل قوة - ذلك الكتاب الذي يحرم عليه الصلاة بعد ذلك إن لم يستغفر أخاه الشماس الذي أساء إليه - وصار يتلوه بصوت جهوري.
أما الراهب ميخائيل فإنه لما نظر تأثر إيليا ابتسم ابتسامة هو وحده يعرف معناها.
ولما انتهى القداس وخرج الناس نظر إيليا إلى صفوف الرهبان الخارجين فوجدهم وقد تفرقوا شتاتا في فناء الكنيسة كأنهم أسرى وأطلق سراحهم، وكانوا يضاحكون بعضهم بعضا وهم خارجون، ويثبون وثبا كأنهم مبتهجون بانطلاقهم من قيد النظام الذي كان يجعلهم أمام رؤسائهم كأصنام جامدة.
3
فزاد استغراب إيليا؛ لأنه كان يظن أن ذلك الهدوء والرزانة والمعيشة الجديدة والاحتشام حلفاء لهم في غيبة رؤسائهم وفي محضرهم.
فخرج إيليا من أول حفلة حضرها، ونفسه الدينية قد جرحت جرحا أليما، وفي خروجه استوقفه على الباب صراخ كاهن يبكي ويصيح عند مرور الأسقف، وبعد الاستخبار ظهر له أن هذا الكاهن كان من القائلين بالطبيعتين والمشيئة الواحدة، وقد أغضب البطريرك صفرونيوس بشدة مقاومته فعاقبه البطريرك بأن «ربطه» أي قضى عليه بالامتناع عن إقامة القداديس والصلاة فوق المذبح. فتأمل إيليا في الكاهن وهو خارج، ورثى لحاله؛ لأن ذلك الضغط لا يقطع رزقه فقط بل يلقي عليه وعلى اسمه شبهة عدم الاستقامة في الإيمان ويقيد حريته.
وكان كثيرون من أكابر القدس قد حضروا هذه الحفلة؛ فأخذ إيليا والراهب ميخائيل يتأملان في سيدات أورشليم الجميلات الخارجات من القداس، وشبانها الذين كانوا في الظرف واللطف والكياسه أشبه بالسيدات، وكانت الأطالس والأثواب الحريرية والتيجان اللؤلؤية التي تكلل شعور السيدات في شبكة خصوصية * والروائح العطرية التي تفوح من تلك الملابس الجميلة والغضاضة البادية في الأجسام البضة النقية التي تحتها - كل ذلك يدل على أمة سعيدة في الظاهر غنية متمتعة بالملاذ والأطايب. إلا أن الفقراء الذين كانوا صفوفا صفوفا تجاه الكنيسة وحول بابها وجدرانها، وهم بحالة يرثى لها من الشقاء والضعف والفقر، كانت حالتهم تدل إيليا الفتى الساذج على أن في تلك المدينة العامرة بغناها وأبهتها إنسانيتين؛ واحدة سعيدة وواحدة تعيسة، والمضحك أنه ظن لسذاجته أن الأولى مسيحية والثانية غير مسيحية؛ لأنها لو كانت مسيحية لشاركت إخوتها المسيحيين السعداء في خيرات الأرض ونعمها، وكانت مساوية لهم في المملكة.
فبقي إيليا مفكرا بعد كل هذه المناظرة المختلفة يمشي بجانب الراهب ميخائيل الذي كان يفكر مثله أيضا، وكان يقول في نفسه، وهو ماش مفتكرا بضرب الأسقف الشماس: ماذا أصنع بعد ما رأيته؟ هل أدخل تحت يد هذه السلطة التي لا تخجل من الإساءة إلي وإهانتي حتى أمام الناس مع أنني في دخولي تحت يدها أتنازل لها عن أثمن شيء عندي، وأعطيها أكثر مما تعطيني. هل أرضى لنفسي أن تكون في المستقبل في منزلة ذلك الكاهن المسكين الذي أهانوا إيمانه، وقيدوا حريته من أجل شيء صغير. لا لا. إنني أحب الرهبانية. أحب معيشتها الهادئة الاشتراكية. أحب الأناشيد جماعات جماعات تحت سقوف الكنائس الكبرى والأديرة العميقة حيث تتجاوب الأصداء فيها كأن الجو مأهول بملائكة تردد أصوات النشيد والصلاة مع المنشدين والمصلين - ولكنني أحب قبل كل شيء حريتي، وشرف نفسي؛ فإنني ربيت في الحقول بين الأزهار والطيور حرا مطلقا مثلها؛ فإذا قيدت نفسي الآن هذا التقييد الذي يجعلني رمة هامدة حرمت نفسي أعظم نعم الله وأكبر اللذات الروحية، وأعني بها الحرية. فماذا أصنع يا ترى؟ ماذا أصنع؟ أأترك هذه أم أترك ذاك؟ وإذا تركت الرهبانية فماذا أصنع في العالم؟ ومن أين أعيش؟ وأين أذهب في معترك هذه الحياة؟
ولما علم الراهب ميخائيل باضطراب نفس ذلك الفتى في هذا الشأن أشفق عليه إشفاق من سبقه إلى هذه الأفكار في صباه، وإذ سأله الفتى الإرشاد والنصح تردد الراهب وبقي ساكتا. فبكى الفتى، وقال: إنني وحيد فريد في الدنيا، وقد جعلك الله في طريقي؛ لتكون لي مرشدا، فلماذا تضن علي بثمرة اختبارك. أما أنت إنسان ومسيحي مثلي؟ أنسيت قول الإنجيل: من طلب منك فأعطه ومن سألك فلا ترده. إنني لا أطلب منك ذهبا ولا فضة ولا أكلفك عناء، وإنما أطلب رأيك. فقل لي ماذا أصنع في هذه الحياة التي تركني الله فيها وحدي؟
فاغرورقت حينئذ عينا الشيخ ميخائيل بالدمع؛ فقرع كتف الفتى بيده تحببا إليه، وأجاب: هل تحب أن نشهد معا بزوغ الشمس غدا يا بني؟ فأجاب إيليا: نعم، أحب ذلك. فقال الراهب: وافني غدا بعد الفجر إلى جبل الزيتون، وهنالك نشهد بزوغ الشمس، ونتحادث على انفراد في الموضوع الذي طلبت رأيي فيه.
الخطبة على الجبل
وفي فجر اليوم التالى بكر إيليا إلى جبل الزيتون؛ لأنه لم ينم في الليل إلا قليلا. فوجد الراهب الشيخ ينتظره تحت أرزة هناك، وكانت الشمس لا تزال بعيدة، وجيش النجوم في السماء الصافية آخذ في الفرار أمام عروس النور، وكان البرد قارصا، وريح الصباح تهب شديدة على الأرزة فتئن أغصانها لذلك أنينا شديدا.
4
فأشار الراهب الشيخ إلى الفتى بجد ورزانة أن يجلس بجانبه، وإذ جلس أخذ الشيخ يقول، والطبيعة كلها في أواخر ذلك الليل مصغية مع الفتى إلى كلامه اللطيف: - يا بني: لا تزال الشمس بعيدة، فلنتحادث قليلا قبل أن تشرق. فإننا لا نحتاج إلى نورها لبث الحرارة في نفوسنا، فإن الروح الإلهية التي أودعها الله في داخلنا كافية لذلك، ولقد سرت أمس حرارة نفسك إلى نفسي فرأيت أن أحادثك هذا الحديث بعد ما شهدته أمس من اضطرابك وبكائك.
يا بني، نعم إنك لم تطلب مني فضة ولا ذهبا، ولم تكلفني عناء، ولكن فاعلم أنك طلبت مني ما هو عندي أهم من الفضة والذهب، لقد طلبت مني أمرين عظيمين: الأول أن أمد يدي إلى ضميرك في باطن نفسك، وأديره إلى حيث أشاء، والثاني أن أحكم لك على هيئتنا ومعيشتنا الحاضرة الحكم الذي أراه.
هذا ما يجب أن يدور عليه محور جوابي إذا أجبتك على سؤالك، ولذلك رأيتني ترددت أولا عن تحمل هذه التبعة العظمى، ولكن دموعك واضطرابك غلبتني فجئت معك إلى هنا على هذا الجبل المقدس الذي دوت في فضائه تعاليم إلهية؛ لأذكر لك فيه ثمرة اختباراتي في هذه الحياة كما طلبت مني.
يا بني، إنك تسألني بعد ما شاهدته في المدينة وفي القداس أمام القبر المقدس، هل تنخرط في سلك الخدمة الدينية كما كنت تنوي أم تعدل عن ذلك إلى خدمة أخرى؟ وما هي الخدمة التي تليق بك؟ فأجيبك أنك أخطأت في تركك تلك الأمور الجزئية تؤثر على عقلك، والأرجح أن سبب خطئك توقعك من لبس الثوب الأسود الوصول إلى الراحة والهناء والسعادة في هذه الأرض، ولذلك أجفلت لما رأيت الأسقف يلطم شماسه أمام الناس، والكاهن يبكي وينوح؛ لأنهم قطعوا رزقه وضغطوا على حريته، ولكن فاعلم يا بني أنني لا أحثك على ترك الثوب الأسود للفرار من الأذى والإهانة والضغط والاضطهاد؛ لأن هذا الثوب ما خلق إلا ليتحمل هذه كلها، فإذا كنت تشعر في نفسك بالقوة على تحملها والترفع عن الاهتمام لها فأقدم عليه، وإلا إذا كنت تطلب به الراحة والهناء فاتركه؛ لأنك تكون ضعيفا يجب أن يخدمك الناس لا أن تخدم الناس.
نعم يا بني، لا تدع فساد أعمال الرؤساء يمنعنا من صنع الخير والقيام بواجباتنا في هذه الحياة، وهل الأرض للرؤساء لنتركها لهم حالما يظهر لنا أنهم عادون عليها وعلينا؟ كلا، إن كل إساءاتهم وظلمهم وسوء تدبيرهم وعماهم واضطهادهم وعدوانهم لا ينبغي أن تمنعنا من إتمام ما علينا للبشر الذين يعيشون معنا. فنحن نكون خدمة لله والناس حتى بالرغم عنهم، وإذا أصابنا في حياتنا إبان الخدمة ما أصاب ذلك الشماس من رئيسه أمام القبر، فإننا نقبل اللطمة ونتعزى بأننا أقرب إلى المسيحية وكتابها من ذلك الرئيس اللاطم، وحينئذ يرى الله والناس أننا نحن الصغار المساكين إنما نحن الرؤساء الحقيقيون بالفعل؛ إذ في نفوسنا قوة الرئاسة التي هي قوة المبادئ والعمل بها، على حين أنه لا يكون من الرئاسة لذلك الأسقف الرئيس وأمثاله غير ملابسها المزخرفة.
أجل يا بني، إنني لا أرى في تلك الصغائر ما يمنعك من الخدمة؛ لأنني أهمل إساءات الناس وأعتبرها كأنها غير موجودة، ولكنك هنا تسألني ولا شك، إذن أنت تشير علي بالإقدام على الخدمة، ونبذ الهواجس من نفسي؟
يا ولدي العزيز، هنا وصلت إلى موقف صعب، أنا فيه بين نارين؛ فمن جهة يعز علي أن أجهر بما في ضميري لأنه مؤلم، ومن جهة أخرى يعز علي أن أكذب وأخادعك، ولكن الحقيقة هي عندي يا بني أثمن من كل شيء، ولذلك أنا أصرح لك بها.
نعم، إنني لا أخشى عليك من إساءات الرؤساء وظلمهم، فإن نفسك القوية لا تبالي بهم؛ لأنك لا تخدمهم، وإنما تخدم الناس تحت رئاستهم، وإنما أخاف عليك شيئا آخر.
أنظرت يا بني تينك الإنسانيتين اللتين التقتا بعد الفراغ من القداس أمام باب الكنيسة؟ هناك رأيت ولا شك إنسانية سعيدة وإنسانية تعيسة؛ هناك بشر يلبسون الحرير والديباج، ويتحلون بالجواهر، ويسكنون القصور، ويشربون الخمور، ويحشون بطونهم حتى حيواناتهم بكل ما في الأرض من أطايب وملاذ، وهناك إنسانية أخرى تعيسة شقية تطلب خبزا لتأكل فلا تجد فتنام على الطوى بلا أكل، وتطلب ملجأ تأوي إليه فلا تجد فترقد على تراب الأسواق والشوارع تحت قبة السماء، وتسأل ثوبا يقيها البرد ويستر أجسامها الهزيلة الصفراء من المرض والحاجة فلا تجد أيضا فتعيش عارية الأجسام كالحيوانات. يا بني، هنا أعيد عليك قولي السابق: إنني لا أخاف عليك من إساءات الرؤساء وظلمهم إذا صرت خادما للأرواح: وإنما أخاف عليك من الله والناس أن تمد يدك يوما إلى تلك الإنسانية السعيدة وتباركها فتبارك بذلك الظلم الاجتماعي الذي يسبب هذا الفساد.
أجل يا بني، إننا عدنا إلى الحالة التي حاربها المسيح منذ ستمائة سنة، وبذل دمه لهدمها. إنه جاء ليعلمنا الرفق والمحبة والمساواة، ويجعل الجميع إخوة. مبطلا قسمة الناس إلى قسمين: أسياد، وعبيد. كبار، وصغار. أغنياء، وفقراء. أقوياء، وضعفاء: وهو ذا نحن اليوم كما كان اليهود لما صلبوه. - إنه جاء لمحاربة الفريسيين الذين يعرضون أكمامهم، ويشمخون بأنوفهم، ويحبون المتكئات الأولى في المجامع، وأن يناديهم الناس سيدي سيدي، ويتخذون وظيفتهم الكهنوتية آلة لكسب المال من الأغنياء والأقوياء مهملين الفقراء والضعفاء؛ إذ لا يرجى منهم نفع ولا ربح: وهو ذا الفريسيون عائشون في هذا العصر أيضا ولم ينقرضوا بانقراض أولئك. - إنه جاء لمحاربة الدين الذي يدعم بالمصلحة والمادة وعبادة المحسوسات، وصرع رجاله المرائين الذي يصلون بشفاههم صلاة لا تصدقها قلوبهم، ومقاومة جعل الكنيسة إدارة واسعة فيها رئاسة ضاغطة وكهنة خصوصيون يرتزقون من وظيفتهم؛ لأن كل إنسان يجب أن يكون كاهن نفسه، ومعارضة الذين يقيدون الله بالهياكل فلا يعتبرون الصلاة في غيرها صلاة حقيقية: وها نحن يا بني نكاد نعود إلى هذه كلها، ولو عاد الآن السيد المسيح الذي لبسنا من حبنا له هذا الثوب الأسود المتعب لاضطر أن يصلب نفسه على يدهم مرة أخرى للدفاع عن المبادئ التي دافع عنها في المرة الأولى.
يا بني، عفوا إذا وجدت في كلامي شيئا من الحدة؛ إذ كيف تريد أن أكون هادئا رزينا حين تذكري هذه الأمور كلها. إنني كاهن ويحق لي أن أستشيط غضبا لإلقاء جوهرتنا في وحل العالم، وقد غضب يوما سيدنا مع كثرة صبره وحلمه فحمل السوط وطرد الباعة والصيارفة من الهيكل. فلي أسوة به إذا غضبت وأرسلت سوط الكلام إلى ظهور باعتنا وصيارفتنا ...
إنك ربما تستغرب كلامي هذا يا أيها الفتى الساذج النقي؛ لأنك لم تعرف شيئا من فساد العالم، ولم تر قبل الآن بلدا غير الناصرة وطن سيدنا، ولكن فاعلم الآن - ولا استغراب - أن كل الناس يعرفون هذه الحقائق التي ذكرتها لك ولا يجهلونها، وكم من مرة سمعت بعضهم يقول على نغم رنين النقود في الكنيسة وباقي المظاهر اليهودية القديمة: إن المسيح لو جاء الآن لما دخل علينا إلا وهو حامل سوطا. أجل يا بني، إننا كلنا لا نجهل هذه الحقائق، ولكن ما الحيلة؟ فإننا سائرون بالرغم عنا إلى طور الهرم ... وهذه سنة كونية لا تردها إلا سنة مثلها، وفعلها عام على كل المذاهب والأديان في كل زمان ومكان لا علينا وحدنا.
اسمع يا بني لأخبرك خبرا مهما؛ إنك سمعت ولا شك شيئا عن العرب، فهذه القبائل البدوية قام فيها رجل همام يدعوها إلى ترك الأصنام، وعبادة الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيتاء الزكاة ... وهو النبي العربي الذي شاع خبره، وقد تمكن هذا النبي من التغلب على القبائل المشركة بقوة السيف المؤيدة بقوة الاعتقاد والثقة من أفضلية المبدأ، فجمعها كلها تحت لوائه استعدادا لغزو العالم وفتحه بها، وقد كنت منذ مدة في تلك البلاد؛ لأننا نحن النساطرة لنا حظوة عند النبي العربي ورجاله، وقد عرف بضعة منا وحادثهم * فلما شاهدت النبي وسمعت ما سمعته عنه من الحلم والشجاعة والعدل والرفق والمساواة والعناية بالضعفاء قبل الأقوياء عرفت السر في تأييد العناية الإلهية له في نهوضه، وسررت سرور الطفل؛ لأنني عاصرت زمنا عظيما وعصرا ذهبيا. أجل يا بني، إن عصر الأنبياء عصر ذهبي؛ لأن الشرائع التي يضعونها تكون عذراء طاهرة لم توضع عليها يد غير اليد الكريمة التي وضعتها، ولكن لا بد بعد واضعيها أن يأتي المفسرون والمؤولون والرواة والناقلون، وليس ذلك فقط؛ بل إن الطبيعة نفسها تبدأ بفعلها الأبدي. فإن الليل والنهار يتعاقبان، والقرون والأجيال تمر. فالأمم والمذاهب التي تكون أطفالا في البداءة تشب وتنمو وتتغير أحوالها فلا تعود تكفيها شرائعها الفطرية الأولى - وهذا ما حدث لنا، وسيحدث لغيرنا بعدنا.
ولما كنت في بلاد النبي العربي يا بني، وقفت في ذات يوم خارج «المدينة» وكانت خيام جمهور من الحجاج مضروبة في الخلاء، والنبي يتفقد الحجاج ويلاطفهم ويزودهم رضاه، وهم أمامه خشع خضع احتراما وإكراما. فسرحت نظري في حالتهم البدوية الجميلة، وأعجبت بالفطرة الإنسانية التي يكون فيها البشر بلا هم ولا حزن غير الاهتمام بمعتقدهم. فتذكرت حينئذ منظرا آخر. تذكرت سيدنا المسيح وتلامذته حول بحيرة طبريا في حقول الجليل الجميلة يتمشون بين الأزهار وسنابل الحنطة وهم منقطعون عن هموم الدنيا. فأطبقت حينئذ عيني من لذة الذكرى لتتمتع كل حواسي بها، وصرت أقول في نفسي لدى هذين المنظرين: هذه هي فطرة الإنسانية. هذه هي المعيشة الهادئة التي تنطبق على الحياة الروحية. ثم تساءلت: أي أفضل: أن تبقى الإنسانية هكذا طفلة صغيرة تعيش في وسط الطبيعة والنباتات والأزهار والأطيار وهي محافظة على أصول شرائعها الساذجة الأولى، أم تصير أمة عظمى فتبني المدن وتجمع الخيرات والثروات وتحيي الفنون والعلوم وتشيد الدول والممالك وإن تركت تلك الشرائع الساذجة الجميلة؟ وا أسفاه إننا جربنا ورأينا؛ رأينا أن الإنسانية متى خرجت عن طور الفطرة والطفولية صارت رجلا خشنا يهتم بمعدته أكثر من نفسه، رأينا أن مبادئ الدين إذا غلبت بعد الانغلاب وصارت سائدة بعد أن كانت مسودة تسلحت بالقوة وعاملت من لم يكن منها كما كانوا يعاملونها لما كانت ضعيفة، ولذلك يا أيتها الفطرة الضعيفة الصغيرة إنما يتحرك قلبي حنينا إليك، وأفضلك على كل المدنيات الكبيرة والممالك الواسعة؛ لأن هذه إنما هي عبارة عن «كرش» واسع فيه أقذار الهضم مقدمة على كل شيء.
يا بني، عذرا لتحمسي هذا. فإنني صرفت شيخوختي في التفكير في هذا الموضوع، وقد وصلت إلى آخر العمر، وأنا أعتقد اعتقادا هدم آمالي كلها، وهذا الاعتقاد هو أننا في الهيئة الاجتماعية الحاضرة لا يمكن الإصلاح بواسطة الدين إلا إذا كانت الإنسانية تعود إلى طفوليتها وفطرتها الأولى، فإن الدنيا قد زحفت وتغيرت، وصار يلزم نبي جديد للإنسانية الجديدة.
يا صديقي الصغير، لا تستغرب هذا الكلام الذي أقوله لك وأنا كاهن؛ فإنني تعودت أن أقول الحق ولو كان على نفسي وأعز شيء عندي. إن الدين لم يقدر على إصلاح الفساد الاجتماعي الذي وصفته لك في مقدمة الكلام، ولا يزال يباركه منذ مئات سنين بركة لا أحب لك أن تشترك فيها. نعم، إنه يشجب الرذائل والشهوات، ويحتقر المال ويسميه إلها مبالغة في إذلاله وتنفير الناس منه لئلا يشركوا بالله، ويوجب المساواة بين جميع طبقات البشر، ويدعو إلى الفضيلة والصدق والرفق والمحبة والتواضع والإخاء، ولكن يا صديقي أي تأثير لهذه الألفاظ في النفوس إذا لم تعمل بها؟ إنها تبقى ألفاظا فارغة من المعنى كالبندق الفارغ، ويكون أصحابها الذين يقولون بها ولا يعملون بما يقولونه مؤمنين في الظاهر وثنيين في الباطل، وكثيرون منهم يزعمون أنهم معذورون لاقتصارهم على القول دون الفعل. فإنهم يقولون مثلا: كيف نستطيع القيام بما يفرضه الدين علينا قبل أن تعد لنا لوازم حياتنا. كيف نكون أمناء مع الفقر والحاجة، وصادقين مع الضغط والظلم، ومحبين صافحين مع الحقد والبغض، وهادئين مطمئنين مع زوابع الحياة التي تعبث بنا من كل جانب. أفلا يجب على الأقل ضمانة معيشتنا اليومية لنا لنتمكن من التزام الحدود وقتل صل الطمع والحيوانية في داخلنا، فلتضمن لنا الهيئة الاجتماعية رزقنا اليومي، وترى بعد ذلك هل يخف الشقاء والفساد في الأرض أم لا.
وا أسفاه يا بني، إن في هذا الكلام شيئا كثيرا من الحقيقة كما فيه أيضا شيء كثير من الباطل فإنه يجب علينا أن نطلب الفضيلة لذاتها بالرغم عن فقرنا وحاجتنا وضعفنا، وإلا فإن الفضيلة لا تكون فضيلة ولا يكون لنا فضل فيها.
5
ولكن الباطل الذي في هذا الاعتراض لا ينبغي أن يستر ما فيه من الحق: فإنه على الهيئة الاجتماعية أن تهتم بكل واحد من الناس؛ لتضمن رزق من لا رزق له، وبذلك تكون عملت على تخفيف الشقاء والفساد، وهنا الخطأ العظيم الذي وقعت فيه الكنيسة. فإنها ماذا تعلمنا اليوم؟
6
تعلمنا أن الفقراء والجياع والعطاش والمرضى والمتعبين والضعفاء والمحتاجين، يجب أن يكتفوا في هذه الحياة بالشكر على بلواهم؛ لأنهم أهل ملكوت الله. فكل المساعدة التي تمدهم الكنيسة بها قاصرة على تقوية نفوسهم لتتحمل مصائبها، وليس هذا حقهم وحده؛ بل هم كبشر من مخلوقات الله لهم هنالك حق آخر.
أجل يا أخي الصغير، إن لهؤلاء البشر حق المساعدة والإسعاف على الهيئة الاجتماعية؛ لأنهم إخواننا في الإنسانية، وهذا دين لهم علينا، ولا تقل إن الكنيسة والهيئة توصياننا بالإحسان إليهم؛ فإن هذه الكلمة المهينة «الإحسان» يجب أن تمحى من قاموس البشر، ويحل محلها في هذا الباب كلمة «دين» لأن جميع البشر يجب أن يكونوا متضامنين متكافلين. إذن فالأقوياء والأصحاء والأغنياء والكبراء مدينون للضعفاء والفقراء والمرضى والعاجزين دينا اجتماعيا؛ لأن هؤلاء هم عملتهم وأعوانهم في جميع مشروعاتهم، ولولاهم لما استطاع أولئك أن يعملوا شيئا. فنحن نطلب قوة عادلة تستوفي هذا الدين من الأقوياء للضعفاء، وفوق ذلك تضمن لهولاء رزقهم الذي تقدم ذكره؛ لتهدأ زوابع الحياة وعواصفها المهلكة.
ولكن ترى ما هي هذه القوة المطلوب منها ضمانة رزق الضعفاء في الأرض، وهم سواد الأمم تقريبا؟ ومن أين الأعمال والأموال لإتمام ذلك في ملايين البشر العديدة؟ أيها الشاب إنك لا تزال فتى صغيرا، ولكنك غدا ستشب وتكون رجلا كبيرا، وكذلك العلم الذي خلقه الله حياة ونورا للإنسانية: إن العلم لا يزال في الأرض طفلا صغيرا يا بني، ولكن سيأتي يوم يسود فيه هذا الصغير الدنيا كلها. إن إمبراطورنا يشتغل اليوم بالعلم؛ لأنه يظن أنه يمكنه به قلب المعدن الدنيء معدنا كريما * أما نحن معاشر الناس الذين ننظر إلى المستقبل ونتطلع إلى ما وراء الفضة والذهب فإننا ننتظر من العلم أن يقلب الإنسانية التعيسة إنسانية سعيدة، وكأن غطاء المستقبل يكشف الآن عن عيني، وأرى الإنسانية الآتية الجديدة؛ أرى الإنسان يسير في البر والبحر والهواء بسرعة الطير، ويحمل المصنوعات والمزروعات لأمم بعيدة. أرى البشر يتخاطبون من قارة إلى قارة كأنهم في غرفة واحدة. أرى الشعب يرتقي باختراع الآلة الميكانيكية؛ لأن المصنوعات لا غنى لها عنه وعنها فيصير شريكا لصاحب العمل فيها، وبذلك ترتقي طبقته وتملأ الهاوية التي بينه وبين سيده صاحب العمل
7
أرى العملة الضعفاء الفقراء يصيرون قادة الممالك بالانتخاب العمومي وتقديس الإنسانية، أي اعتبار كل فرد من البشر مساويا لأي فرد كان في الحقوق والواجبات العمومية لدى الهيئة الاجتماعية. أرى الحكومات تخجل أمام الله والناس من ترك الكبار على الصغار والأقوياء على الضعفاء بحجة أن البشر أحرار يصنعون في معاملاتهم ما يريدون صنعه، ولذلك توجب على نفسها المداخلة بين الفريقين لضمانة حقوقهما
8
أرى ملاجئ الشيوخ والمرضى والعاجزين والمستشفيات المختلفة عامة في كل بلدة لإيواء الضعفاء وسد حاجاتهم، وأكابر الأمم يتفاخرون بزيارتها وصنع الخير فيها. أرى كل شبر في الأرض يحرث ويزرع وينبت خيرات لسكان الأرض، ولذلك تكسر السيوف والرماح والتروس، وتصب محاريث ومعاول. أرى الضغائن والأحقاد بين عناصر البشر المختلفة تهمد وتخمد بهذا التداخل العظيم بعضهم في بعض، وبتحققهم أنهم إنما كانوا يتحاربون على لا شيء. أرى الطب يطيل عمر الإنسان إلى ما بعد المائتين
9
ويتغلب على الأمراض والشيخوخة فإذا جاء الموت كان نوما لطيفا هادئا. أرى الرزق الذي يقتتل عليه الناس اقتتال الحيوانات الضارية قد رخص وخف فصار الرجل الواحد يحمل منه في علبة في جيبه ما يكفيه أياما
10
ويأخذه من البيئة الاجتماعية مجانا. أرى أجناس البشر في الشرق والغرب فرسا ويونانيين ورومانيين وسوريين ومصريين ويهودا وسلافيين ولومبارديين وفنداليين ومغوليين وأتراكا وهونيين وقوطا وفرنكا وهنودا وصينيين
11
وبرابرة مختلفة تتكرر فيهم الإنسانية على ممر القرون والأجيال وتنقى من الحيوانية والجهالة والشهوات المفسدة فيمدون أيديهم بعضهم إلى بعض متصافحين متصالحين بعد طول الشقاق والنزاع، ويعيشون في الأرض بسلام وأمن وسعة وفضيلة تامة كأنهم إخوة في عائلة واحدة. - يا بني، هذا ما أراه في أحلامي وأوهامي منذ الآن، ولذلك قلت لك إن إصلاح الأرض مسألة علمية لا مسألة دينية، وأورشليم القديمة يجب أن تفسح مجالا لأورشليم الجديدة. فيا أيتها الأحلام الذهبية والأوهام الخيالية أتكونين يوما حقيقة مجسمة؟ يا أيتها الإنسانية التعيسة أتبلغين يوما طور الكمال هذا أم تبقين إلى الأبد في اضطراب وبغض وفساد وحروب وشقاء كما أنت الآن؟ ويا أورشليم الجديدة أتصنعين يوما ما عجزت عنه أورشليم القديمة؟
الله يعلم ذلك يا بني ولا يعلمه أحد غيره، ولذلك لا أذكر لك ما ذكرته كحقيقة مطلقة؛ بل كرأي لي لك أن تبحث فيه وترى فيه رأيك. فيا ولدي العزيز، كلنا في هذه الأرض عرضة للخطأ وهدف للضلال، وربما أثبت المستقبل بعد مليون سنة مثلا أو نصف مليون أن هذا القصر العلمي الذي رسمته معك الآن إنما هو قصر في الهواء، وأن الحقيقة الحقيقية هي ما نودي به في حقول الجليل على شواطئ بحيرة طبرية منذ ستمائة سنة من أن المعيشة في الطبيعة بلا هم ولا غم هي المعيشة الإنسانية الحقيقية، وأن البعد عن صل المال وأفاعي الجاه والعالم لهو الخير المطلق، وهذا ما يصبو إليه قلبي كما ذكرت لك آنفا، وإن كان عقلي متعلقا بذاك. أجل ياصديقي، إن هذه الصورة الجليلية لهي الصورة السماوية التي تقبض على نفسي بمقابض من حديد بالرغم عنها، وكل ما حاولت أن أقول إن ذلك في من تأثير العادة والتربية ينادي منادي الطبيعة في داخلي هذا النداء الطويل: كلا كلا. هذه هي الطريقة المستقيمة. هذا هو سبيل السعادة الممكنة. اخرجوا اخرجوا إلى الطبيعة يا أبناءها، وعيشوا فيها بعيدين عن مفاسد الثروات والمدنيات. كونوا كطيور السماء وزنابق الحقل لا تهتم بشيء؛ لأنها تجد في الطبيعة كل شيء. اهدموا القصور حيث تعشش الرذائل المختلفة. أخربوا المدن حيث تسود الشرور. مزقوا الكتب وانبذوا العلوم والفنون فإنه يكفينا منها كلها علم النفس الذي يشعر به كل واحد منا، ولا تطمعوا في السعادة والراحة والكمال والإصلاح من طريق الدنيا، فإنها كالماء المالح كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشا - وعلى هذا يخيل لي عند سماعي هذا الصوت الهائل أن العالم الآن خارج عن محوره شاذ عن طريقه فترتعد فرائصي لذلك، وأهم بأن أفر منه إلى البرية لأعيش هادئا سعيدا مطمئنا، وأعرف من ذلك الصوت السري الخارج من دمي السبب الذي من أجله كان واضعو الشرائع الدينية يحرمون على الإنسان التمتع بالدنيا.
فيا صديقي العزيز، هذان طرفان لا اتفاق بينهما إلا في النهاية؛ أحدهما: يمثل أورشليم الجديدة، والآخر يمثل أورشليم القديمة، ونفسي تتردد بينهما متألمة منذ تحرر عقلي، وحصلت على قوة الفكر. فلما سألتني عن رأيي في دخولك إلى أورشليم القديمة أثرت الاضطراب في نفسي؛ لأنك ذكرتني مصارعاتي الباطنية بيني وبين عقلي. فاضطررتني إلى الجهر بكل ما في ضميري بالرغم عني.
ولقد أطلت عليك الكلام يا بني، ولكن شجعني على ذلك إصغاؤك إلي بكليتك. أما الآن فقد فرغت تقريبا. فلك الخيار بعد كل ما ذكرته لك أن تكون من جنود أورشليم القديمة أو جنود أورشليم الجديدة. إنما بقي علي بعد كل ما ذكرته لك وما رأيته في الصلاة أمس أمام القبر وعلى باب الكنيسة أن أكمل هذه الملاحظات بما يوجب ضميري علي ذكره لفتى مثلك تحدثه نفسه بالانتظام في سلك الخدمة الدينية.
قصة الشيخ الراهب
يا بني، إنك ولا ريب تحب أن تعرف شيئا من تاريخ حياتي. فإنك ترى أنني شيخ بيضت السنون شعره، ومن كان بسني هذا وهو يعتقد بما بسطته لك آنفا فإنه يدل بذلك على أنه لقي في زمانه اضطهادا شديدا من البشر، وهذا شأن المصائب يا بني، فإنها أعلى المدارس وأسماها؛ لأنها هي التي تشحذ همم النفوس، وتقطعها عن صغائر هذه الدنيا، وتصرفها إلى المعيشة الجدية التي يكون فيها للإنسان غرض شريف عمومي يسعى إليه. ففي السن الذي أنت فيه الآن تقريبا كنت مثلك يا بني وحيدا فريدا في هذه الحياة؛ بل إنك أنت الآن أسعد مني لما كنت في سنك إذ لك أم تضمك وتدفئك تحت جنحي حنانها، وأما أنا فقد كنت بلا أم ولا نسيب ولا صديق، فكأنني خرجت من الأرض أو نحت من صخورها، ولكن مع انفرادي هذا في الحياة يا بني لم أجبن ولم أشك؛ لأنني أعرف مراحم العناية الإلهية التي لا تترك من يجعل نفسه أهلا لمساعدتها وحمايتها، ولم أسب البشر الذين تركوني من كل صوب؛ لأن سذاجتي كانت ترى حينئذ أنني لم أعمل بعد عملا يستحق اهتمامهم والتفاتهم، فإذا أهملت فالذنب لي وحدي لا لهم، ولذلك عزمت على أن أعمل ما يستوجب اهتمامهم بي ويرفعني من وهدتي ، ولكنني قلت في نفسي ماذا أعمل؟ هنا كنت في حيرة كحيرتك الآن؛ هل أجعل غرضي الوحيد نفسي فقط فأتاجر وأزرع وأصنع، أم أجعل غرضي في الحياة محبة الناس ونفعهم فأضحي حياتي كلها من أجلهم؟ وا أسفاه يا بني، إنني كنت أجهل يومئذ ما أعلمه الآن من أن للخير أبوابا عديدة. كنت أجهل أن الذي يخرج من الأرض قبضة من الحنطة مثلا أو يصنع للناس آلة يحتاجون إليها، إنما ينفع الناس كما ينفعهم الذي ينقطع إلى إرشادهم وتعليمهم، وهذا ما جعلني أختار الخدمة الروحية؛ فدخلت أحد الأديرة في بلادي، بلاد الكلدان، ونفسي تتلهب شوقا للعمل ونفع الناس، وكنت قد رأيت ما في الهيئة الاجتماعية من الفساد والظلم؛ لاستئثار فئة من الناس بكل خيرات الأرض وقوى البشر، فعزمت أن أكون سيفا ذا حدين؛ فكنت أذهب حافيا مكشوف الرأس بحالة يرثى لها إلى منازل الأغنياء وقصور الكبراء، وهناك مثل يوحنا المعمدان، كنت أقرعهم بسوط التأديب، وآخذ منهم مالا لإخوانهم الفقراء، وكان الذي يتمنع منهم عن إعطائي أنادي باسمه على السطوح إنه ليس بمسيحي، ولذلك كانوا يعطونني خوفا ورهبة لا سخاء، وكنت بعد جمع ما أجمعه كل يوم أنطلق إلى الأحراش والطرق وأكواخ المساكين، وهناك أوزعه على مستحقيه، وقلبي في غبطة وسعادة من صنعي هذا.
يا بني، إن من لم يعط شيئا في زمانه لا يعلم لذة العطاء. نعم، إنني كنت لما آخذ الشيء أتلذذ بأخذه؛ لأنني لا آخذه لنفسي، ولكني كنت أجد أن لذة العطاء أضعاف لذة الأخذ؛ ذلك أن العطاء فعل من أفعال العناية الإلهية لأنها مصدر كل عطاء، فالذي يعطي يكون نائبا عنها ورسولا من قبلها، وهذا سبب لذته العظمى، ولذلك لا نجد في الكون كله شيئا أجف وأثقل من قلوب الذين لم يتعودوا العطاء، ولنشفق على هؤلاء المساكين يا بني؛ لأن العناية الإلهية لم تجدهم أهلا لأن يكونوا من رسلها، وكنت قد عاهدت نفسي على أن لا أترك الشمس تغيب على قطعة نقود في جيبي، فلما كنت أعود من سياحاتي اليومية في الأحراش والطرق والأكواخ وجيبي فارغ كنت أشعر بلذة الذي قضى واجبه وفرغ جيبه ليملأ قلبه، ولكن لما كان يبقى في جيبي ولو فلس واحد كنت أشعر أنه نار يحرقني؛ لأنني كنت أعتبر أنني سرقت ما ليس لي. يا بني، هنا أحد مصادر الفساد ومنابع الشرور، فإن اليوم الذي نرى فيه نحن خدمة الله تعالى أن كل فلس يدخل في يدنا إنما هو ملك للفقير لا ملكنا، ونعطيه إياه بأمانة وشرف بدل جمعه في صناديقنا، فذلك اليوم يوم ملكوت الله المنتظر في عالمنا هذا؛ لأننا يومئذ نكون من حزب الضعفاء والفقراء لا هم لنا إلا إسعاد شعبنا بدل التزلف للكبراء والأغنياء مشاركة لهم في الأموال التي يستقطرونها من دماء الأمة.
فلما مضت علي بضع سنوات في هذه الحالة تضجر الأغنياء مني، وسخط رفاقي ورؤسائي علي، وكان ضجر أولئك لأنني كنت أنغص عيشهم وأذكرهم بالموت الذي نسوه في اندفاعهم في هذه الدنيا، وأنبه نفوس الصغار عليهم، وكان سخط هؤلاء لكراهتهم صنع الخير على غير أيديهم؛ فلم يلبث أن انتشر بين الناس أن الراهب ميخائيل يجمع المال من الناس بحجة الفقراء ويخبئه في الأحراش، ففي شيخوخته سيجتمع لديه ثروة عظيمة. يا بني، إنني لما سمعت هذه التهمة لأول مرة سقطت على الأرض جاثيا باكيا، وسألت الله أن يقويني على احتمالها ولا يعاقب أصحابها، وبعد التفكر مليا وجدت أن الناس معذورون بتصديق هذه التهمة لقياسهم عملي على أعمال باقي الناس. فلم أعد أقدر أن أصنع شيئا مما كنت أصنعه قبلا؛ فعدلت عن جمع المال من الأغنياء للفقراء، ولم أستأ من عدولي هذا لتركي فقط مساعدة المساكين الذين تعودوا مساعدتي؛ بل أيضا لتخلص الأغنياء من سوط الحق الذي كنت أقرعهم به، وأجبرهم على وفاء ديونهم لبني جنسهم.
12
يا بني، إن البغض قديم بيننا وبين أهل المال، وأساسه ليس في الإنجيل فقط؛ بل في قلب الإنسان. لماذا نبغض الحاكم المستبد والظالم المعتدي واللص والفاجر والشره والحسود؛ إنما نبغضه لأن غرضه الأول إشباع «أنانيته» أي تسخير كل ما في الوجود «للأنا» التي فيه. «فالأنا» هذه هي عنده كل شيء في كل شيء، ومن طبع البشر أن لا يتحملوا «أنا» كبيرة إلا إذا كانت في مصلحتهم العمومية.
13
فبعد تركي يا بني مساعدة إخواني الضعفاء والفقراء بجمع المال لهم انفتح أمامي باب آخر، وخيل لي حينئذ أن العناية الإلهية هي التي أغلقت في وجهي ذلك الباب لتفتح لي هذا. فإنني رأيت أن المساعدة التي كنت أقوم بها ليست مساعدة حقيقية؛ لأن المساعدة الحقيقية تقوم بانتشال المحتاج من وهدته وإيجاد عمل دائم له، وأي فائدة في جمع المال لمن ينفقه في يومه، ويبقى بعده محتاجا ضعيفا كما كان قبله. فخطر لي أن أبني بناء أرسخ من هذا وأعظم، ولكن إياك يا بني بعد قولي هذا أن تقع في الخطأ العظيم الذي يقع فيه غيرك من اعتبار العطاء مضعفا لقوى المعطى له ومعوده الكسل والبطالة. لا لا، انبذ هذا القول نبذا. فإنه إنما هو ستار خشن يقصد به تغطية أنانية الإنسان وقسوته وبخله، ومن حق الإنسانية الضعيفة أن تطلب من الإنسانية القوية عذرا للبخل والقسوة غير هذا العذر؛ لأن هذه إذا رامت ترك العطاء لأنه ليس بمساعدة حقيقية لزمها إذن المساعدة الحقيقية. لأن الذي لا يريد إعطاء الغريق خشبة ليبقى عائما عليها في البحر بدل أن يغرق يلزمه أن يرسل إليه زورقا ينتشله وينقذه، وإلا فإذا تركه يغرق دون هذا ولا ذاك لم يكن إنسانا.
وعلى ذلك حملت معولا يا بني بدل الفضة والذهب، وسرت إلى الأحراش والطرق والأكواخ، وكان كل من رآني بهذه الحالة يضحك ويظنني راهبا معتوها، ولما شاهدني من بعيد أصحابي الذي ألفوني هرعوا إلي كالعادة؛ فخرج الأطفال من أكواخهم لاستقبالي وهم يتسابقون إلي، وزحف المرضى والشيوخ والعجزة لملاقاتي، وتحرك الفقراء الجالسون في الطرق تحت السياجات ماشين نحوي؛ فصرت حينئذ أبكي لأنني ما كنت أحمل لهم هذه المرة ما اعتدت حمله، ولما وصلوا إلي وقفت والدموع في عيني وقلت لهم: يا إخوتي وأبنائي، إن خبث البشر قضى بحرمانكم من مساعدتكم الماضية، ولكن الله أرسلني إليكم بمساعدة جديدة. إن خبز البطالة خبز مالح مر يا أولادي، فهلموا إلى العمل رجالا ونساء وأولادا. إن العاجزين والشيوخ يعملون في الأكواخ عمل النساء، والنساء تنزل مع الرجال الأقوياء للعمل في الحقول، والله يبارك ثمرة أتعابنا جميعا؛ لأنه إله الجد والنشاط والعمل.
ومنذ هذا الحين انصببنا على الفلاحة والزراعة؛ فقلعنا الصخور، ومهدنا الآكام، وعزقنا الحجارة، وأزلنا الأحراش، وحرثنا الأرض على مسافات بعيدة. فلم يلبث أن قام في وسط مزارعنا قرى صغيرة عديدة يعيش أهلها في وسط الطبيعة وهم يتغذون من نباتات الأرض التي يزرعونها وألبان المواشي التي يربونها، وكانت أمور هذه القرى يدبرها عدة من الشيوخ معي؛ إذ بعثت كل قرية شيخا من قبلها ينوب عنها وينظر في حاجاتها وتوزيع الأرزاق والبذور عليها، وكان أكثر شغلي وشغلهم مصروفا إلى زيارة الأكواخ حيث كانت تقيم فيها تلك الإنسانية الصغيرة في أحضان الطبيعة الجميلة تحت حماية الله. يا بني، وكنت أدخل هذه الأكواخ النظيفة المرتبة التي كانت تخرقها الشمس طول النهار فتطهرها من مواد العفن برأس شامخ وسرور في القلب لا على الشفتين فقط؛ ذلك لأنني داخل لأعطي لا لآخذ، ولم يكن عطائي يومئذ فضة ولا ذهبا؛ بل ما هو أثمن وأجمل من الفضة والذهب. إنني يا بني كنت أعطي إخلاص قلبي وصدق ضميري وصحة اشتراكي. فإذا دخلت وكان في الكوخ ولد يبكي أو أم منزعجة لهموم منزلها أو شيخ عاجز مريض يئن من مرضه وعجزه فإنني كنت أبكي لبكائهم، وأتوجع لتوجعهم، وأقول لهم: يا أولادي فلنشكر الله؛ لأن مصائبنا أصغر من مصائب غيرنا، انظروا إلى العالم فيزداد بكاؤكم ولكن لا على أنفسكم بل على أهله. ففي هذه الساعة التي أخاطبكم بها كم من أم وأب وأخت وأخ يبكون وييأسون في العالم؛ إما من ضيق رزقهم أو فقد أعزائهم أو اضطهاد الأشرار لهم أو لأمراض هائلة يقعون فيها لسوء تدبيرهم أو لوراثتهم إياها من أهلهم أو لوقوع الأقدار عليهم. يا أولادي، فلنصل إلى الله من أجل هؤلاء التعساء ولنحمده؛ لأن تعاستنا لا تذكر بإزاء تعاستهم لأنها لم تنشأ إلا عن الضجر وضيق الخلق، ثم إننا كنا يا بني نرفع أيدينا وعيوننا إلى السماء ونصلي «أبانا» فقط. فلا نفرغ منها إلا والأمل قد عاد إلى نفس الشيخ، والأم ضحكت ونسيت انزعاجها وتعبها، والولد صار يضحك ويغرد كأنه هزار في بستان.
ولما كنت أخرج من هذا الكوخ بعد تحويل الضعف والضجر فيه إلى قوة وسرور، كانت نفسي في حالة لا أقدر على وصفها لك، إنما يكفي أن أقول لك: إنني كنت حينئذ سعيدا سعيدا إذا كان في هذه الأرض سعادة. فكنت أذهب مشروح الصدر إلى كوخ آخر، وهناك أسمع قهقهة الضحك والسرور من الباب، وبعد دخولي كنت أجد الأم والجدة والجد مثلا حول موقد النار وأمامهم طفل لهم يلاعبونه ويداعبونه وهموم العالم في معزل عنهم. فكنت أدخل ضاحكا باشا فآخذ الطفل بين ذراعي وأجلس مخاطبا الطفل وأهله بقولي: أسأل الله يا ولدي أن يبقي لك ولأهلك هذه البشاشة وهذا السرور، فإنها غنى النفس الحقيقي وثروتها العظمى وقوة هذه الحياة. أجل يا أولادي، إن البشاشة قوة إلهية إذا كانت ناشئة عن الرضى بأحكام الله والتسليم إلى إرادة الله، ولكن فلنذكر الذين يحزنون ويهتمون ويتعبون، ولنفتكر بهم، ولنصل إلى الله من أجلهم. إن الإنسان الكريم في هذه الحياة يخجل أن يكون سعيدا بإزاء تعاسة باقي الناس
14
فليكن من الكرام يا أولادي، لنشكر الله لإعطائه إيانا قوة البشاشة والصبر والمسرة، ولنسأله أن يقينا من طوارئ المستقبل، ويقوينا على احتمالها حين وقوعها علينا؛ إذ لا بد منها يوما من الأيام - فبعد هذه الكلمات يا بني كنت أرى أولئك السعداء قد هدأت نفوسهم بعد خفتها وترقرقت عيونهم بدموع ذكراهم تعاستهم الماضية والآتية، ولم أكن لآسف على هذا لأنني إنما كنت أقصده؛ لأن غرضي كان في كوخ التعيس تذكيره بشقاء الناس لتخف عليه تعاسته وأريه أنها سنة على الجميع، وفي كوخ السعيد أذكره بالتعاسة والمصائب لئلا يقسو قلبه وتبطره النعمة فيشرس ويخشن وينسى الله والناس، وهكذا كنت بيسير من العناية والتدريب والإخلاص أجعل أولئك التعساء والسعداء بشرا هادئين راضين باشين مسلمين أمورهم إلى باريهم لا تبطرهم نعمة، ولا تسحقهم نقمة، ولا غرض لهم غير مساعدة بعضهم بعضا على عبور نهر هذه الحياة.
يا بني، هنا وصلت إلى ما لا يزال تذكاره مزعجا لنفسي، ولكن لا بد من إتمام حديثي. فبعد مدة انتشر خبر مزارعنا في البلاد كلها؛ فكان الفلاحون والناس يفدون علينا من كل جانب للانضمام إلينا، فكأن قرانا الهادئة اللطيفة ومعيشتنا الطبيعية الإنجيلية الاشتراكية كانت مغناطيسا يجذب النفوس إلينا في وسط هذا العالم المضطرب، ولكن وا أسفاه يا بني، إن شيطان الحسد والطمع والبغض كان يترصدنا، وهذا من أقبح مفاسد الحياة. فإنه لا يكفي الإنسان أن يخلص في عمله ويفرغ جهده ويشق نفسه ليتقنه ويقوم بواجباته؛ بل عليه أيضا أن يفكر في أن يصرف عنه حسد الناس حين نجاحه، وإلا أودى هذا الحسد به وبعمله، وهذا ما حدث لنا، فإنه لم يلبث أن انتشر عنا في المدن والقرى أخبار هائلة؛ فقوم قالوا: إننا كنا نؤلف جمعيات سرية غرضها محالفة الفرس لطرد اليونان من سوريا، وقوم قالوا: إننا أردنا أن نبرز «جمهورية أفلاطون» من حيز القوة إلى حيز الفعل فننشئ هيئة اجتماعية لا تتألف من العائلة، ولا يعرف الأولاد أنسابهم فيها
15
وبعضهم قالوا: إننا نادينا برفع سلطة الكنيسة وقررنا اتباع آريوس.
يا بني، إنك لا تتصور ما كان من التأثير لهذه التهم الهائلة على أناس سذج فضلاء مثل فلاحينا خصوصا التهمة الثانية والثالثة؛ فقد بقي النساء يبكين أسبوعين من تأثير التهمة الثانية، وقد صلينا مرارا إلى الله أن ينير عقول بني عصرنا، وينبذ من صدورهم ذلك الخبث الذي راموا محاربتنا به. أواه يا بني، إن بني عصرنا كانوا أبرياء من ذلك الخبث وإن كانوا شركاء فيه؛ إذ لا ذنب لهم غير تصديق تلك الإشاعات، وإنما كان مصدر الخبث حسد رفاقي ورؤسائي الذين كانوا يغضبون من مشروعي؛ لأنه جعل رعيتهم تطالبهم بمثله ، وكثيرون منها هاجروا إلينا، وهكذا أجبرني خبث البشر مرة ثانية على أن أترك ما تعبت ببنائه؛ فصدر إلي أمر رئيسي أن ألزم الدير، وأن أقتصر على الوعظ في الكنائس. فعدت إلى الدير بنفس مسحوقة وظهر مقصوم وقلب متفطر، ويا أيتها السماء يا ظلمات الليل يا كواكب الفلك - أنت وحدك كنت تشهدين على ما قاسيته في ذلك الزمن في ليالي المظلمة الطويلة، ولكن الله كان معي يا بني، وهو يكون دائما مع جميع الذين يضطهدهم البشر ظلما وعدوانا، ولذلك شعرت بعد مدة بعودة الثقة والأمل والقوة إلى نفسي، وفي ذات ليلة وأنا على سطح الدير أنظر البدر يطلع تماما من وراء الجبال البعيدة، وأشاهد بعضا من رؤسائي ورفاقي يتمازحون ويتضاحكون في حديقة الدير وهم يتغنون بأناشيد روحية استغرقت في بحار التأمل والتفكير، وأخذت أخاطب نفسي قائلا: لماذا أيتها النفس لا تصنعين صنع هؤلاء؟ لماذا لا تكتفين بغذائهم ومشاغلهم وأحوالهم؟ ما هذه النار الدائمة التي تحرقك فلا تدعك تستريحين أبدا؟ افرحي وكلي واشربي وانعمي بالرئاسة والكرامة والجاه مثل غيرك. إنني آسف عليك وعلى جهدك. آسف لأنك تتعذبين والأشرار ينعمون. آسف لأنك تسهرين وتقلقين وترزحين والأردياء ينامون ملء الجفون. فخففي عنك وأريحي نفسك. يا بني، ولكنني سمعت تلك النفس التي كنت أتهكم عليها حينئذ بهذا القول كأنها تناديني في هدوء ذلك الليل، وتقول: يا رفيقي الحيوان في باطن هذا الإنسان، ما لك رفعت رأسك وانتبهت بعد طول رقادك؟ إنني كنت أظنك قد مت وقضي عليك. ألا فاعلم الآن أنني لا أصغي إليك أبدا. نعم، أنت تتحكم في غيري فتجعل همهم الأول في هذه الأرض الأكل والشرب واللذة، أما أنا فقد أسرتك وكبحت جماحك من زمن بعيد، وكن على ثقة من أنني سأخنقك ولو خنقت نفسي. فأنا في هذه الأرض كذلك اليهودي الذي تمنع عن حمل صليب المسيح فبات يتيه في الأرض ويمشي فيها إلى الأبد. نعم نعم، إلى الأبد إلى الأبد أنا أعمل. إلى الأبد إلى الأبد سأخدم بني جنسي. إلى الأبد سأضحي نفسي من أجل غيري، وهذه هي لذتي. تقول: إنني لا أنفع شيئا، وإن جهدي ذاهب أدراج الرياح بدليل تخريب البشر عملي مرتين، ولكن يا رفيقي الحيوان الجاهل، إنني لا أدع النملة تكون أفضل مني؛ فإنك إذا خربت بيتها مرتين أو عشرات مرات فإنها تعود إلى بنائه بصبر أشد وجلد أقوى، فدعني إذن وشأني. إنني أبذر بذور الحقيقة والفضيلة والعمل ومحبة الله والناس في أرضنا الشرقية الخصيبة، فإذا لم تنبت هذه البذور في حياتي فلا بد أن يأتي بعدي من يعتني بها ويفتقدها، وكن على ثقة من أنه ليس تحت قبة السماء قوة قادرة على منعي من بذرها. لا تقل الاضطهاد والفقر والطعن والشتم والتهمة، فإنني أبارك هذه الأمور وأضحك منها؛ لأنها تزيدني قوة، وتضاعف صبري وشوقي إلى العمل. فهي كالحطب تلقى على النار المتقدة في باطني فتزيدها اضطراما، ولست أخاف إلا من شيء وهو إجبارهم إياي على الخروج عن الحدود التي أريد التزامها.
يا بني، ومنذ تلك الليلة شعرت بقوة جديدة، وكان اليوم التالى يوم أحد، وكثيرون من أهل القرى قدموا إلى كنيسة الدير للصلاة فيها. فصعدت إلى كرسي الوعظ ووعظت عظة موضوعها: «أحبوا أعداءكم باركوا مبغضيكم» ولكن لم ينقض ذلك اليوم حتى صار الدير كله مع ما حوله من القرى في اضطراب شديد بسبب هذه العظة، وتتالت الرسل من الدير وإليه بشأنها.
ولماذا كل هذه الضوضاء يا بني، هل علمت سببها؟ سببها تهمة وفرية أخرى وهي أن الراهب ميخائيل جحد في الكنيسة لاهوت المسيح.
فيا بني، لا تصدق هذا القول القبيح. فإنني لست ساذجا إلى هذا الحد لأبحث في أمر يجب علي التسليم به، أو أنسى راحة نفوس المؤمنين، أو أعطي من نفسي حجة علي للخصوم؛ بل كن على ثقة من أنني لم أبحث بالعقل في هذه المادة، ولا أبحث فيها أبدا. فهي موضوعة عندي خارج دائرة البحث والعقل قطعيا، وهبني بحثت فيها عقليا فهل يقدر العقل أن يدرك كنهها؟ فما الفائدة إذن في البحث فيها؟ ثم هل تظن كل من يبحث في لاهوت المسيح جاحدا له؟ كلا يا بني، فإن هنالك من يقول باللاهوت ولكنه يقول بانفصاله عن الناسوت ولكل منهما مشيئة خاصة، ومنهم من يقول بروح الله وكلمته ... وغير ذلك. فهل يكفر أصحاب هذه الآراء مع اعتقادهم باللاهوت تصريحا أو تلميحا. أما أنا يا بني فإنني أكتفي من مسألة اللاهوت بالتعاليم السامية التي تتعلق بها وتدل عليها، وهذا سبب بلواي في هذه المرة. فإنني بعد الخطبة التي ذكرتها لك جاءني بعض السامعين، وقالوا: قلت أيها الأخ في خطبتك أنه يجب علينا أن نحب جميع الناس؛ لأنهم إخوتنا، ولذلك يجب أن لا نضطهد اليهود في سوريا وفلسطين، وقلت: إن تكفيرنا بعضنا بعضا من أجل معتقداتنا مخالف لروح الإنجيل الذي يقول: «لا تدينوا لكي لا تدانوا» فماذا تقول في رجل يجحد لاهوت المسيح ولكنه يعمل بوصاياه، ورجل يعتقد به ولكنه لا يعمل بوصاياه بل يعتبرها مبادئ جميلة لا تخرج عن دائرة الكتب. هل تبارك الأول أم الثاني؟ ففكرت هنيهة ثم أجبتهم: أبارك الأول والثاني يا أولادي؛ لأنني بمباركتي الأول أبارك الفعل دون القول، وبمباركتي الثاني أبارك القول دون الفعل.
16
فهذا القول وحده كان كافيا يا بني لاتهامي بجحود سيدي. فيا لظلم البشر! يا لرغبتهم في اتخاذ المعتقدات الدينية تروسا يتسترون وراءها لمحاربة من يريدون محاربته! يقولون لاهوت المسيح ويخالفون أشرف ما في اللاهوت وهو فضيلة المحبة. يقولون لاهوت المسيح ويراءون ويفترون. لاهوت المسيح ويبغضون ويشرهون. لاهوت المسيح ويظلمون ويعتدون. لاهوت المسيح ويسبون ويشتمون. فيا أيتها السماء الأورشليمية الصافية التي ظللت «الكلمة» أزمانا هل يوجد اللاهوت ليتستر وراءه كل صغار الأرض الذين لا يقدرون على الارتفاع إليك بنفوسهم الإلهية، أو الذين يرومون التسلط على الضمائر والعقول بحجة نفعها والغرض نفعهم الخصوصي، وا أسفاه يا بني هذه علتنا الكبرى وآفتنا الهائلة. نحن نتمسك بالألفاظ ونترك المعنى. نطلب القشور ولا نسأل عن اللباب. نقول لاهوت المسيح ولكن لا نعمل بوصايا المسيح التي هي أول شروط لاهوته، وهكذا لا يكون عندنا من المسيحية - وا أسفاه - إلا ظواهرها، ويكون عملنا هذا مشجعا لكل ذي فكر جامد يكتفي من الدين بالاعتقاد بهذه المادة بشفتيه وقلبه بعيد عنه وعنها بعدا شديدا.
كلا ثم كلا. إننا لا نبحث يا بني ولا نجادل قطعيا في أصل من أصول الدين ولا في فرع من فروعه. فإن الباحث بعقله في الأديان لإثبات هذا الأصل أو ذاك الفرع كالباحث على صفحات الماء، ولذلك نحن نحترم كل أصل وكل فرع احتراما مطلقا ونسلم به، ونجثو بخشوع مع باقي أجزاء الإنسانية على تراب الاتضاع والخضوع أمام المواد والأشياء التي جعلها البشر مذكرة باللانهاية. إننا لا نطفئ شمعة من الشموع الموقدة أمام الأيقونات والتماثيل ولا نرفع إكليلا من الأكاليل الموضوعة عليها. إننا نجيز القداس بالخمير والفطير معا، والعماد رشا أو تغطيسا، والصوم وعدم الصوم، والاستحالة حقيقية أو رمزية، ووحدة الرئاسة وتعددها، والعصمة وعدم العصمة، والصلاة وقوفا أو سجودا أو قعودا، والاعتراف وعدم الاعتراف، وتفسير كل واحد الكتاب المقدس بعقله أو رجوعه فيه إلى الرئاسة الدينية؛ لاعتقاده أن لها وحدها حق تفسيره
17
نعم، نحن يا صديقي وصغيري نجيز كل ذلك ولا ننكره ولكن على شرط واحد وهو أن فعل هذه الأمور يقرن دائما بإخلاص القلب إخلاصا حقيقيا، وطلب الخير والعبادة النقية طلبا مجردا؛ ذلك أنني أعتقد يا بني أنه متى أريد طلب الخير والعبادة الحقيقية النقية، فكل الطرق المؤدية إليها حسنة متى كان القلب مخلصا نقيا، ولست ممن يضيقون عقولهم وقلوبهم إلى حد أن يعتقدوا أن الله يقبل العبادة مثلا بهذا الشكل ولا يقبلها بذاك. فإن الذين يضعون هذه الأقوال يقصدون بها تأييد مصالح لا تأييد مبادئ، أي مصالحهم السياسية والقومية، أو مصالح رئاستهم؛ لرغبتهم في الاستئثار بالسلطة والسيادة، وهذا هو السبب في تكفير الطوائف بعضها بعضا، وقيامها بعضها على بعض، وتشعب المسيحية
18
فالإخلاص الإخلاص يا بني، الطهارة الطهارة، الخير الخير: هذه هي آلات العبادة الحقيقية، وبدونها لا تجدي العبادة شيئا ولا يغني الاعتقاد باللاهوت فتيلا.
يا بني، لقد وصلت بك إلى منتهى عملي. فإن تلك التهمة أجهزت وا أسفاه على قواي؛ لأن أعدائي اغتنموا هذه الفرصة، وطردوني من سلك الرهبانية. فرحت يا بني في الدنيا هائما على وجهي أبكي وأنوح؛ لإساءة الناس الظن بي، وإهانتهم لي، وقطعهم رزقي، ومما كان يفتت كبدي فرار أحبائي وأبنائي القدماء مني. فكأنني أصبحت وحشا ضاريا لا يقربني أحد، وكان الفقراء والضعفاء الذين كنت أساعدهم من قبل إذا شهدوني قادما حادوا عن طريقي واختبئوا مني. يا ولدي وصغيري، إن من لم يقع في زمانه في حالة كحالتي لا يعرف مبلغ الشقاء الذي عانيته، وإن فرائصي كلها لترتعد الآن لمجرد ذكره. ماذا؟ هو ذا رجل باع نفسه من بني جنسه فتنازل عن راحته ووقته وقواه ووقفها كلها عليهم، وصار يخدمهم بعينيه وكل نفسه مشاركا لهم في السراء والضراء مدبرا لأقويائهم مساعدا لضعفائهم مرشدا لأولادهم معزيا لمرضاهم، ومع كل ذلك يكون هذا جزاؤه من الله والناس. يا بني، لا أكتمك أن عقلي وايماني قد اضطربا في ذلك الزمن الهائل، فصرت أخشى من النظر إلى السماء لئلا تبدر مني عاطفة أو كلمة تورثني الندم في باقي حياتي. أما البشر فإذا وقع نظري على أحدهم اتفاقا فإنني كنت أراه وحشا أسود ضاريا، ولولا بقية من روح سيدي في نفسي لهجمت عليه وعضضت عنقه لأمتص دماءه انتقاما من الإنسانية. أواه يا بني صفحا عن هذه الأفكار الوحشية التي كانت تتردد يومئذ في ذهني، فإنني أؤكد لك أنها لم تصحبني أكثر من أسبوع واحد، فإن الله لم يتخل عني؛ لأنه كما قلت لك يكون دائما مع المظلومين المضطهدين في هذه الحياة، ولذلك أرسل إلي رجلا أنساني كل مصائبي.
ففي ذلك العام يا بني هاجم إمبراطورنا مملكة الفرس؛ لاستخلاص الصليب المقدس منها، وسحق قوتها لكي لا تعود إلى مهاجمتنا مرة أخرى. فوصل الجيش الإمبراطوري إلى بلادنا الكلدانية ومر بها. ففي ذات يوم وأنا أبكي من ظلم الناس تحت شجرة في الحرش حيث كنت أنام مع حيوانات البر وآكل من البلوط لسد جوعي، وإذا بفارس طلع علي ومعه شرذمة من الجند. فخيل لي أنه قادم بأمر من الحكومة للتفتيش علي. فلما رأيته ثار دمي كله غضبا على البشر الذين يطاردونني حتى في وسط الأحراش فهجمت عليه كالذئب الكاسر وأنا بحالة الجنون أصيح وأزمجر بلا وعي. فأمر الفارس رجاله بالاحتيال للقبض علي من غير أذيتي؛ لأنه ظنني مجنونا آوي إلى الأحراش، فتكاثروا علي وقيدوني وأنا أكاد أقتلهم وأقتل نفسي، ولكن بعد برهة أخذ الفارس يلاطفني ويجاملني، وسألني عن خبري؛ فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها وأنا أبكي. فما سمع شيئا منها حتى هجم علي فقطع وثاقي وصافحني وأقبل علي يسألني التتمة، ومنذ هذه الساعة بدأت أصعد من الهاوية التي ألقاني البشر فيها. فإن هذا الفارس كان قائد مائة وهو من هذه المدينة، وقد تطوع في الجيش لمقاتلة الفرس انتقاما منهم؛ لأنهم حين استيلائهم على القدس وطنه قتلوا ابنه. فأخذني هذا الفارس وقدمني للإمبراطور وقص عليه قصتي، فهز الإمبراطور رأسه وقال: هذا شأن السوريين فإنهم متى حكموا في أنفسهم كانوا أقرب إلى الجور منهم إلى العدل؛ لكثرة تحاسدهم وتنافسهم، ولعدم وجود جامعة قوية عادلة تساعد الجيد فيهم وتخذل الرديء.
فصحبت يا بني جيشنا في فتوحاته في بلاد الفرس جيراننا، ولم أكن راضيا عن هذه الحرب، وإن كنا فيها مدافعين لا مهاجمين؛ لأنني أكره الحرب أيا كان سببها حتى مع المجوس، ذلك لأن الدم الذي يسيل فيها يا بني هو دم بشري مقدس سواء كان صاحبه مسيحيا أو وثنيا أبيض أو أسود يونانيا أو سوريا أو فارسيا، فإننا كلنا أخوة في الأرض، ومن الفظاعة أن يقتل الأخ أخاه، إلا أنني لا أكتمك أنني كنت رغما عني مسرورا؛ لفرار كسرى أبرويز من وجه إمبراطورنا من مدينة إلى مدينة حتى من عاصمته فرار العصفور من وجه النسر * ذلك لأنني كنت أعلمه معتديا؛ لأنه هو الذي كان البادئ بمهاجمتنا، ومهما كان الإنسان ميالا للسلم والصفح والحلم فإنه يطرب عندما يرى المعتدي مغلوبا مخذولا على شرط أن لا يتجاوز الغالب حدود الدفاع، ويجعل نفسه عاديا ظالما.
ولما انتهت الحرب أتى بي ذلك الفارس الكريم إلى هذه المدينة، ووضع بين يدي مالا طائلا، وابتاع مزرعة وراء هذا الجبل، وقال لي: اصنع فيها ما صنعته في مزارعك القديمة؛ فأعدت في هذه المزرعة يا بني ما كنت أصنعه هناك تحت حماية هذا الشهم، فجمعنا فيها نحو مائة عائلة كبارا وصغارا، وصرنا نعيش على زراعة الأرض بأمن وسلام، ولم يكن ينغص عيشي شيء سوى تذكري الشقاء الذي حل بين أحبائي في بلادي بعد سقوطي ورحيلي عنها، ولذلك كنت أرحل في كل سنتين مرة إليها وجيوبي مملوءة لمساعدة أبناء وطني، وأنا الآن أقيم تارة في المزرعة هنا، وطورا في بلادي مسرورا بأن الله أوجد لي في آخر عمري عشا آوي إليه، وأقدر على صنع الخير فيه بمساعدة إنسان فاضل يستحق أن يسمى إنسانا، ولقد سكنت نفسي وهدأت بعد ذلك الاضطراب؛ فندمت على أنني أبغضت البشر يوما وعاديت أعدائي. يا بني، إن القلوب الطيبة يجب أن لا تعرف العداء وأن تتركه للقلوب الرديئة، وعلى القلوب الطيبة أن تصلي دائما إلى الله من أجل القلوب الرديئة؛ ليرحمها وينبذ الرداءة منها.
والحق أقول لك يا بني، إنني بعد أن شبت وأدبتني المصائب وعاشرت البشر زمنا طويلا، علمني الاختبار أن الخير الذي كنت أطلبه متشعب الطرق صعب من عدة وجوه، ولذلك ندمت على إطلاقي لنفسي العنان في مقاومة رؤسائي ورفاقي دون ترو ولا إمعان. نعم، يجب علينا محاربة كل شيء في الأرض لصنع الخير وقتل الشر، ولكن يجب أن لا نتعامى عن المصاعب والعثرات التي في طريق من نحاربهم، وأول هذه المصاعب شراهة نفوسهم التي تطلب كل شيء لها تحت ستار الغيرية. نعم، إن هذا ليس بعذر مقبول، ولكن ما الحيلة بالنفس الصغيرة المقيدة بأهوائها ولا تستطيع الانطلاق منها؟ لا حيلة في إطلاقها يا بني غير الصلاة إلى الله من أجلها ليغسلها وينقبها ويطلقها، وثاني هذه المصاعب: رسوخ بعض المبادئ والآراء والأوهام في نفوس العوام، ولذلك يضطر الرؤساء رغما عنهم إلى مداراتها ، وإذا لم يداروها لم يعدموا من قومهم ومرءوسيهم من يقوم وينادي بكفرهم لخروجهم في زعمهم عن الشريعة الدينية؛ لأن كل متعصب لرأيه لا يعدم أن يجد في من تحته أو فوقه من هو أكثر تعصبا منه، لا سيما وأن المصالح والأهواء تتخذ في أكثر الاحيان هذه الأمور ذرائع تدعم نفسها بها. إذن فلنغض الطرف قليلا يا بني عن تلك المداراة؛ لأن أصحابها قد يكونون معذورين فيها، وإذا لمناهم فليكن لومنا لهم ببشاشة واعتدال وحلم؛ لأن تدبير النفوس وظيفة صعبة لا يعرفها إلا من عاناها، ولو كان بعضهم يسمعني الآن معك لاستصفحت منهم عن الحدة التي ظهرت رغما عني في بدء كلامي؛ لأنني كنت متحمسا لذكري مصائبي الماضية.
يا بني، لا تدع عقلك يضل كما ضل كثيرون من أبناء هذا العصر * لسآمتهم الخلافات الدينية، فإن فوق هذه الخلافات كلها حقيقة يجب أن تكون أساس كل هيئة اجتماعية، وهي أن الحقائق الدينية راسخة في الأرض إلى الأبد؛ لأنها عبارة عن نزوع الإنسان إلى المنزل الأول ومصدره الأعلى، وأي شيء غير الدين يضع أسمى آيات الفلسفة والعلم والأدب في أفواه وقلوب السذج والمساكين. أنت وأنا مثلا لا نسأل عن أديان البشر؛ لأن في باطننا الديانة المطلقة النقية التي هي ديانة القلب ومحبة الله والناس والتسليم إليه تعالى في كل شيء، ولكن هل يفهم العوام هذه الأمور؟ هذا أمر بعيد، ولكن مع ذلك علينا أن نحذر من جعل هذا الأمر يولد داء قاتلا؛ فإن الظواهر الدينية التي يزين الدين الحقيقي بها ليصير مفهوما من العوام لا يجب أن تكون مخنقا له، والجاني على الدين والإنسانية في الأرض إنما هو ذلك الذي يوجد التضامن والتكافل بين تلك الظواهر، وما تحتها من البواطن الصحيحة، وحينئذ لا يجب أن يلوم أحدا غير نفسه؛ لأن العقل إذا احترم الحقيقة فهيهات أن يحترم لباسها. خصوصا إذا كان هذا اللباس مما يمنع وصول نور الحقيقة إلى الناس، ويكون عثرة في سبيل خير الإنسانية واتفاقها وتقدمها.
لقد فرغت الآن يا بني ، وآن أن أريحك وأستريح من هذا الكلام الطويل، ولكنني إذا أعدت في ذهني كل ما قلته لك أرى أن كلامي لا يزال ناقصا أمرا مهما لا يحسن أن يختتم بدونه، وبعبارة أخرى أقول: إنه ناقص التاج الذي يجب أن يتوج به. أجل يا بني، إن أول وآخر دعامة من دعائم الفلسفة والدين والفضيلة والأدب والحكمة هي هذا التاج البديع وهو «الرفق والمحبة والصفح» للجميع. فديانة الرفق والمحبة: هذه هي الديانة التي سيجتمع عليها البشر في مستقبل الزمان. الرفق والمحبة لجميع مخلوقات الله حتى الحيوانات. الرفق والمحبة لجميع البشر حتى الوثنيين والأردياء والأشرار واللصوص في السجون؛ لأنه إذا كان يجب علينا احتقار ضلالهم وشرورهم فيجب علينا أيضا محبة الإنسانية فيهم والشفقة عليهم. يا بني، أذكر أن سيدنا غسل ليلة تسليمه للصلب قدمي يهوذا الذي أسلمه مع معرفته أنه عدوه ومسلمه وجاحده. أذكر أنه قال للذين جاءوا إليه بالخاطئة: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، وبعد هذه الذكرى أخبرني إذا كنت تجد في العالم أحدا يسمح لك قلبك بإخراجه من ناموس الرفق والمحبة.
فيا ولدي العزيز، ضع هذا الناموس نصب عينيك. احي فيه ومن أجله. اجعله القاعدة الكبرى لأعمالك وأفكارك. اعتبر كل تعاليم تخالفه تعاليم باطلة أيا كان مصدرها، واعلم أنه ليس في الهيئة الاجتماعية كلها شيء أرقى وأعظم منه، وإذا سلكت طريقه في حياتك كلها أمكنك أن تموت في آخر العمر موتا هنيئا هادئا؛ لأنك تكون قد قمت بواجباتك للإنسانية في هذه الحياة، وعشت إنسانا كريما محبا ومحبوبا.
يا صديقي وأخي الصغير، هذا ما أردت إطلاعك عليه من تاريخ حياتي لعلك تجد فيه فائدة لنفسك. فاختر الآن ما يحلو لك، واعلم أن أبواب مزرعتنا مفتوحة لشاب عامل نشيط مثلك إذا كنت تشرفنا بالانضمام إلينا.
طلوع الشمس
وهنا سكت الراهب الشيخ بعد كلامه الطويل، وكان قد طلع الصباح وفر جيش الظلام، ومن غرائب الاتفاق أن الشمس أطلعت قرنها في هذه اللحظة حين سكوت الراهب. فوثب الراهب وقال: هلم هلم نشهد طلوع الشمس. تبارك الخالق تبارك الخالق. فنهض الفتى إيليا لنهوض الشيخ وهو مبهوت مذهول، ولكن إيليا بعد نهوضه لا ينظر إلى الشمس بل إلى الفضاء وهو مبهوت جامد النظر كمن لا ينظر إلى شيء، وفي الواقع أنه كان ينظر إلى داخله لا إلى خارجه؛ ذلك لأنه كان ينظر إلى الشمس الأدبية الجديدة التي أطلعها الراهب الشيخ بخطبته هذه في داخل نفسه، وكان يخيل له بعد كل ما سمعه أنه في حلم لا في يقظة، فإن عالما جديدا انفتح أمام عينيه، واتسعت دائرة فكره اتساعا لا حد له، وفي هذه البرهة بلغ التأثر من الراهب مبلغه لدى منظر قرص الشمس البارز للخليقة يحييها بنوره وحرارته المنعشة. فجثا على الأرض جارا الفتى معه أيضا، وبعد أن سجد وقبل الثرى رفع يديه إلى السماء صائحا من أعماق قلبه: اللهم شكرا للنور بعد الظلام. اللهم شكرا للحرارة بعد البرد. اللهم شكرا لعنايتك الكاملة الكريمة التي ترسل نعمها وخيراتها إلى الصالحين والأشرار معا لتعلم الإنسان الاقتداء بها. أما الفتى إيليا فقد رفع يديه إلى السماء كما رفعهما الشيخ، واشترك في هذه الصلاة، ولكنه لم يكن حينئذ يصلي شكرا للشمس الطبيعية التي كان قرصها الجميل أمامه؛ بل كان يصلي شكرا للشمس التي طلعت في باطنه، وهكذا كان ذلك المنظر في غاية البهاء والجلال. فإنه كان على قمة جبل الزيتون في صبيحة ذلك اليوم شيخ هادئ مطمئن في آخر العمر يشكر الله؛ لأنه يدفئ شيخوخته الباردة بوافر نعمه، وفتى في أول عمره قلقا مضطربا يشكر الله؛ لأنه أنار نفسه، وأراه طريقه في أول حياته.
فيا أيها الفكر الحر المطلق الذي يقوده العلم، وتسنده الفضيلة، إنك كالطبيعة العظيمة تخلق نورا وتطلع شموسا.
المزرعة
وفي مساء ذلك اليوم نظر الراهب ميخائيل سائرا بالفتى إيليا إلى المزرعة التي ذكرها، وكانت قائمة وراء جبل الزيتون على مسافة بعيدة عدة أميال فرحب صاحب المزرعة الشيخ سليمان بالفتى لما توسمه في وجهه من الذكاء والنباهة، واستقبله كما يستقبل ابنا له، وأخبره أنه سيكون وارث الراهب ميخائيل في «أورشليم الجديدة» أي في مزرعته، وبما أن الرجل كان يعلم أن الزراعة لا تترقى إلا بالاختبارت الزراعية والدروس الطبيعية جاءه بكتب بلينيوس العالم الطبيعي الروماني؛ ليستخرج منها كل ما يختص بالشئون النباتية والزراعية
19
فأكب إيليا على درس هذه الكتب، ثم استطرد منها إلى مؤلفات أرسطو في الطبيعة وفي النفس. فكان هو يفتكر ويدرس ويطالع لأهل المزرعة، وأهل المزرعة يعملون بأيديهم بجد ونشاط، فكملت بذلك الحركة التي يخرج منها الارتقاء والمدنية وهي «الفكر والعمل».
20
وكأن المصائب التي وقع فيها الراهب ميخائيل في كهولته قصرت أجله مع قوة بنيته، فبعد بضعة أعوام رزح وعجز عن العمل والمشي، فلما رأى صاحب المزرعة ذلك هز رأسه وقال: قد دنا أجل أخينا ميخائيل. ثم أردف ذلك بقوله: إن هذا الرجل قديس فإنه لم يمت حتى جاءنا بشخص نافع مثله يقوم مقامه. - ثم قصد الرجل إيليا وقال له قارعا ظهره بيده: تأهب يا بني لخلافة أخينا ميخائيل فإنك ستكون كاهننا دينا وعلما أي مرشد معاولنا ونفوسنا معا.
وفي الواقع توفي الراهب ميخائيل بعد خمسة أيام فحزنت عليه المزرعة كلها، وكان إيليا تلميذه أشدهم حزنا وبكاء، وقد اجتمع رأيهم على دفنه في وسط المزرعة بين الحقول والأشجار فأقاموا له هناك قبرا بسيطا، وكان إيليا في كل صباح يأتي بشيء من الزهر الطيب الرائحة وينثره عليه باحترام وخشوع، ويقبل بلاط القبر بدموع، وقد نقش إيليا على قبره أستاذه الراهب الشيخ هذه الكلمات: «السلام على رسول الرفق والخير، وحبيب الله والناس».
وقد فاتنا أن نقول: إن أم إيليا توفيت في ذات العام الذي دخل فيه ابنها إلى المزرعة فدفنت في مقبرتها، ولكن حزن إيليا على الراهب مرشده لم يكن بأخف من حزنه على أمه الحنون.
وبعد وفاة الراهب ميخائيل رفض الشيخ سليمان قطعيا إدخال أحد من رجال الدين إلى المزرعة؛ لأنه لم يجد راهبا فاضلا كالأخ ميخائيل ليسلمه المزرعة ونفوس أهلها. إلا أن أكثر أهل المزرعة استاءوا من ذلك وخصوصا النساء، فكان الشيخ سليمان يقول لهم : لكي يكون الكاهن فاضلا، ويستطيع القيام بواجباته يجب أمران؛ الأول: ضمانة رزقه وحسن معيشته، والثاني: حسن أخلاقه وكمال استعداده النفسي؛ ليتخذ وظيفته سبيلا لنفع غيره لا نفع نفسه، ولا يفسد السلك الإكليريكي في بلاد إلا بفساد هذين الشرطين. فنحن نقدر على ضمانة الأول ولكن من يضمن لنا الثاني. فلديكم يا أولادي التوراة والإنجيل، ولكم عقول خلقها الله لتعقل فاقرءوا كتبكم في اجتماعاتكم، وطهروا قلوبكم، وأحسنوا صنعكم فالله يقبل منكم هذه العبادة؛ لأن كل إنسان يمكنه أن يكون كاهن نفسه طبقا لدعوة الإنجيل، ولكن أهل المزرعة كانوا يسكتونه بهذا الجواب: وما الحيلة بالعماد والإكليل والوفاة.
وفي ذات اليوم ألحوا عليه في ذلك بالتماس ورجاء، فقال الشيخ سليمان في نفسه: لماذا لا نسيم لهم إيليا كاهنا؛ فإنه جامع للشرطين المتقدمين.
وكان إيليا لا يزال مشتغلا بخدمة المزرعة بعقله ويده إلا أن همته كانت قد ضعفت كثيرا. ففي ذات يوم قصده الشيخ سليمان في حرش من الصنوبر في المزرعة، وأخبره بإلحاح أهل المزرعة في شأن الكاهن، وأنه يود لو يقبل هذه الوظيفة. فدهش إيليا أولا. ثم أجاب بما خلاصته: كانت لي في صباي هذه الأحلام الجميلة. أما الآن فقد تغير فكري. نعم، إنني لا «أطفئ شمعة من الشموع الموقدة، ولا أرفع إكليلا من الأكاليل» كما علمني أستاذي الراهب ميخائيل، إلا أن نفسي صارت تطلب شيئا فوق هذا، وهي إذا جثت مع جمهور الجاثين على تراب الخضوع للمواثيق البشرية والعادات الأرضية فإن روحها ترفرف فوق الجموع الجاثية - في أعالي لا تصل هذه الجموع إليها.
فترك الشيخ سليمان إيليا بعد هذا الجواب، ولم يعد يخاطبه بهذا الشأن، ولا بحث فيه مع أنه كان في نزاع دائم مع بعض الكهنة الذين كانوا يرومون الدخول إلى المزرعة رغما عنه، وفي جملتهم أخو سكرتير البطريرك الراهب متى.
ولكن ما هذه الأعالي التي ذكرها إيليا في جوابه، وكانت سببا في رفضه أن يكون كاهنا للمزرعة؟ هي السم الجديد الذي دخل إلى نفسه بعد خطبة أستاذه الراهب ميخائيل على الجبل ، واطلاعه على كتب أرسطو وأفلاطون وبلينيوس، هو الإنسانية الجديدة التي تكونت في باطنه بعد أن رفع الغطاء عن عينيه في هذه المطالعات المختلفة، وهذا هو السبب في الضعف الذي حدث في نفسه بعد بضعة أعوام من دخوله إلى المزرعة، وانكبابه على هذه المطالعة. فإنه صار أميل إلى الانفراد منه إلى الاجتماع، ولم يعد يلذ له مرافقة الفلاحين في حقولهم ومساعدتهم على حرثها؛ بل كان يلذ له بالأكثر الاستلقاء بكسل على ظهره تحت شجرة والتأمل في الفضاء الذي أمامه، وقلما كان يرى ضاحكا في هذا الطور بعد أن كان عصفور المزرعة وابتسامتها. أما صحته فتبعت أفكاره أيضا. فإنه صار نحيلا أصفر الوجه قليل الكلام كثير الضجر، فكأن النار التي كانت تتقد في نفسه لمصارعته مع مبدأ الكمال الخيالي والحقيقة المحجبة قد جففت ما كان فيها من ماء القوة والعافية، وهكذا تغير إيليا في بضع سنوات تغيرا كليا.
وكان كثيرا ما يقول في نفسه وهو سائر بين الحقول وأشجار المزرعة: ما هذه الحياة الباردة والوجود المضجر؟ لماذا خلق الإنسان في الأرض؟ وما هي الحكمة من خلقه جاهلا قاصرا محدود العقل كما هو الآن؟ إنني لما جئت من الناصرة إلى المدينة لأدخل في الخدمة الدينية كنت أسعد مني الآن؛ لأنني كنت قادما وأنا معتقد أنني سأقبض بيدي على الحقيقة والراحة والسعادة، ولكن الخطبة على الجبل غيرت فكري. فطلبت بعدها الحقيقة والراحة في العمل والكتب، وها قد مر علي بضع سنوات، وكلما تقدمت ازدادت الحقيقة بعدا عني وازددت بعدا عنها، ولقد صرت أرى كل شيء في الحياة أسود ثقيلا باردا. فالبشر بأجسادهم الضخمة الغليظة وعقولهم الجامدة وقلوبهم القاسية وأفواههم وأجوافهم المملوءة أقذارا مختلفة لا يختلفون كثيرا عن وحوش البرية، وكل ما في الأرض من مناظر طبيعية وألوان مختلفة وأشكال منتظمة لا يساوي جماله جمال حلم واحد من الأحلام الوهمية. نعم، لا أنكر جمال صنع الخير كما وصفه أستاذي الراهب، ولكن ماذا يقدر شاب ضعيف مثلي في وسط أوقيانوس العالم المضطرب. هو ذا أننا نصنع الخير الآن في هذه المزرعة وكل أهلها آمنون على رزقهم وراحتهم، ولكن ألا يوجد بشر أشقياء تعساء خارج المزرعة؟ لا ريب في ذلك؛ لأن الأرض كلها خارج هذه الدائرة في شقاء وعذاب ونزاع وخصام. فماذا تنفع حياتنا إذا كانت عاجزة عن إبطال كل ذلك، وما قيمة المعيشة التي يتنعم فيها عشرة ويشقى ألوف. حقا إن الحياة لا تسوى ما فيها من الهم والعناء والتعب، والسعداء أنفسهم لا يجدون فيها ما يروي غليلهم ويشفي نفوسهم. فالموت خير منها؛ لأنه راحة الراحات.
وهكذا تدرج إيليا في دركات الملل واليأس في مدة قصيرة، وصار يرى الخدمة الروحية والعملية عبثا ولغوا؛ لأن الفائدة التي تخرج منهما لا تساوي القوة التي تبذل فيهما، ولو كان غيره في مكانه لأفضى به هذا الأمر إلى تنبيه أنانيته، وأدى به إلى الاقتصار بعد ذلك على خدمة مصلحته الخصوصية ما دام لا شيء في الحياة يستحق أن يضحى له شيء من الذات، ولكن من احتقر الحياة والدنيا بنفس كنفس إيليا فإنه يبدأ باحتقار المصلحة الخصوصية قبل المصلحة العمومية.
ولذلك كان الشيخ سليمان كلما شاهد إيليا بحالة التأمل والانقباض بعد نشاطه السابق يقول مع باقي أهل المزرعة: ماذا أصاب صديقنا إيليا.
وا أسفاه إن إيليا كان مريضا مرضا روحيا. إن إيليا كان ينقصه الزحام والعراك في الحياة؛ لتتنبه همته بالمقاومة، وتشتغل بتنازع البقاء والحركة إلى العلاء بدل الاشتغال في نفسها بنفسها. إن إيليا كان ينقصه الغذاء القلبي الذي يريه محاسن الحياة ويزينها له. كان ينقصه ابتسامات كابتسامات الفتاة اليهودية التي رآها على طريق يافا منذ سنوات، وكانت صورتها تتردد عليه في أحلامه المضطربة. •••
هذا هو تاريخ حياة إيليا قبل أن عرفناه، وهكذا كانت حالة نفسه لما لقيناه في بيت لحم ليلة أمس. فلنعد الآن إليه بعد مفارقته أرميا وتيوفانا أمام دير العذراء.
الفصل التاسع
عقل الشيخ ينبه ضمير الشاب
عود إلى أستير
وانحدر إيليا من أمام دير العذراء نحو المزرعة، وهو يتفكر بثلاثة أمور: الأول: حصر العرب مدينة القدس، والثاني : سجن أستير في الدير، والثالث: ما وجده من رقة البطريرك وعقله خلافا لما كان يعتقده.
ولا ريب أن إيليا كان شديد الاهتمام بحصر العرب مدينة القدس، ولكنه كان قد ألف انكسارات قومه أمام جيوشهم، وكعارف للداء الذي كان يودي بالمملكة لم يكن يدهش منه كثيرا فضلا عن أن تعدد حروب الفرس قبل ذلك عود الناس اعتبار الحرب أمرا مألوفا فيوم معهم ويوم عليهم، ولذلك كان كل اشتغال إيليا بحبيبته أستير المسجونة التي جاءته وهو في ضجر من الحياة لتلقي في نفسه شيئا من شعاع الأمل والسرور.
ولما وصل إيليا إلى المزرعة هرعت إليه كلابها تهز أذنابها، وكانت المزرعة منبسطة في سفح الجبل بين آكام وسهول على مسافة عدة أميال، وكان فيها الكرمة والتين والزيتون والحبوب والبقول المختلفة، ويظهر لكل من تأمل الأرض الجبلية القاحلة الجافة في النواحي أن صاحب المزرعة قد أتى ضروب المعجزات؛ ليجعل تلك الأرض صالحة للزراعة.
وكان أهل المزرعة في ذلك اليوم في زينة وابتهاج؛ لأنه يوم عيد الميلاد كما تقدم، فحيا إيليا الذين وجدهم في طريقه منهم، وعايدهم، ثم دخل.
ولما وقع نظر الشيخ سليمان على وجه إيليا من بعيد صاح به: أهلا وسهلا بمعلمنا حاج بيت لحم. إنني أرى في وجهك شيئا جديدا.
فأجاب إيليا: نعم يا أبت، فقد وصل العرب إلى المدينة.
فعبس الشيخ سليمان، وقال: كنت أنتظر هذا الأمر بعد فتح دمشق فليكن الله معنا، وإلا ذهبت مملكتنا بسوء تدبير رجالنا، ثم ابتسم الشيخ قليلا متناسيا ذلك الحديث المزعج، وقال: إلا أنني لا أظن هذا سبب خفة حركاتك، وبرق عينيك في هذا الصباح، فإنك ذهبت كسولا فاترا ضعيفا حسب عادتك في المدة الأخيرة وعدت نشيطا فائرا قويا، فأخبرني ماذا جرى لك.
فابتسم إيليا ابتسامة معناها أنت مصيب في ظنك، ثم أخذ يد الشيخ ودخل به إلى منزله، وجلس يقص عليه كل ما جرى له.
وكان الشيخ سليمان في سن الستين تقريبا بلحية بيضاء منتشرة على صدره الواسع، وجسمه الكبير الظاهر عليه لوائح القوة والصحة يحمل رأسا كبيرا فيه عينان كبيرتان كسرت السنون حدتهما، وكان لون وجهه الأسمر الذي لفحه حر الشمس والقوة التي تبدو منه مع شيخوخته في كل حركة من حركاته يدلان على أن هذا الرجل قد عارك الدهر في حياته عراكا شديدا.
ولما كان الشيخ يسمع قصة إيليا من حين قبض عليه العامة في بيت لحم إلى مفارقته تيوفانا أمام الدير كان تارة يضحك وطورا يعبس وآونة يقوم ويقعد، ولما استوفى إيليا قصته بهت الشيخ وبقي مبهوتا، وكان إيليا يقرأ حينئذ في هيئته وعينيه دلائل التأثر الشديد، ويرى في نظره بروقا ورعودا، وبعد برهة وثب الشيخ سليمان، وصار يتمشى بغضب في الغرقة. ثم صاح على حين بغتة: يا ولدي إيليا، لقد أخطأت خطأ عظيما.
فدهش إيليا وأجاب: وما ذنبي، فإنني بذلت جهدي لإقناع البطريرك بإطلاق سراح الفتاة فرفض ذلك؛ لأن الشعب كان يطلب تعميدها.
فهز الشيخ سليمان رأسه وصاح: هذه إحدى آفاتنا يا ولدي. الشعب الشعب الشعب. إنهم يأتون كل ضروب الظلم والاضطهاد والرياء بحجة الشعب، كما كان يقول أخونا ميخائيل، فإذا رام أحد فهم أصول دينه بعقله لا بعقل غيره
1
صاحوا عليه صياحا شديدا خوفا على ايمان الشعب. إذا اعترض أحد على الجزئيات الدينية التي ليست في شيء من جوهر الدين أقاموا القيامة عليه بحجة لزوم ذلك للشعب. إذا أثنى أحد على دين غير ديننا قاموا وقعدوا بحجة أن ذلك يضعضع إيمان الشعب. إذا وقع في يدنا مثلا فتاة ضعيفة وطلب الشعب تعميدها رغما عنها جاروه على هواه وأهانوا الإنسانية في تلك الفتاة إرضاء للشعب، وعلى هذا القياس يا ولدي تؤتى ضروب الظلم والافتئات والشرور والفساد صيانة لأوهام الشعب، ويكون أجهل رجل في الشعب أقدر من رئيسه وأقوى سلطة منه في كرسيه؛ لأنه يحرك الشعب عليه كلما رام تحريكه، وهكذا يكون الشعب محسوبا عندهم عبارة عن ولد جاهل أبله يدرءون جهله وشهواته وأوهامه، ولو أدى ذلك إلى الشر والفساد، وخنق كل ذكاء ونباهة وإصلاح في الأمة، ومن هذا الضلال والضعف يا بني يخرج التأخر للأمم؛ لأنك لم تنس أن الرهبان في مملكتنا كانوا في أكثر الأحيان أقوى من رؤسائهم؛ لتحريكهم الشعب عليهم * وكم حالوا دون إصلاحات مهمة بهذا السبب الصغير.
2 *
ثم سكت الشيخ. فقال إيليا بعد أن تأمل قليلا: ولكن ماذا كنت تريد أن يصنع البطريرك يا أبت؟ فهنا لطم الشيخ الجدار بقبضته لطمة شديدة وصاح: كنت أريد أن يكون رئيس الشعب لا مرءوسه. قائده لا تابعه. فإننا نريد رؤساء يواجهون الشر والفساد وجها لوجه بلا خوف ولا رياء، ويضربونه ضربة قاتلة بدل ستره وإخفائه جبنا وضعفا. إننا نريد رؤساء يربون الشعب تربية جديدة أساسها العدل والحق والصدق ومكافأة أصحاب الكفاءة الشخصية؛ لكي يتقدم القادرون العادلون الصادقون النافعون، وينزوي العاجزون والمتزلفون، ولا تقل: إن الشعب يسخط ويغضب من الضغط عليه، فإن هذا ليس بضغط؛ بل هو تدريب وتربية، وإذا كان الطفل يغضب من أبويه لتأديبهما إياه في صغره فإنه متى كبر وصار رجلا عاقلا يجثو باحترام أمام أبويه شكرا لهما؛ لأنهما درباه على الرجولية ولم يتركاه طفلا جاهلا. فلو كنت مكان البطريرك لقاومت العامة وفحصت أمر الشيخ والفتاة. فإذا وجدته جاسوسا عاقبته وأطلقت فتاته، وإذا وجدته بريئا أطلقتهما معا انتصارا للعدالة والحق ولو قامت علي الدنيا كلها؛ إذ بدون هذا لا يتم إصلاح في الأمة.
وكان الشيخ سليمان قد تحمس عند هذا الكلام تحمسا شديدا. فسكت هنيهة. ثم صاح ثانية: وهل تظن يا إيليا أنك غير مشترك في الذنب الذي حصل. ألا تعلم أن شاهد الشر شريك فيه إذا لم يبذل جهده لإزالته. فهل صنعت حتى الآن شيئا لإخراج الفتاة من سجنها حيث تتعذب عذابا شديدا. يا أيها الشاب، إن ضميرا بشريا يتألم الآن في دير العذراء؛ لأنهم يضغطون عليه. إن نفسا بشرية تطلب الآن الموت ولا تجده فرارا من تغيير معتقدها المجبول بلحمها وعظامها. إن صوتا يستغيث الآن بالله ولا مغيث له، وأنت من أسباب هذا كله. فضع نفسك يا إيليا مكان هذه النفس؛ افترض أن اليهود سجنوك في هيكل لهم ليجبروك على جحود دينك ومسيحك، ويعلموك أن مبادئ المشنا والتلمود والتوراة أسمى من مبادئ الإنجيل؛ لأنها مصدره، ويكرهوك على ترك المبدأ السامي الذي تتمسك وتحيا به نفسك. فماذا كنت تصنع؟ أما كنت تقتل نفسك أو تقتل سجانك إذا لم تجد في وجهك غير هذا الوجه؟ وإذا سمعت أن أحدا هجم على الهيكل لإنقاذك ألا تراه عادلا ذا حق بذلك، بل من واجباته ذلك؛ لأنه يرفع الاضطهاد عن ضمير بشري.
وكان الشيخ يتكلم وإيليا ينتفض من التأثر. فلما أتى الشيخ على كلامه ضاق الشاب ذرعا، وكاد يخنقه غيظه وانفعاله، فوثب وخرج من الغرفة كالسهم المارق. ثم اتجه نحو باب المزرعة، وخرج منه عائدا إلى جبل الزيتون، وهو شارد الفكر لا يعي على شيء، ويظهر أن ضميره انتبه بعد كلام الشيخ انتباها شديدا، ولذلك كان يعض أصابعه وهو سائر في طريقه ندما على أنه لم يأخذ على البطريرك عهدا أن يوصي الراهبات بأن لا يتعرضن لمعتقد الفتاة.
وهكذا بقي إيليا في ذلك النهار يتيه في جبل الزيتون من مكان إلى مكان حائما حول الدير ومستنقطا نوافذه وجدرانه طالبا أرميا؛ ليسأله ماذا صنع؟ متسائلا ماذا يصنع؟ ولما خيم الظلام اشتد وخز ضميره وجزعه لعناء حبيبته وخيل له أنه يسمع بكاءها وصوتها يستغيث على ما ذكرته له تيوفانا. فجلس الشاب في الظلام والبرد الشديد على أكمة تجاه الدير، ولبث هناك شاخصا في نوافذه المشرفة على الحديقة، ولكنه قبيل منتصف الليل بعد التفكير طويلا نهض على حين بغتة، وتسلل نحو الدير، فتسلق جدار الحديقة، وهبط إلى الداخل، ونفسه في أشد حالات الاضطراب والانفعال.
الفصل العاشر
أنا أعرف الله
وفي تلك الدقيقة برز القمر من وراء الأفق يعمم نوره الأبيض اللطيف سطوح الدير، فاستاء إيليا من ذلك؛ لأن النور فضاح. إلا أنه رأى في ظل الأشجار التي كانت مغروسة بجانب نوافذ الدير في الحديقة مخبأ حسنا.
فانسل إيليا نحو تلك الأشجار، وأخذ يصغي بكل جوانحه لعله يسمع شيئا في داخل الدير. فلم تمض عليه دقيقة حتى ارتعدت فرائصه لأصوات هائلة بعيدة كانت واردة من جهة المدينة. فخشي أن يكون العرب هاجمين حينئذ على الدير، ولكن الحقيقة كانت أن جيشا ثانيا وصل إلى المدينة بعد الجيش الأول، وكان صراخه هذا لإرهاب أهل المدينة كما أوصاه أبو عبيدة.
وبعد انقضاء دقيقة أخرى لم يسمع إيليا في أثنائها شيئا انتقل متسللا متنصتا كلصوص الليل من نافذة إلى نافذة، وكانت كل النوافذ مغلقة لفصل الشتاء، وما زال سائرا حتى وصل إلى آخر نافذة فسمع فيها صوتا ضعيفا كزفير وبكاء.
فهنا جمد إيليا في مكانه، وصار كله آذانا تصغي. فبعد حين سمع في الغرفة بابا يفتح وصوت أقدام. ثم سمع قائلا يقول باللغة اليونانية: - يا أختي المحبوبة، خففي عنك فقد أزعجت ضميري ببكائك وجزعك، ولذلك لم أقدر على الرقاد حتى الآن، فبحياة أهلك إذا كان لك أهل، ووطنك إذا كان لك وطن أن تريحي نفسك وتريحينا. انظري إننا هنا كلنا أخواتك، وكل ما تحتاجين إليه يقضى في الحال؛ فتعيشين معنا بهناء وسرور لا ينقصك شيء ولا يزعجك شيء، ولا نطلب منك في مقابل ذلك إلا شيئا واحدا.
ثم سكت الصوت فلم يجاوبه أحد بل اشتد صوت الزفير قليلا. فاستأنف ذلك الصوت الكلام قائلا - ما بالك لا تجاوبين يا أختي، إننا لم نطلب منك إلا ما فيه خلاص نفسك، وهل مثلك تدنس نفسها بعبادة باكوس وجوبيتير وجينون وتترك الإله الواحد الذي لا إله إلا هو، ألا تخجلين يا أختي من عبادة الأصنام والتماثيل الحجرية التي يكسرها أضعف إنسان بيده.
ولكن هذا الصوت لم يأت على هذا الكلام حتى أجاب صوت آخر صارخا بحدة وبكاء: - أنا أعرف الله أكثر منكم.
فصاح الصوت الأول بابتهاج قائلا - شكرا لله شكرا لله. فلقد أنار عقلك، وياما أحيلى اسم «الله» في شفتيك يا أختي المحبوبة، الآن أرحت بالي، وعلمت أن النور قد بدأ يدخل إلى نفسك، ولكن من أي ساعة بدأت تعرفين الله يا أختي المحبوبة؟
فأجاب أيضا الصوت الثاني بنزق وحدة وبكاء - عرفته منذ ولادتي. فهو إلهي وإله آبائي وأجدادي. هو الذي أخرجنا من مصر، ووهبنا هذه الأرض أرض الميعاد، وحمانا في خلال القرون والأجيال، ولولانا لما عرفتموه، وهو لم يسمح لكم أن تستولوا على هذه الأرض حينا إلا عقابا لنا كما سمح بذلك للبابليين من قبل، ولكن كما حدث للبابليين سيحدث لكم أيضا فيعيد إلينا إلهنا مملكتنا، ويخذل أعداءنا.
وكان إيليا يصغي إلى المتخاطبتين بانتباه شديد؛ لأنه من بدء الحديث فهم أن الصوت الأول صوت إحدى الراهبات ولعلها الرئيسة، والصوت الثاني صوت أستير حبيبته. فازداد قلبه نبضا للجرأة والتهور اللذين ظهرا من الفتاة، وقال في نفسه: إنها لو فاهت بهذا الكلام أمام أحد من العامة لما بقيت حية زمنا طويلا.
أما الراهبة فإنها لما علمت أن الفتاة لم تكن وثنية بل إسرائيلية قالت بلطف مساو للطفها الأول - يا أختي سواء كنت يهودية أم وثنية فإن ضميري يوجب علي أن أسعى لهدايتك، ولكن لماذا لم تخبرينا من قبل بذلك؟ إنني الآن عرفت سبب إغمائك حينما وقع نظرك في الصباح على صليب المخلص في الكنيسة. فيا بنية ارقدي الليلة بهدوء وسلام، وغدا سنتباحث في شأنك. ألا تريدين أن تأكلي شيئا فإنك لا تزالين صائمة منذ الصباح؟
فبكت الفتاة وصاحت: لا أنام ولا آكل قبل أن ترفعوا هذا من هنا فإنه لا يدعني أستريح أبدا.
ثم أشارت بيدها إلى زاوية فيها صليب صغير عليه السيد المسيح مصلوب، وذلك دون أن تنظر نحوها.
فلما سمعت الراهبة ذلك حمقت، وكادت تستشيط غضبا لهذا الكلام الذي جرح صميم قلبها، ولكنها كانت طويلة البال كثيرة الحلم فأجابت وقلبها يقطر دما من كلام الفتاة - يا أختي، هذا البيت بيتنا، ونظامنا أن نضع في كل غرفة فيه صليب مخلصنا، فلا تتحكمي فينا في بيتنا، لماذا تغلقين قلبك إلى هذا الحد يا بنية. انظري إلى المصلوب فهو يمد يديه نحوك. انظري ألا يخيل لك أنه يبتسم استقبالا لك. إنه حنون صفوح فلا تخافي أن يذكر لك جناية آبائك. اسمعي اسمعي. فإنه يخاطبك بلساني قائلا: إذا كان التبن الذي يذر في الريح العاصفة يعود ويجتمع فمملكتك تعود وتجتمع. لقد تشتتت أورشليم القديمة، وقامت مكانها بأمر الله يا أختي أورشليم الجديدة، ونحن بنات إسرائيل الجديد نستقبل فيك الآن بنت إسرائيل القديم. فيا له من يوم جميل يوم تضعن أيديكن بأيدينا لنمجد كلنا معا أختنا الأم العذراء التي اختارها الله ونفخ روحه في أحشائها. نامي نامي يا بنية هذه الليلة على تذكار هذه الآمال الجميلة، وغدا سنتباحث مليا في أمرك، وليكن الله معك.
وهنا انقطع الصوت وسمع صوت الباب يغلق، ولكن ما أغلق الباب حتى علا صوت الفتاة بالنحيب والزفير، وقد اشتد جزعها حينئذ؛ لأنها صار يخيل لها أن تينك اليدين الكريمتين الممدوتين اللتين ذكرتهما الراهبة إنما هما ممدوتان إليها. فكادت تجن من الخوف. فقصدت النافذة وهي تبكي وتطلب منفذا لخوفها وفتحتها بعنف؛ فلطمت النافذة رأس إيليا فأدمته، ولكن إيليا لم يبال حينئذ برأسه الدامي؛ بل دنا من النافذة وقلبه يخفق خفقانا شديدا، وقال باللغة العبرانية همسا - أنا آت من قبل أبيك أيتها السيدة.
وقد نطق إيليا بالعبرانية، وذكر للفتاة أباها؛ لكي يطمئن قلبها عند سماع كلامه، ولا يهولها منظره في ذلك الليل على حين فجأة.
فلما سمعت أستير لغتها واسم أبيها تركت البكاء بالحال وأصغت. ثم دنت من النافذة وقلبها يخفق خفقانا شديدا فوقع نظرها على إيليا؛ فعرفته من أول نظرة. فدنا إيليا وقلبه يكاد يفجر صدره من شدة خفقانه، وهمس قائلا - أيتها السيدة. أنا منتظر هنا، فبعد ساعتين ينام الجميع، فاخرجي بتأن من باب الحديقة أو من إحدى النوافذ.
فهنا تنفست أستير الصعداء؛ لتحققها الخلاص من أسرها والانضمام إلى أبيها، ولم تعد تخشى من اليدين الممدوتين لعلمها أن رجلا بجانبها. فبعد ساعتين تقريبا قرعت على النافذة مرتين دلالة على استعدادها للخروج، ثم خرجت تتسلل كأنها طيف، وبعد خمس دقائق ظهر شبحها في الحديقة.
فهرع إيليا حينئذ مضطربا ومسرورا معا. فقال لها: اتبعيني، ثم اتجه نحو جدار الحديقة. فلما وصل إليه خالج ذهنه وذهن أستير فكر واحد: وهو كيف تتسلق أستير ذلك الجدار. فارتعدت لهذا الفكر فرائص الفتاة وبقي الفتى مبهوتا. ذلك أن أستير لا يمكنها تسلق الجدار بدون مساعدة إيليا كحمله لها أو إنهاضها، وكيف يجوز ليهودية أن يمسها مسيحي خصوصا إذا كان ذلك في ظلمة الليل على انفراد. إلا أن إيليا انتبه بسرعة إلى حل لهذا المشكل، فإنه شاهد على أحد الأشجار في طريقه سلما صغيرا. فركض مسرعا إلى السلم فحمله وتسلقا الجدار عليه دون أن يشعر أحد من أهل الدير بخروجهما منه.
الفصل الحادي عشر
الصليب أهون من هذا
قصة أستير
ولما خرج الاثنان من الحديقة كان قلب الفتاة يرقص مسرة بالنجاة، وقلب إيليا يرقص اضطرابا لعاقبة صنعه هذا، وفرحا بإنقاذ فتاته، وإراحة ضميره. لكن ما خطت أستير بضع خطوات حتى سألت إيليا بصوتها اللطيف: أين أبي؟
فتلجلج إيليا وأجاب: ستلقينه غدا أيتها السيدة.
فلما سمعت أستير هذا الجواب أجفلت ووقفت. ثم تأملت في الهدوء الشامل حولها في ظلمة ذلك الليل في ذلك الجبل المقفر، فخارت قواها وهلع قلبها؛ لأنها كانت تظن أن أباها ينتظرها بالخارج، ولولا ذلك لما رضيت بالانفراد مع شاب في ذلك الليل. ثم تذكرت أن ذلك المسيحي قال لها على النافذة: إنه قادم من قبل أبيها فخيل إليها حينئذ أنه احتال عليها بذلك لإخراجها. فرجعت القهقرى صائحة: أنا عائدة إلى الدير. فالصليب أهون من هذا.
فصعق إيليا لهذا الجواب، وأسرع وراء أستير، فجاءها من أمامها، وقال بأدب وجد: يا أيتها السيدة. إنك لا تجهلين أنني خاطرت ليلة أمس بنفسي في سبيل إنقاذك مع أبيك من أيدي العامة. فأي غرض كان لي حينئذ مع أنني لا أعرفكما من قبل، ولقد خاطرت بنفسي أيضا الليلة لإنقاذك، ولا غرض لي غير راحتك وراحة ضميري؛ لأنني عجزت أمس عن إنقاذك. فهل من العدل أن تجزيني على هذا الصنع بسوء الظن والإهانة إلى هذا الحد.
فسكتت أستير حينئذ تفكر بنفسها وتتساءل: هل هذا المسيحي صادق في ما يقول؟ ثم أجابت: وأين تذهب بي الآن؟ فأجاب إيليا: إلى مزرعة قريبة في سفح الجبل حيث تنتظرك كثيرات من الفتيات مثلك، وغدا يلاقيك أبوك إليها. فقالت: ولماذا لا نذهب إلى المدينة؟ فأجاب إيليا: لأن جيوش العرب تحصرها فضلا عن أن الأبواب لا تفتح في الليل؛ فتنهدت الفتاة وسكتت، ولكنها بقيت ترتعد من انفرادها بالفتى في ذلك المكان.
وكان القمر في تلك الساعة ملتحفا بالغيوم السوداء المنذرة بالمطر، والريح تهب باردة بردا يدل على قرب مطر مثلج، ولكن كأن القمر كان له غرض في الأرض في تلك البرهة فأطل من وراء الغيوم ينظر بعينه البيضاء الواسعة إلى الجبل والشخصين الواقفين عليه، وكان وجه أستير مستقبلا القمر، فلما وقع عليه أول شعاعه ورأى إيليا برقة في عينيها سرت في جسمه كهربائية فتاته الغائبة التي أحبها عشر سنوات متوالية، وكانت هذه أول مرة وقع فيها نظر إيليا على نظر أستير وجها لوجه؛ فذابت حشاشة إيليا لقسوة قلب أستير وعدم فهمها عواطفه، وعلم حينئذ أن أصعب شيء على القلوب الكريمة التي تستحق الحب الصادق لشرفها وصدقها وكرامتها، هو أن تحب ويبقى المحبوب جاهلا أو متجاهلا حبها وكرامتها لا يثق بشيء لها حتى ولا بإخلاصها.
لكن يظهر أن أستير بعد أن فكرت مليا اقتنعت بالذهاب مع الشاب؛ لأنه أهون الشرين. فقالت له: وهل المزرعة بعيدة من هنا فإنني أخشى المطر والبرد. فتنفس إيليا الصعداء حينئذ وقال: نعم أيتها السيدة، إن المزرعة بعيدة، ولكننا سنصل إليها في ساعة بعون الله.
ثم إنه سار أمامها يدلها على الطريق، وسارت وراءه بخطى سريعة.
ولكن يظهر أن السماء رامت الانتقام من أستير؛ لأنها أساءت الظن بإيليا. فهبت على الجبل في تلك اللحظة زوبعة شديدة تمازجها رعود وبروق وثلج ومطر شديد كأفواه القرب، وكانت أستير بثياب النوم. فجزع إيليا لهذا المصاب الجديد، فخلع عنه رداء شتويا كان عليه وألقاه على جسمها. إلا أن ذلك لم يجدها نفعا فإن المطر بلل جميع ثيابها، والبرد قلص وجهها وأطرافها، والتعب أفنى قوتها فسقطت على الأرض ضعيفة واهية القوى؛ فجزع إيليا جزعا شديدا لذلك فدنا من أستير، وقال: أيتها السيدة استندي إلى ذراعي لأحمل عنك شيئا من مشقة السير فنصل في وقت قريب. فترددت أستير أولا إذ كيف يجوز أن تمس يدها يد مسيحي، ولكنها رأت أنها بدون ذلك لا تستطيع السير، فنهضت وهي ترتعد من الخوف وأسنانها تصطك من البرد. فوضعت ذراعها اليسرى في ذراع إيليا اليمنى، أي أخذ إيليا جانب قلبها ثم سار بها. فشعر إيليا حينئذ بسرعة نبض ذلك القلب اللطيف لخوفه وتعبه فازداد نبض قلبه أيضا، كأنما سرى بين القلبين نوع من الكهرباء.
ولكن الفتاة لم تخطو خطوتين حتى سقطت لعدم استطاعتها الوقوف. فازداد قلق إيليا فدنا منها ثانية بوجل، وقال: هل تسمحين لي أن أحملك؟
فعند هذا السؤال نفرت أستير بأنفة، وأشارت برأسها إشارة سلبية، وكان قلبها يقول حينئذ: الموت بردا أسهل من أن يخالط جسمي جسم رجل خصوصا إذا كان مسيحيا.
وفي هذه الدقيقة سمع على الطريق من جهة المزرعة صوت أقدام تعدو بسرعة شديدة فخاف إيليا، ولكنه لما ظهر صاحب الصوت صاح به - أرميا أرميا أسرع إلي. فأجاب أرميا: كيريه إيليا ماذا تصنع هنا؟ ولما وصل أرميا وشاهد أستير فهم سر المسألة. فوقف مبهوتا يتأمل، ولكن إيليا لم يطل وقفته؛ بل إنه صنع من بعض ثيابه وثياب أرميا ملفا فلف به جسم أستير دون رأسها، ثم حملاها كل واحد منهما من طرف، وكانت المسافة بينهم وبين المزرعة ساعة، والمسافة بينهم وبين كوخ أرميا تحت الأرزة عشر دقائق فقط، ولذلك أسرعا بها إلى هذا الكوخ؛ لاتقاء المطر والبرد.
وعند وصولهم أدخلت إليه أستير، وأغلق عليها الباب، وبقي إيليا وأرميا خارجا يوقدان النار؛ لتدفئة الفتاة، وتجفيف ملابسها، وبعد حين كتب إيليا ورقة وأعطاها إلى أرميا؛ ليوصلها إلى المزرعة، ويعود منها بملابس جافة وفرس للركوب.
فسار أرميا وهو يلتفت إلى الكوخ ليرى هل يبقى إيليا خارجا أم يدخل إليه، وفي طريقه كان يردد في نفسه قوله السابق لإيليا تحت الأرزة: يا لله ما أجملها. حقا لا أعلم لماذا تكون الوثنيات جميلات هكذا.
وكان المطر لا يزال شديدا في الخارج وإيليا لاجئ منه تحت الأرزة؛ لأن أستير لم تدعه ليدخل احتماء منه في الكوخ، وإيليا لا يمكن أن يدخل بدون إذنها. فازداد استياء إيليا لإساءة الفتاة ظنها به، ولكن مع ازدياد استيائه هذا ازداد حبه لها؛ إذ لا شيء يزيد الحب مثل التمنع والجفاء.
ويظهر أن أستير قد شعرت بخشونتها؛ لأنها لم تلبث أن أخرجت رأسها من باب الكوخ، وفتحت الحديث بقولها: هل الفجر بعيد يا كيريه إيليا.
فتنهد إيليا ودنا نحو الكوخ وأجاب: أظن أيتها السيدة أنه لم يبق من الليل سوى أربع ساعات. فقالت: ولمن هذه المزرعة التي سنذهب إليها؟ فأجاب: هي لرجل كريم يدعى الشيخ سليمان، وهو الذي ساءه خبر سجنك في هذا الدير. ثم قص عليها شيئا مما جرى له معه.
فعجبت أستير من ذلك في نفسها؛ لأنها بناء على ما سمعته من قومها، وما رأته من هيجان العامة أمس في طريق بيت لحم لم تكن تعهد أن يوجد بين المسيحيين رجلان كإيليا والشيخ سليمان يساعدان المظلوم وإن كان من غير دينهما ولا يعرفان عنه شيئا.
وهذا وا أسفاه داء من أدواء البشر فإن كل فريق منهم يخص قومه بالفضائل دون سواهم.
ثم دار الحديث بين إيليا والفتاة. وكان أول ما سألها عنه سبب وجودها مع أبيها في بيت لحم في ليلة أمس. فعلم منها إيليا قصتها وهي: كانت أستير من عائلة إسرائيلية مقيمة في مصر، وقد شاع يومئذ في المملكة البيزنطية كلها أن المنجمين قالوا: إن السلطنة ستصير إلى قوم مختونين
1 * فثارت تصورات بعض الإسرائيليين، وانتشر بينهم أن المسيح أي المسيح الذي لا يزال اليهود ينتظرونه قادم لإعادة مملكتهم والاستيلاء على العالم، وفي ذات يوم ورد على أبي أستير كتاب من بلاد العرب مع رسول من أبناء جنسه، فتأهب بعد هذا الكتاب للسفر إلى فلسطين مع زوجته وابنته، وكانت زوجته في نحو السبعين من العمر وهي مقعدة لمرض عضال أصابها، وكانت أقصى أمانيها أن تموت في أورشليم، وتطلق روحها في فضائها بجانب هيكل سليمان، ولذلك فرحت فرحا شديدا بسفرهم إلى فلسطين، وقد شاركتها ابنتها أستير في هذا الفرح؛ لأنهم قالوا لها: إن المسيح سيظهر في ذلك العام في فلسطين. فجاءوا إلى أورشليم متخفين متنكرين؛ لينتظروا المسيح فيها، ويكونوا أول من يستقبله من أبناء إسرائيل، وقد استأجروا في القدس منزلا صغيرا بإزاء الجدار الذي كان المسيحيون يلقون عليه فضلات منازلهم،
2
وكان الثلاثة كثيرا ما يخرجون في ظلمة الليل سرا، ويقفون هناك ويصلون باكين الصلاة التي يصليها بنو إسرائيل دائما أمام جدار هيكلهم القديم في أورشليم، وهي: (يقول واحد) من أجل الهيكل المقدس العظيم (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح. (يقول واحد) من أجل أسوار هذه المدينة الساقطة (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح. (يقول واحد) من أجل مملكتنا التي بادت (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح. (يقول واحد) من أجل رؤسائنا الذين ماتوا (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح. (يقول واحد) آه تحنن على صهيون (فيرد الجماعة) واجمع شتات أورشليم. (يقول واحد) أعد سابق مجدك لصهيون (فيرد الجماعة) وانظر مترحما إليها ... إلخ.
وقد مرت عليهم ثلاثة أشهر على هذه الحال، وفي كل يوم كان يذهب أبو أستير لمشاهدة آثار المدينة، ويختلط بأهلها متزييا بزي اليونانيين والسوريين. أما أستير فإنها كانت تخرج أحيانا من المدينة مع أبيها، وتجلس على رابية عالية لترى منها هل المسيح آت أم لا؟ وفي أكثر الأحيان كانت تلازم أمها العجوز المقعدة في البيت وتخدمها. ففي ليلة أمس اشتهت أستير أن تشاهد عيد المسيحيين في بيت لحم فغضبت أمها من ذلك، ولكن أباها رضي بأخذها إلى بيت لحم، فذهبا للتفرج فيها فجرى لهما ما جرى.
فلما سمع إيليا هذه القصة صار يسأل نفسه، هل هذه العائلة ساذجة إلى هذا الحد حتى خاطرت بنفسها في القدس من أجل هذه المسألة، أم هنالك أمر آخر كتمته عنه أستير أو كتمه أهلها عنها، ولم يظهروا لها منه غير المسألة الدينية. إلا أنه كان يظهر في كلام أستير أنها مخلصة في قولها كل الإخلاص، ولذلك رجح إيليا السذاجة على السياسة.
وبعد السكوت حينا ابتدر إيليا الكلام، فقال: فأمك إذن الآن في المدينة يا أختي.
فلما سمعت أستير كلمة «أختي» من فم الشاب حصل ارتياح في نفسها لازدياد طمأنينتها. إنما تساءلت في نفسها: هل يجوز لمسيحي أن يدعوها أخته؟ ثم أجابت والدموع في عينيها لذكر أمها: نعم يا كيريه إيليا، وهي مقعدة لمرضها.
وكأن أستير بعد هذا الحديث رأت أنها فعلت ما كان عليها، ولذلك انزوت في إحدى الزوايا بداخل الكوخ. فعاد إيليا عن الباب متنهدا، وبقي الاثنان بعد ذلك ساكتين، ولكن «الهوى» في قلبه و«الهواء» في الخارج على أغصان الأرزة كانا يتكلمان ويزئران زئيرا شديدا.
وبعد نصف ساعة سمع صوت حوافر جواد ينهب الأرض نهبا، فنهض إيليا لعلمه أن أرميا قد عاد من المزرعة، ولكنه عجب من هذه السرعة؛ لأنه لم يكن يدري أن أرميا سار في ذهابه بسرعة الجواد، وعاد بسرعة الجواد؛ لكي لا يترك أستير مع إيليا وقتا طويلا.
وكانت أستير قد دفئت قليلا في داخل الكوخ، فغيرت ملابسها بالملابس الجافة التي جاءها بها أرميا، ثم ركبت الجواد وهمت بالمسير. فقال إيليا لأرميا: خذ بقياد الفرس يا أرميا وسر سيرا سريعا. فحك أرميا رأسه وأجاب: بل دعني أسير على مهل وراءه يا كيريه إيليا لأنني تعبت. فأخذ إيليا بقيادة الفرس، وسار أمامه دون أن يدري بالسبب الذي من أجله طلب أرميا أن يكون وراء، وهكذا سار الثلاثة بين العواصف والقواصف؛ إيليا أمام، وأستير في الوسط على ظهر الفرس، وأرميا وراء، وكان أرميا لا يرفع نظره منها.
ولما وصلوا إلى المزرعة كان الشيخ سليمان ينتظرهم فدنا وقبل رأس إيليا سرورا بفعله، ثم دفع أستير إلى بناته فاستقبلنها استقبال أخت وصديقة قديمة، وقد خصصن بها غرفة بجانب غرفتهن، فنامت أستير بقية الليل نوما هنيئا بعد أن عجبت كثيرا من هؤلاء المسيحيين.
الفصل الثاني عشر
بين مسيحي ويهودية
وفي فجر اليوم التالى قبل أن تتعارف الوجوه تقريبا كان على قبر الراهب ميخائيل الكائن في وسط المزرعة كما تقدم شخص جالس يتأمل والبرد قارص والريح شديدة، وكان هذا الشخص إيليا؛ لأنه لم ينم بقية ذلك الليل، وكان يقول وهو جالس على القبر: يا أستاذي ميخائيل، إن خطبتك على الجبل كانت حدا فاصلا وطورا جديدا في حياتي، وها أنا الآن قد وصلت إلى طور جديد آخر، إنني لم أكن أفهم لذة الوجود وبهجة الدنيا، ولذلك سئمتها وضجرت منها. أما الآن فصرت أفهمها. إنما أرجو من روحك الكريمة التي ترفرف في فضاء هذه المزرعة دائما أن تمس قلب أستير، وتجعلها تشعر شعوري.
ولما طلع الصباح، وانتبه أهل المزرعة عاد إيليا إليها فوجد بنات الشيخ سليمان عند أستير يلاطفنها، ويتناولن طعام الصباح معها، وكانت هذه أول مرة يرى فيها إيليا أستير وجها لوجه على ضوء النهار.
فرأى إيليا أستير فتاة في نحو العشرين من العمر، وكانت بقد رشيق طويل كأنه غصن بان، ووجه ممتلئ ناصع البياض كالثلج تخالط بياضه حمرة الصحة والعافية كأنما اجتمع فيه كل ما في الورد من اللون الزاهر، وفوق وجهها التفاحي الجميل شعر أبنوسي يؤلف سواده الفاحم مع ذلك البياض وتلك الحمرة منظرا عجيبا. أما العينان: فقد انفردتا بلون رابع وهو اللون الأزرق الصافي صفاء بديعا وهو ما يندر تحت الشعر الأسود. فكأن هذا الرأس الملائكي الجميل آلى خالقه على نفسه أن يجمع فيه كل بياض الزنبق وحمرة الورد وسواد المسك وزرقة السماء بأشد جمالها ومعانيها؛ ليكون مثالا للجمال الذي يمكن أن تدركه عين بشرية.
فلما شاهد إيليا في ذلك الصباح وجه أستير على نور الشمس سجد قلبه في صدره لصانع هذا الحسن، وأدار نظره إلى السماء من النافذة ليرى أيهما أعمق وأجمل؛ زرقة عيني أستير أم زرقتها.
وبعد الطعام طلبت أستير محادثة إيليا فهرع الشاب إليها، وخرج معها إلى الحقول. فلما رآهما الشيخ سليمان سائرين قال: لقد آن أن يكون لإيليا شمس تبدد همومه الدائمة. فأظن أن أستير ستكون من بنات المزرعة بعد الآن.
ولما انفردت أستير بإيليا ابتدرت الكلام قائلة: ماذا نصنع الآن يا كيريه إيليا هل أذهب إلى المدينة أم يأتي أبي إلى هنا لأخذي؟ فتنهد إيليا وأجاب: يظهر أيتها السيدة أنك غير مسرورة بالإقامة هنا، ولكن ما الحيلة إنك لا تقدرين على الذهاب إلى المدينة؛ لأن جيوش العرب تحصرها كما ذكرت لك، وأبوك لا يقدر أن يأتي إلينا؛ لأنه لا يستطيع ترك أمك وحدها.
فاغرورقت هنا عينا أستير بالدمع لدى ذكر أمها، وتنهدت بكآبة وحزن. فكاد قلب إيليا يتفطر لعنائها، وبعد السكوت برهة قالت أستير: وإلى كم يطول حصار المدينة؟ فأجاب إيليا: لا أعلم فعلينا أن ننتظر منتهى هذه الحادثة.
وفي هذا الحين التفت إيليا نحو المزرعة فأبصر أرميا راكضا نحوه، ولما وصل إليهما حياهما ببشاشة، وأخبر إيليا أن أهل دير العذراء دروا في الصباح بفرار الفتاة، فاضطربوا وكاتبوا البطريرك، وأرسلوا يسألون أرميا هل رآها؟ فأجابهم أرميا أنه ما رأى أحدا.
وفي الحقيقة أن جواب أرميا لهم كان أن شابا يدعى إيليا في مزرعة الشيخ سليمان هو الذي اختطفها.
وبعد وصول أرميا إلى إيليا وأستير لزمهما ولم يعد يفارقهما، وكان كثير المراقبة لأستير على الخصوص. فلاحظ منه إيليا هذه المرة ما لم يلاحظه من قبل. فاستاء في نفسه وعاد بالفتاة إلى المزرعة.
وبقيت أستير كئيبة حزينة طول النهار، فحاول الشيخ سليمان كثيرا أن يزيل كآبتها فلم يقدر فأحال عليها إيليا قائلا: هل أنت جماد لا تتحرك. فكيف تترك هذه الفتاة تذوب كآبة لفراق أهلها، ولا تحاول تعزيتها.
فوا أسفاه إن الشيخ سليمان لم يكن يدري أيضا ما كان في نفس إيليا.
مجيء المسيح وصلبه
وفي ذلك المساء قبل غروب الشمس بساعتين عرض إيليا على الفتاة أن يذهب بها ليريها الحقول والبساتين في المزرعة. فرضيت الفتاة بذلك، وذهبا يتنقلان بين تلك الطبيعة الجميلة التي زادتها عناية يد الإنسان ثمارا وجمالا.
وما زالا سائرين حتى بلغا قبر الراهب ميخائيل، وكان إيليا قد نثر الزهر في الصباح على القبر حسب العادة، وكان حول القبر عدة مقاعد من حجر فجلس على أحدها وجلست الفتاة بعيدة عنه، وبعد أن جلست سألت إيليا عن صاحب ذلك القبر. فلما سمعت اسم «راهب» أجفلت ونهضت. فاستاء إيليا في نفسه لهذه الإهانة لأستاذه، ولكنه أظهر الابتسام والضحك، فقال: اجلسي اجلسي يا أختي، لنتحادث في موضوع نفورك، وأرجو أن تسمحي لي بذلك فإن هذا الأمر قام في نفسي منذ رأيتك على الطريق تمتنعين عن إنقاذ نفسك وأبيك بعلامة ترسمينها على صدرك.
فهنا جزعت أستير جزعا شديدا، وصبغ الاصفرار وجهها من شدة الجزع. فثارت نفس إيليا لذلك، وصاح: يا أختي، أقسم لك بخالق السماء والأرض إلهكم وإلهنا، إنني لا أقصد الإساءة إليك أو إلى معتقدك بشيء. فإنني من الذين يحرمون الضغط حتى على ضمير النملة إذا كان لها ضمير. فعلام هذا الجزع والخوف من لا شيء.
فدمعت عينا أستير، وأجابت باضطراب شديد: لا أريد أن أباحث أحدا في هذه المواضيع، فإنني رأيت أسلوبكم في البحث أول أمس في طريق بيت لحم وأمس في الدير.
فهنا ابتسم إيليا وأجاب: اسمعي أيتها الفتاة الكريمة لأزيل سوء ظنك وإهانتك بكلمتين: إنك تقيسينني أيتها السيدة على العوام الذين شاهدناهم في طريق بيت لحم وعلى الراهبات اللواتي رمن اجتذابك في دير العذراء، ولكنك تخطئين بهذا القياس؛ فإن العامة أناس لا رأي لهم غير ما تلقنوه، وهم لا يفتكرون بعقولهم بل بعقول غيرهم، والراهبات وغيرهن من المنقطعين إلى الله في الأديرة وغيرها لا يلامون إذا تمسكوا بمعتقدهم تمسكهم بالحقيقة المطلقة؛ لأنهم لو لم يكونوا يعتبرون أنه الحقيقة المطلقة لما انقطعوا إليه عن كل ملاذ الدنيا. أما نحن باقي البشر الذين لنا عقول نعقل بها وعلينا أن نعيش مع عناصر مختلفة في الأرض فإن حالنا غير حال أولئك. فإننا إنما نحن تلامذة البحث والتنقيب والأخذ والرد. ثم ابتسم إيليا وقال: فابحثي معي يا أيتها السيدة، ولا تخافي إذ ما أدراك أنك لم ترسلي من السماء لهدايتي، ما أدراك أن العناية الإلهية لم ترسلك إلي لإعطائي ما ينقصني إلى الآن.
فابتسمت أستير لهذا الكلام اللطيف، وظنت أن إيليا يريد به الجهة الدينية. وفي الحقيقة أنه كان يريد به الجهة القلبية؛ إذ ما كان ينقصه معلوم مما تقدم.
ثم إن إيليا أردف كلامه السابق بقوله: ومصداقا لقولي أيتها السيدة الكريمة، أذكر لك شيئا عن صاحب هذا القبر الكريم الذي أجفلت منه لمجرد معرفتك أنه راهب. هل سمعت يا سيدتي بمبادئ وأخلاق الراهب ميخائيل؟ هذا الراهب صرف كهولته في جمع المال من أهل المال، ولكنه توفي ولا فلس في صندوقه؛ لأنه كان يوزعها كلها على الفقراء والمساكين، وكان عنده جميع الفقراء على السواء مسيحيين ويهودا ومجوسا؛ لأنهم كلهم عيال الله كما كان يقول. هذا الراهب اضطهده بعض الناس حسدا وبغضا، وأساءوا إليه، وقطعوا رزقه، ولكنه كان يباركهم إلى آخر نسمة من حياته، وفي ساعة موته أشار إلي فدنوت منه، فقال لي وهو يجود بنفسه: إذا سافرت إلى بلادي يوما ورأيت أحدا منهم فقل لهم إنه يقرئكم السلام، ويطلب أن تصلوا من أجله. هذا الراهب طرد من سلك الرهبانية؛ لأنه خطب خطبة لام فيها الحكومة ورجال الدين؛ لاضطهادهم اليهود في سوريا وفلسطين، وكان كلما مر في طريقه بيهودي فإذا كان فقيرا يحسن إليه بشيء من المال وإذا كان غير فقير استوقفه وحادثه وآنسه وذلك على سبيل الاحتجاج على اضطهاد الحكومة لبني جنسه، وقد قلت لك إنه كان «يحسن» إلى الفقير، والصحيح كما كان يقول إنه كان يفي له «الدين» الذي عليه. هذا الراهب عاش في هذه المزرعة عشرين سنة، وليس بين الناس هنا وفي القدس واحد يقول إنه أساء إليه بشيء ما طول حياته حتى ولا الكهنة الذين كانوا في خلاف معه. هذا الراهب إذا جادل الناس بعضهم بعضا أمامه في الدين كان يعبس ويقطع حديثهم بقوله: فلنبحث يا أولادي في ما نعلمه ونفهمه من شئون الأرض أما شئون السماء فإننا لا نعلمها، وحسبنا أن نكون صالحين طاهري القلوب مسلمين أمورنا إلى الله تعالى فنعيش كلنا في الأرض إخوانا في إخوان مهما اختلفت مذاهبنا. - هذا أيتها السيدة هو الراهب الذي أجفلت من ذكر اسمه. أفكنت ترفضين مباحثته كما رفضت مباحثتي لو كان حيا؟
وكانت أستير مصغية إلى إيليا أشد اصغاء. فلما فرغ من كلامه قالت: إذن لم يكن هذا الراهب مسيحيا؟
فقهقه إيليا قهقهة تكاد تسمع من المزرعة وأجاب: بل كان مسيحيا يا أختي؛ لأن هذه هي المسيحية الحقيقية.
فسكتت أستير هنيهة، ثم أجابت: حقا هذه أول مرة أسمع بها مثل هذا الكلام عن مسيحي، ولكن كيف كان إيمانه به؟
وقد نطقت أستير بهذا الكلام على غير وعي تقريبا. فترك إيليا حينئذ الضحك، وصار يفكر بجد واهتمام في الجواب الذي يجيبها به؛ ذلك لأنها إنما قصدت بسؤالها السؤال عن إيمان الراهب ميخائيل بالمسيح، والبحث في ذلك معها صعب لعدة أسباب منها رغبته في أن تكون مسيحية، وإلا فلا يمكنه الاقتران بها، وهذا يقتضي مباحثتها في ذلك بحثا دينيا لا بحثا عقليا. فشرع أولا في البحث الديني فأجاب: يا سيدتي، تسألينني سؤالا غريبا؛ إذ كيف يكون الإنسان مسيحيا ولا يؤمن بالمسيح؟
وكانت أستير قد تحمست من كلام إيليا الذي قال لها فيه إنه يحتمل أن تكون مرسلة إليه من العناية الإلهية لهدايته. فجمعت قواها كلها لمباحثته في أمر كانت قد سمعت كثيرا من المباحثات فيه لعلها تهديه، ويا للغرابة. إن هذه هي أول مرة بدأت بها تميل إلى إيليا، ولكن لا لا. لا غرابة في ذلك؛ لأن هذه هي أول مرة بدأت بها تهدم الحاجز الاجتماعي الذي كان بينها وبينه، ومتى انهدم هذا الحاجز مست نفسها نفسه بحكم الطبع فتتآخيان بأمن وسلام.
أما نفس إيليا فإنها لم تكن محتاجة هذا الهدم ليحصل التآخي بينها وبين نفس أستير؛ لأن هذا التآخي حصل لها من النظرة الأولى.
فلما سمعت أستير جواب إيليا ابتسمت وقالت: وأنت يا كيريه إيليا اصدقني. أتؤمن به أيضا؟ فأجاب إيليا برزانة: بلا شك أيتها السيدة، وإنني آسف لأنك لا تؤمنين أنت به أيضا. فابتسمت أستير وأجابت: هل تغضب إذا جهرت بكل رأيي كما يغضب أبناء مذهبك أو تريد أن أسكت؟ فقال: لا لا تكلمي يا سيدتي، فقالت أستير: إنني أؤمن بالمسيح يا كيريه إيليا، ولكنني أؤمن بالمسيح الحقيقي الذي لم يأت بعد، ولا بد أن يأتي.
فنظر إيليا حينئذ ضاحكا إلى تينك الشفتين الورديتين اللتين كان يخرج منهما هذا التجديف على الاسم الذي يفديه بدمه، وقال في نفسه: لو خرج هذا التجديف من شفتين غير هاتين الشفتين لعضضتهما وقطعتهما بأسناني؛ لأنني إذا كنت أبحث في الكائنات والفلسفات بحثا عقليا مجردا عن كل تقليد فإنني أضع دائما فوق كل بحث وكل علم اسم الذي مس يوما بأصبعه الإلهية صورة الكمال السماوية فكان مثالا لها في هذه الحياة المملوءة بالصغائر والنقائص والشرور.
فبعد أن فكر إيليا هنيهة أجاب: يا أيتها السيدة أأنت إسرائيلية أم لا؟ فقالت أستير: نعم إسرائيلية. فقال: ألا تعتقدين بصحة التوراة؟ فأجابت أستير: بلا شك أعتقد بها. فقال إيليا: فالتوراة كتابك المقدس يشهد أن المسيح قد أتى.
فهمت أستير أن تجاوبه فابتدرها إيليا بقوله: دعيني أكمل أولا، وبعد ذلك قولي ما تشائين. اسمعي يا أستير، هل قرأت الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين. اسمعي ماذا يتنبأ يعقوب لابنه يهوذا. قال «يهوذا إياك يحمد أخوتك. يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك - لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون» أي المسيح؛ لأن هذا أحد أسمائه. فيا أستير إن قضيب الملك قد زال من يهوذا وتفرقت مملكته أيدي سبأ، وهذا يدل على أن «شيلون» قد أتى.
فهمت أستير أن تجاوبه ثانية فصاح إيليا: دعيني أكمل أولا. ما قولك يا أستير بنبوءة أشعيا في إصحاحه السابع؟ اسمعي ماذا يقول: «يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابنا، وتدعو اسمه عمانوئيل (الذي تفسيره: الله معنا)» فيا أستير إن العذراء قد حبلت وولدت في بيت لحم الصبي المنتظر طبقا لقول ميخا النبي في الإصحاح الخامس حيث يقول: «أما أنت يا بيت لحم فأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا؛ فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» فيا أختي أستير، هل من شهادة أفصح وأبلغ من هذه الشهادات؟
وكانت أستير قد بدأت ترتعد من غضبها وتأثرها خصوصا لأن إيليا لم يكن يترك لها سبيلا للجواب. فتأثر إيليا أشد تأثر لذلك، فقال: يا أختي، سكني روعك، ولا تخافي من الحقيقة إذا لمستها أصبعك، ولا يسوءنك تأثرك الآن؛ إذ ما هذا العناء بالقياس على العذاب الذي لقيه غيرك. اسمعي ماذا قال أشعيا في الإصحاح الثالث والخمسين عن عذاب «شيلون»: «محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا. محتقر فلم نعتد به» ألم يكن يسوع هكذا يا أختي؟ ثم إنه يقول: «ليس مبغضي تعظم علي فأختبئ منه بل أنت إنسان عديلي. إلفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة» فلماذا يا أختي صنع قومك هكذا مع صديقه وصديقه. اسمعي أيضا نبوءة النبي داود في مزموره الثاني والعشرين «أحاطت بي ... (عذرا فلا أذكر هنا الكلمة يا أختي لئلا تسوءك) جماعة من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يدي ورجلي. أحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون في. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» - أفما تم كل هذا يا أختي بصلب شيلون، وكيف نستطيع إنكار مجيئه بدون مناقضة التوراة وكتابك.
وكانت أستير تبكي في أثناء هذا الكلام، وتعض شفتيها من شدة تأثرها. فلما فرغ إيليا من كلامه صاحت من صميم قلبها: يا كيريه إيليا لقد ظلمتني، فإنك أنت تقول كل شيء وأنا لا أقدر أن أقول كل شيء، وهذا سبب شدة تأثري وبكائي. فأنا أكتفي إذن بشيء واحد. إنكم تظنون أن نبوءات التوراة تنطبق على يسوع الناصري ولكن رجال ديننا يقولون: إنها لا تنطبق عليه، وحسبي أن أذكر لك نبوءة واحدة دليلها في الآن. إن رئيسنا وملكنا داود قال في مزموره الثاني والسبعين متنبئا عن زمن المسيح: «يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلامة إلى أن يضمحل القمر» أي نهاية العالم. فهل الصديق هو المنتصر في العالم الآن، وأين هذه السلامة الموعودة؟ انظر فإنني أنا أبكي أمامك الآن، وأضطراب كريشة في مهب الريح. ثم إن يوئيل النبي يقول في إصحاحه الثاني: «ويكون بعد ذلك - أي بعد سعادة إسرائيل بمسيحه - أني أسكب روحي على كل بشر» فهل روح الله الآن في أولئك الذين يضطهدون ويظلمون ويملئون الدنيا بالشرور، وقال ميخا في إصحاحه الرابع مشيرا إلى المسيح: «يقضي بين شعوب كثيرين. ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد». فيا صديقي إيليا، هل جرى شيء من هذا إلى الآن لتقول بمجيء المسيح؟ انظر إن السيف والنار يأكلان العباد والبلاد في كل الجهات، وهو ذا أورشليم نفسها محصورة الآن بنطاق من الرماح والسيوف، وقال أشعيا في الإصحاح الستين والخامس والستين مخاطبا أورشليم بعد مجيء مسيحها: «لا يسمع بعد ظلم في أرضك، ولا خراب أو سحق في تخومك؛ بل تسمين أسوارك خلاصا وأبوابك تسبيحا - الذئب والحمل يرعيان معا، والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يهلكون في كل جبل قدسي» - فيا أخي إيليا هل تم هذا كله؟ هل ساد السلام في الأرض بين البشر والحيوانات كما تنبأ أشعيا ليجوز لك أن تقول بمجيء ملك السلام. ماذا تجيب عن هذا؟
فعجب إيليا في نفسه من إخراج أستير الموضوع عن محوره الأول، ومهاجمتها له بدل الدفاع. فتأمل هنيهة ثم أجاب: إذن أنت لست بإسرائيلية يا أختي؟ فصاحت أستير وقد تركت البكاء: كيف ذلك؟ فقال إيليا لأنك لو كنت إسرائيلية لكنت تؤمنين بالله تعالى خالق هذا الكون ومدبره. فصاحت أستير كلبوة جرحت: بلا شك أنا أؤمن بإلهنا وإله آبائنا وأجدادنا. فقال إيليا حينئذ: فكيف تؤمنين بوجود الله يا أختي ولا تؤمنين بأعماله. أتظنين أنه يقوم شيء في الأرض ويعم الدنيا كلها بدون إرادته. دعينا من النظر في الكتب فإن كل فريق منا يئولها تأويلا ينطبق على مذهبه ومصلحته، ولننظر في الأشياء بعقولنا فقط. ألا يجب أن تعتبري انتصار المسيحية في الأرض وتغلبها على الأديان القديمة وعقول ملايين البشر دليلا على أنها من أفعال الله تعالى، فهذا برهان واقعي بسيط على أن تأويلي للتوراة أصح من تأويلك، ولا ينقص هذا البرهان إلا القول بأن الله لا يدبر شئون الكون بل ليس هو بموجود أصلا، وهذا الأمر أجلك عن أن تقولي به أو تفكري فيه. يا أختي كلنا عباد الله ولا تسقط شعرة في نظام الكون ومسير الدنيا بدون إرادته، ومتى اعتقدنا هذا الاعتقاد ثبت لنا أن انهدام أورشليمكم القديمة وقيام أورشليمنا الجديدة كان بإرادة الله وفعله؛ لأنه رأى ذلك أفضل لنظام الدنيا. فيجب علينا إذن أن نسلم لإرادة الله ونعترف بأفعاله، ولا نعارض في أحكامه.
فعند هذا الكلام تحول ضعف أستير إلى قوة وغيظ، فنظرت إلى إيليا بعينين ثائرتين، وصاحت: يا كيريه إيليا لا تتهددونا بإلهنا وربنا. فإنه لم يسقطنا إلا لينهضنا. اسمع قول هوشع النبي في إصحاحه الثالث: «لأن بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم، وبعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى وجوده في آخر الأيام» ونحن الآن بلا ملك لأن مملكتنا زالت وبلا ذبيحة لأن هيلكنا قد هدم ولكن سنعيد مملكتنا وهيلكنا طبقا لوعد إلهنا. نعم، إن الله يستحيل أن يترك شعبه، وإذا تركه حينا فما ذلك إلا لتأديبه، وقد كفانا يا إلهنا هذا التأديب الهائل. لقد أخذوا بلادنا وسلبونا إرثنا واقتسموا كل مالنا. حتى أنت نفسك صاروا يدعونك إلههم لا إلهنا، وبذلك أصبحنا غرباء ضعفاء في الأرض التي عاهدت نفسك على إعطائنا إياها لنا ولأولادنا. انظر إلينا إننا متشتتون في جميع أقطارها كالسلك المنشور. أولادنا يبكون وآباؤنا يحزنون وبناتنا يلبسن السواد؛ لأنك نصرت الأعداء علينا، ولا نكاد نجد لدى هذه الأمم القاسية ملجأ نأوي إليه براحة وسلام مع عيالنا، ولا حجرا نضع عليه رءوسنا. اسمع كيف يتهكمون علينا ويضحكون منا. يقولون: إنك أقمت إسرائيل جديدا بدل إسرائيل القديم، ولكن هل أنت قاس إلى هذا الحد لتهمل القديم بعد إقامتك الجديد. لماذا لم ترشد القديم إلى هذا الجديد إذا كانوا صادقين في ما يقولون، وبناء على هذا أرد إليك يا أيها الفتى إيليا الكريم سهام برهانك قائلة: لا يمكن أن يكون الله هو الذي هداكم؛ لأنه لا يمكن أن يضلنا.
أما إيليا فلما سمع هذا الكلام أثر فيه أشد تأثير وخيل له أنه يسمع صوت أمة بأسرها ينادي هذا النداء. فعلم أنه يستحيل عليه بعد كل ما بذله من الجهد أن يقنع الفتاة من طريق الكتب والدين ما دام كل واحد يرى الأمور بعين تختلف عن عين الآخر. فترك إيليا الكتب والدين جانبا ورام البحث من وجه آخر، وقد قال في نفسه إن أستير إذا تحركت أحشاؤها وتأثرت من هذا الوجه فإنها تكون كأنها صعدت أول درجة من درجات الإيمان، ولذلك قال للفتاة وهي في أشد اضطراب: يا أختي أستير، إنني أندب معك حالة قومك، وآسف للاضطهاد الجائر الذي يصيبهم من عدوان الناس وبغضهم، وكوني على ثقة من أن المسيحيين الذين يصنعون هذا يخرجون عن حدود المسيحية؛ لأن المسيحية إنما هي حب الأعداء ومباركة المبغضين، ولكن اشتراكي هذا معك لا يمنعني يا أختي من تذكيرك بأمر جدير بالذكر في هذا الموضوع، وهو أن الذي داس الحق في زمانه لا تؤثر كثيرا في النفوس شكواه من دوس الناس حقه، ولنضرب لذلك مثلا: لنفترض أن العامة في ليلة عيد الميلاد في بيت لحم وجدت فتاة يهودية تدعى أستير فثارت تصوراتها وطلبت إما تنصير الفتاة أو قتلها؛ لأنها خالفت أوامر الحكومة بالدخول إلى بيت المقدس. فأرسلت الفتاة إلى دير على جبل الزيتون لإقناعها بجحود دينها. فرفضت ذلك رفضا قطعيا، وفضلت الموت على ترك دين آبائها. فقام أولو الأمر وصلبوها على خشبة وأهانوها وقتلوها. ثم بعد ألوف السنين صارت أورشليم إلى اليهود، وقام محل الدير المسيحي في جبل الزيتون معبد يهودي كان اليهود يصلبون فيه الفتيات المسيحيات اللواتي يأبين جحود ديانتهن. فأي تأثير يكون في النفوس لكلام المسيحيين إذا كانوا يقولون يومئذ إن اليهود برابرة؛ لأنهم يصلبون الفتيات المسيحيات. ألا يرد حينئذ اليهود عليهم بقولهم: إننا تعلمنا هذه البربرة منكم.
فهمت أستير أن تجاوب إيليا فصاح إيليا: دعيني أكمل أولا، وبعد ذلك تقولين ما تشائين. فيا أستير لو صلبوك - لا سمح الله - في دير العذراء، فماذا كان يقول أهلك وقومك؟ انظري إنني لا أبحث هنا في مسألتنا من وجه ديني قطعيا بل إنني أضع الدين والتوراة والإنجيل جانبا، وأسألك كفتاة رقيقة القلب تبغض الشر والقسوة والظلم. فأجيبيني. أي ذنب جناه المصلوب الذي سفك دمه أجدادك، اسمعي ولا تقطعي حديثي فإنني أعرف اعتراضاتك. إنك تقولين إنه خان وطنك وجدف على دينك ورام هدم هيكلك، ولكن كل هذا لا أبالي به ولا يلتفت إليه اليوم أحد، وإنما يجب أن نسأل من كان المحق والمحقوق في تلك الحادثة الهائلة، فصاحب الحق وحده هو الذي يجب أن يعطى الحق بقطع النظر عن كل شيء.
واسمعي من كان صاحب الحق في هذه الحادثة - ماذا كان يقول المصلوب؟ - إليك خلاصة مطاليبه يا أختي بصرف النظر عن المسألة الدينية فإنني لا أنظر معك هنا الآن إلا في ناسوته نظرا بشريا.
جاء ابن الإنسان يا أختي من دم يهودي. فنظر قومه وشعبه شاردين عن كتابكم التوراة يا أختي مفعم بمبادئ العدالة والرفق والصدق والمساواة والحكمة، ولكن هذه المبادئ كانت لا تتعدى الكتاب. أي إنه لم يكن منها شيء في النفوس. فالكهنة ألفوا في الأمة طبقة ممتازة لها السيادة والقوة والثروة والجاه، وكان الشعب تحتهم يئن من الفقر والذل والضيق، وهو ينظر شزرا الاغنياء والعظماء؛ لأن غناهم وعظمتهم مخالفان لمبادئ المساواة الاجتماعية المعلنة في التوراة، وكأن هذا الخلل الاجتماعي لم يكن كافيا وحده لعذاب الشعب المسكين فجاء مقرونا بخلل ديني أيضا فوضعوا أن العبادة الحقيقية لا تكون إلا في هيكل أورشليم. أي إنهم جعلوا بين نفوس البشر وبين خالقها تعالى حاجزا عظيما لا يرفعه إلا الكهنة خدمة ذلك الهيكل، ولا عجب في ذلك؛ لأن دخل الهيكل كان المورد العظيم لرزقهم وثروتهم. ثم استطردوا من تقييد الدين بالمكان إلى تقييده بالجنس، فقالوا: إن كل الأمم كلاب ولا إنسانية إلا في شعب إسرائيل، ولذلك كانوا يعتبرون باقي الناس نجسين لا يجوز لليهود معاشرتهم ولا الإحسان إليهم، وبما أن العبادة قد تقيدت بالمكان والجنس لزم أن يجر هذا القيد قيودا أخرى، ومن هنا بدءوا يدخلون على دين موسى ما ليس منه في شيء، فأصبحت الظواهر الدينية الذي يسهل العمل بها مقدمة على البواطن لصعوبة العمل بها؛ فصار مثلا الفريسي يمشي في الشوارع مغمض العينين لئلا يرى الشر والنساء * ومع ذلك فإنه كان يأتي في السر أكثر ضروب الشر، وإذا كانت جبهته تدمى أحيانا من لطمه جدارا في طريقه * لمشيه مطبق العينين فإن كثيرين من الناس كانت قلوبهم دامية من إساءاته وقسوة قلبه وسوء معاملته، وهكذا الصائم أيضا؛ فإنه كان إذا صام عد عمله فضيلة وإن كان ينقض بأفعاله معاملاته كل أصول الفضائل، وهكذا حافظ السبت ... وهلم جرا.
فماذا فعل ابن الإنسان يا أختي لدى هذه الأمور الجافة الباردة. هل اعترض على الدين. كلا. إنه قال: «ما جئت لأنقض بل لأكمل» وإنما نفسه اللطيفة كانت لا تستطيع قبول هذا الخروج عن الشرائع الإلهية الأبدية؛ لذلك نادى أن العشار الغريب المنبوذ أفضل من الكاهن الفريسي إذا هو استقبل الله بقلب نقي، والسامري المضطهد المحتقر أفضل من اليهودي إذا هو أغاث غريبا جريحا على طريق أريحا ولم يغثه اليهودي، وبذلك وضع أساس الإخاء والمحبة بين جميع أجناس البشر على الإطلاق هادما الحواجز الاجتماعية الموضوعة بينهم وجاعلا مقياس الفضل والصلاح ومحبة القريب صنع الخير المجرد لأي إنسان كان، ولما قالت المرأة السامرية على بئر شكيم (نابلس) إن اليهود يقولون إن الصلاة لا تجوز إلا في أورشليم صاح بها قائلا: «أيتها المرأة قد جاءت الساعة التي فيها يعبد الله في كل مكان بالحق والروح» أي إن كل إنسان يجب أن يكون كاهن نفسه، وعبادته يجب أن تكون في كل مكان «بالحق والروح» أي بطهارة القلب دون شعوذة لربح المال ودون ظواهر مادية محسوسة. فيا أختي إن هذه العبارة وحدها هدمت العالم لتنشئ عالما جديدا، ووا أسفاه ليت العالم الجديد يبقى متمسكا بها.
فمن ذلك يا أختي أستير تفهمين السبب العظيم الذي من أجله ثار قومك على ابن الإنسان؛ فإن البشر لا يؤلمهم شيء مثل التعرض لمصالحهم وكبريائهم للإضرار بها، وهم أول ما يشعرون بالضرر والألم يتسترون بالدين، وينادون بأن تلك المبادئ التي تضر مصالحهم تضر الدين وتهدمه، وهذا ما جرى يومئذ. فإنه لما قويت سلطة ابن الإنسان على الشعب ورأى الكهنة والفريسيون أن تلك المبادئ الجديدة ستهدم مبادئهم ومصالحهم إذا استمروا ساكتين عنها قاموا يفترون على صاحبها بخيانة الملة والأمة والتجديف على الدين، ولكي يتمكنوا من بلوغ أربهم منه كذبوا عليه لدى والي الرومان بيلاطس بأنه يقول إنه «ملك اليهود وهم لا يريدون ملكا غير قيصر» فيا أختي، هل رأيت في زمانك قط ظلما كهذا الظلم ورياء كهذا الرياء؟ إن قومك كانوا يكرهون الرومان وقيصر كل الكراهة، ويطلبون إلى الله أن يخلع عنهم نيره، ومع ذلك لم يأنفوا من تسليم واحد منهم للصلب بحجة أنه يقاوم قيصر مع أنه هو القائل لمن استفتاه في طاعة قيصر: «أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر».
وماذا فعل ابن الإنسان يا أختي عندما رأى كل هذا الافتراء والظلم والرياء، اسمعي ماذا فعل. إنه لم يغضب ولم يحقد، وفي ليلة صلبه جمع تلامذته وودعهم وغسل أقدامهم وفي جملتها قدما جاحده وعدوه يهوذا الذي أسلمه، ولما قبضوا عليه للصلب لطموه على خده وبصقوا في وجهه ووقفوا حوله يعرضونه للناس ويستهزئون به، ومع كل ذلك بقي ساكتا هادئا، ثم أخذوه خارج المدينة، وهناك صلبوه بين لصين فسمروا يديه ورجليه واقتسموا ثيابه واجتمعوا حوله يضحكون منه، وكان قد تركه كل الناس حتى تلامذته إلا النساء يا أختي فإنهن مثال الرقة والحنان ومعرفة الجميل، ومع هذا وهذا بقي المصلوب يا أختي ساكتا هادئا، وهل تعلمين يا أختي أول كلمة قالها على الصليب بعد ذلك؟ هي هذه مخاطبا الخالق «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يصنعون» يا أختي انظري إلى دموعي. فلقد مضت على هذه الحادثة أكثر من ستمائة سنة وقرأتها أكثر من ستمائة مرة ومع ذلك فإنني أبكي لدى ذكرها لك الآن بكاء يفتت كبدي، ويا ما أرق قلبك يا أختي وأشرف عواطفك. إنني أجثو الآن باحترام لدى هذه الدموع التي أراها نازلة من عينيك؛ لأنها دليل على طهارة الإنسانية في داخلك. نعم يا أختي، إن كل إنسان فيه ذرة من طينة الإنسانية الطاهرة يتألم لهذه الحادثة التي انتصر فيها الباطل وخذل الحق بصرف النظر عن كل مسألة دينية، والإنسان الذي يتألم لها لا يتألم فقط شفقة على عذاب الصديق، بل لمصلحة نفسه أيضا. إننا في الأرض يا أختي كلنا عرضة لاعتداء الظالمين والأشرار والمفترين. فواجب علينا أن يكون لنا مبدأ يحمينا من الظلم والافتراء؛ لنتمسك به في ظلمات هذه الحياة تمسك الغريق بخشبة في البحر، وهذا المبدأ هو (العدالة) - العدالة المطلقة لكل إنسان كبيرا أو صغيرا قويا أو ضعيفا مؤمنا أو وثنيا؛ إذ بفقدان العدالة المطلقة تفقد الحياة أساسها وأثمن ما فيها: وكل واحد من الناس يصير حينئذ في خوف على نفسه؛ لئلا تجعله التقادير المظلوم الذي لا بد من ظلمه لمصلحة طائفة أو أمة أو دولة، وهذا ما يسمونه: «بمصلحة الدولة»
1
وبهذا المبدأ يا أختي صلب الصديق؛ إذ قال قومك في مجمعهم يوم قرروا صلبه: «خير أن يموت واحد من أن تموت الأمة».
فيا أختي فلننبذن هذه القاعدة القبيحة التي تحتج بها كل أمة أو حكومة تريد الخروج عن جادة الحق، ولنتمسك بالعدالة المطلقة كما تقدم. فإن التمسك بالعدالة المطلقة هو الذي يجيز الآن مثلا لك ولقومك أن تحتجوا على ظلم المسيحيين لكم حتى لو كان في هذا الظلم مصلحة كل الأمم المسيحية، ولكن هذا التمسك بالعدالة المطلقة يوجب يا أختي الاعتراف بالجناية الهائلة التي حصلت على الجلجلة، وبدونه يكون كل تظلم رياء وكلاما فارغا ذاهبا في الهواء. فإن الحق حق لا يتجزأ، وسواء في ذلك لدى العدالة المطلقة حق فرد أو حق أمة. فيا أختي فلنعترف بالجناية الهائلة التي حصلت. لنبحث كلنا معا أمام الصليب؛ لأنه رمز أبدي لا يفنى إلى «الحق» الذي يجب أن لا يداس في العالم وإذا داسه أحد فإنه ينتصر أبدا. لنضع شفاهنا على نقط الدم التي جرت عليه لنمحوها بالقبلات والدموع. لنبك بحزن وألم أمام الذي تحمل الآلام بصبر إلهي بلا ضعف ولا شكوى، ولذلك قيل فيه: «إذا كان موت سقراط موت رجل حكيم فموت يسوع كان موت إله»
2
وفي الحقيقة يا أختي أي بشر يستطيع تحمل ما تحمله يسوع بقوة كقوته. أي إنسان وصلت فيه الإنسانية إلى هذا الحد من الكمال الإلهي. أستير أستير. هنا أرى يد الله ظاهرة كالشمس. هنا أرى الأرض تتوارى مدهوشة؛ لأن أشياءها وأشخاصها لا تستطيع أن تصل إلى هذا الحد من الكمال. فإذا أنكرنا هذا المثال الإلهي الذي شاء الله إعطاءه للأرض الناقصة التعيسة زعزعنا الكرة الأرضية كلها؛ لأنه بنفس العقل الذي ينكر به هذا المثال ينكر كل ما في الأرض من السماء. تنكر التوراة حينئذ، ويقال عنها إنها أساطير قديمة جمعت في أزمنة مختلفة بناء على شريعة منسوبة لموسى مع أن موسى لم يكن له وجود في العالم كما يقول كثيرون من أكابر العلماء
3
تنكر نبوءات أشعيا ودانيال وغيرهما في مجيء المسيح؛ لأنهم يقولون إنها صنفت تصنيفا لعدم وجود رجلين باسم أشعيا ودانيال في الأرض قط، وإن تلك النبوءات ليست إلا هذر وهذيان شيوخ كانوا مغتاظين من البابليين الذين أسروهم وسبوهم إلى بابل، ولذلك كانوا يعللون نفوسهم في أحلامهم وضيقهم بمنقذ يعيد مملكتهم إليهم. تنكر أيضا حينئذ كل ما في الأرض من آثار العناية الإلهية يا أستير، ونصير كلنا في ظلام أبدي. فما الداعي إلى كل هذه الخسارة يا أختي؟ وماذا نربح في مقابلتها؟ لا شيء.
إذن فلنعترف بقدرة الله على كل شيء. فلنعترف بأفعاله الظاهرة في مخلوقاته. فليعترف كل فريق منا بفضائل ومزايا الفريق الآخر. إنني يا أختي أحب قومك حبا شديدا، وأعرف فضلهم على العالم. فهم الذين كانوا مهد الدين والوحدانية. هم الذين كانوا أول من بذروا في الأرض مبادئ المساواة الاجتماعية والعدل والعبادة النقية المنزهة عن عبادة الأمور الحسية، وتاريخهم تاريخ الصلة الأولى بين الله والناس، ولكن هذا الاعتراف يا أستير يجب أن يكون كاملا، وكماله أن نعترف أيضا بالسيئات بعد اعترافنا بالحسنات؛ فنقول: إن شريعة قومك بعد التحول الجديد الذي طرأ عليها كما وصفته لك لم تعد بكافية للإنسانية؛ لأن ارتقاء الإنسانية كان يستوجب شريعة أرقى منها، ولذلك جاءت الشريعة المسيحية بآدابها النقية وقداستها السماوية. فتشي وابحثي يا أختي أين تجدين في الكتب القديمة مبادئ كالمبادئ الإنجيلية. انظري ياعزيزتي، إن المعطلين والوثنيين أنفسهم ينحنون باحترام أمام هذه المبادئ بصرف النظر عن المسائل الدينية؛ لأنها أرقى صورة للكمال في هذا العالم، وكثيرون من قومك العقلاء المنصفين يعترفون بذلك، وأؤكد لك أنني سمعت ذلك منهم بأذني، ولا تقولي إن تلك المبادئ مستمدة من التوراة فإن المنصفين
4
الذين يطلبون الحقيقة المجردة دون انتصار لحزب دون حزب يثبتون أنها منقطعة عما قبلها انقطاعا حقيقيا، ومتى ثبت هذا فقد ثبت الحق في جانب واضعها والمحقوقية في جانب الذين اضطهدوه من أجلها.
فيا أختي أستير، فلنضع كل جدال ديني جانبا. لنترك المماحكات التي لا فائدة فيها لبشر بعقول قاصرة محدودة كعقولنا. أنت يهودية وأنا مسيحي، ولكن لا أنت يمنعك دينك أن تعترفي بالحق ولا أنا يمنعني ديني أن أعترف به، وإلا فإن الأديان تكون أديان فساد لا أديان صلاح وصدق وإخاء ومساواة. فأنا أعجب بتاريخكم وبشعبكم وبحكمائكم وبقوة نفوس أمتكم، ولكن إعجابي هذا سابق لصلب الصديق، وأما ما بعده فإنني آسف؛ لأنكم لم تجدوا في نفوسكم وحبكم القديم للصدق والحق والعدل من القوة ما يمكنكم من الاعتراف بالخطأ الهائل الذي حدث على يدكم.
فيا أستير أخبريني، أيطاوعك قلبك اللطيف الرقيق بعد الآن أن تخافي من الصليب الذي هو رمز انتصار الحق وانكار الذات والآلام والمصائب الأرضية. بالله قولي. ماذا طلبوا منك على الطريق لكي تظهري كل ذلك النفار والإباء من طلبهم. طلبوا منك أن ترسمي في الهواء على صدرك بإشارة يدك شكلا كشكل هذا الرمز. فلو رسمت هذا الشكل لما كان لذلك من معنى لديك سوى هذا «إنني أذكر بهذه الإشارة أن الحق لا يداس في الأرض بل ينتصر أبدا» ثم هل علمت معنى اليدين الممدودتين اللتين خفت منهما في الدير؟ معناهما: «يا أختي يا بنت دمي ولحمي، إنني مت وأنا أغفر لكم فإذا لم تشائي الإيمان بي فلا أقل من التألم لحادثتي» - فيا أستير مدي يدك بجرأة إلى هاتين اليدين وخذي بهما ولا يروعنك أمرهما. هو ذا انظري. منذ طفولتي اعتادت أمي أن تعلق في عنقي صليبا صغيرا علق أياما على الصليب الكبير القائم في الجلجلة، والذي لا يزال حتى اليوم بختمه كما ختمته الملكة هيلانه أم قسطنطين
5 * فإليك هذا الصليب الصغير لنرى ألا تزالين تخافين منه. خذيه في يدك. نعم هكذا، انظري إليه بحنو لا بخشونة، لماذا تبكين يا أختي؟ هل هذه الدموع للغيظ أم للحنان. إذا كانت للغيظ فرديه إلي، وإذا كانت للحنان فبالله ضعيه على شفتيك، آه ما أشد حنان قلبك وأرق عواطفك، اسمحي لي الآن بعد وضعه على شفتيك أن أقبله أنا أيضا، وبذلك لا أقبله فقط بل أقبل أيضا شفتيك. أستير أستير إنني الآن في أشد حالات الهياج، ولم أعد قادرا على ضبط نفسي. فأنا أصيح على مسمع منك، والله يسمع كلامي، ويشهد علي: إنني أحبك أحبك، بحياتك لا تنفري واسمعي، إنني منذ وقع نظري على نظرك سرت في نفسي كهربائية نفسك، قد كنت مللت هذه الحياة الباردة الجافة، وسئمت كل ما فيها؛ لأن كل ما فيها صغير دميم خشن دنيء، أما الآن بعد أن عرفتك فقد صرت أراها جميلة مثلك. نعم، ما أطيب العيش وما أرغد الحياة معك. إن كل الأشياء فيها تستمد حينئذ بهاءها من بهائك، وكل ألوانها تصبح حمراء زرقاء بيضاء بلون خدك وعينك وعنقك، وأما لون شعرك فلا تستمد منه أيامي شيئا معك. فيا جميلتي، إن الله أرسلك إلي كما أرسلني إليك. فلا تتركي الحواجز الصناعية التي يضعها البشر تحول بيني وبينك. يا أستير، لا تظني أنني قدمت لك كل تلك المقدمة الطويلة لأحولك عن مذهبك. كلا يا أختي، إنني أحترم مذهبك، وكل مذهب يجد فيه صاحبه راحة وسلاما وحقا وفضيلة، وإنما قصدت أن أعلمك احترام مذاهب غيرك.
قصدت أن أريك أنه من المضحك في الحياة أن يأكل الرؤساء الحصرم والمرءوسون يضرسون. فالرؤساء يضعون الترتيبات والنظامات التي تفرق بين البشر، والبشر يتبعونهم مغمضي العيون كعميان يقادون إلى حيث لا يعلمون. فما لنا ولهم يا أستير، فلندعهم في أعمالهم ومصالحهم، ولنعمل نحن أيضا ما فيه مصلحتنا. لنضع أديان البشر جانبا في مكان مقدس محترم، ولنجتمع على دين جديد يقبل كل الأديان الفاضلة ولا يرفض أحدها، وهذا الدين هو دين العدالة التي تقدم ذكرها والحق والمحبة والصفح للجميع،
6
ونحن الصغار المرءوسون المظلومون بهذه الحياة في أشد حاجة إلى إقامة «الحق والعدالة والمحبة» مقام كل شيء. فيا أستير ضعي يدي في يدك لنعيش بسلام في هذه الأرض على هذا الدين الجديد الذي تحترم فيه كل الأديان. فأنت تحترمين مذهبي كما أحترم أنا مذهبك ونترك الزمان يفعل فعله، وإذا اقتضت الحال عرض مسألتنا على البطريرك فلا أطلب منك شيئا أكثر من تقبيل هذا الصليب الصغير أمامه كما قبلته الآن أمامي».
هذا ما خاطب به إيليا أستير لدى قبر الراهب ميخائيل، وكانت أستير مصغية إليه أشد إصغاء في أثناء كلامه، وإن القلم ليعجز عن وصف ما قام حينئذ في نفسها.
الفصل الثالث عشر
حلم أستير
في أن للمجاذيب قلوبا تتحرك أيضا ***
ولما رجعت أستير من سياحتها في المزرعة مع إيليا كانت صفراء اللون بعد الاحمرار مبهوتة تفكر كثيرا وتتنهد كثيرا، وفي تلك الليلة لم تتناول طعاما ولا نطقت بكلمة، وكان الشيخ سليمان يعجب من هذه الحالة، ولكن إيليا كان يراقبها مراقبة شديدة ليعلم ما وراءها؛ لأنه كان على ثقة من أنها نتيجة حديثه معها.
فكأن هذا الحديث هدم الحواجز التي كانت في نفسها، فاشتغلت هذه النفس بالخرائب التي حصلت فيها، وهذا شأن الهدم إذا لم يقرن بالبناء، وقلما يبنى على أنقاض الأخربة المهدومة.
ولما هبط الظلام استأذنت أستير في الدخول إلى غرفتها للنوم طلبا للراحة، وقبل أن دخلت إليها ألقت في خلال كآبتها وانقباضها نظرة إلى إيليا وابتسمت له. فطار صواب إيليا لهذا الابتسام الملائكي، وقال في نفسه: لعله جواب إيجابي عما تقدم.
واتفق أن غرفة إيليا كانت بجانب غرفة أستير فلما مضى الهزيع الأول من الليل دخل إيليا إلى غرفته أيضا، وبعد أن خلع ملابسه ورقد في فراشه سمع تقلب أستير في فراشها في غرفتها. فعلم أنها لم ترقد بعد. فبقي إيليا ساهرا في فراشه لا يزور الكرى جفنيه حتى سكنت حركات أستير ورقدت، وكان ذلك بعد منتصف الليل. فألوى إيليا حينئذ رأسه على وسادته وتنهد تنهدا من صميم قلبه، ثم استلسم إلى الكرى فطارت روحه إلى عالم الأحلام لتلتقي بروح أستير التي سبقتها إليه.
وكانت عين إيليا آخر عين رقدت في المزرعة في تلك الليلة.
إلا أن عينا أخرى من غير المزرعة كانت حينئذ في ظلمة الليل ترصد المزرعة من خارج، وتحوم حولها كما يحوم النسر على الفريسة، ولذلك لم تمر نصف ساعة بعد منتصف الليل حتى كان شبح يتسلق جدار المزرعة ويهبط إليها.
وكأن هذا الشبح كان يطلب في المزرعة غرضا معلوما؛ لأنه لم يهبط إلى أرضها حتى سار متلصصا نحو غرفة أستير ووقف على نافذتها المشرفة على فناء المزرعة.
وهناك بقي جامدا هامدا يصغي بكل جوانحه.
لكن هذا الشبح لم يكد يستقر في مكانه وراء النافذة حتى علا من غرفة أستير صراخ وبكاء. فأجفل الشبح وصار ينظر حوله خوفا من أن يفاجئه أحد. ثم اشتد البكاء مقرونا بزفير وشهيق متصلين. فيظهر أن إيليا انتبه على صوت بكاء أستير فهب من رقاده مهرولا، وخرج من باب غرف المزرعة قاصدا نافذة أستير الخارجية ليتنصت عليها. فما كاد يصل إلى النافذة حتى لمح الشبح الأول الذي كان واقفا هناك.
وكانت زوبعة أمس قد سكنت والريح هادئة والظلام دامس. فهجم إيليا بشجاعة نحو الشبح ولا سلاح في يده غير قبضته، ولما وصل إليه أخذ بيديه أخذا شديدا وصاح به: من أنت
1
فضحك حينئذ الشبح ضحكا شديدا، وأجاب: أما عرفتني يا كيريه إيليا؟ فحينئذ عبس إيليا وأجاب: وماذا تصنع هنا يا أرميا؟
أما أرميا وهو عين الشبح المذكور فإنه زاد ضحكا وأجاب: أنا أصنع كما تصنع أنت. فغضب إيليا حينئذ وقال: يا أرميا إن نزولك إلى المزرعة تحت جنح الدجى أمر غير حسن. ثم تركه إيليا ودخل فأيقظ الشيخ سليمان، وأخبره ببكاء أستير في الليل، ووجود أرميا في المزرعة.
أما الشيخ سليمان فلم يبال بهبوط أرميا إلى المزرعة في تلك الليلة؛ لأن إيليا لم يوقفه على سبب ذلك، ولهذا لم يهتم إلا بأمر أستير. فذهب في الحال ونبه بناته، وبعد ثلاث دقائق اجتمعن في عرفة أستير يؤانسونها.
أما أستير فإنها لما وقع نظرها على إيليا زاد بكاؤها حتى كاد يغمى عليها، وكان أرميا من خارج يسمع صوتها. فقال في نفسه: إذا لم يكن ذلك الليلة فغدا.
ولما سألت البنات أستير عن سبب بكائها أجابتهن أنه حلم مريع، ولكنها لم تقص لهن شيئا من هذا الحلم، وفي الحقيقة أنه كان مؤثرا. فإن أستير لم تكد ترقد حتى رأت نفسها في كنيسة جاثية أمام الصليب وهي تقول: «إنني أكفر يا سيدي عن جناية أمتي» لكنها لم تلبث أن رأت أمها العجوز المقعدة قد دخلت إلى الكنيسة ركضا؛ لأنها كانت تفتش عنها، وإذ أبصرتها صاحت بها «أهكذا تتركينا يا أستير، أهذه ثمرة أتعابنا فيك». فانتبهت أستير مذعورة مرتعدة، واندفعت تبكي بكاء شديدا دون أن تتمالك نفسها كما يحدث كثيرا للذين يرون أحلاما مؤلمة.
وكانت حينئذ قد دخلت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وبينما كان الفتيات يسكن روع أستير في داخل الغرفة جاء أرميا وطلب الانفراد بإيليا. فخرج إليه إيليا عابسا. فأخذه أرميا إلى جانب في ساحة المزرعة، وابتدأ الحديث بقوله: يا كيريه إيليا على أي شيء عزمت الآن؟ فدهش إيليا وأجاب: أي شيء تريد؟ فقال أرميا المعتوه: أنت تعلم أن الصيد لمن صاده، وأنا وأنت قد اصطدنا صيدا فلماذا تنفرد به أنت وحدك؟ فحملق إيليا وصاح به: ما معنى كلامك هذا؟ فضحك أرميا ضحكة شديدة وأجاب: أنظرت يا كيريه إيليا. إنه لا يغضب إلا المخطئ، وأما الذي يكون ذا حق مثلي فإنه يكون هادئا دائما، واسمع لأفسر لك كلامي. يا كيريه إيليا، ضع يدك على صدري فتعلم أن لي قلبا مثل قلبك، وهو يتحرك أيضا كما يتحرك قلبك. فأنا أحب كما أنت تحب، وأول ما وقع نظري على هذه الفتاة الوثنية أحببتها من صميم قلبي، وصرت أرى من واجباتي هدايتها إلى الإيمان الحقيقي. ثم لما اصطدناها معا على الطريق ليلة أمس صار لي الحق فيها، وأنت أيضا لك فيها حق لا ينكر. فماذا تريد الآن هل تبيعني حقك أم تشتري حقي؟
فعند هذا الكلام تحول غضب إيليا إلى ضحك رغما عنه، ولكنه بقي يظهر الجد، فقال: ومن أخبرك أنني أحبها، ثم ما هي طريقة هذا البيع والشراء؟
فقهقه أرميا وأجاب: أما حبك فقد عرفته، وأما البيع والشراء فله ثلاث طرق: الأولى: أن نقترع على الفتاة فالذي يربحها تكون له، والثانية: أن نتناظر في الدين فالذي يغلب رفيقه تكون من نصيبه، والثالثة: أن تكون الفتاة للذي يتنازل للثاني عن وظيفته. فأنا وظيفتي حراسة ورثاء أورشليم على الجبل وأنت وظيفتك رئاسة هذه المزرعة. فإما أن تبقى في وظيفتك وتكون الفتاة لي أو تأخذ وظيفتي على الجبل تاركا المزرعة لي فتكون الفتاة لك.
فهز إيليا حينئذ رأسه وعجب من نفسه لإصغائه لكلام هذا المعتوه. فأجابه باستخفاف ظاهر في وجهه: سنتباحث في هذا أيها النبي أرميا. ثم تركه وعاد إلى منازل المزرعة.
أما أرميا فإنه تأمل فيه وهو عائد عنه، وقال في نفسه: إنك تضحك مني، ولكني أقسم بالله أنني سأحرمك إياها.
وكان الهدوء قد عاد إلى المزرعة، ودخل كل واحد إلى غرفته للرقاد بقية الليل، وكذلك أرميا دخل إلى إحدى الغرف لينام، ولكنه كان ينام بعين ويسهر بالأخرى، وهو يقول في نفسه ضاحكا ضحك المجاذيب: «إن إيليا سيخسر الفتاة من ذات الباب الذي ربحها منه».
الفصل الرابع عشر
الكتاب
في أن عواطف المرأة قد تنقلب بغتة وتفيض دفعة واحدة. ***
وفي صبيحة اليوم التالى استغرق إيليا في الرقاد ولم ينهض باكرا. إلا أنه وهو في الفراش سمع ضوضاء شديدة وحركة اجتماع. فنهض من فراشه ليستخبر الخبر. فعلم حينئذ ما جمد دمه في عروقه، وجعله يثب عن الأرض ذراعا، وهو أن أستير قد فرت من المزرعة في الليل، وتركت له على مائدتها كتابا بخط يدها. فصاح إيليا في الحال مناديا: أرميا. فقيل له: إنه لم يطلع عليه الصباح في المزرعة. فصاح إيليا حينئذ: لقد فر بها ابن اللئام. ثم عمد إلى كتاب أستير ففتحه بيد مرتجفة وقلب ملتهب، وقرأ فيه ما يأتي:
يا صديقي إيليا
أرجو منك أن تسامحني لتركي المزرعة بدون علمك، واشفق علي؛ لأنني في غاية التعاسة. إنني لم أعد أطيق الإقامة في المكان الذي تقيم فيه يا إيليا، ولذلك أفر منك. فانسني ولا تتذكرني بعد الآن، ولا تحاول كشف مكاني فإنك لا تعلم به أبدا. إن بيني وبينك هاوية عظيمة. فإذا قطعتها إليك صرت تعيسة لفراقي دين آبائي وأجدادي، وإذا بقيت بجانبك بعيدة عنك كنت أشد تعاسة وعذابا؛ لأنني أخاف ضعفي. فيا صديقي ساعدني على نسيانك وبعدي عنك بنسياني وبعدك عني، وبحياة عينيك يا إيليا لا تخالف إرادتي هذه. أنا أعلم ما تعانيه لاتباعها، ولكن كن على ثقة من أن كل عنائك لا يساوي شيئا من العناء والعذاب الذي وجدته حين فراقي هذا المكان. فإنني خرجت منه باكية، وهو ذا يدي ترتجف وأنا أكتب لك، وكن مطمئنا من نحوي، فإنني لم أذهب وحدي، بل إن صاحبك الذي تسميه «أرميا» يصحبني، وسيوصلني إلى حيث أشاء. الوداع إلى الأبد. كن سعيدا بعدي يا إيليا وحب غيري. أما أنا فسأذكرك ما عشت. لم أكن لأظن قبل معرفتك أنه يوجد بين البشر الغير إسرائيليين قوم بأخلاقك وأفكارك، وثق يا إيليا أن سلوكك معي أثر في أكثر من خطبتك. نعم، صرت أعلم أننا نحن البشر كلنا إخوان، ولكن ما الحيلة بالعادات والتقاليد. ربما كان لي قوة على خرقها لو استسلمت إلى نفسي، ولكني إذا خرقتها قتلت أبي وأمي. فإن روح أمي تجلت لي بالحلم يا إيليا وأرجعتني بكلمة واحدة إلى الطريق التي حدت عنها، وأنا لا أخالف أمي ولو جنيت على نفسي، ولا ريب عندي أنك بعد هذا القول تثني علي بدل أن تلومني.
يا إيليا إن أمهاتنا هي أرواحنا الحقيقية التي خرجنا منها، وقد كوننا وربيننا بالدماء والدموع. فمهما صنعنا ومهما أنكرنا ذواتنا من أجلهن، فإننا لا نفيهن الدين الذي لهن علينا، وفضلا عن ذلك يا إيليا فإنك تعلم أن المعتقدات المجبولة بلحم الإنسان وعظامه لا تتغير بالوعظ والكلام. فإن معتقدي يبقى قائما في وجه معتقدك إلى الأبد. فيكون تنغيص عيشك على يدي بدل مسرتك. فدعني إذن وشأني، اعتبرني كحلم ذهبي مر في مخيلتك في إحدى ليالي الصيف المضطربة التي يشتد فيها اضطراب المنفردين. احسبني كعروس الجن التي تظهر لبعض البشر في الليالى لتعذيبهم بالشوق والوجد، ولكن يا إيليا اغفر لي فإنني لم أرد تعذيبك عمدا، والدليل على ذلك أنني شريكتك في هذا العذاب.
انظر إلى هذا السطر فإنك تجد فيه أثر دمعة نزلت من عيني وأنا أكتب إليك، وكفى ذلك برهانا على صدق عواطفي من نحوك. نعم يا عزيزي إيليا إنني صرت أميل إليك كما ملت لي، وأخجل أن أقول أحبك؛ لأن هذه الكلمة تحرق يدي وفمي، ويخيل لي أنني إذا سطرتها على الورق فإنه يلتهب بها أيضا، ولكن يا عزيزي ما قيمة الحب والميل إذا كان الإنسان يضحي من أجلهما الواجب والضمير. إنه حينئذ يشتري راحة صغيرة بتعب كبير، ولذة خفيفة بألم شديد. فيا إيليا أنت تحبني ولكن كن متيقنا أنك إذا تركتني وحدت من طريقي تحسن إلي وإلى نفسك أضعاف حبك لي . فإنه حينئذ يجوز لضميرك أن يقول إنك لم تكن لي عذابا واضطهادا ونقمة دائمة، وإذا كانت المسيحية هي ترك الإساءة كما قلت. فبالله اذكر الآن أنك مسيحي، إيليا إيليا. إنني أردت أن أطلعك على حقيقة نفسي في هذا الكتاب؛ لتعلم أنني لست بدون قلب، ولا أنا بجاحدة للجميل فعذرا عما أصرح لك به هنا. اسمع. إنني أكاد أندم لطلبي منك أن تحيد من طريقي، وها إنني أكاد أمزق هذا الكتاب وأبقى هنا في المزرعة بجانبك إلى ما شاء الله، ولكن صوت دمي وصوت أمي يصيحان دائما في أذني، ويخيل لي أنني أرى في هذا الظلام الدامس يد أمي تشير إلى باب المزرعة تدلني على طريقي. فيا إيليا صفحا وحلما ولا تتبعني، وإن تبعتني فإنك تقتل نفسك وتقتلني. ذلك أني لا أستطيع أن أراك بعد الآن إلا وأنطرح بين يديك، ولكن ثق أنني بعد هذا الانطراح أموت في لحظة واحدة. آه إنك لم تعرف حب بنات اليهود ولا قوة نفوسهن. فهنيئا لك لأنك لا تبلى بهذه النار الآكلة. فاختر الآن يا عزيزي بين حياتي بعيدة عنك وبين موتي معك، وإذا مت أنا فلا أسف علي؛ لأنني لست إلا فتاة مسكينة خانها دهرها، وربط نفسها بنفس لا سبيل لها للاقتران بها. أما أنت فاحرص على حياتك؛ لأنها ثمينة لقومك، وكن في بلادنا التعيسة رسول المبادئ والأفكار المعتدلة التي بسطتها فإنه متى سادت هذه المبادئ بين قومي وقومك لم يبق سبيل لشقاء نفسين كنفسينا.
ياعزيزي إيليا، لا أوصيك إلا بشيء واحد وهو أن تذكرني ببشاشة وسرور أمام المرأة السعيدة التي ستكون شريكتك في مستقبل حياتك، ومتى أتاك طفل فوصيتي أمام الله والناس وصية أطالبك بها في اليوم الأخير أن يكون أول ما تعلمه إياه النطق باسمي، بل اسمع ياعزيزي، سم باسم «أستير» أول ابنة يرزقك الله إياها، وإذا وضعت ذلك نصب عينيك، فلا ريب عندي في أن الابنة تجيء مثلي، ومن يعلم المستقبل يا عزيزي، فإنني ربما أكون مت في ذلك الزمان، وحينئذ يكون ألذ وأشهى شيء عند روحي الاتحاد بشيء منك والسكنى في جسم ابنتك.
ياعزيزي إيليا، انسني ما استطعت، ولكن إذا كنت سائرا بين البساتين في مزرعتك ورأيت يمامة قادمة ترفرف حولك فاعلم أنها رسول من قبلي يحمل إليك تحيتي، وإذا نفر من أمامك في أحد الحقول عصفور جميل وحلق في الجو مغردا فاعلم أنه رقيب مني عليك أرسلته ليجيئني بأخبارك، وإذا داعبت الريح شعرك في مرورها عليك مطيبة فلا تظن أن طيبها مأخوذ من شذا الأزهار؛ بل هو مرسل معها إليك من أستير عزيزتك، وإذا رفت عينك يوما فاعلم أن عيني تنظر إليك مع غيبتك، وإذا طنت أذنك يوما فاعلم أنني أتحدث عنك وأناجي نفسي بذكرك.
وهذا وحده يدلك يا إيليا على أنني لا أنساك أبدا ما بقي لي من الحياة بقية. فتعز يا عزيزي عن فقدي بصدق وثبات عواطفي، واندب معي مسرات البشر وآمالهم الحلوة التي يجترفها تيار الحياة بلا شفقة على الأحياء ولا مبالاة بعذاباتهم ليحملها إلى هاوية النسيان الهائلة.
أستير
حاشية: أرجو منك أن تنثر من قبلي في كل يوم شيئا من الزهر على قبر الراهب ميخائيل.
فليتصور القارئ حالة إيليا بعد قراءته هذا الكتاب. أما نحن فنضرب صفحا عن وصفها.
وبعد أن ثاب إيليا إلى رشده كان أول ما طلبه فرسا مسرجا. فلما درى بذلك الشيخ سليمان جاءه مستخبرا فأخبره إيليا أن أرميا اختطف الفتاة وذهب بها. فأطرق الشيخ سليمان، ثم قال: اذهب واخطف روحه، وإذا لم تجده تحت الأرزة ولا في الدير فابحث عنه في بيت لحم ومغارة الرعاة القريبة منها * فإنه يتردد كثيرا إلى هناك.
فركب إيليا وسار ينشد ضالته، وكان إذا مر بالطرق التي وقف فيها مع أستير أول أمس يقف عليها مبهوتا متذكرا، وما زال سائرا حتى أشرف على كوخ أرميا تحت الأرزة فلم يجد فيه أحدا. فقصد دير العذراء وسأل خدمته عن أرميا وفتاة معه فأجابوه أنهم لم يروا أحدا، وكان إيليا يرى من قمة الجبل حركات العرب حول سور المدينة فوقف متحيرا في ماذا يصنع. هل يهبط إلى المدينة ويستأذن العرب في الدخول إليها لمقابلة أبي أستير وأمها وسؤالهما عنها أم يذهب إلى بيت لحم. لا سيما وأنه كان خائفا على الفتاة من جنون أرميا، ولكنه بينما كان يفكر في هذين الأمرين، وإذا بشرذمة من فرسان العرب هاجمة على الجبل لارتياد ضواحي المدينة وطلب الزاد والميرة منها. فلما أبصرهم إيليا اصفر لونه وجمد على فرسه في مكانه ... أما الفرسان فلما رأوا ذلك الفارس على الجبل قصدوه جميعا. فشاهدهم إيليا يهجمون عليه دون أن يفر من وجوههم فرارا من عار الفرار. فقبض عليه فرسان العرب وأرسلوه أسيرا إلى قائدهم؛ لظنهم أنه رسول أو جاسوس، وهكذا أصبح إيليا المسكين في همين؛ هم أستير وهم نفسه.
الفصل الخامس عشر
حصر بيت المقدس
فلنترك إيليا الآن أسيرا في خيام العرب، ولنعد إلى المدينة وحاصريها لنرى ماذا حدث فيها. «أقام جند العرب على بيت المقدس ثلاثة أيام لا يبارزهم حرب، ولا ينظرون رسولا يأتي إليهم، ولا يكلمهم أحد من أهلها. إلا أن أهل بيت المقدس حصنوا أسوارها بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخر.»
1 * «فلما كان اليوم الرابع قال رجل من البادية لشرحبيل بن حسنة:
2
أيها الأمير، كأن هؤلاء القوم صم فلا يسمعون أو بكم فلا ينطقون أو عمي فلا يبصرون. ازحفوا بنا إليهم. فلما كان اليوم الخامس وقد صلى المسلمون صلاة الفجر كان أول من ركب من المسلمين من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان
3
فشهر سلاحه، وجعل يدنو من سور المدينة، وقد أخذ معه ترجمانا (يعرف اليونانية والعربية) ليبلغه عنهم ما يقولون. فوقف بإزاء السور بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون وقال لترجمانه: «قل لهم أمير العرب يقول لكم: ماذا تقولون في إجابة الدعوة إلى الإسلام والحق وكلمة الإخلاص وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى يغفر لكم ربنا ما سلف من ذنوبكم وتحقنون بها دماءكم، وإن أبيتم ولم تجيبونا فصالحوا عن بلدكم كما يصالح غيركم ممن هو أعظم منكم عدة وأشد منكم، وإن أبيتم هاتين الحالتين حل بكم البوار وكان مصيركم إلى النار.» * فتقدم الترجمان إليهم وسألهم من المخاطب عنكم * فكلمه قس عليه مدراع الشعر * وقال: ماذا تريد؟ فأبلغهم الترجمان أن أمير العرب يدعوهم إلى إحدى هذه الخصال الثلاث: إما الدخول في الإسلام أو أداء الجزية وإما السيف. فبلغ القس من وراءه ما قال الترجمان، وكان فوق السور جمع غفير من الروم، ووراءهم والي المدينة، وقائد الحامية، والبطريرك. فضحك بعضهم، ثم عادوا إليه بالجواب أنهم يختارون السيف؛ لأنه خير الحاكمين * فعاد يزيد بن أبي سفيان إلى معسكر العرب، وأخبر الأمراء بجوابهم. ثم قيل لهم: «ما انتظاركم بهم. فقالوا: إن الأمير أبا عبيدة ما أمرنا بالقتال ولا بحرب القوم بل بالنزول عليهم، ولكن نكتب إلى أمين الأمة (يعني أبا عبيدة) فإن أمرنا بالزحف زحفنا. فكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي عبيدة يعلمه بما كان من جواب القوم فما الذي تأمر». *
وفي ليلة إرسال هذا الكتاب كان بين خيام جند يزيد بن أبي سفيان خيمة غاصة بنساء العرب وهن مجتمعات حول فتاة غريبة في نحو العشرين من العمر، وكانت أسيرة في الخيمة، وكان النساء يخاطبنها بالعربية وهي لا تفهم لغتهن. فلما أعياهن أمرها قالت إحداهن وكانت هي خولة بنت الأزور الفارسة المشهورة أخت ضرار بن الأزور الفارس المعروف: هل ترين يا أخواتي أن أبا عبيدة ينهانا عن قتال أهل بيت المقدس حرمة للمكان، والله إنني لأود أن أكون أول المقاتلين والداخلين إلى بلد الأنبياء. فقالت خولة بنت ثعلبة الأنصارية: هل نظرت قبل اليوم صخرة بيت المقدس يا خولة؟ فأجابت خولة: وهل دخلنا بيت المقدس قبل اليوم. فقالت كعوب ابنة مالك بن عاصم: وهل سمعت بصفتها؟ فأجابت خولة: «كانت صخرة بيت المقدس في السماء اثني عشر ميلا، وكان أهل أريحا يستظلون بظلها وأهل عمواس مثل ذلك، وكان عليها ياقوتة حمراء تضيء لأهل البلقاء، وكان يغزل في ضوئها أهل البلقاء.»
4
فدهش النساء من ذلك وقالت لبني ابنة جرير الحميرية: وهل إذا دخلنا المدينة غدا نرى المسجد ومربط البراق؟ فأجابت خولة: مرب البراق تحت ركن المسجد
5
أما المسجد فخرب، وسنأخذ المدينة بحول الله وقوته، ونعيد بناءه وإن غاظ ذلك الروم واليهود. فلما لفظت كلمة «اليهود» ظهرت البغتة على وجه الفتاة كأنها كانت تفهم كلمة «يهود» العربية، ولكن النساء لم يلتفتن إليها.
فسألت امرأة أخرى وهي سلمى ابنة هاشم:
6
أصحيح يا خولة أن كل الناس سيبعثون في بيت المقدس؟ فأجابت خولة: أجل يا سلمى «ينصب الصراط ببيت المقدس، ويؤتى بجهنم نعوذ بالله منها إلى بيت المقدس، وتزف الجنة يوم القيامة مثل العروس إلى بيت المقدس، وتزف الكعبة فيجاء بها إلى بيت المقدس، ويقال لها: مرحبا بالزائرة والمزورة، ويزف الحجر الأسود إلى بيت المقدس، والحجر يومئذ أعظم من جبل أبي قبيس.»
7
فقالت نعم ابنة فياض: يا أخواتي فما أفضل بيت المقدس. فقالت خولة: أجل يا نعم، ولها فضائل أخرى أيضا «منها: أن الله رفع نبيه إلى السماء من بيت المقدس، ورفع عيسى من بيت المقدس، ويغلب المسيح الدجال على الأرض كلها إلا بيت المقدس، والأنبياء كلهم من بيت المقدس، والأبدال كلهم من بيت المقدس، وأوصى آدم وموسى ويوسف وجميع أنبياء بني إسرائيل أن يدفنوا في بيت المقدس.»
8
وهكذا لم يكن للمسلمين والمسلمات من حديث في تلك الليلة غير التشوق لفتح بيت المقدس والتحدث بآثارها.
فبعد مدة وردهم جواب أبي عبيدة «يأمرهم بالزحف، وأنه واصل في أثر الكتاب.» * فأشرقت وجوههم * وقد باتوا تلك الليلة كأنهم ينتظرون قادما يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس، وكل أمير يريد أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه، والنظر إلى آثار الآنبياء. فلما أضاء الفجر أذن وصلت الناس صلاة الفجر فقرأ يزيد لأصحابه:
يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا * (الآية)، ومن غرائب الاتفاق أن باقي أمراء الجند قرءوا في جندهم هذه الآية أيضا كأنهم كانوا على ميعاد واحد
9
وبعد ذلك نادوا «النفير النفير يا خيل الله اركبي.» * وبرزوا للقتال.
وكان أهل بيت المقدس قد استخفوا بالعرب ونبالهم، ولذلك كانوا يتعرضون لها في بادئ الأمر * وكان أول من برز للقتال حمير ونبالة اليمن * فأخذ الروم يرشقونهم بالنشاب من على الأسوار فتفتك بهم والنبالة ترشق الروم بالنبال. فلما رأى الروم أن النبال كانت تصيب رجالهم «فيتهافتون من سورهم كالغنم احترزوا منه بعد إهمالهم أمره، وستروا السور بالجحف والجلود وبما يرد النبل.» * إلا أن حامية المدينة كانت مع ذلك تحارب بجرأة وشجاعة وبشاشة، وهكذا مر اليوم الأول من القتال على غير طائل. «ولما غربت الشمس رجع الناس، وصلى المسلمون فرضهم، وأخذوا في إصلاح شأنهم وعشائهم. فلما فرغوا من ذلك أوقدوا النيران، واستكثروا منها؛ لأن الحطب كان عندهم كثيرا. فبقي قوم يصلون، وقوم يقرءون، وقوم يتضرعون، وقوم نائمون مما لحقهم من التعب والقتل.» * وفي اليوم التالي برزوا للقتال أيضا وحامية المدينة يظهرون الفرح ويضحكون، فمر هذا اليوم كاليوم الأول، وهكذا إلى اليوم العاشر * على غير طائل.
وفي اليوم الحادي عشر أشرقت على بيت المقدس راية أبي عبيدة يحملها غلامه سالم ومن ورائها الفرسان، وقد أحدقوا بأميرهم أبي عبيدة وخالد بن الوليد عن يمينه وعبد الرحمن بن أبي بكر عن يساره، وجاءت النساء والأموال، وضج الناس ضجة واحدة بالتهليل والتكبير، فأجابتهم القبائل، وارتجت المدينة لهذا الاستقبال الحافل * فضعفت قلوب المحصورين وقويت قلوب الحاصرين بهذا المدد العظيم الجديد. فذهب وجوه الجند والمدينة إلى مقام البطريرك قرب كنيسة القيامة
10
ليتشاوروا في أمرهم، ويبلغوه مقدم أمير العرب. فلما سمع البطريرك بهذا بغت بغتة شديدة؛ لأنه حسب أن الأمير الذي قدم هو الخليفة عمر بن الخطاب، وكان يعلم أن الخليفة لا يقصد فتح بلد حتى يكون كل العرب وراءه، ولكنه لما علم أن الذي قدم هو أبو عبيدة عامل الشام سكن خاطر الناس، وشجع قلوبهم بقرب وصول المدد إليهم، فعادوا إلى الحرب بالجرأة اللازمة.
11
الفصل السادس عشر
بين أستير وأرميا وإيليا
في أثناء الحصار
فأقام أبو عبيدة نحو أربعة أشهر * على حصر بيت المقدس على هذا المنوال، وكان جنده لانكشافهم أمام أسوار عدوهم يلاقون بلاء أشد من بلاء المحصورين، ولم تغن عنهم درفهم شيئا، وكان الوقت وقت مطر وبرد وثلج فعانى الفريقان من ذلك ما عانياه حتى سئما الحرب والقتال. *
وفي ذات يوم بينما كان أبو عبيدة في مضربه، ورحى القتال دائرة حول المدينة، وإذا برجل يقصده ويسأل الناس عنه، وكان وراءه عجوز على حمار. فلما وصل إلى مضرب الأمير أنزل العجوز إلى الأرض وفرش لها رداء لتجلس عليه، ثم دخل على الأمير فسلم وناوله كتابا صغيرا كان مخبوءا في ثيابه. فلما قرأه أبو عبيدة بغت وصاح به: أنت يوسف؟ فقال الرجل: نعم أيها الأمير، فقال: اجلس وقص علي ما تعلم فقد كتب إلي في شأنك منذ أشهر، ولماذا لم تفد علينا قبل الآن؟ فأجاب الرجل: لأنني لم أجد قبل الآن عذرا يمكنني من الخروج من المدينة لملاقاتكم؛ لأن الروم دروا بأمري. فقال أبو عبيدة ضاحكا: وهل قبضوا عليك؟ فغص الرجل بدمعه، وقال: قبضوا علي وعلى ابنتي، فأطلقوني وأسروا ابنتي في دير لهم. وأمس زرت هذا الدير بأمر بطريركهم، فعلمت منه أن ابنتي فرت من الدير ولم يوقف لها أثر. فقال أبو عبيدة: وكيف تركوك تخرج الآن من المدينة؟ فقال الرجل: إن قائد الجند دعاني إليه بأمر البطريرك وإشارته فأظهر لي اللطف والمجاملة، ثم عهد إلي أن أجيئكم، وأظهر أنني فار منهم إليكم، وبعد ذلك أخبركم بقوتهم وعزمهم على القتال، وقرب وصول المدد إليهم حتى أوهن عزائمكم، فتبدءوا بطلب الصلح منهم، ويظهر لي أن غرضهم من ذلك هو الصلح ليأس البطريرك من ورود مدد إلى المدينة من ملكهم.
فأطرق أبو عبيدة يفكر ثم سأله: لقد مر على قتالنا لهم بضعة أشهر بدون جدوى فما ظنك لو حاربناهم شهرين أيضا. فتأمل الرجل هنيهة ثم أجاب: هؤلاء النصارى لا يؤثر فيهم شيء مثل الضغط عليهم. فشد عليهم الوثاق أيها الأمير، ولا تقبل منهم الصلح؛ إذ أية فائدة لكم فيه. أما إذا أخذتم المدينة فتحا بالسيف فإنكم تغنمون كنوزهم وأموالهم.
فنظر حينئذ أبو عبيدة إلى ذلك الرجل، وقال في نفسه: إن البغض بين هذين الفريقين من أهل الكتاب - اليهود والنصارى - لا يزول أبدا، وكان ضرار بن الأزور عائدا حينئذ من ساحة القتال لحاجة فناداه الأمير، وقال له: خذ هذا الرجل إلى خيمتك وأصلح حاله في هذا الشتاء. فسار الرجل والعجوز وراء ضرار إلى خيمته.
وما كاد الثلاثة يصلون إلى خيمة ضرار حتى سمعوا من الخيمة بكاء فقال ضرار لرفيقه: أتعرف لغة الروم يا رجل؟ فأجاب الرجل بالعربية، وكان يعرفها كما تقدم: نعم أعرفها أيها الفارس الهمام فأي أمر تريد؟ فقال ضرار عندي فتاة من الروم أسرتها منذ مدة على طريق مهد عيسى
1
مع رومي مجنون، وهي لا تزال تبكي ليلا ونهارا، وقد أحبتها أختي خولة، وعزمت على إدخالها في الإسلام؛ لتكون لي زوجا، ولكنها لا تستطيع مخاطبتها؛ لأن الفتاة لا تفهم لغتنا.
فقال الرجل مفكرا: سأراها الساعة. ثم بدأ يرطن بلغته مع العجوز فاستوت العجوز حينئذ على حمارها، وقد أبرقت عيناها دهشة، وسار الجميع بخطى واسعة إلى الخيمة والعجوز تتطاول نحوها.
ولكن ما كاد الثلاثة يشرفون على الخيمة ويلقون نظرة إلى داخلها حتى صاحت العجوز صيحة أجفل لها النساء والأولاد الذي كانوا في الخيام القريبة، وهرع الرجل والعجوز نحو الفتاة الأسيرة في الخيمة يقبلانها وتقبلهما باكين جميعا.
فعلم ضرار حينئذ أن هذه الفتاة نسيبة للشيخ والعجوز.
أما القارئ فإنه ولا شك علم أن الفتاة هي أستير والرجل أبوها والعجوز أمها.
أما ضرار فإنه لما علم من الشيخ أبي أستير أن الفتاة ابنته أسقط في يده؛ لأنه كان يطمع نفسه فيها. إلا أنه صار أكثر إكراما للشيخ مما كان قبل علمه بذلك.
وقد قصت أستير على أبيها وأمها كل ما جرى لها، وكيف أنقذها شاب من مزرعة تحت جبل الزيتون، ثم فرت منها فأسرها العرب على طريق بيت لحم. إلا أنها لم تذكر لها شيئا مما حدث لها مع إيليا، وقد غصت بدمعها مرارا وهي تحكي لهما قصتها من ذكرى ذلك الشاب الكريم الذي فارقته رغما عنها.
ومنذ هذا الحين أصبحت أستير طليقة في حي العرب مع أبيها وأمها.
وكان أول شيء فكرت فيه أستير بعد إطلاق سراحها إنقاذ أرميا الذي أحسن معاملتها وأسر معها. فسأل أبوها ضرارا عنه فأخبره أنه أسير عند رجل من البادية لم يقدر أحد غيره على كبح جماحه. فسارت أستير مع أبيها وضرار إلى خيمة الرجل. فلما أطلوا عليها أبصروا في إحدى زواياها رجلا مطروحا كالجذع الممدود وهو موثق اليدين والرجلين بحبال ثخينة. فلما سمع هذا الرجل صوت حركة وراء الخيمة انتفض انتفاضا شديدا، وأخذ يصيح ملء فيه - يا قتلة الأنبياء وآسري المرسلين. أهكذا تصنعون بي؟ كفى الأرض ما فيها من الظلم فلا تزيدوا ظلما جديدا فيها. أتظنون أنها تفتح لكم بالاضطهاد والأسر والقسوة. لا لا. فإنكم إذا لم تعدلوا لم تسودوا، وإذا كانت هذه فاتحة أعمالكم فخاتمتها بلاء وعذاب. تأسرون الأنبياء وتطرحونهم على الأرض كالكلاب. تأسرون الفتيات الضعيفات وتسيئون إليهن. أخذوها أخذوها، وحرموني إياها. إيليا إيليا. أظن هذا عقابا لي لأنني خنتك، وهذه عاقبة الخائن دائما، وأنتم أيضا تخونونني فستكون عاقبتكم كذلك.
ولما ترجم الشيخ أبو أستير لضرار هذا الكلام ضحك منه حتى استلقى؛ لأنه علم من أستير وأبيها أن الرجل معتوه. ثم دخل وحده على أرميا. فلما رآه أرميا هاج كالجمل الثائر وصاح: أنت كبيرهم. أنت ظالمهم. أين الفتاة؟ أما تخافون الله ويوم الحساب؟
فدنا حينئذ ضرار منه وفي يده سيفه، فلما رأى أرميا السيف قامت قيامته، وصار يعوي عواء الكلاب والذئاب خوفا من القتل. فعلم ضرار خطأه، فدعا الشيخ أبا أستير فدخل وحده. فقال الشيخ لأرميا بعد أن أسكته إن ضرارا لا يقصد إلا قطع وثاقه بالسيف. فلم يطمئن أرميا بل عاد العواء والصراخ، وصار يدفع ضرارا رفسا برجليه وبصقا بفيه كأنه حسب البصاق حجارة مقلاع تدفع عنه، وكان ضرار في أثناء ذلك يضحك ضحكا شديدا. فلما رأى الشيخ خوف أرميا من ضرار أخذ السيف بيده ودنا من أرميا فعاد أرميا إلى العواء والصراخ والرفس والبصق . فيظهر أن أستير علمت وهي تراقب هذا المشهد من خارج الخيمة أنه لا يحل هذه المشكلة غيرها فدخلت باسمة تختال بحلل الجمال والدلال.
فلما وقع نظر أرميا على أستير دهش وصاح متنهدا من أعماق قلبه قائلا: من أنقذك؟ هاها، ما أقوى النساء الجميلات. فإنهن ينقذن أنفسهن دائما، أعطوها السيف أعطوها السيف. فإنني لا أأتمن غيرها على روحي. ياعزيزتي، اذكري أنني خلصتك فخلصيني.
فأخذت أستير السيف بيدها البيضاء الجميلة، ودنت من أرميا وهو ممدد، فصار أرميا يضحك لها. فقطعت أستير بالسيف الحبال التي كانت توثق يديه ورجليه، فنهض أرميا، وصار يتمطى كنمر كان مقيدا وأطلق من قيده.
وبعدما أصلح أرميا شأنه وملابسه دنا من أستير باهتمام وقال لها: لقد أطلقونا الآن فهلمي بنا. فضحكت أستير وأجابت: إلى أين؟ فصاح أرميا: كل الأماكن خير من هذا المكان. هلمي يا أختي لنعيش بالبرية معا كالرعاة. فعبس أبوها وهز رأسه، وهو يقول في نفسه: إنه صار يجب عليه إنقاذ الفتاة لا من ضرار فقط بل من أرميا المعتوه أيضا، ومنذ هذا الحين عرف صعوبة موقف الرجل بين بعض الرجال إذا كان يصحب فتاة متناهية في الجمال.
أما ضرار فإنه لما علم بمطلب أرميا هز سيفه حتى دب الموت بإفرنده وقال له: والله إذا ذكرت الرحيل مرة أخرى لأجعلنك مرتعا له. - فابتعد عنه أرميا دون أن يفهم كلامه، وهو يدير فيه عينين مذعورتين، ويبحث بهما في الأرض عن حجارة أو أخشاب يدفع بها عن نفسه إذا هاجمه صاحب السيف.
أما الشيخ أبو أستير فإنه خلا بأرميا وأخبره أن أمير العرب أسرهم، ولا يأذن لهم بالرحيل، ولكنه أذن لأرميا بذلك، وكان أرميا قد علم أن الشيخ هو أبو أستير فقال له: أنا مقيم معكم حيثما تقيمون.
ومنذ هذا الحين صار أرميا يتجول في حي العرب بين الخيام؛ لمشاهدة تلك المنازل البدوية الغريبة، وفي المساء يعود إلى خيمة ضرار وينام في الليل على بابها، وأستير في داخلها مع أبيها كأنه حارس لها.
وفي ذات يوم بينما كان يدور بين الخيام متجنبا المضارب التي فيها نساء وأولاد وأصوات القتال واردة من جهة بيت المقدس وإذا به قد بلغ خيمة رفيعة العمد عالية الأطناب، وكان حول هذه الخيمة خيام كثيرة تحيط بها على مسافات مختلفة، والناظر إليها يعرف لأول نظرة أنها خيمة زعيم قومه، وفي الحقيقة أنها كانت خيمة الفارس المغوار المشهور عمرو بن معدي كرب الزبيدي الذي ترك بوادي اليمن، وجاء في رجاله لنصرة جند الشام مع مالك بن الأشتر النخعي في أواخر خلافة أبي بكر.
2
فلما دنا أرميا من هذه الخيمة الشامخة سمع فيها صوتا يتكلم باللغة اليونانية، فعجب من ذلك، وتقدم متلصصا، فلما أطل على الخيمة أبصر في إحدى زواياها ما أثار دهشته، فرجع القهقرى مستغربا.
ذلك أنه أبصر في تلك الزاوية «إيليا» جالسا مشدود اليدين شدا خفيفا.
وكان إيليا يحادث رجلا آخر جالسا أمامه لكن هيئته كانت تدل على أنه ليس بعربي.
وحينما تحقق أرميا وجود إيليا هناك ابتعد عن الخيمة، وجلس يفكر مليا، ويظهر أنه قرر في نفسه شيئا؛ لأنه أول ما أبصر رفيق إيليا قد خرج من الخيمة لحاجة له نهض مسرعا إليه، ولما صار بجانبه خاطبه باليونانية قائلا: هل أنت عربي أيها الأخ؟
فنظر إليه الرجل وقال: أخبرني أولا من أنت لأخبرك من أنا؟ فأجاب أرميا: ما قصدتك لهذا، وإنما لأخبرك خبرا عظيما. أتحب ذلك؟ فأجاب الرجل وقد بدأ يتأمل في وجه أرميا: وما هو هذا الخبر؟ فقال أرميا باهتمام شديد: أما عرفت هذا الرجل المقيم في هذه الخيمة مشدود اليدين؟ فقال الرجل: وقد بدأ يهتم لحديث أرميا: لا ومن عساه يكون؟ فضحك أرميا وقال: أنتم تقبضون على كنز ثمين بل على مفتاح المدينة دون أن تعلموا بذلك. فزاد اهتمام الرجل، وقال: ومن عساه يكون؟ فقال أرميا: هذا الأسير ستفدون به عشرة آلاف أسير منكم إذا شئتم. فصاح الرجل وقد فرغ صبره: ألا تقول من هو. فدنا أرميا حينئذ من الرجل وانحنى على أذنه وهمس فيها قائلا: هذا ثيودوروس أخو الإمبراطور.
فدهش الرجل ورجع القهقرى عجبا. ثم سأل أرميا: ومن أين عرفته؟ فضحك المعتوه وقال: وهل أحد منا يجهل أخ الإمبراطور؟ فاحرصوا عليه جيدا إذا شئتم فتح المدينة فإنه ربما افتداه الإمبراطور منكم بالمدينة كلها.
فعاد الرجل نحو الخيمة التي كان إيليا فيها وهو يفكر كثيرا، أما أرميا فإنه عاد عنها نحو خيمة ضرار، وصار يبذل جهده؛ ليمنع أستير وأباها من الذهاب نحو خيمة إيليا.
والعادة أن علو المقام يجر دائما زيادة الأتعاب والأثقال، ولذلك ما انتشر بين تلك الخيام أن أخ الإمبراطور أسير في خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب حتى تهافت الناس من كل جانب لمشاهدته، وأدى هذا الأمر إلى التشديد في حراسته والتضييق عليه.
أما إيليا فلم يكن يفهم شيئا من ذلك الإكرام الجديد له والتألب عليه. حتى الترجمان نفسه الذي كان يقصده ويحادثه في الخيمة صار لا يقترب منه إلا بإكرام خاص.
وكان غرض أرميا من صنع ما تقدم رغبته في أن يحول دون إطلاق سراح إيليا وإبقائه بعيدا عن أستير إلى أن يتمكن من إخراجها من هذا المكان بالكلية، ولكنه ما درى أن هذه الحيلة ستؤدي إلى عكس غرضه. فإنه لما فشا بين المسلمين أن أخ الإمبراطور وقع أسيرا في قبضة بعض من رجال عمرو بن معدي كرب الذين ساروا لارتياد الضواحي وراء القدس، ووصل هذا الخبر إلى الأمير أبي عبيدة القائد العام أمر أبو عبيدة في الحال بأن يؤتى إليه باليهودي يوسف؛ ليتحقق منه هذا الأمر، وكان هذا الاسم اسم أبي أستير كما تقدم. فلما حضر الشيخ بين يدي أبي عبيدة صحبه أبو عبيدة إلى خيمة عمرو بن معدي كرب وأراه إيليا؛ ليعلم أهو أخو الإمبراطور حقيقة لعله يعرفه، ولكن ما وقع نظر الشيخ على إيليا حتى أسرع إليه صارخا: هذا إمبراطور لا أخو امبراطور؛ فإنه إمبراطور الشهامة والرفق والمروءة.
ثم قص أبو أستير على أبي عبيدة ما صنعه إيليا معه ومع ابنته على طريق بيت لحم. فدنا حينئذ أبو عبيدة الرجل الكريم المحب للكرام، وقطع وثاق إيليا بيده، وأطلق سراحه.
وقد جرى كل ذلك دون أن يدري به أرميا وأستير. فكأن أرميا نفع إيليا من حيث قصد مضرته، وذلك مصداق لقول من قال: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها».
أما إيليا فإنه لما وقع نظره على أبي حبيبته خفق قلبه خفقانا شديدا، وكان أول سؤال وجهه إليه بعد انطلاق سراحه هو هذا: هل وجدت السيدة أستير؟ فوضع الشيخ يده في يده، وأجاب: هلم بنا إليها.
فيا أيها القارئ العزيز، هل أضعت يوما قلبا لك على شاطئ البحر بين رماله وحجارته ثم وجدته محفوظا في إحدى أصدافه الجميلة كأنه در فيها مكنون. هل كنت في إحدى الليالى مسافرا في ظلمة ليلاء، وأحاطت بك العواصف والأمطار والوحوش واللصوص، وانسدت الطريق في وجهك، ثم بغتة طلع لك القمر أو الشمس تنير طريقك وتدفئ عظامك وتؤمن نفسك. هل كنت يوما مريضا مشرفا على الهاوية وقد نضب ماء حياتك ورأيت الموت بعينيك ثم انتفضت وعادت إليك قوتك وصحة شبابك الماضي، إذا كنت قد لقيت يوما شيئا من ذلك فإنك تعرف مبلغ السرور الذي حاق بإيليا حينما قال له الشيخ عن أستير: «هلم بنا إليها».
ولما وصل الشيخ وإيليا إلى خيمة ضرار حيث كانت أستير كان قد أمسى المساء وأخذ العرب يعودون عن أسوار المدينة، وكانوا يطيلون النظر إلى الاثنين في أثناء الطريق، ولكن لم يبالوا بهما؛ لتعودهم مشاهدة التراجمة والعيون من اليهود وأحيانا من أذناب الروم في معسكراتهم، وهذا أيضا هو السبب في تجوال أرميا بين المضارب قبل ذلك دون أن يتعرض أحد له.
وحين وصول إيليا مع الشيخ إلى خيمة ضرار كان ضرار قد عاد من ساحة القتال، وجلس في باب الخيمة يطيل النظر إلى أستير، وأخته خولة تضحك من نظراته، وأستير مطرقة تتورد وجنتاها خجلا وتذوب حياء. فصاح الشيخ حين وصوله: أستير أين أستير؟ فهبت أستير إلى باب الخيمة، ولكن ما وقع نظرها على الشخص الذي يرافق أباها حتى صاحت صياحا شديدا، وتراجعت إلى الوراء، وقد انقلب لونها الفضي الوردي إلى لون الزعفران، وصارت ترتجف؛ فأدرك ضرار بذكائه العربي الفطري سر أستير في الحال فعبس وصار يقلب طرفه في إيليا. أما إيليا فكان يتقدم والابتسام على شفتيه، ولكن الألم الشديد في قلبه، وكانت جبهته تتصبب عرقا مع شدة البرد ساعتئذ. فلما وصل إلى أستير نظر إليها نظرة هي وحدها كانت تعرف معناها، وقال: الحمد لله أيتها السيدة على أنني وجدتك بخير وسلامة، فإنني خفت عليك من المعتوه الذي رحلت معه، ولذلك ذهبت في طلبك.
فأدركت أستير أن إيليا يريد بهذا الكلام تبرئة نفسه لديها عملا بوصيتها له أن لا يتبعها. فحاولت الجواب فلم تستطع، ولكن عينيها جاوبتا عنها بدمعتين كلؤلؤتين ترقرقتا في حدقتيها.
وفي هذه الدقيقة وصل أرميا؛ لأنه كان غائبا عن الخيمة.
فلما وقع نظر أرميا على إيليا من بعيد صلب على صدره ورجع القهقري قائلا: «كيريالايسون كيريالايسون، أي شيطان جاء به إلى هنا؟»
ثم توارى؛ لأنه كان يخجل من مقابلة إيليا. أما إيليا فقد لمحه، ولكنه تركه وشأنه؛ لئلا يفتح عليه باب جنونه فيفضح حبه.
ولم يكد إيليا يجلس في الخيمة حتى دخل بدوي، وسأل عن ضرار. ثم أبلغه أن الأمير أبا عبيدة يطلب اليهودي يوسف. فاستاء أبو أستير من هذه الدعوة في تلك الساعة أمام إيليا. أما إيليا فإنه لم يفهم شيئا. فقام أبو أستير وذهب إجابة للدعوة، فبقي في الخيمة إيليا وأستير وأمها وضرار وخولة، وكان ضرار ينظر إلى أستير ويقول في نفسه: ما أجمل بنات الروم، وخولة تنظر إلى إيليا، وتقول في نفسها: ما أضعف رجال الروم، وهكذا كان كل واحد منهما يقيس أمة بأسرها على فرد منها وهو الخطأ الذي كثيرا ما يقع الناس فيه.
ولم يكد يخرج أبو أستير من الخيمة حتى سمع صوت من الخارج يقول: «السلام على أهل الإيمان» فنهض ضرار وخولة على عجل، وصاح ضرار بعد رد السلام: أهلا بفارس العرب. فدخل حينئذ رجل معتقل سيفه وفي يده رمحه وكان كبير الهامة شامخ الرأس تكفي هيئته للدلالة على نجابته وشجاعته، وكان وراءه رجل غريب الزي. فقال الفارس القادم لضرار: أجاءكم أسيري يا ضرار؟ وكان إيليا قد هب على صوت الفارس وقام إجلالا له. فلما رآه الفارس بش في وجهه والتفت إلى الرجل الذي كان وراءه. فنطق حينئذ هذا الرجل باليونانية مخاطبا إيليا بقوله: إن فارس العرب عمرو بن معدي كرب قد ساءه تركك خيمته، ولقد أذن بما أذن به أبو عبيدة من إطلاق سراحك، ولكنه يريد أن تقيم عنده لا في مكان آخر؛ لسروره بحديثك وأخبارك. فاستاء إيليا في نفسه من هذا الاقتراح؛ لأنه يفصله عن أستير، وإن كان قد سره كرم العربي ورحابة صدره فأجاب: هذا أحب شيء إلي فسأحظى في كل مساء بالمثول في حضرة الأمير، وأما في النهار فإنني مضطر أن ألزم أصدقاء لي في هذه الخيمة ما أقمت في هذا المعسكر.
فلما علم عمرو بن معدي كرب بجواب إيليا التفت ليرى الأصدقاء الذين أشار إليهم الشاب فوقع نظره على أستير. فلاحظ ضرار تلك النظرة؛ لخوفه من عاقبتها أكثر من خوفه من عاقبة وداد إيليا.
وكان أرميا حينئذ خارج الخيمة يتنصت ويتجسس، فلما رأى فارس العرب يقلب نظره في أستير قال في نفسه: لقد صرنا أربعة.
أما عمرو بن معدي كرب: فإنه بعد أن أجال نظره في أستير مليا قال للترجمان: لماذا لا يصطحب أصدقاءه إلى حيث يذهب. فغضب ضرار لهذا الجواب، وظهر الغضب في وجهه. أما إيليا فإنه لما فهم جواب الأمير أبلغه أن رفيقه غائب وابنته هذه الفتاة لا تستطيع مفارقة أبيها.
فيظهر أن الامير انقلب غرضه من أخذ إيليا إلى أخذ أستير، ولذلك أجاب: سأعود غدا بعد عودة رفيقك، فوالله يهمني أن تقص علي بقية قصة صاحبك ميكائيل.
وكان الأمير يعني «بميكائيل» الراهب ميخائيل أستاذ إيليا.
فلما انصرف الأمير وترجمانه صار إيليا يفكر في ماذا يصنع للخروج بأستير وأبيها من المعسكر خصوصا بعد ما رآه من اهتمام ضرار وعمرو بن معدي كرب بها اهتماما خاصا، وبينما هو يتأمل في ذلك وإذا بأرميا قد دخل على حين فجأة، ودنا من إيليا، وأسر إليه قوله: هل تريد يا كيريه إيليا أن أحدثك على انفراد؟ فحول إيليا وجهه عن أرميا دون أن يجاوبه. فقال أرميا همسا أيضا: لا تغضب يا كيريه إيليا فإنني فعلت ما فعلته بأمر أستير نفسها، وعندي الآن لك حديث في غاية الأهمية فاسمعه مني وبعد ذلك اصنع ما تشاء.
فنهض إيليا وخرج من الخيمة، ولما صار خارجا صاح بأرميا: ماذا تقول للشيخ سليمان غدا يا أرميا بعد خطفك الفتاة من مزرعته. فأجاب أرميا: لم أخطفها وإنما هي التي طلبت مني أن أذهب بها من المزرعة لتلتقي بأبيها، ولكن دع عنك هذا فإنه ليس في شيء من الأهمية. أعرفت يا كيريه إيليا أبا هذه الفتاة؟
فأجاب إيليا: نعم عرفته. فقال أرميا مظهرا الاهتمام دائما: وهل عرفت ما بينه وبين العرب؟ فقال إيليا: لا لم أسأله عن ذلك بعد. فلعلهم أسروه كما أسروكما وكما أسروني. فهز أرميا حينئذ رأسه، وقال همسا: كلا كلا يا كيريه إيليا. فإنه جاسوس جاسوس.
فهنا خطا إيليا خطوة إلى الوراء لدهشته، وبقي مبهوتا، ولما رأى أرميا أن كلامه أثر في نفس إيليا تأثيرا شديدا أردف بقوله: وهل علمت الآن أين ذهب الرجل حين فارقكم؟ إنه ذهب إلى القائد العام؛ لأنه طلب مع بدوي مقابلته. فلعله يقصد سؤاله عن بعض الأمور، يا كيريه إيليا. قد قيل لي: إنك أنقذته على طريق بيت لحم. فأنت إذن أنقذت جاسوسا على وطنك، وابنته أستير الجميلة التي أنقذتها أنت مرة وأنا أنقذتها مرة هي ابنة جاسوس. يا كيريه إيليا، حقا ما كنت أظن أننا ننزل إلى هذه الدركة من السفالة ونحب أنت وأنا ابنة جاسوس دنيء.
فعند هذا الكلام انكشف غطاء كثيف عن عيني إيليا فذكر أقوال البطريرك، وقصة أستير تحت الأرزة، وذكر على الأخص استعانة أبي عبيدة بالشيخ أبي أستير لمعرفته قبل إطلاق سراحه، وبإرسال أبي عبيدة الساعة في طلبه؛ فلم تبق لديه شبهة في أن الرجل جاسوس. فلما تحقق ذلك في نفسه طارت نفسه شعاعا فترك أرميا بنزق، وأخذ يهيم على وجهه بين الخيام كأنه يطلب منقذا ليأسه وانكسار قلبه.
أستير ابنة جاسوس؟ يا للهول. ذلك المثال البديع للجمال وأدب النفس قد خرج من دم التجسس واللؤم؟ يا للهول. إذن أين يجد إيليا الطهارة والنقاء في العالم بعد اليوم؟ وما الذي يسليه بعد ذلك عن هذه الخسارة التي فقد بها أحلامه وآماله في هذه الحياة؟
إيليا خان وطنه وساعد الجواسيس عليه؟ يا للهول. نعم، إنه لم يكن شديد التعصب لوطنه ومملكته؛ لأن اليونان كانوا العنصر السائد المستبد فيهما، ولذلك قد يمكن أن يكون هذا الفتح مساعدا للأمة السورية المغلوبة على العنصر المستبد الغالب، ولكن من يضمن أن يكون العنصر الفاتح الجديد أقل استبدادا وأكثر إنصافا للأمة المغلوبة من العنصر الفاتح القديم. لا ريب في أن إيليا لم يكن يعتبر الدين جامعة قوية بل هو يضع فوقها الجامعة البشرية أي جامعة «العدالة المطلقة والإنصاف المطلق» ولكن من يضمن له أنه لا يكون في هذا الاستبدال كالمستعين من الرمضاء بالنار وكالمنتقل من نير إلى نير.
وقد بقي إيليا يفكر ساعة في موضوعه الجديد، وبعد أن برد هواء المساء جبهته التي كانت متقدة بهذه الأفكار قر رأيه على السفر دون أن يشاهد أستير ولا أباها. فانحرف عن خيمة ضرار وقصد خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب؛ ليستأذن منه بالرحيل، ويسأله رجلا يرافقه إلى خارج المعسكر، وكان غرضه من ذلك أيضا زيادة التقرب من هذا الأمير، لعله يستعين به على شيء يفيد بني وطنه إذا وقعت المدينة في أيدي العرب.
ولما وصل إيليا إلى خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب وجده راجعا من خيمة أبي عبيدة. ذلك أن أبا عبيدة كان قد جمع أمراء الجيش ووجوه الجند؛ ليستشيرهم في طول الحرب، وما أصاب الجند من التعب والشدة للمطر والثلج والبرد.
3
فأجمع رأيهم على أنه لا سبيل لأخذ المدينة إلا صلحا أو يبرز الروم من وراء الأسوار للقتال وجها لوجه. لا سيما وأنه قد بلغهم أن الأرطبون مقدم الجند الذي فر من أجنادين ولجأ إلى بيت المقدس في أثناء الحصار معارض في الصلح كل المعارضة. فلما علم الأمير عمرو بن معدي كرب برغبة إيليا في الدخول إلى المدينة استغرب ذلك وسأله بواسطة الترجمان: أين أصحابه؟ وقد عني بهم أستير وأباها. فارتعد إيليا لهذا السؤال. أولا: لأنه ذكره أمره، وثانيا: لأنه تذكر أن أستير ستبقى بعده هدفا لميل ضرار وعمرو بن معدي كرب وأرميا.
ولما ودع إيليا الأمير قال له الأمير: سنلتقي في المدينة بعد بضعة أيام، فابتسم إيليا وشكر للأمير ما لقيه عنده من الكرامة وحسن الضيافة مدة الأسر. ثم سأله نصيحة لقومه يكون فيها فائدة للفريقين؛ فأطرق الأمير يفكر، ويظهر أنه بدا له أمر مهم ولذلك أشرق وجهه. فقال لإيليا: لقد استنصحتني أيها الشاب، وأنا أصدقك النصيحة. إن هذا الجيش إذا فتح مدينتكم هذه سيكون شديد الوطأة عليها؛ لأنه عانى في هذه الحرب مشقة شديدة، وها قد مرت أربعة أشهر والقتل فيه كل يوم، ولو كان المدد سيصلكم لوصلكم في أثناء هذه المدة الطويلة. فحرض قومك على الصلح إذا كنت نافذ الرأي عندهم وكنتم تحبون سلامة مدينتكم، ولكي تعلم صدق نصيحتي أوصيك أن لا تقبلوا بالصلح إلا على يد خليفتنا عمر بن الخطاب فإنه هو الذي يقدر وحده على كبح جماح هذا الجيش بعد عقد الصلح إذا رام الجيش انتقاما أو اغتناما.
وكان الأمير صادقا في هذه النصيحة، وإن كان قد قصد بها تعجيل الصلح لمنفعة قومه. فشكره إيليا وكرر توديعه وانصرف قاصدا أسوار المدينة، ومعه رجل من رجال الأمير ليوصله إليها.
وكان إيليا وهو سائر يتلفت نحو خيمة ضرار، ويتنهد كلما التفت إليها كما تنهد آدم وتلفت إلى الفردوس عند خروجه منه.
إلا أن ترك آدم فردوسه كان بكرهه، وترك إيليا فردوسه كان بطوعه اتباعا لصوت ضميره وكبريائه.
والغريب أن إيليا لم يعاوده اليأس القديم بعد يأسه من هذا الحب الذي كان بنى عليه كل آماله في الحياة. فكأن ما شاهده في هذه الحرب من آثار القتل والعذاب والشقاء البشري والعناء قد أذكره أن الحياة ليست بلعبة يتلهى بها؛ بل هي واجب عظيم يجب القيام به بأحسن ما يكون، ومعالجة كل ما يعترضه من المصاعب والمتاعب والمصائب، ولذلك صار همه مصروفا إلى نفع بني وطنه المحصورين؛ لتخفيف شيء من مصائبهم، ومنع الفتك فيهم إذا فتح العرب مدينتهم، وبذلك وجدت نفسه شاغلا يشغلها عن نفسها.
وقد أذن حراس أسوار المدينة لإيليا بالدخول إليها، ولكنهم أخذوه توا إلى البطريرك، وهذا ما كان إيليا يطلبه. فاختلى إيليا بالبطريرك ساعتين تقريبا.
وفي أثناء ذلك كانت أستير في خيمة ضرار تنتظر إيليا ...
الفصل السابع عشر
مخابرات الصلح
وكان أهل المدينة يومئذ في ضجر وملل من تأخر المدد عنهم وطول حصرهم. وكأنهم يئسوا من المدد بعد طول الحصار أربعة أشهر، فاجتمع وجوههم عند البطريرك، وقالوا له: «يا أبانا قد دار علينا حصار هؤلاء العرب، ورجونا أن يأتينا مدد من قبل الملك، ولا شك أنه اشتغل عنا بنفسه، وأنهم أشهى منا للقتال، وأنهم من يوم نزلوا علينا لم نخاطبهم بكلمة واحدة ولم نجبهم احتقارا منا لهم، والآن قد عظم علينا الأمر، وإنا نريد منك أن تشرف على هؤلاء العرب، وتنظر ما الذي يريدون منا. فإن كان أمرهم قريبا أجبنا إلى ما يريدون ويطلبون، وإن كان صعبا فتحنا الأبواب، وخرجنا إليهم؛ فإما أن نقتل عن آخرنا وإما نهزمهم عنا.»
1
وكان البطريرك قد بدأ يرى رأيهم ليأسه من المدد خصوصا بعد اختلائه بإيليا، وسماعه رأي الأمير عمرو بن معدي كرب.
2
فأجابهم إلى هذا الطلب «فاشتمل بلباسه، وصعد معهم على السور، وحمل الصليب بين يديه، واجتمع القسس والرهبان حوله وبأيديهم الأناجيل مفتحة والمباخر حتى أشرف على المكان الذي فيه أبو عبيدة.» * «فنادى منهم رجل بلسان فصيح العربية: يا معشر العرب، إن عمدة دين النصرانية وصاحب شريعتها قد أقبل يخاطبكم فليدن منا أميركم.» * فأخبروا أبا عبيدة فجاء أبو عبيدة «وجماعة من الأمراء والصحابة ومعه ترجمان.» * فلما التقى الفريقان تكلم البطريرك فقال: «ما الذي تريدون منا ؟» * فانبرى أبو عبيدة وقال: «خصلة من ثلاث: أولها أن تقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. فإن أجبتم إلى هذه الكلمة كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا.» * «فقال البطريرك:
3
إنها كلمة عظيمة ونحن قائلوها. إلا أن نبيكم محمدا ما نقول إنه رسول، فهذه خصلة لا نجيبكم إليها» * فعرض أبو عبيدة الخصلة الثانية وهي «تأدية الجزية عن يد وهم صاغرون» * فقال البطريرك: «ما كنا بالذي يدخل تحت الذل والصغار أبدا» * فقال أبو عبيدة: إذن نقاتلكم حتى نفتح مدينتكم ونستعبدكم ونغنم أموالكم * فأجاب البطريرك بغضب: لو أقمتم على قتالنا عشرين عاما لما فتحت المدينة لكم، وأنا الآن أقول لكم كلمة واحدة، وهي أن المدينة لا تفتح إلا لأميركم عمر بن الخطاب. فابعثوا في طلبه لأقابله، وألقي إليه مفاتيحها إذا رمتم صلحا حقيقيا فيه شرف لنا ولكم.
فأطرق أبو عبيدة يفكر مليا، وكان راغبا في الصلح حقنا لدماء رجاله. فقال: «إني أبعث إليه بأن يقدم علينا. أفتحبون القتال أم نكف عنكم؟» * وقد قال أبو عبيدة هذا القول؛ ليظهر للبطريرك أن قومه لا يبالون بالحرب. فأجاب البطريرك: «معاشر العرب ألا تدعون بغيكم. أنطلب حقن الدماء وأنتم تأبون إلا القتال؟» * فأمر أبو عبيدة حينئذ بالكف عن القتال، وانصرف البطريرك وحاشيته.
وبعد ذلك اجتمع امراء المسلمين؛ فأبلغهم أبو عبيدة طلب البطريرك «فرفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير.» * فرحا بقرب انتهاء الحرب ودخولهم بيت المقدس. «وقالوا: افعل أيها الأمير، واكتب إلى أمير المؤمنين بذلك فلعله يسير إلينا ويفتح هذا البلد علينا.» * وكان شرحبيل بن حسنة حاضرا، فقال: إن هذا الأمر يطول «فاصبر حتى نقول لهم: إن الخليفة معنا ويتقدم خالد إليهم فإذا نظروا إليه فتحوا الباب وكفينا التعب.» * «وكان خالد بن الوليد أشبه الناس بعمر بن الخطاب.» * ففعلوا ذلك، ولكن البطريرك وأهل المدينة لم تنطل عليهم هذه الحيلة. فقال البطريرك: «يا فتيان العرب كم يكون هذا الخداع فيكم، وحق المسيح لئن لم نر الرجل الموصوف ما نفتح لكم، ولا يرجع أحد منا يكلمكم ولو أقمتم علينا عشرين سنة. ثم ولى ولم يتكلم». *
فعند ذلك كتب أبو عبيدة إلى الإمام عمر الكتاب التالي:
باسم الله الرحمن الرحيم. إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبي عبيدة عامر بن الجراح. أما بعد؛ السلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، واعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون لأهل مدينة إيلياء نقاتلهم أربعة أشهر؛ كل يوم نقاتلهم ويقاتلوننا، ولقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من الثلج والبرد والأمطار. إلا أنهم صابرون على ذلك، ويرجون الله ربهم. فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه أشرف علينا بتركهم الذي يعظمونه، وقال: إنهم يجدون في كتبهم أنه لا يفتح بلدهم إلا صاحب نبينا واسمه عمر، وأنه يعرف صفته ونعته وهو عندهم في كتبهم، وقد سألنا حقن الدماء. فسر إلينا بنفسك، وانجدنا؛ لعل الله يفتح هذه البلدة علينا على يديك. *
ثم إنه طوى الكتاب وختمه * وسأل المسلمين من ينطلق به. فأسرع بالإجابة ميسرة بن مسروق العبسي * فامتطى ناقة له كوماء، وسار يقصد «المدينة» في بلاد العرب وهي كرسي الخلافة الإسلامية يومئذ ومقر السلطنة العربية.
الفصل الثامن عشر
الخليفة عمر بن الخطاب
وسفره إلى الشام
وطوى الرسول عدة ليال لم يذق فيها طعم الكرى * وكان وصوله إلى «المدينة» ليلا * فكره أن ينزل عند أحد من الناس فأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها، ودخل المسجد فسلم على القبر النبوي وقبر أبي بكر، ثم أتى مكانا في المسجد ونام فيه نوما عميقا * فلم يستيقظ إلا على صوت عمر يؤذن، وكان يغلس في الأذان * ثم دخل الإمام إلى المسجد وهو يقول «الصلاة رحمكم الله» * فنهض الرسول في من نهض، وتوضأ وصلى خلف عمر صلاة الفجر، وبعد الصلاة انحرف عمر عن محرابه، فقام الرسول إليه وسلم عليه. فلما نظر عمر إليه صافحه واستبشر، وقال «ميسرة ورب الكعبة. ما وراءك يا ابن مسروق.» * فدفع إليه الرسول الكتاب. فقرأه الإمام على المسلمين الحاضرين في المسجد وفيهم الأمراء والصحابة يتقدمهم علي وعثمان بن عفان * فاستبشر الجميع به؛ لقرب وقوع عاصمة الروم الدينية وبلد الأنبياء في أيديهم. فقال عمر يستشيرهم في الرحيل أو الإقامة: «ما ترون رحمكم الله فيما كتب أبو عبيدة.» * وكان أول من تكلم عثمان بن عفان * فقال: «يا أمير المؤمنين، إن الله قد أذل الروم، وأخرجهم من الشام، ونصر المسلمين عليهم، وقد حاصر أصحابنا مدينة إيلياء وضيقوا عليهم، وهم في كل يوم يزدادون ذلا وضعفا ورعبا. فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف، ولقتالهم مستحقر، فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.» * فقال عمر: «جزاك الله خيرا» * ثم التفت إلى باقي المشيرين، وقال: «هل عند أحد منكم رأي غير هذا؟» * فيظهر أن المنافسة كانت موجودة بين علي وعثمان قبل وصول عثمان إلى الخلافة، ولذلك كان علي يتعرض أحيانا لعثمان كما تقدم. فأجاب «نعم، عندي غير هذا الرأي، وأنا أبديه لك رحمك الله.» * فقال عمر: «ما هو يا أبا الحسن؟» * فأجاب علي: «إن القوم قد سألوك، وفي سؤالهم ذلك فتح للمسلمين، وقد أصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام، وإني أرى أنك إن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك، وكان في مسيرك الأجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة وفي قطع كل واد وصعود كل جبل حتى تقدم عليهم. فإذا أنت قدمت كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح، ولست آمن أن يبأسوا (أي الروم) منك ومن الصلح، ويملكوا حصنهم، ويأتيهم المدد من بلادهم، فيدخل على المسلمين من ذلك الهم والبلاء. لا سيما بيت المقدس عندهم وهو معظم وإليه يحجون فلا يتخلفون عنه، والصواب أن تسير إليهم إن شاء الله تعالى.»
1 * فقال عمر حينئذ: «لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيرا، ولست آخذ إلا بمشورة علي.» * ثم أمر الناس بالاستعداد للمسير معه.
فيا له من زمن صغير كبير ذلك الزمن الذي كانت فيه ملوك الأمم وقوادها يرجعون إلى رجال العقل والفكر في سياسة ممالكهم، ويفصلون في الأمور السياسية الجسام التي عليها تتوقف حياة ممالك ودول عظيمة في مسجد صغير ساذج في مدينة صغيرة ساذجة بدون كلفة بين أفراد من الأصحاب والأصدقاء كأنهم عائلة واحدة.
على طريق الشام
ولما فشا الخبر أن عمر مسافر إلى الشام خرج الناس في المدينة؛ لتوديعه وتشييعه * فأتى عمر المسجد فصلى فيه أربع ركعات، ثم قام إلى القبر النبوي فسلم عليه وعلى قبر أبي بكر * واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب * ثم خرج «على بعير
2
له أحمر وعليه غرارتان؛ في إحداهما سويق، وفي الأخرى تمر، وبين يديه قربة مملوءة ماء، وخلفه جفنة للزاد.» * وكان مرتديا «بمرقعة من صوف وفيها أربع عشرة رقعة بعضها من أدم.» * «وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية وقد عصب بها رأسه». *
هكذا كان لباس الأمير العظيم الذي فتحت له كنوز قيصر وكسرى.
وكان معه جماعة من الصحابة ممن شهدوا واقعة اليرموك، وعادوا إلى المدينة بعدها في جملتهم الزبير وعبادة بن الصامت. *
وانطلق بعير عمر ووراءه مطايا أصحابه في رمال بلاد العرب، وقفارها وسهولها وجبالها يقصد بيت المقدس، وكان عمر إذا نزل منزلا لا يبرح منه حتى يصلي الصبح. فإذا انفتل من الصلاة أقبل على المسلمين وخطب فيهم يحضهم على الاتحاد * وشكر الله على نعمه «ثم يأخذ الجفنة فيملأها سويقا ويصف التمر ويقرب للمسلمين، ويقول: كلو هنيئا مريئا. فيأكل ويأكل المسلمون معه». *
هذه كانت مائدة صاحب السلطنة العربية التي كانت آخذة بالامتداد من شاطئ البحر الأحمر إلى ما وراء الفرات. فلا طباخ ولا تأنق ولا تمتع، وإنما الطعام طبيعي وبسيط يأكله الإنسان ليعيش، بدل أن يعيش ليأكل ويفعم جوفه بالأطعمة المختلفة التي تفسد صحة النفس والبدن.
وبعد مدة وصل الإمام إلى ماء لجذام يدعى «ذات المنار» * وكان هنالك طائفة من عرب جذام. فنزل الأمير على الماء. فبعد حين جاء قوم منهم وقالوا: «يا أمير المؤمنين، إن عندنا رجلا له امرأتان وهما أختان لأب وأم. فغضب عمر وقال علي به. فأتي بالرجل إليه. فقال له عمر: ما هاتان المرأتان؟ فقال الرجل: زوجتاي. قال: فهل بينهما قرابة؟ قال: نعم هما أختان. قال عمر: فما دينك. ألست مسلما؟ قال: بلى. قال عمر: أوما علمت أن هذا حرام عليك، والله يقول في كتابه:
وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف . فقال الرجل: ما علمت، وما هما علي حرام. فغضب عمر وقال: كذبت والله إنه لحرام عليك، ولتخلين سبيل إحداهما وإلا ضربت عنقك. قال الرجل: أفتحكم علي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو. فقال الرجل: إن هذا الدين ما أصبنا فيه خيرا ولقد كنت غنيا عن أن أدخل فيه. قال عمر: ادن مني. فدنا منه. فخفق رأسه بالدرة (السوط) خفقتين وقال له: أتتشاءم بالإسلام يا عدو الله وعدو نفسه. خل يا ويلك سبيل إحداهما وإلا جلدتك جلدة المفتري. فقال الرجل: كيف أصنع بهما وأنا أحبهما، ولكن أقرع بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي وإن كنت لهما جميعا محبا. فأمر عمر فاقترع. فوقعت القرعة على إحداهما فأمسكها وطلق الثانية. ثم أقبل عليه عمر وقال له: اسمع يا ذا الرجل، وع ما أقول لك: إنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه. فإياك أن تفارق الإسلام، وإياك يبلغني أنك قد أصبت أخت امرأتك التي فارقتها فإنك إن فعلت ذلك رجمتك.»
3 *
ثم انطلق عمر فمر في طريقه بحي من بني مرة «فإذا بقوم قد أقيموا في الشمس يعذبون. فقال لهم عمر: ما بال هؤلاء يعذبون؟ فقيل: عليهم خراج. قال: فما يقولون؟ قال: يقولون: ما نجد ما نؤدي. فقال عمر: دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون.» * فخلوا سبيلهم.
ثم سار «حتى إذا كان بوادي القرى أخبروه أن شيخا على الماء، وله صديق يوده فقال له صديقه: هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيبا وأكفيك رعي إبلك والقيام عليها؟ قال له الشيخ: قد فعلت. فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا فقال: ويلكما ما دينكما؟ قالا: الإسلام. قال عمر: فما الذي بلغني عنكما ، أما علمتما أن ذلك حرام في دين الإسلام؟ قالا: لا والله ما علمنا ذلك. فقال عمر للشاب: إن بلغني عنك شيء من ذلك بعد ضربت عنقك». *
وكان عمر قد كتب إلى أمراء الجند في بيت المقدس أن يلاقوه بالجابية
4
ليوم سماه لهم. فلما بلغ جند الشام خبر قدومه «ارتج الناس وهموا أن يركبوا لاستقباله بأجمعهم. فقال لهم أبو عبيدة: «عزيمة على كل رجل أن لا يخرج من مركزه.» * ثم سار أبو عبيدة في أناس من المهاجرين والأنصار. فلما وصل عمر إلى الجابية كان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبو عبيدة، ثم خالد بن الوليد، وهم على الخيول وعليهم الديباج والحرير * فنزل عمر وأخذ الحجارة ورماهم بها للبسهم ملابس الروم، وقال: «ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم. إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين؟ وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم.»
5
فقالوا: «يا أمير المؤمنين إنها يلامعة» أي (سلاح يلمع) قال: «فنعم إذن»
6
ثم ركب حتى دخل الجابية.
وما استقر المقام بعمر في الجابية ليستريح من وعثاء السفر حتى تقدم إليه رجل غريب الزي وقال: «يا أمير المؤمنين، إنك لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء
7
فالتفت عمر إلى أبي عبيدة وسأله: من هذا الرجل؟ (- فأجاب أبو عبيدة: هو يوسف اليهودي الذي طلب أن يتقدمنا إلى بيت المقدس. فلم يلتفت عمر إليه، وعند الفجر صلى عمر بالمسلمين صلاة الفجر، ثم خطب فيهم خطبة حسنة حض فيها الحاضرين على الاتحاد وشكر الله وقرأ الآية:
من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا * وكان قس من المسيحيين حاضرا فقال: «إن الله لا يضل أحدا.»
8 * فلما كرر القس هذا القول قال عمر: «إن عاد إلى قوله فاضربوا عنقه.» * فسكت القس * وحينئذ همس أبو عبيدة (- في أذن الأمير عمر: حيا الله الأمير وبياه فإنه كره العقاب إلا بعد الإنذار مع أن الرجل عاد علينا. فلا عجب في أن يحبنا مخالفونا؛ لتساهلنا إلى هذا الحد.
ثم أخذ أبو عبيدة يحدث عمر بما لقي الجند من الروم، وعمر باهت؛ فتارة يبكي وتارة يهدأ. فلم يزل كذلك إلى أن حضرت صلاة الظهر. فقال الناس: يا أمير المؤمنين، اسأل بلالا أن يؤذن لنا * وبلال هو العبد الذي كان مؤذن النبي، وكان قد حضر إلى بيت المقدس اغتناما لأجر القتال في سبيل فتحها. فقال عمر لبلال: «يا بلال، إن أصحاب رسول الله يسألون أن تؤذن لهم وتذكرهم أوقات نبيهم.» * «فقال بلال: نعم.» ثم أخذ يؤذن الظهر. «فلما قال: الله أكبر خشعت جلودهم واقشعرت أبدانهم. فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله بكى الناس بكاء شديدا حتى كادت قلوبهم تتصدع عند ذكر الله ورسوله». *
ويظهر أن بلالا رأى في جند المسلمين شيئا جديدا لم يره من قبل، وفي الحقيقة أن هذا الشيء ليس بالجديد فإنه أزلي لوجوده منذ وجود الإنسان تقريبا، وهو أن أكابر المسلمين وأجناد الشام كانوا «يأكلون لحوم الطيور والخبز النقي.» * والضعفاء كثيرا ما كانوا لا ينالون شيئا، وبما أن بلالا قد نشأ في أحضان النبوة فقد رأى لنفسه حق الشكوى من هذه الحالة الجديدة. فشكى ذلك بعد الأذان إلى الإمام عمر * مختتما قوله بهذه العبارة: «الكل يفنى، ومآله إلى التراب، ومصيرنا إليه.» * فأجابه يزيد بن أبي سفيان «إنا لنصيب ما قاله بلال ها هنا مثل ما كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز؛ لأن الأسعار رخيصة في بلادنا هذه.» * فقال عمر: «إن الأمر كما ذكرت فكلوا هنيئا مريئا» * ولكنه أردف ذلك بقوله: إنه سيفرض لكل أهل بيت ما يكفيهم من البر والشعير والعسل والزيت وما يحتاجون إليه.
فنحن إذا رمنا أن نسمي هذا الأمر باسمه العلمي المألوف اليوم فإننا نقول: إن الإمام باهتمامه هذا كان يهتم بالمسألة الاجتماعية العظمى، وغني عن البيان أن المبدأ المسيحي والمبدأ الإسلامي في هذه المسألة مناقضان لمبدأ المدنية الحاضرة القائمة على مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأفضل، ولكن المدنية الحاضرة بدأت تعود إلى المبدأ المسيحي والمبدأ الإسلامي من حيث اهتمام الهيئة الاجتماعية بجميع الأفراد، وهو مبدأ الاشتراكية الجديد الذي قد طما سيله على أوروبا، ولا يعرف مستقبله الآن معرفة جلية.
ولما سمع أبو عبيدة جواب يزيد وحكم عمر انحرف نحو الأمير، وقال: «لقد أحسن أمير المؤمنين، ورأيه الموفق إن شاء الله في إسعاد أحوال فقراء المسلمين. فإن المسلمين إخوة وهم بعضهم لبعض كالبناء المرصوص، لا كالروم الذين يتمتع أغنياؤهم بملاذ الدنيا ويتركون فقراءهم كالكلاب».
ولكن أبا عبيدة كان يجهل ويا للأسف أن ما حل بالروم في مدينتهم الواسعة سيحل بالمسلمين أيضا عند اتساع مدينتهم ويقوم يومئذ «حق الملكية
9
المطلق» الذي عليه مدار المعاملات في هذا العصر مقام كل شيء.
ولما هم عمر بالرحيل إلى معسكر المسلمين قرب بيت المقدس، وهو على بعيره وعليه مرقعته، قال له بعض الأمراء: «يا أمير المؤمنين، لو ركبت بدل بعيرك جوادا ولبست ثيابا بيضا.» * لاستقبال الروم بها. فأجابهم عمر إلى ذلك: «فلبس ثيابا مصنوعة في مصر تساوي خمسة عشر درهما
10
وطرح على عاتقه منديلا من كتان ليس جديدا ولا بالخلق دفعه إليه أبو عبيدة، وقدم إليه برذون أشهب من براذين الروم.» * فلما صار عمر على ظهر البرذون يهملج به ويتجلجل ويختال. فأسرع عمر إلى النزول عنه وضرب وجه البرذون وقال: «لا أعلم من علمك هذه الخيلاء»
11
ثم التفت إلى أصحابه وقال: «أقيلوا عثرتي أقال الله عثرتكم يوم القيامة فقد كاد أميركم أن يهلك بما دخل قلبي من العجب والكبر، وإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر» ولقد كاد أن يهلكني ثوبكم الأبيض وبرذونكم المهملج.» * ثم إن عمر خلع الثوب الأبيض وعاد إلى مرقعته وبعيره.
فيا لجمال هذه الحركة التي نبذ بها عمر الثوب المصري الأبيض؛ ليعود إلى لبس المرقعة الصوفية، وأبعد الفرس المختال؛ ليعود إلى البعير الذلول المتضع، وربما يظهر ذلك لأبناء هذا العصر حتى المسلمين أنفسهم أمرا غريبا صغيرا، ولكن الذين يعرفون سر فعل عمر لا يستغربون صنعه. نعم، إن كل ما في الأرض من شقاء وشرور وفساد مصدره شيء واحد وهو «كبرياء الإنسان» فالإنسان لا يحلل كل المحرمات في سبيل جمع المال وإنماء الثروة إلا إرضاء لكبريائه. لا يسطو فرد على فرد أو شعب على شعب لإذلاله وسلب ما في يده إلا لإرضاء كبريائه. لا يرى الإنسان متصدرا مختالا فخورا كأنه مفرد في الدنيا كلها وكأن الدنيا كلها ملك يده مع أنه أصغر من فيها، إلا إرضاء لكبريائه. لا تسخر الألوف من البشر في بناء المدن والقصور وصنع الزخارف وحشد الجنود وإقامة المعامل التي تشقى فيها فئة من البشر لتستعد بها فئة أخرى، إلا إرضاء لكبريائه. فمتى محيت هذه الكلمة «الكبرياء» من قواميس البشر ومن نفوسهم فحينئذ تصبح الأرض مكانا طيبا ويبطل أصل الفساد فيها. حينئذ لا يعود فيها سيد ومسود، وعبد وحر، وكبير وصغير، وغني وفقير. بل يكون الجميع أخوة في الاتضاع والدعة والسذاجة ومكارم الأخلاق كما يكون الأولاد في طور سذاجتهم، فلنخفضن هنا رءوسنا احتراما للإمام الجليل الذي رام بتلك الحركة الجميلة سحق أفعى الكبرياء في نفسه ونفس أمته، ولنؤاخين بين هذه الحركة الجميلة وقول كتاب المسيحيين: «إن لم ترجعوا وتصيروا كالأولاد فلا تدخلوا ملكوت السموات» - فإن هذه بمعنى تلك وتلك بمعنى هذه.
الفصل التاسع عشر
بين الإمام عمر والبطريرك صفرونيوس
فتح المدينة صلحا
ثم سار عمر من الجابية وحوله أمراء المسلمين، وما زال سائرا حتى أشرف على معسكر الجند وبيت المقدس. فلما ظهرت له المدينة صاح: «الله أكبر، اللهم افتح لنا فتحا يسيرا، واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا.» * وما أشرف عمر بموكبه على المعسكر حتى قامت العشائر والقبائل على ساق وقدم، وهرعت لاستقباله بالتهليل والتكبير * فارتجت الأرض، وأشرف أهل المدينة من على الأسوار؛ ليعلموا سبب تلك الضجة الهائلة، ولما علموا بمقدم عمر ذهب أحدهم وأخبر البطريرك: «فأطرق البطريرك ولم يتكلم.» * أما عمر فإنه نزل في خيمة من شعر * ضربت له بجانب خيمة أبي عبيدة * «فجلس فيها هناك على التراب. ثم قام يصلي أربع ركعات». *
وبات العرب تلك الليلة فرحين بمقدم أميرهم وخليفتهم. فلما كان الغد وصلى عمر صلاة الفجر قال لأبي عبيدة: «يا عامر تقدم إلى القوم وأعلمهم أني قد أتيت.» * فذهب أبو عبيدة، وأبلغ الواقفين على الأسوار هذا الخبر. فذهبوا وأعلموا البطريرك «فخرج البطريرك من كنيسته وعليه المسوح، وترجل الرهبان والقسس والأساقفة معه، وقد حمل بين يديه صليب لا يخرجونه إلا في عيدهم، وسار معه والي المدينة وهو يقول للبطريرك: يا أبانا إن كنت تعرفه معرفة حقيقية وإلا فلا تفتح له، ودعنا وهؤلاء العرب؛ فإما نبيدهم وإما أن يبيدونا.» * فأجابه البطريرك (- يا ولدي، إن ولدنا إيليا الذي تعرفه كان يطوف أمس على الأسوار فأبصر الفارس الذي ذكره لنا، وهو ابن معدي كرب، فأرسل إليه هذا الفارس نبلة وقد ربط بها كتابا فيه ثلاث كلمات باللغة اليونانية، وهي هذه: «لقد وفد عمر» ولست أشك في صدق هذا الرجل بعد ما بلغني عنه، وفضلا عن ذلك فإن ولدنا يوحنا الغساني يعرف الأمير؛ لأن بعض عرب المدينة وصفوه له. فقال الوالي: وما صفته؟ فقال البطريرك: هو في الخامسة والخمسين من العمر
1
أصلع طويل يظهر لطوله كأنه راكب. أبيض أشيب أبهق (أي شديد البياض) تعلوه حمرة، وهو يصفر لحيته، ويرجل رأسه».
2
فلما أشرف البطريرك ورجاله على أبي عبيدة من عن السور قال البطريرك: «ما تشاء أيها الشيخ الباهي» * فأجاب أبو عبيدة: «هذا أمير المؤمنين عمر، وليس عليه أمير، قد أتى فاخرجوا إليه، واعقدوا معه الأمان» * فقال البطريرك: «يا ذا الرجل، إن كان صاحبك الذي ليس عليه أمير قد أتى فدعه يدنو منا.» * وأقرئه عني السلام (- وقل له: إنني أحب مقابلته، فاستغرب أبو عبيدة هذه اللهجة الودادية الجديدة. فعاد إلى عمر وأبلغه جواب البطريرك، ولكنه لم يبلغه سلامه إلا همسا في إذنه. فأطرق عمر ثم هم بالقيام * «فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، أتخرج إليهم منفردا وليس عليك آلة حرب غير هذه المرقعة، وإنا نخشى عليك منهم غدرا أو مكرا فينالون منك.» * فلم يجب عمر، ولكنه قرأ الآية: *
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون
ثم استوى على بعيره وعليه مرقعته «وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية وقد عصب بها رأسه، وليس معه إلا أبو عبيدة وهو سائر بين يديه حتى قرب من السور، ووقف بإزاء السور والبطريرك والوالي». *
وكان يوحنا الغساني الذي تقدم ذكره واقفا وراءهما.
فلما دنا عمر من السور، ووقع نظر يوحنا عليه همس يوحنا في أذن البطريرك والوالى قائلا: وحياة العذراء مريم هذا هو.
فأحنى البطريرك رأسه مسلما، ونادى من أعلى السور: افتحوا الباب للأمير.
فلم يفهم عمر كلام البطريرك، ولكنه لم يلبث أن أبصر الباب يفتح في وجهه، وخرج الناس منه * «فتواضع عمر حينئذ لله وخر ساجدا على قنب بعيره.» * ثم نزل لملاقاة البطريرك؛ إذ أعلموه أنه قادم لاستقباله.
وبعد دقيقتين ظهر البطريرك صفرونيوس في الباب، ومعه قس من أخصائه يعرف العربية ليترجم له. فلما رآه عمر وأبو عبيدة تقدم الأول وتنحى الثاني.
وكانت الأسوار حينئذ غاصة بالناس، وهم يتطالون ليشاهدوا ملتقى عميدي المسيحية والإسلام، وكأن على رءوسهم الطير.
أما قبائل العرب من بعيد فإنها كانت تهلل وتكبر ابتهاجا بفتح بلد عيسى وموطن الأنبياء.
ولما دنا عمر من البطريرك مد البطريرك إليه يده مصافحا فمد عمر يده إليه، وكان البطريرك ينظر في وجه عمر وعمر ينظر في وجه البطريرك. فيظهر أن نفسيهما اتفقتا لأول نظرة؛ لأن النفوس الكبيرة تتعارف حين التقائها بالنظر كما يتعارف باقي الناس بالكلام. فابتدأ البطريرك الحديث بقوله: لقد طلبت أن يكون الأمير الكريم متولي عقد الصلح بيننا؛ لأنني إذا وضعت هذه المدينة المقدسة في عهده وذمته خاصة أكون في أمن عليها وعلى أهلها من كل وجه، وأنا الآن ألقي مفاتيحها إليه.
فلما ترجم الترجمان هذا الكلام لعمر أشار عمر برأسه موافقا على كلام البطريرك، وأجاب: المسلم من حفظ العهد ورعى الود، ونحن جميعا عباد الله فعلينا أن نكفل بعضنا بعضا.
فسر البطريرك بهذا الجواب، وعلم أنه وضع ثقته في من هو أهل لكل ثقة. فطلب من الأمير أن يدخل معه إلى غرفة قرب باب السور؛ ليخلو به فيها بضع دقائق. فلم يتردد الأمير في الدخول بل مد رجله وتخطى عتبة الباب. فلما رآه أبو عبيدة يضع قدمه في تلك المدينة المدججة بالسلاح ليدخل إليها وحده اصفر وجهه خوفا عليه، وكأن البطريرك قد تنبه لذلك من تلقاء نفسه. فإنه لما رأى اصفرار وجه أبي عبيدة تألم من سوء الظن ووقف ممتنعا عن الدخول بالأمير. ففهم حينئذ عمر ذلك فنظر إلى أبي عبيدة، وابتسم ابتسامة تأنيب، ثم دخل مع البطريرك.
يروى في التاريخ القديم: أن إسكندر الكبير كان يثق بطبيب له كل الثقة. ففي ذات يوم ورده كتاب فحواه أن هذا الطبيب عازم على تسميمه، واتفق أن الإسكندر فرغ من تلاوة هذا الكتاب حين دخول طبيبه عليه يحمل له كأس دواء. فتناول الإسكندر الكأس في يد وناوله الكتاب في يد أخرى. ثم شرب الكأس قبل أن يقرأ طبيبه ذلك الكتاب * فالمؤرخون والكتاب يهتفون هتاف الدهشة حين وقوفهم على هذا الأمر إعجابا بثقة الإسكندر وشجاعته، ويقولون: إنه لا يصدر إلا عن نفس عظيمة كنفس الإسكندر. قلنا: ولكن صنع عمر هذا ليس بأقل من صنع الإسكندر.
وكانت الغرفة التي اجتمع فيها عمر والبطريرك بجانب باب السور، ولم يكن معهما غير القس ترجمان البطريرك.
فقال الأمير بعد جلوسه موجها السؤال إلى الترجمان: ماذا يريد البترك؟
فأجاب البطريرك: أريد قبل كل شيء صداقة أمير مثلك. فإننا نحن معاشر رؤساء الأمم تجمعنا جامعة الرئاسة وإن فرقت بيننا المذاهب، وكلنا نعبد إلها واحدا لا إله إلا هو ولا شريك له، وعلينا تدبير نفوس رعايانا لإبقائها في سبيل الفضيلة والخير. فإذا اختلفنا في الجزئيات والظواهر فنحن متفقون في الكليات والبواطن. فعلينا إذن أن ننظر إلى ما يجمعنا لا إلى ما يفرقنا، ولذلك أطلب من الأمير ثلاثة أمور: الأول؛ أن يكتب لنا عهدا بالصلح نحفظه عندنا للمستقبل، والثاني؛ أن يوصي رجاله بأن لا يتعرضوا لأحد منا في دينه، والثالث ؛ أن لا يصلي بجانب قبر المسيح في كنيستنا الكبرى؛ لأنه يعلم أنه إذا صلى هناك طلب المسلمون جعل المكان مسجدا.
فلما ترجم هذا الكلام للأمير أطرق، ثم قال: أهذا كل ما يريده البترك. فقيل له: نعم. فنهض عمر ووضع يده في يد البطريك، وقال: نحن كما قلت. أما العهد فسأكتبه الساعة وأرسله إليك، ولولا رغبتي في أن يشهد عليه شهود من المسلمين لئلا يشتبه به في ما يأتي من الزمن لكتبته الآن، وأما الوصية: فوالله الذي نفس عمر في يده إنكم لا تجدون أحدا منا يعتدي على أحد منكم بغيا وظلما، وعندنا:
لا إكراه في الدين ، وأما الصلاة بجانب قبر عيسى - عليه السلام - فسأفعل ما ذكرت؛ لأنني أشد رغبة منكم في اجتناب النزاع على قبر عيسى في مستقبل الزمان، وأنتم أحق منا به.
ثم هم الأمير بالخروج فمد البطريرك حينئذ يده إلى جيبه وتناول منها رقا مطويا. ثم ناوله للأمير يدا بيد، وقال للترجمان: أخبره أن هذا الرق مكتوب بلغتنا، وفيه أمر سري لا أحب أن يعلم أحد أنني صاحبه. فليمعن فيه النظر ثم يعيده إلي غدا أو بعده.
فأخذ الإمام عمر الرق، ووضعه في ثيابه، ثم خرج مودعا، ولما ظهر الإمام لأبي عبيدة من الباب تنفس أبو عبيدة الصعداء، وحمد الله على سلامته. ثم سارا معا عائدين إلى معسكر المسلمين. فاستقبلهما المسلمون بهتاف طبق السماء ابتهاجا بفتح المدينة، وقبل الظهر كتب الإمام عمر عهد الصلح، وأرسله مع أحد رجاله إلى البطريرك وهذه صورته:
3
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من حليهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم
4
واللصوص؛ فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان (كذا) فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب وحضر سنة 15.
فيا أورشليم استعدي فهذا عنصر جديد قد انضم إلى عناصرك. وكل محب للشرق يتمنى لو لم يكن هذا الانضمام؛ لأنه سيجر على الشرق كله ويلات هائلة.
5
سيأتي يوم يا أورشليم الجميلة ينسى فيه هذا العهد العمري فتشتد دواعي الجهل والبغض بين عناصرك، وحينئذ يختل ميزان العدل بين الناس، ويفشو الاضطهاد، فيتخذ الغرب هذا الأمر حجة للزحف على شرقك رغبة في استخلاصك. حينئذ تقوم حرب هائلة بين الشرق والغرب، وهي الحروب التي سيسمونها حروبا صليبية، وستجني هذه الحروب يا أورشليم على الشرق جناية هائلة؛ لأنها ستكون من أسباب زوال مدينته العظمى، وانتقالها إلى الأمم الغربية، وزيادة الأحقاد بين العناصر البشرية زيادة تشوه، وا أسفاه، وجه الإنسانية.
الفصل العشرون
في حيز هيكل سليمان القديم
المسجد الأقصى - عود إلى أستير
وبينما كان البطريرك يتلو صورة العهد الذي أرسله عمر إليه، ويتأمل فيه وفي قوله: «أن يخرجوا الروم» كان عمر منفردا بأبي عبيدة يسأله ترجمانا لترجمة ما في الرق الذي دفعه البطريرك إليه. فقال أبو عبيدة: العجب من أنه لم يعهد البترك إلى ترجمانه ترجمته لأمير المؤمنين. فقال عمر: لعله يا عامر يكره أن يعلم به أحد من قومه فهات من يترجمه لنا.
فبعث أبو عبيدة في طلب اليهودي يوسف.
فلما وفد الشيخ أبو أستير كان مضطربا دامع العين، فسأله أبو عبيدة عن سبب بكائه، فاشتد بكاؤه وأجاب أنه رام الرحيل بعيلته منذ مدة لمعالجة اعتلال ألم بابنته فحالوا دون سفره، فسأله أبو عبيدة: ومن حال دون سفرك؟ فسكت يوسف.
وكان الإمام عمر يسمع الحديث فقال دون أن يلتفت إلى يوسف: يا ذا الرجل قل من حال دون سفرك؟
فأجاب الشيخ: ضرار وابن معدي كرب.
فأصلح عمر جلوسه في مقعده وقال: مأرب لا حفاوة، ثم قال مخاطبا أبا عبيدة: يا عامر انظر في أمر الرجل فإنني أرى هنا ظلامة.
فانفرد أبو عبيدة بالشيخ واستخبره الخبر. فعلم منه أن ضرارا وعمر بن معدي كرب قد تبارزا في ذلك الصباح، وكاد يجري دم أحدهما لولا دخول بعض المسلمين بينهما، وسبب ذلك: أن عمر بن معدي كرب كان يطلب نقل الشيخ أبي أستير إلى خيمته من خيمة ضرار وضرار يأبى ذلك. فسأل أبو عبيدة الشيخ: وأنت في أي الخيمتين تريد الإقامة؟ فأجاب الشيخ مضطربا: أما أنا فإنني أستأذن في السفر أيها الأمير، فإن ابنتي في اعتلال شديد، وقد سهرت طول الليلة عليها. فقال أبو عبيدة: متى شئت فارحل، وإذا منعك أحد فأخبرني لكن قبل رحيلك ينبغي أن تدخل معنا غدا إلى بيت المقدس؛ لتكون دليلنا فيها.
ثم ذهب أبو عبيدة وهمس بضع كلمات في أذن عمر. فأنغض الإمام رأسه وقال: «إنهن فتنة للعالمين» وبعد ذلك دفع أبو عبيدة «الرق السري» إلى الشيخ وقال له: ترجم لنا هذا الرق، واكتب ترجمته على رق آخر، وادفعهما إلينا ثم عد من حيث أتيت.
فأطاع الشيخ وفعل ذلك، ثم عاد مسرورا بأنه سينقذ ابنته من مخلبي أسدين.
ولكن الشيخ كان يتساءل وهو خارج من خيمة الإمام بقوله: ترى من هو صاحب هذا الاقتراح الغريب الذي يسقط آمالنا في مملكتنا، وبقي يفكر في ذلك طول الطريق.
أما عمر فبعد خروج الشيخ تناول ترجمة الرق باهتمام وصار يتلوها، وكان تارة يبتسم في أثناء تلاوتها وطورا يعبس، ولما أتى عليها أعاد النظر فيها، ثم بعد فراغه منها ألقاها إلى أبي عبيدة وهو يبتسم فتلاها أبو عبيدة، ثم نظر إلى عمر مدهوشا. فضحك عمر ، وقال: مزق الترجمة يا عامر، وسأرد الأصل إلى صاحبه. •••
وبما أننا قد عدنا إلى أستير بعد التفاصيل الطويلة التي تقدمت، فيجب أن نذكر ما جرى لها بعد دخول إيليا إلى المدينة.
بقيت أستير تنتظر إيليا في ذلك النهار حتى جن الليل، ولما أبطأ ظنت أنه ذهب إلى خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب حسبما طلب الأمير. فنامت تلك الليلة مضطربة، وقد رأت في الحلم في تلك الليلة أن إيليا جاث أمامها يعيد لها التصريح بحبه. فانتبهت في الصباح وقد زاد حبها له.
لكن في الصباح لم يأت إيليا.
فلما تعالت الشمس ولم يأت إيليا أيضا ازداد قلق أستير، وكان أرميا يكثر التردد عليها وينظر إليها نظرات خصوصية لم تفهم معناها، وكان كأنه يقول لها بتلك النظرات: «لقد أبعدته عنك إلى الأبد». فلما انتصف النهار ولم يأت إيليا أيضا قالت أستير لأرميا: يا كيريه أرميا أين ذهب كيريه إيليا هل بات الليلة عند عمرو بن معدي كرب؟ فابتسم حينئذ أرميا ابتسامة شيطانية، وقال: كلا أيتها السيدة. إن كيريه إيليا قد رحل إلى المدينة.
فأجفلت أستير لهذا الكلام، وشعر أرميا ببغتتها، فقال ليجهز على آمالها: والأرجح عندي أيتها السيدة أنه لا يعود؛ لأنه ودعني وداع فراق طويل.
فصاحت أستير: ولماذا لم تخبرني بذلك قبل الآن؟ فأجاب أرميا وقد استشاط غضبا: لأنك لم تسأليني عنه، وما أهمية رحيله، فإن الأرض لا تزال أرضا.
نعم يا أرميا، إن الأرض عندك لا تزال أرضا لم تتغير ولم تتبدل، ولكن قلب أستير كان قد تغير وتبدل، وليس شيء كالجفاء يغير قلوب النساء. فإن أستير مع حبها لإيليا في ما سبق قد قدرت على فراقه في المزرعة فرارا منه، وقد شعرت يومئذ أنها بفعلها هذا قد فعلت فعلا جميلا ساميا؛ لأن ذكر «واجباتها لدين آبائها ولأمها» كان يعزيها عن كل شيء، ولكن لما تركها إيليا وذهب عنها تغير وجه المسألة عندها. فإن هذا الجفاء منه أحدث في نفسها حدثين عظيمين: الأول أنه زاد حبها له وهذا شأن الجفاء على الدوام، والثاني أنه جرح كبرياءها وأنانيتها جرحا بليغا، ولهذين السببين صارت أستير لا تطيق ترك إيليا قبل معرفة سبب جفائه هذا.
ومنذ هذا اليوم بدأت أستير تنحل وتذبل كزهرة انقطعت عنها مادة حياتها، وصارت تذهب في كل يوم إلى طريق المدينة مع أبيها؛ لعلها تجد إيليا راجعا، وكان يذهب أكثر الليل وهي قاعدة على فراشها، وإذا نامت قبيل الصباح قليلا فإن صورة إيليا كانت تطاردها في رقادها، وكان يتمثل لها إيليا في أحلامها هذه غاضبا عليها معرضا عنها، فتنتبه باكية مذعورة، وتبقى النهار كله مفكرة متألمة.
فلما مضت على أستير بضعة أيام على هذا المنوال هزلت، وانقلب لونها الوردي إلى الاصفرار، وقل طعامها. فجزع عليها أبوها وأمها جزعا شديدا، ولكنهما لم يقفا على سبب علتها؛ لأن الآباء والأمهات قلما يقفون على أمثال هذه العلل.
وفي أثناء ذلك اشتد التحاسد عليها بين ضرار وعمرو بن معدي كرب، واغتاظت أستير من تعرضهما لها، فعزم أبوها على الرحيل بها عن معسكر العرب. إلا أن أستير رفضت السفر لغير المدينة المقدسة، وأقنعت أمها العجوز المتدينة بالإقامة لحضور الحفلة الكبرى التي سيقيمها العرب؛ لإعادة بناء هيكل اليهود القديم. فتمسكت العجوز بهذا المطلب؛ لأنه كان من أقصى أمانيها كما تقدم.
وكان اليوم الذي تم فيه عقد الصلح يوم أحد من شهر آذار * ففي مساء اليوم التالى وهو يوم الإثنين عزم الإمام عمر على دخول المدينة؛ لتخطيط مسجد فيها * فركب في نخبة من أمراء المسلمين وأعيانهم، ودخل إلى المدينة ليلا. فاضطربت المدينة لدخولهم، وصار الناس يسترقون النظر إليهم من النوافذ، وكان الشيخ أبو أستير معهم في دخولهم؛ ليدلهم فيها، وأمامه حمار عليه زوجته العجوز وابنته أستير وهي تكاد لا تستطيع الاستواء على مطيتها من الضعف والاعتلال.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن أرميا كان وراء مطيتها بجانب أبيها.
ولما صار عمر ورجاله في المدينة أخذهم الشيخ إلى دائرة الحرم الحالية. فلما أشرفوا على هذا المكان الذي فيه المسجد الأقصى وبيت المقدس هللوا وكبروا، وكان بيت المقدس
1
مدفونا بالتراب وفضلات المنازل، ولم يكن ظاهرا منه غير الجدار الذي في زاوية سور الحرم إلى الجنوب الغربي، وهو من آثار هيرودوس الكبير * ولا يزال إلى اليوم مناحة الإسرائيليين كما تقدم في موضع آخر.
فترجل عمر ورجاله ودخلوا دائرة بيت المقدس * ولم يلبث أن بزغ الفجر، فصلوا فيها صلاة الفجر. *
وما كاد عمر يصلي صلاة الفجر حتى قيل له: إن رجلا من أعيان الإسرائيليين قد وفد من أحد بلدان فلسطين يريد لقاء الإمام * ثم أدخل عليه كعب الأحبار * فسلم كعب * فرد عمر السلام، وقال له: «من أنت؟» فأجاب الرجل: «أنا كعب الأحبار، وإنني جئت أريد الإسلام، والدخول فيه.» * فقال عمر: «أحقا ما تقول يا كعب؟» قال: «الله يسمع ما أقول، ويعلم ما تخفي الصدور. لكن يا أمير المؤمنين هل ورد في كتابكم الذي أنزل عليكم في أمر دينكم ذكر إبراهيم؟» فقال عمر: نعم، وقرأ له الآيات التي ذكر فيها إبراهيم. منها:
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون
فأسلم حينئذ كعب وفرح المسلمون بإسلامه. *
أما أبو أستير فإنه اضطرب لإسلام كعب، وقال في نفسه: إننا لا نستفيد شيئا إذا كانت أمتنا ستضيع في الإسلام كما تضيع جرة ماء في البحر، وهيكلنا سينتقل من يد عدو قديم إلى يد عدو جديد.
ولما أشرقت الشمس سأل عمر عن «بيت المقدس»
2
وذهب إليه مع كعب الأحبار وجمهور المسلمين، وفي دخوله إلى ذلك المكان قال: «ارقبوا لي كعبا» * ثم قال: «أيها الناس اصنعوا كما أصنع» *، وبعد ذلك جثا الإمام على تراب الأرض، وأخذ فرجا من فروج قبائه، ووضع فيه التراب لينقله، ويكشف عن آثار المكان * وإذا به يسمع تكبير أصحابه وراءه * فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره * فطلب كعبا فأتي به فسأله عن سبب تكبيره. فأجاب أن أحد أنبياء بني إسرائيل تنبأ منذ عدة قرون بما يفعله الأمير الآن من إكرام هذا المكان بعد إهانته، وكان عمر قد قصد بكشف التراب تخطيط جامع هناك فوق الصخرة
3
وهو المعروف اليوم بجامعه * فسأل كعبا: «أين ترى أن نجعل المصلى؟» فأجاب كعب «إلى الصخرة» فقال عمر: «ضاهيت والله اليهودية يا كعب، وقد رأيتك وخلعك نعليك؟» فأجاب: «أحببت أن أباشره بقدمي» فقال عمر: قد رأيتك. بل نجعل قبلته صدره كما جعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبلة مساجدنا صدورها. اذهب فإنا لم نؤمر بالصخرة، ولكن أمرنا بالكعبة. *
ومنذ هذا اليوم ارتفعت تحت سماء أورشليم جدران هيكل سليمان القديم الذي هدمته المسيحية؛ لأنه كان السبب في صلب صاحب شريعتها.
وقد أقام عمر في بيت المقدس من يوم الإثنين إلى يوم الجمعة * فلما كان يوم الجمعة كان عمر قد فرغ من تخطيط مسجده، وعزم على الصلاة فيه بالمسلمين * فيظهر أن الروم بعد أن شاهدوا العرب من قريب ازدروا بهم واستضعفوهم، وندموا على مصالحتهم، فتآمر بعض غلاتهم على نقض الصلح، والهجوم على أمراء المسلمين في يوم الجمعة في المدينة، فإذا قبضوا عليهم أو قتلوهم بقي المسلمون بلا قواد؛ فيضعف أمرهم وتتفرق كلمتهم
4
فلما علم البطريرك بهذه المؤامرة غضب، وبعث ينذر المحرضين عليها بسوء المنقلب إذا خانوا العهد. فبدا لهؤلاء المحرضين أمر آخر وهو أنهم أوعزوا إلى فريق من أهل المدينة أن يبدوا زيناتهم وأموالهم، ويخرجوا الحسان إلى الأسواق والشوارع لعل العرب يمدون أيديهم إلى تلك الأموال والنفائس؛ فيكون لأهل المدينة عذر في نقض الصلح. فبينما كان عمر يستعد لصلاة الظهر في يوم الجمعة وإذ قد وفد عليه رسول من قبل البطريرك ومعه القس الترجمان فأدخلوهما على عمر، وكان الشيخ أبو أستير واقفا مع أستير في ذلك الحين بعيدا عن مضرب الأمير في دائرة الحرم يريها حدود هيكلهم القديم. فلما مر الرسول والترجمان من أمامهما صاحت أستير، وامتقع لونها. ذلك لأن هذا الرسول كان إيليا.
ولكن إيليا لم ينتبه للفتاة وأبيها، فبقي داخلا مع الترجمان على الأمير عمر، ولما مثل بين يديه أخبره من قبل البطريرك بما قصده بعض متحمسي العوام، وسأله أن يوصي قومه بأن لا يدعوا لهم سبيلا إلى ما يريدونه. فسر عمر بصدق نصيحة البطريرك، وأوصى المسلمين في صلاة الجمعة بما أوصى، وبعد الصلاة ذهب أبو عبيدة يتجول بنفسه في الأسواق مع بعض رجاله، وكلما وقعت أنظارهم على الحلي والنفائس والنساء الحسان كانوا يقولون: «الحمد لله الذي أورثنا ديار قوم لهم مثل هذا» *، وهكذا لم يلمس أحد من المسلمين متاعا لأحد من أهل المدينة. فلما سمع البطريرك بذلك قال: «لا يقوى أحد على هؤلاء ما داموا على ما هم عليه من التزام الحق».
5
وبعد أن أبلغ إيليا الإمام عمر هذه الرسالة بقيت عليه رسالة أخرى تقتضي مقابلة الأمير وحده. فاستأذن إيليا منه بالإنفراد به فأذن عمر في ذلك. فلما صار إيليا أمام الأمير وحده قال له بلسان رفيقه الترجمان: «أنا موفد أيضا من قبل البطريرك لأسأل الأمير ماذا فعل بالرق الذي دفعه إليه» - فلما سمع عمر ذلك مد يده إلى ثيابه، وأخرج الرق وقال: «أقرئ البترك السلام، وقل له: إن هذا ما أتى أوانه بعد، وربما عدنا إليه» فتناول إيليا الرق مختوما، ووضعه في جيبه.
ولما هم إيليا بالخروج من لدن الأمير ليعود بالرق والجواب إلى البطريرك قال له عمر: صبرا أيها الشاب فإن لي إليك حاجة. فقال إيليا: أنا طوع لأمر الأمير، فقال له الأمير: تربص هنا إلى ما بعد الصلاة فأخبرك عن حاجتي.
فامتثل إيليا أمر عمر، وخرج لينتظره خارج الخيمة.
ولكن كان خارج الخيمة شخصان ينتظران إيليا أيضا، وهما أستير وأبوها.
فلما وقع نظر إيليا على أستير من بعيد سرت في جسمه كهربائيته القديمة. فتضعضعت حواسه، واتقدت النار في صدره ودماغه.
فتقدم أبوها مسرعا إلى الشاب، وسلم عليه ببشاشة. فرد إيليا سلامه بعبوسة؛ لأنه لم ينس أنه كان جاسوسا وخدعه، وفي هذا الحين سمع أبو أستير صياحا، فعلم أنه صوت زوجته العجوز المقعدة، وكانت تتألم من مرضها فأسرع إليها. فبقيت أستير مع إيليا وجها لوجه.
فتقدمت أستير حينئذ نحو إيليا ببطء مترددة، ولما صارت قريبة منه مدت إليه يدها، وقالت: هل يسمح لي كيريه إيليا أن أصافحه كما يتصافح العرب؟
فرام إيليا الجواب، ولكنه لم يقدر؛ لشدة تأثره خصوصا لما رآه على وجه أستير من آثار الضعف والاصفرار والاعتلال، ولكنه جمع قواه بعد ذلك، وصاح: ما بك يا سيدتي؟ فابتسمت أستير ابتسامة يسميها كتاب الإفرنج «صفراوية» وقالت بين شفتيها بصوت منخفض «يسألني ما بي، كأنه لا يعلم ما بي» ثم أجابت إيليا: «طرأ اعتلال على صحتي يا كيريه إيليا، وأنت كيف أنت، إنني أراك في صحة وعافية، فيظهر أن هواء المدينة وافق مزاجك».
وقد قالت أستير هذا القول متهكمة؛ لأنها كانت ترى نحول إيليا واصفرار وجهه. فابتسم إيليا لهذا التهكم من أستير، وأجاب: «أشفقي علي أيتها السيدة؛ لأنني أشد اعتلالا منك».
فسكتت أستير وأطرقت، وبعد حين قالت بغتة: «يا كيريه إيليا، لماذا ذهبت دون أن تودعنا؟»
فسكت إيليا.
فقالت أستير: «كيف طاوعتك نفسك يا إيليا على تركي وحدي بين هؤلاء الأقوام بعد ذهابك من المزرعة في طلبي؟ وماذا طرأ عليك فغير عواطفك هذا التغيير؟»
فسكت إيليا أيضا.
غير أنه رأى أنه لا بد من الكلام، ففكر في ماذا يقول، وإذ وجد ضالته أجاب متلجلجا: يا سيدتي، إنني بعد أن اطمأن قلبي ووجدتك سالمة في حي العرب ذهب خوفي عليك، وأعدت قراءة كتابك الذي تعرفينه فرأيت من واجباتي الابتعاد عنك امتثالا لإرادتك.
ولكن إيليا لم ينطق بهذا الكلام حتى سمع صائحا يصيح من وراء خيمة كانت قريبة منه، ويقول بغضب: «هذا كذب محض فلماذا لا تقول الصدق؟»
فالتفت إيليا وأستير فأبصرا أرميا.
ذلك أن المعتوه كان مختبئا وراء تلك الخيمة يسمع حديثهما. فلما رأى أن إيليا وأستير يتدرجان في حديث لطيف إلى عواطفهما القديمة خاف أن يعود إيليا إلى أستير، ويضرب صفحا عن حالة أبيها، ولذلك ثار من مكمنه كذئب كاسر وقطع حديثهما.
فلما رآه إيليا، وسمع قوله، ازداد وجهه اصفرارا، فغضب وصاح به: «ما شأنك يا أبله؟ اذهب في سبيلك».
فبهذا أخطأ إيليا خطأ عظيما؛ لأنه زاد رغبة المعتوه في الانتقام منه وإيذائه إبعادا له عن أستير. فصاح أرميا بغضب شديد: إذا كنت أنا أبله فأنت كاذب لئيم لا تستحق شعرة من رأس هذه الفتاة. اسمعي يا أستير لأخبرك الحقيقة. إن هذا الشاب يحتقرك، وقد تركك لاعتقاده بأنك ابنة جاسوس دنيء باع شرفه للعرب، وهذا ما فهمته منه يوم تركه معسكر العرب ودخوله إلى المدينة.
فلما سمعت أستير هذا الكلام صاحت صيحة من أعماق صدرها، وسقطت مغشيا عليها.
فخرج الناس من خيامهم لهذا الصراخ، وأسرع أبو الفتاة على صوتها، ولما رأوها في تلك الحالة نقلوها إلى خيمة قريبة لمعالجتها، وأبوها يبكي، ويسأل ماذا أصابها؟
أما إيليا فإنه كان في أشد حالات الاضطراب، فطلب من رفيقه القس الترجمان أن يقبض على أرميا؛ لمعاقبته على افترائه عليه. فتملص أرميا من القس، وصار يضربه، ويهجم على الاثنين صائحا بجنون: أنا لست منكم، أنا عرب عرب، لقد صرت مسلما، دعوني وشأني؛ فإنني لا أعرفكم.
ومن ذلك يظهر أنه من أول يوم من أيام الفتح الإسلامي بدأ في جسم السلطة المسيحية في الشرق نوع جديد من الانحلال فيها كان يلجأ إليه كل مستاء منها. وكان هذا الالتجاء أحيانا للانتصاف من ظلم، وأحيانا للفرار من حق كما صنع أرميا هنا.
الفصل الحادي والعشرون
في قبر المسيح
وبعد صلاة الظهر استدعى الإمام عمر رسول البطريرك. فأتي إليه بإيليا، وكان إيليا حينئذ كاسف البال لحادثة أستير. فقال له عمر: يا ذا الشاب، دلنا على قبر عيسى - عليه السلام - وادخل معنا إليه؛ لتكون دليلنا فيه. فامتثل إيليا لأمر أمير العرب، وسار به وبنخبة من رجاله قاصدا كنيسة القيامة.
ولما بلغوا باب الكنيسة، وقف عمر، وقال: الفاتحة أيها المؤمنون على ذكر سيدنا عيسى. فخشع المسلمون ووقفوا يقرءون الفاتحة قبل دخولهم الباب. فعجب إيليا والقس رفيقه من ذلك الخشوع في صلاتهم.
ثم دخلوا الكنيسة حتى أتوا قبر المسيح.
فلما وقف عمر أمام القبر جمد في مكانه، وجمد المسلمون وراءه، وأخذوا يحدقون بالغرفة المحيطة بالقبر. ثم طلب عمر الدخول إلى الغرفة للتسليم على«روح الله» فدخل إليها مع رجاله، ولما صار رئيس الإسلام المنظور في ذلك المكان الهادئ الكريم المحاط بالإكرام من كل جانب؛ لأنه ضم يوما جسم رئيس المسيحية الغير المنظور دبت قشعريرة شديدة في نفوس الحاضرين، وتحركت قلوبهم للصلاة في ذلك المكان، ولما فطن عمر إلى غرضهم تذكر طلب البطريرك فأسرع وقال: الفاتحة أيها المؤمنون، فقرءوا الفاتحة ثانية على قبر المسيح بدل الصلاة، وبعد ذلك استلم
1
كل واحد منهم البلاط الرخامي الذي على القبر ومسح وجهه وخرجوا، ولما صاروا بجانب باب الكنيسة الخارجي طاوع الإمام نفسه حينئذ على الصلاة، فقال: الصلاة أيها المؤمنون؛ ففرشوا أرديتهم على الأرض، وركعوا وراء الإمام، وصلوا هناك صلاة طويلة بخشوع يحق لجميع الأمم أن يحسدهم عليه. وهذا المكان هو الذي أقام فيه المسلمون بعد ذلك مسجدا تذكارا لصلاة الإمام هذه * وبذلك سوى الإمام العادل بين الفريقين.
2
ولما خرج الإمام والمسلمون من كنيسة القيامة. قال الإمام لإيليا: ما اسمك أيها الشاب؟ فأجاب إيليا: إيليا أيها الأمير. فقال الإمام: اسم مبارك. يا إيليا ولئن أبطأت على سيدك البترك دلنا على المكان الذي رفع منه عيسى عليه السلام. فقال إيليا: هو على جبل الزيتون خارج المدينة أيها الأمير. فقال الأمير لرجاله: هلموا بنا إلى جبل الزيتون.
واجتاز الإمام المدينة بموكبه مع إيليا قاصدين جبل الزيتون، وكان الأمير في طريقه يمعن النظر في ما يبدو على المدينة وأهلها ومنازلها من آثار البذخ والترف والجاه والثروة. فلما صار خارج المدينة قال لإيليا: يا إيليا هل لك أن تقص علينا شيئا من أخبار مملكتكم وقومكم خصوصا حروبكم مع الفرس التي سمعت بعضها؟ فإنني أرى عندكم مملكة عظيمة وأمما عديدة وجندا كثيفا ومدنية واسعة، فماذا صنع ولاتكم الروم حتى تقلص هذا الظل ودالت هذه الدولة؟
فسكت إيليا ولم يجب أولا؛ لأنه وجد أنه لا يليق به الكلام بهذه الشئون الداخلية مع أمير أجنبي لا يزال في حرب مع مملكته في جهات أخرى، ولكن لما آنسه لدى الأمير من رقة الجانب والرفق ومكارم الأخلاق فضلا عن معرفته أن هذا الفاتح الجديد قد حل محل الفاتح القديم، قد رأى أنه لا يخطئ إذا اغتنم هذه الفرصة لخطبة وداد رئيس الفتح الجديد، وجر النفع لصاحبه الشيخ سليمان صاحب المزرعة. فأجاب الأمير قائلا: إذا شاء الأمير دللته على شيخ جليل شهد حرب الفرس بنفسه، وزار القسطنطينية، ووقف على كل أخبارها فيستخبر الأمير منه ما يروم الوقوف عليه. فصاح الإمام عمر: أحسنت يا إيليا. جئني بهذا الشيخ الذي شهد حروب الفرس فإننا ممن يكرمون الشيوخ وهو خير المخبرين.
الفصل الثاني والعشرون
حديث سياسي للشيخ سليمان
الإمام عمر يصغي إلى ترجمة الإمبراطور هرقل وحروبه الكبرى مع الفرس، وأسباب ضعف سلطنة القسطنطينية (بزنطية أو الروم). ***
فاستنأذن إيليا حينئذ، وأعمل المهماز في شاكلة جواده قاصدا المزرعة وراء جبل الزيتون بعد أن تواعدوا على الالتقاء تحت الأرزة التي على الجبل.
ولا يقدر القلم على وصف السرور الذي حاق بالشيخ سليمان وأهل المزرعة حين عودة إيليا إليهم بعد أن يئسوا من عودته كل تلك المدة الطويلة، ولم يقفوا له على أثر مع كل بحثهم وتفتيشهم.
وقد قص إيليا على الشيخ سليمان كل ما جرى له منذ وقوعه أسيرا في أيدي العرب والتقائه بأستير وأبيها، وتركه إياها وشأنها بعد التقائها بأبيها، وفتح المدينة، وطلب رئيس الفتح الشيخ سليمان؛ ليسمع منه أخبار المملكة، وتفاصيل الحرب الكبرى التي قامت بين الإمبراطور والفرس، وأن هذه خير فرصة تغتنم للتقرب من هؤلاء الفاتحين.
فركب الشيخ سليمان مع إيليا، وقصدا الجبل، فوجدا الإمام عمر والمسلمين ينتظرونهما تحت الأرزة.
ولما وصل إيليا والشيخ سلم الشيخ باحترام على الأمير فرد عليه الأمير السلام، وحادثه هنيهة، ثم طلب أن يرى المكان الذي رفع منه عيسى، فذهب إيليا به وبحاشيته إلى هذا المكان، وبعد أن شاهدوه عادوا وجلسوا تحت الأرزة.
ولما أخذ كل واحد منهم مكانه قال الإمام: أيها الشيخ، قص علينا ما رأيته في تلك الحروب الشديدة، وقبل ذلك أخبرنا عن أصل ملككم هرقل
1
فإنني سمعت أنه لم يكن ابن ملك.
فقال الشيخ: بل هو ابن أمير أيها الأمير، وقد نال المملكة بهمته، وتفصيل ذلك
2
أنه في زمن الإمبراطور موريس حدثت ثورة في بلاد الفرس اضطرت ملكها هرمز إلى الفرار منها والالتجاء إلى القسطنطينية. فأكرمه سلطانها موريس، وأمده بالجنود، فعاد هرمز إلى كرسيه، وملك باسم كسرى برويز
3
وكانت الحروب يومئذ قائمة بين الإمبراطور موريس والتتر، وكان لدى ملك التتر ألوف من أسرى الروم. فطلب ملك التتر نصف دينار فدية كل أسير، وكان الإمبراطور موريس مشهورا بالبخل مع شدة بأسه فأبى دفع هذا المبلغ، فقتل حينئذ ملك التتر أولئك الأسرى نكاية له. فلما علم الشعب في القسطنطينية بذلك ثاروا على الإمبراطور وخلعوه، وولوا مكانه أحد قواد الجند، ويدعى (فوكاس)
4
فقبض فوكاس على موريس وأبنائه وقتلهم. فلما بلغ هذا الأمر إلى مسامع ملك الفرس غضب ونهض لمحاربة فوكاس، وذلك لسببين: الأول: الانتقام منه لموريس الذي أحسن إليه، والثاني: لاغتنام هذه الفرصة وتوسيع أملاكه. فدخل جيش الفرس يومئذ إلى سوريا فاتحا، وفي أثناء ذلك ظهر ضعف فوكاس، وسخط عليه الناس، فكاتبوا رجلا من أكابر قواد الجيش كان والي أفريقيا ويدعى «هراقليوس» أن يأتي إليهم ليخلعوا فوكاس ويولوه، وكان لهذا الوالي ابن يدعى أيضا هراقليوس وابن أخ يدعى نيستاس. فجهز هراقليوس الابن أسطولا عظيما وحشد نيستاس جيشا كثيفا، واتفقا على الزحف إلى القسطنطينية لإسقاط فوكاس. الأول بحرا والثاني برا عن طريق مصر وسوريا، وتعاهدا على أن الذي يسبق إلى العاصمة تكون المملكة له. فسبق إليها هراقليوس الابن بأسطوله فخلع فوكاس أعداؤه وقتلوه، وولوا هراقليوس مكانه، وهو الإمبراطور الحاضر.
وما مرت أربع سنوات على ملك الإمبراطور حتى فتح الفرس سوريا ومصر، واستولى قائدهم شهرباز الملقب «بالجاموس الملكي» على هذه المدينة (القدس) فأحرق كنيسة القيامة، وأخذ منها الصليب الحقيقي.
5
ثم اشتد الاضطراب في السلطنة، وقام أنصار فوكاس يطلبون ثأره، وتوفيت زوجة الإمبراطور فتزوج ثانية بأخت زوجته خلافا لنظام الكنيسة، وكان الإمبراطور فقيرا لا يملك مالا ينظم به أمور ملكه. فيئس من هذه المصاعب، وعزم على الالتجاء إلى قرطجنة (تونس اليوم) ليتخذها قادة ملكه بدل القسطنطينية استراحة من الفتن، ولكن البطريرك سرجيوس شدد عزائمه، وأخذه إلى كنيسة آجيا صوفيا، وأجبره فيها على أن يقسم بأنه لا يترك العاصمة. فقوي عزم الإمبراطور، وبعث برسالة خصوصية إلى ملك الفرس يجامله فيها، ويطلب منه الصليب، ويسأله عقد الصلح. فأجابه كسرى برويز جوابا مهينا ثارت له الأمة كلها. ففتح البطريرك سرجيوس خزائن الكنيسة، وأخرج منها للإمبراطور الأموال اللازمة؛ لحشد الجند، وتهافت الناس من كل صوب على التطوع في سبيل استرداد الصليب، وفي ثاني يوم من عيد الفصح سنة 622 تناول الإمبراطور سر القربان في حفلة رسمية حافلة، وخرج من القسطنطينية بجيشه يطلب بلاد الفرس والحماس شديد في الأمة، وقد نزل بأسطوله وجيشه في عرصوص (قرب الإسكندرونة) وهو المكان الذي نزل فيه قبلا إسكندر الكبير لما قصده داريوس، وقد أحسن الإمبراطور بهذا الاختيار؛ لأن المقاتل يستطيع من ذلك المكان إصابة سلطنة الفرس في قلبها.
وكنت يومئذ أيها الأمير الجليل قائد مائة في هذا الجيش. فأجبرنا الفرس على الانسحاب من مصر وسوريا، وأخذنا نطاردهم من مكان إلى مكان والنصر حليفنا، وكانت الإمبراطورة معنا ترافق الإمبراطور لرغبتها في أن تكون أول من يسترد الصليب، وكان كسرى برويز قد نزل في فنزكا من أعمال أتروباتينا
6
بأربعين ألف مقاتل، وجعل باقي جنده تحت قيادة قائده الكبير سايس. فهاجمهما الإمبراطور وهو في طريقه يخرب المدن والقرى ويحرقها، ولما بلغ فنزكا فر كسرى من وجهه فدخلها الإمبراطور، وهدم هيكل الشمس المشهور الذي كان فيها، وحطم آلات صناعية كانت فيه تمثل انقضاض، الصاعقة ونزول المطر
7
ولما خاف انضمام الأتراك إلى الفرس تقرب إلى«زبيل» زعيم الترك، فقابله في تفليس، ووعده بأن يزوجه ابنته، وبذلك جعل الأتراك من حزبه، وبعد ست سنوات من سفره أي في سنة 628 وصل دستجرد عاصمة الفرس، ففر كسرى منها أيضا، فدخلها الإمبراطور، وأحرق تلك العاصمة الفاخرة، وبذلك تضعضعت مملكة الفرس فدبت بين أهلها عقارب الانحلال والفتنة، وأصيب كسرى بمرض عضال فأوصى بالملك لأحد أبنائه فقام عليه ابن آخر، فاستأثر بالأمر، وسجن أباه وعذبه حتى مات، وكتب هذا الابن فصالح الإمبراطور، ومن ذلك الحين اشتغلت مملكة الفرس بفتنها، واضطراباتها الداخلية.
أما الصليب فقد كان مخبوءا في فنزكا عاصمة عبادة النار، وقد دل عليه القائد شهرباز. فلما وجده الإمبراطور، ودخل به إلى القسطنطينية ظافرا ارتجت السلطنة من جهاتها الأربع. ثم جاء به بنفسه ونصبه هنا في الجلجلة بيده.
وكان الشيخ يتكلم، والترجمان يترجم كلامه، والحاضرون مصغون كأن على رءوسهم الطير، وكان خالد بن الوليد أشدهم اهتماما بهذا الحديث؛ لأنه دخل بلاد الفرس، وفتح كثيرا من بلدانها كما تقدم. فلما فرغ الشيخ من كلامه، ووقف يستريح، انحنى خالد نحو أبي عبيدة، وقال له: كان مثل الروم مثل كلاب الصيد فإنها اصطادت لنا لا لها؛ إذ بسحقها سلطنة كسرى سهلت علينا الاستيلاء على بلاد فارس، ولولا ذلك فربما تعذر علينا فتحها.
فالتفت حينئذ الإمام عمر إلى خالد، وقال: لقد سمعتك يا خالد فاتق الله فإنه لا معين سواه.
فسكت خالد، ولم يبد جوابا.
ثم التفت عمر إلى الترجمان، وقال: سل الشيخ. فإذا كانت هذه قوة الملك وجنده يومئذ، فما حل بتلك القوة؟ ولقد سمعت أن الملك احتاج المال فأين ذهب بالغنائم التي غنمها جيشه من الفرس، وهم مشهورون بالغنى والكنوز؟
فأجاب الشيخ: أما الكنوز التي عاد بها من بلاد الفرس فإنه دفعها كلها إلى بطريرك القسطنطينية وفاء للأموال التي أخذها منه لتعبئة الجيش والإنفاق على الحرب كما تقدم، وهذا ما أسخط الجند والأمة، وقد قال بعضهم: إن ذلك حق؛ لأنه وفى دينا عليه، ولكن البعض الآخر يقول: إن أملاك وأموال الإكليروس إنما جمعت من الأمة فإذا أنفقت في سبيل الأمة كان إنفاقها في خير الوجوه. فبدل إعادة تلك الأموال إلى خزائن الإكليروس وحبسها فيها كان يجب إصلاح أحوال الأمة بها.
فقال عمر: أحسنت أيها الشيخ البهي.
فأردف الشيخ بقوله: أما ضعف المملكة بعد تلك القوة فله أسباب عديدة، وإذا شئتم بسطت لكم تلك الأسباب كلها.
فأجاب عمر: تكلم أيها الشيخ.
فقال الشيخ بعد أن تنحنح، وألقى نظرة إلى إيليا: لما تغلب قسطنطين الكبير على رومة نقل كرسي الملك إلى بزنطية
8
فانشقت الإمبراطورية الرومانية إلى شطرين: شرقي وهو هذا، وغربي وهو شطر رومة، وبما إن العنصر اليوناني كان حفظ نفسه في المستعمرات الرومانية أثناء الحكم الروماني فقد نمت إمبراطوريته الشرقية نموا سريعا، وكان سلاطين هذه الإمبراطورية يسمون أنفسهم: «إمبراطرة الرومان»، ويجعلون اللغة اللاتينية لغة رسمية إلا أن السلطنة مع ذلك كانت يونانية الباطن، وهذا ما كان من أسباب قوتها، وهكذا بينما كانت رومة والأمم التابعة لها تخضع لملك القوط، وتصير أمما بربرية كانت سلطنة الشرق بمركزها البزنطي الجامع بين يونان الغرب ويونان الشرق زاهية زاهرة لا سلطة لأحد عليها.
ولكن في مقابلة ذلك كان بين كنيستي رومة والقسطنطينية فرق كلي. فإن الأولى كانت تهتم بالمسائل العملية المفيدة فائدة اجتماعية، وتطبق عليها المبادئ الدينية، وأما الثانية: فإنها انصرفت من سوء الحظ إلى مجادلات عقيمة في لاهوت المسيح
9
كما سيجيء.
ولما قام الإمبراطور جوستنيانوس المشهور عدل عن السياسة اليونانية إلى سياسة عمومية. فبدل أن يهتم ببلاده وأهلها اليونان، فيقويها ويقويهم، ويصلح شئونها وشئونهم، انصرف إلى إعادة السلطنة الرومانية إلى ما كانت عليه من الاتساع. فبعث لاسترداد أفريقيا من أيدي الفنداليين الذين أنشئوا فيها مملكة واسعة، وناصب القوطيين الحرب في إيطاليا حتى مزقهم تمزيقا، وكان ساعده في ذلك القائد بليزار المشهور بأنيبال العصر الجديد، ولكن الإمبراطور لم يستفد من ذلك كثيرا؛ لأن السلطنة كانت تعجز عن حكم بلاد واسعة الأطراف إلى هذا الحد، فكان كأنه أفنى قواه في الغرب، وأهمل الشرق مع أن فيه حياة سلطنته، ولذلك كان يترضى الفرس بما يسكتهم ويلهيهم عنه بينما البرابرة في شمال القارة الغربية يخربون الولايات والهونيون يبلغون حتى أسوار القسطنطينية.
10
هذا من جهة الخارج، أما جهة الداخل فإنه اضطهد العنصر اليوناني الذي هو قوة الإمبراطورية وعضدها؛ فقاوم المشتغلين بالعلوم القديمة، وحذف درس الفلسفة والحقوق في آثينا، وأوجب اتخاذ اللغة اللاتينية لغة رسمية. هذا فضلا عن تضحيته لكنيسة رومة الاستقلال الذي كان يطلبه بطاركة الشرق منذ القرن الرابع.
11
وبعد وفاته ثار مغاربة أفريقيا، واستولى اللومبارديون على شمالي إيطاليا، واستمروا يحاربونها للاستيلاء على شبه الجزيرة كلها. ثم تحرك الفرس يتهددون حياة المملكة في آسيا، والسلافيون يتهددون حياتها في أوروبا. فلما قام الإمبراطور هراقليوس كما تقدم الكلام وجد المملكة بين هذه الأمم التي كانت تنازعها البقاء نزاعا شديدا، وقد فصلت لكم ماذا فعل بالفرس وكيف سحق سلطنتهم. أما السلافيون فإنهم لا يزالون يهاجمون سلطنته.
فمن كل ما تقدم يظهر سببان عظيمان من أسباب ضعف السلطنة. «الأول» رغبتها في أن تحكم العالم أجمع، ولذلك تفني قواها عبثا ولا تحسن حكم نفسها. «والثاني» أعداؤها المحيطون بها ينازعونها الحياة دائما.
ولكن هنالك سبب ثالث ربما كان أصل الأسباب كلها وهو المسألة الدينية، وأريد بها مداخلة الدنيا بالدين والدين بالدنيا.
وأصل البلاء في هذه المسألة: مداخلة الإمبراطرة في شئون الكنيسة؛ لأن ذلك جر بحكم الطبع مداخلة الكنيسة في شئون الإمبراطورية، وفي ذات يوم قال أحد الإمبراطرة لأحد البطاركة: دبر أنت الكنيسة ودعني أدبر سلطنتي. فأجابه البطريرك: هذا قول لم يسمع بمثله فإنه بمثابة قول الجسد للنفس دعيني وشأني فإنني غير محتاج إلى مساعدتك.
12
فنشأ عن هذا سعي البطاركة والإمبراطرة في وضع العقول كلها في قالب واحد؛ ليجعلوها تعتقد اعتقادا واحدا، وبما أن السلطنة كانت مؤلفة من عدة عناصر مختلفة الآراء والمشارب والمصالح فقد تحتم حدوث الشقاق فيها.
فيومئذ قام آريوس يجحد لاهوت الكلمة، والمكدونيون يجحدون لاهوت الروح القدس، وقام النساطرة ينكرون اتحاد الطبيعتين في المسيح وأوتيشيوس ينكر الطبيعة البشرية في المسيح بعد التجسد، والقائلون بالمشيئة الواحدة ينكرون المشيئة البشرية مع اعترافهم بالطبيعتين. فجمع الإمبراطرة المجامع للفصل في هذه المعتقدات؛ فحكمت المجامع برفضها ونبذ أصحابها، ولكن بعض الإمبراطرة كانوا يعودون إلى بعضها فتعتقد رعيتهم فيهم الكفر فيقومون إلى خلعهم، ولما كان يثور الشعب عليهم كان الإمبراطرة يلجئون إلى الكنيسة، والمقرر أنه في هذه الحالة من حق البطريرك الإذن في تسليمهم للشعب أو حمايتهم منه، وعلى ذلك كان الإمبراطرة تحت سلطة البطاركة.
13
وكما كان الاضطراب من حيث الإمبراطرة فقد كان من حيث البطاركة. فقد كان للبطريركية الواحدة ثلاثة بطاركة (الأول) البطريرك الذي يعزل لمقاومته الإمبراطرة أو الشعب. (والثاني) البطريرك الذي عين مكانه (والثالث) البطريرك الذي يرشح نفسه لأن يكون بطريركا، ولكن لكل واحد من هؤلاء الثلاثة أعوان وأنصار متحمسون، ولكل فريق منهم آراء ومصالح وأهواء. فكانوا في اضطراب دائم، واضطرابهم هذا كان يقلق كل السلطنة لما بين السلطتين من الاتصال
14
كما تقدم.
ومما لا يحتاج إلى بيان: أن الرغبة في توحيد المعتقد تؤدي إلى اضطهاد المخالف في المعتقد، وهذا ما جعل بعض الإمبراطرة يضطهدون الطوائف المخالفة لهم، والتي عاشت قبل ذلك في ظل الرومان بكل حرية كالسامريين واليهود والمانيشيين والسبتيين والمونتانيين والوثنيين الذين كانوا كثيرين في داخلية البلاد خصوصا بين أهل الزراعة؛ لإصرارهم على دينهم القديم، ولقد كنت أحب أن يكون الإمبراطور جوستنيانوس حيا الآن ليرى الخطأ الذي ارتكبه في فناء السامريين في هذه البلاد (فلسطين) واضطهاده اليهود فيها اضطهادا جعلهم أعداء لمملكته وأضعف منها هذا الجانب الذي دخلتم منه إلى الشام وفلسطين مع أنه كان من المصلحة تقويته.
15
فإنه حينئذ كان يعلم أنه لم يكن بذلك الاضطهاد والقتل يزيد عدد المؤمنين بل كان ينقص عدد الرجال اللازم بقاؤهم، واستمالتهم للدفاع عن السلطنة، ويربي في قلب السلطنة عدوا شديدا لها. وهذا الأمر لازم دائما عن المظالم والاضطهادات الدينية.
ولو كان الخطب من هذا الوجه فقط لكان هينا؛ بل كان هناك خطب أشد. فإن الأديرة غصت بالرهبان والشبان الهاربين من تنازع الحياة؛ لأن الرهبانية تضمن رزق الراهب وتعطيه السيادة بثمن بخس، ولرغبة الرهبانيات في السيادة المطلقة كانت تتخذ السياسة الدينية آلة لمحاربة البطاركة والإمبراطرة، والذي جعل لهم هذه القوة صرفهم الشعب إلى ظاهر الدين عن باطنه وتحريضه على عبادة الصور والأيقونات
16
فشغف الشعب بهذه العبادة شغفا ما بعده شغف، وكلما قويت شهوته هذه زادت سلطة الرهبان عليه، وسواء كانت هذه العبادة عبادة أو إكراما فإن الشعب انصرف إليها عن باطن الدين، وصار عنده الفضل في تقديس الأيقونات لا في فضائل النفس ومكارم الأخلاق، والذي زاد تمسك الشعب بهذا النوع من الظواهر الدينية انطباع البشر على حب الفنون، وتمثيل هذه الفنون لهم الأشخاص والرجال الكرام الذين يحبونهم. فلما قام بعض الإمبراطرة لمقاومة الأيقونات والصور اعتبر الرومان أن هذه المقاومة موجهة إليهم،
17
وكان الإمبراطرة ينسبون أولئك الرهبان إلى «الوثنية» وأولئك الرهبان ينسبون الإمبراطرة إلى السحر، وكانوا يشيرون إلى الكنائس التي أزال منها الإمبراطرة الصور والأيقوات، ويقولون لهم: إن حكامهم لم يفعلوا بها هكذا إلا لكي يعبدوا فيها الشيطان
18
فكان الشعب يهيج لذلك أشد هياج، ويعتقد أن من واجباته خلع حكامه، ولم يكن هناك ملوك يتخذون الطريق الوسط، ويسكنونه بتخفيف استعمال الصور والأيقونات بدل حذفها وإظهار الغرض الحقيقي منها، ولذلك كان النزاع الشديد مستمرا بين الفريقين، وكثيرون من البطاركة والأساقفة انتصروا للإمبراطرة على الرهبان؛ لأن الرهبان كانوا ينازعونهم كل سلطة وسيادة، وكان هؤلاء يغتنمون كل الفرص لرفع شأنهم لدى الشعب بالتزلف إليه وإسقاط مزاحميهم، ولما كانت تعاد الصور والأيقونات إلى الكنائس كان شأنهم يرتفع عند الشعب ارتفاعا عظيما، وهكذا بلغوا بسذاجة الشعب أسمى درجات السلطة، وطردوا باقي الإكليروس منها، وصاروا مملكة في المملكة حتى إن الإمبراطرة كانوا يضطرون للدفاع عنهم.
19
فماذا كانت نتيجة هذه التربية الرهبانية في المملكة؟
إنكم تستغربون ولا شك إذا علمتم أن قائدا من قواد السلطنة رفع الحصار عن مدينة كان يحصرها في مقابلة أثر ديني أعطوه إياه.
20
ولا ريب أنكم تدهشون أيضا إذا أخبرتكم أن أحد قواد الإمبراطور موريس لما كان يوما على وشك الدخول في قتال مع عدو له قبل المعركة أخذ يبكي حزنا على الدم الذي سيسفك فيها
21
ولست أجهل أن دموع القائد جميلة للغاية؛ لحبه الخير والسلام وكراهته للآثام، ولكن ما الحيلة؟ إن هذه العواطف لا تستحسن إلا في الأديرة والمجالس الأدبية؛ لأنه يجب على الجندي المدافع عن وطنه أن يحسن وظيفته، أي يجب أن يحسن أن يكون شديدا قاسيا غليظ القلب والحسام، وبدون ذلك لا تثبت المملكة إذا كان أمامها أعداء أقوياء.
ونهاية العجب والاستغراب أن إمبراطورا
22
أهمل قواه البحرية؛ لأنهم أخبروه أن الله راض عنه كل الرضى لغيرته على الكنيسة، ولذلك فهو لا يسمح لأحد بمهاجمة مملكته، وهذا الإمبراطور نفسه كان يقول: إنه يخشى أن يناقشه الله الحساب عن الزمن الذي يصرفه في تدبير سلطنته؛ إذ يجب عليه صرف جميع أوقاته في الاهتمام بالشئون الروحية.
23
هكذا كانت نتيجة السياسة حين مداخلتها في الدين. «فكان من أعظم أسباب مصائب اليونان جهلهم الحدود التي بين السلطة الإكليريكية والسلطة المدنية، ولذلك وقع الفريقان في أغلاط متواصلة، والفصل بين هاتين السلطتين الذي عليه تبنى دعائم راحة الشعوب ليس أساسه الدين فقط ولكن أساسه أيضا العقل والطبيعة. فإنهما يقضيان بأن الاشياء التي من طبيعتها الانفصال والتباعد والتي لا يمكن أن توجد معا إلا منفصلة متباعدة بعضها عن بعض - يجب أن لا تمتزج أبدا، وهذا الفصل كان معروفا عند قدماء الرومان أكثر مما كان في القسطنطينية، ولئن كان إكليروسهم الوثني غير منفصل عن طبقات الهيئة الحاكمة. فإنه لما وقف الإمبراطور كلوديوس منزل «شيشرون» للحرية بعد نفيه وعاد شيشرون من منفاه طلب استرداد منزله؛ فحكم رؤساء الكهنة بأنه يمكن رد منزله إليه دون أن يكون في ذلك إهانة للدين إذا كان المنزل قد وقف بلا أمر خصوصي من الشعب. قال شيشرون: وقد قالوا إنهم ينظرون في صحة الوقف لا في صحة الشريعة التي سنها الشعب، وإنهم إذا كانوا نظروا في القضية الأولى كرؤساء كهنة فإنهم ينظرون في هذه القضية كأعضاء مجلس الشيوخ».
24
هذا هو أعظم الأسباب في ضعف سلطنة بزنطية، وإنما يستمد هذا السبب أهميته الخصوصية من صرفه فكر الحكومة والأمة عن الإصلاحات الاجتماعية والحوادث الخطيرة، وشغلها بالمجادلات الدينية العقيمة.
انظروا أيها السادة لأعطيكم برهانا صغيرا يدلكم علينا أحسن دلالة. قبل أن تصلوا إلى هذه المدينة بيوم واحد لتحصروها كان شعبها يملأ الدنيا ضجيجا على طريق بيت لحم طلبا لتعميد فتاة يهودية وجدها في طريقه، وكان يهتم بهذه الفتاة أكثر من اهتمامه بجنودكم الزاحفة إلينا.
ومن هنا تعلمون مبلغ ضعف تربيته السياسية وعواطفه الوطنية. أستغفر الله فإنه يجب علي أن لا أذكر «الوطن» بشفتي إذ الوطن عندنا الدين؛ بل الدين عندنا فوق الوطن وفوق كل شيء.
وهكذا بدل أن يقوم الشعب، ويطلب إصلاحات اجتماعية كإنشاء جمعيات لمساعدة الزراع والصناع والعمال، وفتح الترع لجر المياه للحقول، وأنشاء المدارس لتعليم أبناء الأمة، ووضع نظامات جديدة لتقوية العائلة والسلطة الحاكمة ضد الرهبان الذين تقدم ذكرهم، ونقل معامل الفرس إلى السلطنة أو إنشاء مثلها فيها - نراه إذا قالوا له مثلا هذه قطعة من حذاء بولس أو بطرس أو هذا أثر من مريم المجدلية فإنه ينسى كل تلك الإصلاحات ويبيعها كلها بهذا الأثر.
فما أسهل إرضاء الشعب الديني أيها السادة.
ولكني إذا كنت ألوم الإمبراطور لإهماله شعبه إلى ذلك الحد فأنا أشفق عليه. فإن السلطة متعددة الأحزاب الآن، وهذا من أسباب ضعفها أيضا. فإن الأحزاب في البلاد الجمهورية تنفع الأمة لظهور الحقائق بالبحث واحتكاك الأفكار، ولكنها في البلاد الملكية المطلقة تكون سبب ضعف لها؛ لأن كل حزب منها يقدر أن يستبد بالحزب الآخر فيقوم هذا إلى الثأر منه، وهكذا دواليك إلى ما شاء الله، وأهم أحزابنا الآن «الخضر» و«الزرق» وأصل تسميتهم هكذا أن ساقة المركبات الذين كانوا يتسابقون إلى الجوائز في حلبة السباق كان فريق منهم يلبسون ثيابا زرقاء وفريق ثيابا خضراء. فكان الحاضرون يتحزبون لهم حزبين يسمون «الخضر» و«الزرق»
25
وقد انتشرت هذه القسمة في كل مدن الإمبراطورية، وصارت قسمة سياسية، ولما قام جوستنيانوس انتصر «للزرق» وظلم «الخضر» فقوي الزرق حتى صاروا يدوسون نظامات المملكة، وكذلك الخضر عبثوا بالنظامات؛ لأنهم رأوا رفاقهم الزرق لا يحترمونها، وكان كل قاتل وشرير في ذلك الزمن من حزب الزرق، وكل مقتول من حزب الخضر.
26
فسادت الفوضى بين الناس، وانتهكت حرمة النسب والصداقة والواجبات ومعرفة الجميل بقيام الناس والعائلات بعضهم على بعض يفنون بعضهم بعضا.
ومما زاد الاضطراب واختلال الأمن اعتقاد شاع في المملكة وهو «أنه من المحرم سفك الدم المسيحي»
27
فكانت كل الجنايات والجرائم التي لا تتعلق بالدين يعاقب صاحبها عقابا خفيفا.
28
وبما أن أمراض العقل تتحول ولا تزول فقد اتخذ التنجيم والتنبؤ صورة غير الصورة القديمة. فقد كان الوثنيون من اليونان والرومان يستطلعون البخت ويرون الغيب بنظرهم في أحشاء الذبيحة أو مراقبتهم طير الطيور يمينا أو يسارا. فحل عند المسيحيين محل هذه الطريقة استطلاع البخت والغيب بالنظر إلى أشياء توضع في حوض ماء.
29
وكانت حوادث المملكة السياسية تضرم نار الطمع في النفوس، حتى إنه لم يكن في السلطنة رجل عظيم إلا وقد تنبئ له بأنه سيتولى الإمبراطورية، وكانت الثورات والفتن في الإمبراطورية تتوالى بلا انقطاع، وبما أن الأسر المتنازعة على الملك كانت تمر على العرش بسرعة فلم يكن الناس مخلصين لواحدة منها، وكانوا يتخذون كل الطرق للوصول إلى العرش. فتارة بالجند، وطورا بالإكليروس، وآونة بشعب القسطنطينية، وأخرى بشعب باقي المدن.
30
ولما تكاثرت الفتن والثورات، وحلت بالمملكة المصائب في الخارج صار الناس ينسبون كل ذلك إلى سوء تدبير ملوكهم فازدادت الفتن والمصائب بهذا الاعتقاد، وهكذا أنتجت الثورات ثورات، وصارت النتيجة سببا.
31
وما كان يزيد ضعف الحكومة يومئذ انقيادها إلى آراء النساء. فإنه كان من المقرر في الشرق اتخاذ عدة نساء إضعافا للسلطة العظيمة التي تكون للمرأة الواحدة على الرجل في هواء الشرق الحار. أما في عرش القسطنطينية فقد كانت المرأة واحدة تبعا لنظام المسيحية، وهذا الأمر كان من أسباب ضعف الحكومة أحيانا.
32
وبما أن الجيش كان له يد ورأي في السياسة فقد أفضى هذا الأمر إلى تمرده أحيانا، وبذلك ضعف نظام الجندية، وقد كان القائد بليزار يقول لجنوده في ساحة الحرب: «إن جنود الفرس لا يفضلونكم في الشجاعة، ولكنهم يفضلونكم في الطاعة لقوادهم» وفضلا عن ذلك فإن الترف والمدنية أضعفا نفوس الأمة وميلها إلى الحروب في حين أن باقي الأمم التي تحيط بها لم يكن لها شغل غير الحرب، وبذلك وهن عزمها أمام أعدائها، وصار لا يجدد قواها ونشاطها إلا التحريض الديني كالحث مثلا على استخلاص الصليب كما حدث في حروب الفرس.
هذه أيها السادة أهم الأسباب التي أضعفت السلطنة، وقد فصلتها لكم باختصار. فلو تداركها اليونان لكان عندهم أجمل وأقوى وأعمر سلطنة في الأرض، ولما تمكن أحد غيرهم من منازعتهم في شيء.
لماذا بقيت سلطنة بزنطية (القسطنطينية) قرونا طوالا بعد مصائبها وأمراضها المذكورة آنفا؟
وهنا سكت الشيخ ليستريح من تعب الكلام، وكان الحاضرون في أثناء كلامه يتحادثون همسا، ويتبادلون أفكارهم وهم تارة يبتسمون وطورا ينقبضون. أما الإمام عمر فإنه كان بينهم كالجبل الراسخ لا يحركه شيء، ولا تبدو على وجهه دلالة.
ولكن لما سكت الشيخ همس الإمام كلمتين في أذن أبي عبيدة. فقال أبو عبيدة للشيخ: أيها الشيخ لقد أحسنت الحديث. إنما يؤخذ من حديثك هذا أن المملكة متهدمة فهل يظن أنه قد دنت آخرتها على يدنا؟
فأطرق الشيخ سليمان مليا، ثم قال: إنني أرى أنكم لا تقدرون على هذه المملكة العظيمة في الغرب وإن قدرتم عليها في آسيا، وذلك لعدة أسباب أولا: أنكم فتحتم بلاد الفرس وستملكونها وتسقطون دولتها. فهذا الفتح سيقوي الإمبراطورية؛ لأنها ستسترد كل جنودها القائمين على حدود الفرس، وهم خيرة جنودها؛ لتدافع بهم عن نفسها دفاعا شديدا. ثانيا: أنكم بعد فتح الشام وفارس لا بد أن تفعل فيكم مدنيتهما وتجتذبكم إلى الترف والتمتع، وتثير الطمع والحسد في نفوس حكامكم لاتساع ملككم فتنقسم كلمتكم ويتنافس أمراؤكم فتقفون عن الفتح حيث أنتم.
فهنا نظر الأمراء بعضهم إلى بعض وضحكوا من حرية فكر هذا الشيخ. أما الشيخ فأردف بقوله: ثالثا: أن القسطنطينية لا تفتح إلا بالأساطيل البحرية، والإمبراطور لديه ما يدفع أساطيلكم إذا كان لكم أساطيل. فإن سوريا يدعى «كالينيكشوس» اخترع له سيالا إذا وضع في أسطوانات ونفخ على السفن أحرقها ولم يدعها تدنو من الشاطئ، وتركيب هذه النار محسوب في جملة الأسرار الإمبراطورية، واليونان يحرقون بها كل الأساطيل التي تدنو من بلادهم.
رابعا: أن معامل الفرس الصناعية ستنتقل ولا شك إلى الإمبراطورية بعد فتحكم بلاد الفرس؛ لأنني أظن أنكم في هذا الطور من الفتح لا تهتمون كثيرا بالمعامل والصنائع؛ إذ كفاكم منها ما لدى الشعوب المغلوبة التي تدخل تحت يدكم، وفضلا عن ذلك فإن اليونان هم سلاطين البحار الآن، وتجارتهم أوسع التجارات، فلهذا كله سيبقى في مملكتهم من القوة الحيوية ما يمكنها من المقاومة والبقاء دهرا طويلا.
خامسا: أن القبائل الذين أضعفوا السلطنة بحروبهم على شواطىء الدانوب قد أخذوا يتمدنون. أي أخذوا ببناء المدن على شواطىء هذا النهر. فدخولهم في طور الإقامة بعد طور الارتحال سيقوي السلطنة؛ لأنه يجعلهم بمثابة سور لها مانعا عنها كل غارة جديدة.
33
فالذي أراه أن هذه الأسباب ستتغلب عليكم إذا لم تتغلبوا عليها.
فانبرى حينئذ خالد بن الوليد، وصاح: والله إنني لأخوض الآن بجوادي البحر إلى القسطنطينية إذا أذن لي أمير المؤمنين. فابتسم عمر لشجاعة خالد، ولكن الشيخ وإيليا ابتسما أيضا.
النبوءة
34
عن مصير سلطنة بزنطية (القسطنطينية)
دمعتا الإمام عمر
وكان أبو عبيدة في أثناء ذلك مصغيا. فقال حينئذ: أيها الشيخ أنت قلت: إن التنجيم والرجم بالغيب كثير في بلادكم. أفلم يتنبأ أحد عن مصير هذه السلطنة؟
فابتسم الشيخ وأجاب: بلى إن النبوءات كثيرة، وها إنني أذكر لكم إحداها.
قال المنجم: إن السلطنة ستصير إلى قوم مختونين، وهذه الولايات السورية التي هي أكثر الولايات عمرانا وفيها اليونان أقوى منهم في سواها ستدخل تحت حكمكم، وأحد قوادكم
35
سيصل في سنة 669 حتى أسوار العاصمة (القسطنطينية) ويحصرها، ولكنه يرتد عنها، وسيعبر البلغار أحد فروع السلافيين نهر الدانوب، ويؤسسون في ولايات الشمال مملكة قوية تنمو مدة ثلاثة قرون. ثم ينتشر السلافيون في أبيروس والتراس
36
ومكدونيا وتساليا والأتيك والمورة نفسها حتى سالونيك. فيقوم النزاع العظيم في الغرب بين العناصر السلافية والعنصر اليوناني، ومن سنة 716 إلى سنة 842 يقوم إمبراطرة مصلحون
37
فيفرغون جهدهم في إضعاف نفوذ الإكليروس وعلى الخصوص الرهبان وتنقية العبادات وتقوية السلطة المدنية وسلطة الإمبراطرة، ومن الأسف أنهم سيضطرون بحماسة النزاع إلى بعض الاضطهادات، ولكنهم مع ذلك يصلحون إصلاحات عديدة؛ فيحسنون أحوال الفلاحين والزراع ، ويلغون الرقيق، ويصلحون نظامات العائلة، وسيكون لهم أعوان ومساعدون من جميع الطبقات المستنيرة من الأمة ومن عقلاء الإكليروس أيضا
38
وهذه الإصلاحات السياسية والدينية يتقبلها الناس بهدوء ولا يثورون ضدها إلا في إحدى الجزر.
39
وفي زمن أحد الإمبراطرة
40
يجتمع مجمع مؤلف من 348 أسقفا ويقررون إبطال الصور والأيقونات، فتكون نتيجة هذا القرار سلخ إيطاليا والكنيسة الغربية عن السلطنة الشرقية؛ لأنه حين وصول خبر إبطال الأيقونات إلى إيطاليا يقوم في نفس الشعب ميل للانفصال عن سلطة القسطنطينية، وطلب الاستقلال، ويساعدهم على ذلك رئيس كنيسة رومة مقاومة لقرار المجمع وسلطة الإمبراطور، ويومئذ يكون اللومبارديون مهددين إيطاليا والإيطاليون يخضعون لرئيس كنيستهم أكثر من خضوعهم للإمبراطور. فلما يرى رئيس الكنيسة الغربية أنه لا يرجى من الإمبراطور مساعدة على اللومبارديين يستعين بالفرنك عليهم فتسقط سلطة الإمبراطور عن إيطاليا سقوطا تاما، وتنضم إيطاليا إلى أملاك ملكين عظيمين للفرنك
41
ثم إن رئيس الكنيسة الغربية رغبة في تقوية نفوذه وسلطته يمنح أعظم هذين الملكين
42
لقب «إمبراطور» ويتوجه في سنة 800. فيستاء من ذلك إمبراطرة السلطنة الشرقية، ولا يعترفون له بهذا اللقب. ثم إن «الإمبراطور الغربي الجديد» تحدثه نفسه بتوحيد الإمبراطوريتين؛ ليكون «سلطان العالم» فينوي الزواج بإمبراطورة تكون على عرش السلطنة الشرقية
43
ثم يقوم أحد الإمبراطرة
44
ويعترف له بلقبه، وإن كان باقي الإمبراطرة بعده ينكرونه عليه، وفي سنة 842 يجتمع مجمع في القسطنطيية ويقرر إعادة الصور.
وفي ختام القرن التاسع والعاشر تبلغ المملكة من السعة والقوة مبلغا لم تدركه قبل ذلك. حتى إن أحد ملوكها
45
يدحر السلافيين في بلاد الروس، ويملي عليهم شروط الصلح، ويصل إلى ما وراء نهر الفرات، ولكن هذا العدو الهائل - الروس وفرعهم من البلغار والسرب - يبقى في وجه السلطنة كجبار رابض على صدرها. إلا أن هذا الجبار يتلطف يوما وينجذب إلى المدنية اليونانية. فتأتي في سنة 957 أرملة الملك الذي هاجم القسطنطينية
46
إلى هذه العاصمة وتعمد فيها، وفي سنة 988 يتزوج أحد ملوك الروس
47
بأخت إمبراطور
48
ويدخل إلى بلاده الدين المسيحي والمدنية اليونانية. فتصير مدينة كييف ثانية القسطنطينية من حيث نمو العمران والحضارة والمدنية، ولكن إمبراطورية اليونان تربي لنفسها في هذا الشعب الهائل الجديد الآخذ في التمدن عدوا لدودا و«وارثا» لقوتها وسلطنتها، وكأن الله يختار هذا الشعب الجديد لهذه الوظيفة؛ لأن الشعب اليوناني القديم يعجز عن إتمام وظيفته إلى النهاية للأمراض التي طرأت عليه، ومما يزيد أعداءه وأمراضه حروب يسمونها يومئذ حروبا صليبية. فإن المنجم يقول: إن امراء الغرب سيتحدون يوما على الشرق بتحريض رجال الدين، ويكون لهم يومئذ من هذا التحريض غرضان؛ الأول: إسقاط سلطنة اليونان لما بين الفريقين من الخلافات الدينية، والثاني: إفناء سلطة الإسلام واستخلاص القبر المقدس منها، وستكون هذه الحروب من أعظم الوسائل إلى تمدين الغرب؛ لأن الصليبيين يجدون في القسطنطينية والشرق من آثار العمران والعلوم والفنون والحكمة والعظمة ما يبهر عقولهم فيتهافتون على اقتباسه، ولكنهم يجزون هذه الأمم الممدنة في مقابلة ذلك شر جزاء؛ لأنهم يضعفونها بحروبهم، ويفرغون جهدهم في إسقاطها، ويستولون مدة على القسطنطينية منصرفين إليها عن الشرق وعن الإسلام. مع أنه لو يتحد الفريقان يومئذ؛ لتغير وجه الكرة الأرضية، ولكن إذا كان يمكن اتحاد الماء بالنار يمكن اتحاد اليوناني باللاتيني؛ لتخالف مصالحهما السياسية والدينية معا، ولما يظن أحد الإمبراطرة
49
أن النزاع بين السلطنتين وارد من جهة الاختلاف في الدين فقط يتقرب من كنيسة رومة لإزالة الخلاف. فيرسل نوابا من قبله إلى مجمع ليون (سنة 1274) ولكن الشرق وكنيسته يرفضون الاتفاق. فكأن هذا الإمبراطور يجهل ما يعرفه الجميع من أن كل أمة تحب أن تعيش حرة في بلادها، وتفهم دينها بعقول أبنائها لا بعقول غيرهم. ثم تصبح الحالة في القسطنطينية فوضى، ويكون للإيطاليين فيها محاكم خصوصية وقناصل يحكمون بينهم كأنهم مملكة في المملكة، وتثور حرب أهلية بين شيخ وحفيده
50
فيقوم خادم للشيخ
51
ويغتصب الملك منهما، ويحالف الأتراك عليهما (سنة 1347-1355) ويكون ملك هذا الخادم مقصورا على النزاع على الملك بينه وبين الوارث الشرعي من آل الشيخ
52
ولما يعود الملك إلى الوارث الحقيقي يقوم عليه ابنه، وسيبذل البندقيون والجنويون والأتراك جهدهم للاستفادة من هذه الفتن الداخلية ويوسعونها ، وحينئذ تبدأ سلطة عظيمة في الانتشار.
فإن الأتراك بعد الاضطرابات التي ستسقط خلافة بغداد (سنة 1258) تشتد شوكتهم فينتشرون من شرقي جبال الأوليمب في وادي سنغاريوس حيث يقيمون ويزحفون إلى القارة الغربية، ويساعدهم على انتشارهم هذا أن الأسرة المالكة
53
بعد أن تترك القسطنطينية لعدوها الداخلي الذي قام عليها، وتتخذ نيقية عاصمة لها حيث تقدر منها على مراقبة الأتراك والحرص على ولاياتها الآسيوية التي كانت كل قوة الإمبراطورية منها - تعود فتترك نيقية لاستردادها القسطنطينية. فيخلو الجو حينئذ للأتراك ويثبون على البلاد، وبدل أن يتحد السلافيون واليونان واللاتين عليهم يستعين بهم الإمبراطرة على سحق المملكة السربية التي أقامها السربيون. فيهدم سلطان تركي
54
مملكة السرب (سنة 1389) وبذلك تقوى سلطة الأتراك قوة عظيمة. أما سلطنة بزنطية فإنها تصبح يومئذ عبارة عن بقايا ولايات منقطعة عن رأسها، ولكن بقاءها حينئذ إنما يكون مسببا عن تعدد سلاطين الأتراك وانقسام قواتهم. فلما يقوم فيها سلطان قوي
55
ويوحد قوتهم وسلطتهم بإخضاعهم لسلطانه يهاجم القسطنطينية ويحصرها (1397) ولكن انتصار سلطان المغول
56
على جنوده قرب أنقرة يرده عن هذه العاصمة. فيقوم بعده «التركي الفاتح» الذي كتب للقسطنطينية أن تفتح له
57
فيحصرها ويفتحها (سنة 1453) ويجلس على عرش القياصرة العظام، بينما آخر إمبراطراتها
58
يموت بين جنوده موت الأبطال دفاعا عن عاصمته وعرشه، وحينئذ تقوم في القسطنطينية الجديدة سلطنة جديدة عظيمة تبلغ من بسطة الجاه والعظمة أن تصل جنودها إلى قلب الغرب، وأساطيلها تستهزئ بشواطئه.
فلما انتهى الشيخ إلى هنا سكت، ونظر إلى إيليا فوجده مشغولا عنه بالتأمل، وعلى وجهه دلائل التألم من شيء يفكر فيه. أما أمراء العرب فقد ساءهم ختام نبوءة الشيخ، وكان الزبير حاضرا بينهم فانبرى، وقال: إن صاحبك المنجم يظن أننا سنصنع صنع الروم أي نشتغل لغيرنا. فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سنملك القسطنطينية كما ملكنا بيت المقدس، ولو توارت عنا في السحاب.
فقال الشيخ وقد رام تخفيف غضب الزبير وغيره: أيها الفارس الشجاع، لا تغضب لنبوءة المنجم فإنه يتكهن على غير هدى. أما نحن معاشر السوريين فسيان عندنا ملكتم السلطنة أنتم أو ملكها غيركم؛ لأننا لا نطلب من ملكها غير العدل والحرية.
فابتسم أبو عبيدة وسأل الشيخ: وهل فرغت نبوءة المنجم؟ أم بقي منها شيء لعل نوبتنا تأتي بعدها. فأجاب الشيخ: بل بقي منها شيء، وهي أن الذين رشحوا أنفسهم لوراثة سلطنة بزنطية كما تقدم الكلام يغضبون لانتقال هذا الإرث من يد اليونان إلى يد أمة «الفاتح» كما غضبتم الآن أنتم من ذلك. فيقومون إلى طلب هذا الإرث.
فقال أبو عبيدة: وبعد؟
فأجاب الشيخ: هنا سكت المنجم، ولم يعد يذكر شيئا جليا، وإنما يقول: إنه بعد اضطرابات وحروب شديدة يظهر فيها كل واحد من الفريقين منتهى البسالة والقوة تتحول سياسة العالم عن مجراها الأول. فإنه بعد أن يكون كل الخلاف والنزاع محصورا في سلطنة عظمى ينازعها جيرانها البقاء ويطمعون فيها تقوم سلطنات عظيمة أخرى على أنقاض إيطاليا القديمة والسلطنة الغربية، فتنصرف الأهمية السياسية عن بزنطية إلى عواصم سلطنات الغرب الجديدة، وبدل أن يكون حينئذ هم «الوارث» مصروفا إلى منازعة «الفاتح» لطلب إرثه يكون مصروفا إلى مقاومة تلك السلطنات القوية الجديدة؛ ليحفظ نفسه منها، وإلى زيادة مستعمراته في جهات أخرى؛ لأن سياسة المستقبل سياسة فتوح استعمارية لا سياسة فتوح حربية وأطماع فارغة؛ بل إن «الوارث» و«الفاتح» سيتفقان بإزاء الخطر الجديد الوارد من باقي السلطنات الكبرى والصغرى، ويعيشان جنبا إلى جنب بسلام وأمان كجارين كريمين، فإن الأرض واسعة لا تضيق عن الناس الكرام.
فقال أبو عبيدة: ولكن ألم يخبر المنجم شيئا عن «الأصيل» صاحب الملك الأول. فأين يذهب؟
فأجاب الشيخ: نعم، أخبر عنه. فإنه يقول: إن هذا «الأصيل» يصغر بعد الكبر؛ لأنه لم يقدر على حفظ نفسه، وينحصر في شبه جزيرة صغيرة قرب القسطنطينية، ومن هناك يبقى متطالا دائما إلى عاصمته القديمة مفكرا فيها ومراقبا «الوارث» عدوه القديم لئلا يسطو عليها.
فقال خالد ضاحكا: والعجب من تعادي «الأصيل» و«الوارث» مع أنهما من دين واحد.
فضحك الشيخ وأجاب: إن المنجم يقول: إن «الأصيل» سيتفق يوما مع «الفاتح» على «الوارث » وعناصره
59
حفظا لمصالحه؛ لأن السياسة مبنية على المصالح لا على الأديان، والقرون القادمة سيكون الدين فيها أضعف العلائق بين الناس.
ويظهر أن الإمام عمر ضجر من هذا الحديث فظهرت دلائل الملل في وجهه فقال: لا عرافة ولا تنجيم في الإسلام، والله لم يدهشني شيء كغضب الزبير من تخرصات المنجم. فدعونا من هذه الأوهام. أيها الشيخ شكرا؛ لأنك أوقفتنا على بعض أخبار المملكة. اتبعنا يا إيليا.
ثم نهض عمر فنهض الجميع لنهوضه عائدين إلى بيت المقدس، وعمر كثير التفكير والاهتمام.
وكان أبو عبيدة يسير إلى جانب الإمام عمر في مسيره وهو يفكر أيضا، وبعد حين قال: ما قول أمير المؤمنين في أسباب سقوط دولة الروم؟ والله إن نفسي في أثناء كلام الشيخ كانت تنتفض خوفا من أن يصيبنا يوما ما أصابهم.
فسمع خالد كلام أبي عبيدة فدنا منه وقال: أيها الأمير نحن بعيدون عن كل ما أودى بالروم بعد الأرض عن السماء. فلا رهبانية في الإسلام؛ لنخشى منها على ديننا وشعبنا، ولا تجبر ولا تكبر عندنا؛ لنترك ضعفاءنا يموتون جوعا وضعفا وأقوياءنا يحشدون الأموال ويسخرون لأنفسهم باقي الناس بأجور قليلة، وخليفتنا إنما يهتم بصلاح حال الشعب قبل اهتمامه بفسه وبأمراء أمته، وكل واحد منا أحب شيء إليه الموت في ساحة القتال طلبا للجهاد؛ لأنه مروض على الحرب منذ نعومة أظفاره، وقبائلنا ملأ الله قلوبها بروح الإسلام، وغسلها من أدران الجاهلية؛ فهي متحدة على إعلاء كلمة الله اتحادا لا انفصام بعده. فماذا نخاف بعد هذا؟
فسكت عمر ولم يجب، ولكنه بعد حين قال لأبي عبيدة: ادع لي إيليا. فأسرع إيليا ووراءه الترجمان. فسأله عمر: يا إيليا هل ورد للرهبان والصور ذكر في إنجيلكم؟ فأجاب إيليا: كلا أيها الأمير، فقال عمر: هل يعلمكم إنجيلكم التجبر والتكبر ويقسم أمتكم قسمين: سائدين ومسودين؟ فقال إيليا: معاذ الله أيها الأمير، فإنه يعلمنا أن الكبير فينا صغير والصغير فينا كبير، وأن رئيسنا يغسل قدمي كل واحد منا دلالة على اتضاعه واهتمامه بأمته.
فقال خالد: سبحان الله.
فقال عمر وقد هز رأسه: وهل يحضكم إنجيلكم على إدخار الأموال والاستئثار بها وإنفاقها في سبيل الشهوات والملاذ؟ فقال إيليا: أيها الأمير إن سيدنا المسيح كان يشترط على كل رجل يتبعه أن يبيع أملاكه، ويجيء بثمنها إلى صندوق الطائفة وهو «كبيت المال» عندكم.
فقال خالد أيضا: سبحان الله.
فقال عمر: وهل يحضكم إنجيلكم على التنافس والتباغض، وقيام أفرادكم بعضهم على بعض، وشعوبكم بعضها على بعض؟ فقال إيليا: أيها الأمير إن إنجيلنا يقول: «لا تقاوموا الشر بالشر؛ بل من ضربكم على خدكم الأيمن فحولوا له الأيسر، وأحبوا أعداءكم وباركوا مبغضيكم؛ لأنكم إذا لم تحبوا غير محبيكم فأي أجر لكم».
فصاح خالد هذه المرة بصوت أقوى مستغربا: يا سبحان الله.
أما عمر فإنه أنفض رأسه وسكت، وبقي يسير بجانب أبي عبيدة وخالد متنح عنهما، وبعد برهة رفع الإمام الجليل كمه إلى عينيه فنظر أبو عبيدة في وجهه فرأى دمعتين جميلتين تسطعان كلؤلؤتين في حدقتي الإمام. فصاح أبو عبيدة: ما أبكى أمير المؤمنين؟ فازداد عمر بكاء وقال: يا عامر إنني أبكي على أمتي؛ لأنني لا أعلم ما يحل بها بعدي. يا عامر، إنك تعلم أنني لم أرع العرب وأجمعهم بعد تفرق كلمتهم إلا بعصا من حديد، فأخشى أن تدب عقارب الشقاق بينهم بعدي. يا عامر قد سمعت من الشاب إيليا ما هي شريعة الروم، وسمعت من الشيخ كيف خرجوا عنها، فأنا أخشى أن نخرج عن شريعتنا في مستقبل الزمان كما خرج الروم عن شريعتهم فيصيبنا ما أصابهم. يا عامر، إن بلاد الله وعباد الله لا تساس إلا بالعدل والصدق والحق وإطلاق الحرية للغير؛ لأن لكل فرد وكل شعب حيزا لا غنى له عن التحرك ضمنه، وإنصاف الناس حتى أصغرهم وأحقرهم، والاهتمام بالشعب قبل كل اهتمام، وتنزيه الدين عن اتخاذه دعامة للمصالح وللسياسة وآلة للبغض والشقاق، واعتبار الأمم التي تقبلنا وندخل بلادها أنسباء لنا. لها ما لنا وعليها ما علينا؛ لأنها في ذمة الله وذمتنا. فأنا أخشى يا عامر أن نغير ما بأنفسنا من هذا يوما كما غير الروم؛ فيغير الله نعمته علينا، وتنتقض أعمالنا.
فيا تربة جبل الزيتون التي شربت تينك الدمعتين الجميلتين اللتين جرتا من عيني الإمام العادل العظيم هل حفظتهما في صدفة نفيسة كما يحفظ الدر النفيس. يا طيف الكمال الذي يسكن جو ذلك الجبل الكريم منذ دوت في فضائه خطب ابن الناصرة الإلهية ألم ترفرف حيئذ حمامتك السماوية على رأس ابن الخطاب حين لفظ هذا الكلام الجميل، ويا أيها المسلمون والمسيحيون في مشارق الأرض ومغاربها خصوصا يا إخواننا الشرقيين ألا تنتفض عظامنا كلنا - انتفاض العصفور بلله القطر - بعد وقوفنا على أسباب سقوط سلطنة بزنطية، وتأملنا في التي خلفتها، وسماعنا الإمام عمر بعد وقوفه على هذه الأسباب يقول ما قاله.
الفصل الثالث والعشرون
أستير في البيت الأحمر
ولم يكد عمر يبلغ بركبه سفح الجبل حتى ظهر لهم من بعيد رجل يركض ركضا شديدا. فلما وقع نظر إيليا على هذا الرجل عرف أنه أرميا فقال في نفسه: قبحا لمنظر هذا الثقيل ولملقاه.
وكان الشيخ سليمان قد عاد إلى المزرعة بعد أن ودع عمر، وإيليا يسير وراء الأمراء منفردا؛ لأن رفيقه القس الترجمان قد عاد إلى البطريرك قبل قصدهم جبل الزيتون؛ ليطلعه على نتيجة مهمة إيليا، ويبلغه أن الأمير أمسك إيليا عنده.
وكان إيليا يسير وفكره شارد عند أستير وأبيها، ولذلك استعاذ بالله لما نظر أرميا قادما. فنوى أن لا يلتفت إليه، فأطرق إلى الأرض وبقي سائرا في طريقه.
أما أرميا فإنه ما اقترب من الركب ولمح إيليا من بعيد حتى صاح بأقوى صوته: كيريه إيليا كيريه إيليا. تعال تعال إلي.
فالتفت نحوه إيليا لفتة، ثم صرف وجهه عنه، وسار في طريقه.
وقد عجب الأمراء من حالة هذا الرجل وصرف إيليا وجهه عنه، ولكن أبا عبيدة أخبر الأمير أنه معتوه فحل الابتسام محل العجب عندهم.
أما أرميا فإنه هجم كالذئب الكاسر على إيليا وأخذ به. ثم جثا على الأرض صارخا بكل قواه: كيريه إيليا كيريه إيليا. رحماك خلصنا. صديقي. أخي. حبيبي. لا تتركنا.
فدهش إيليا من هذه اللهجة الجديدة فلم ير بدا من سؤال أرميا عن مراده وقصده، فصاح أرميا والجنون يقصف ويعصف في عينيه: - إيليا. إيليا. إذا تركت أستير فإنني أقتلك ... ها ها ... هلم معي إليها ... هي تنتظرك ... هي تنادي إيليا إيليا ولا أحد يجاوبها ... اسمع اسمع. إن البطريرك أرسلني إليك ... وأبوها عنده الآن ... وهو يطلب أن يراك ... ففتشت عليك المدينة كلها فلم أظفر بك إلا هنا ... إيليا إيليا ... لا تستغرب كلامي ... لا تظنني مجنونا فأنا أقول لك الحق ... نعم، قد دخل الشيطان منذ مدة إلى قلبي فصنعت ما صنعته معك ... ولكن ما كنت أظن أنها تحبك إلى هذا الحد ... فاسمع يا صاحبي ... يا أخي في المسيح. الله يبارك لك فيها ... انظر ... ها إنني أنفض يدي أمامك منها ... خذها وحدك ... لك وحدك يا إيليا ... ولا آخذ منها أنا غير خصلة من شعرها ... ولكن خلصها ... آه لو كنت علمت أنه سيحدث ما حدث لما كنت صنعت شيئا ... ولكن ما جرى جرى ... ولا نعود إليه ... هلم معي يا عزيزي لنخلصها.
فلما سمع إيليا هذا الكلام ونظر إلى حالة أرميا اشتد جزعه على أستير، فأنهض المعتوه وسكن باله واستخبره الخبر، ولما علم منه كل شيء طارت نفسه شعاعا، فاستأذن الأمير، وسار مسرعا إلى المدينة قاصدا المقام البطريركي.
ولما دخل إيليا على البطريرك وجده جالسا على مقعد وهو مطرق يفكر، ويظهر أن الأشهر التي مرت في اثناء الحصار وما تلا ذلك من فتح المدينة قد أثر في نفس البطريرك تأثيرا شديدا، ولذلك كان لونه الناصع الوردي الاعتيادي مشوبا بالاصفرار، وجسمه قد نحل قليلا، ولما وقع نظر البطريرك على إيليا صاح البطريرك: بم أجاب الأمير يا ولدي، فمد إيليا يده إلى جيبه وهي ترتجف، وأخرج له الرق السري، وأبلغه جواب الأمير. فتناول البطريرك الرق بيده وهي ترتجف أيضا، وقال بنزق: من أين وصل هذا الرق إلى يد ذلك اليهودي؟ فدهش إيليا وقال: أي يهودي يا مولاي؟ فقال البطريرك: أبو الفتاة التي قبض عليها الشعب في طريق بيت لحم ، ولذلك بعثت في طلبك مع أرميا لتدبر هذه المسألة. فازدادت دهشة إيليا، وظن أن أرميا كاذب بما قاله عن أستير. فقال: وما شأن هذا اليهودي؟ فقال البطريرك: اجلس يا إيليا.
ثم إن البطريرك أخذ يقص على إيليا ما حدث. فعلم إيليا أن أبا أستير جاء البطريرك باكيا منتحبا، فانطرح على قدميه، وأخبره أن إيليا أساء إلى ابنته، وقد أشرفت على الموت، ولذلك فهو يسأله أن يرسل إليها إيليا؛ ليظهر لها الرضى ويعزيها حتى إذا شفيت من علتها وعاودتها صحتها سافر بها أبوها. فدهش البطريرك من هذا الاقتراح البارد ورد الشيخ بخشونة. فذهب الشيخ باكيا، وأرسل إليه مع أحد الشمامسة ورقة مختومة فيها هذه العبارة: «إذا لم يفعل البطريرك ما ذكرته له، وماتت ابنتي، فإنني أنتقم لنفسي بأن أكتب للإمبراطور، وأطلعه على مسألة الرق السري الذي دفعه إلى أمير العرب».
فلما قرأ البطريرك هذه الورقة أسقط في يده، وأرسل يسترجع الشيخ. فرجع الشيخ، وعلم منه البطريرك ما يريد علمه عن أستير وإيليا، وكانت السيدة تيوفانا التي ذهبت بأستير إلى دير العذراء على جبل الزيتون قد عادت من الدير بعد فتح المدينة، فاستدعاها البطريرك، وطلب منها أن تنقل أستير من خيام العرب في حيز بيت المقدس إلى منزل موافق لصحتها وتحسن مداراتها. فاختارت تيوفانا «فندق البيت الأحمر» في بيت لحم فذهبت مع أبي الفتاة ونقلت أستير إليه، وقد وعد البطريرك الشيخ بأن يبعث إليه إيليا في المساء.
وكان أرميا قد جاء مع الشيخ إلى المقام البطريركي، فأرسله البطريرك في طلب إيليا، فذهب أرميا وجرى له مع إيليا ما جرى.
فلما وقف إيليا على هذه التفاصيل خيل له أن الأرض أخذت تميد به، وسمع صوت أستير في باطنه يناديه: إيليا إيليا. فما فرغ البطريرك من كلامه حتى وثب إيليا، وقال: أنا سائر إلى البيت الأحمر يا مولاي حسب أمركم.
فقال البطريرك مبستما مع اشتغال باله وكثرة همومه: لا بأس يا بني، فإن إنقاذ روح محبة من الموت كإنقاذ نفس ضالة من جحيم الضلال .
وبعد خمس دقائق كان إيليا على جواد يعدو على طريق بيت لحم، ووراءه أرميا يركض كالكلب وراء صاحبه.
ولما وصل إيليا إلى «البيت الأحمر» نظر في الباب من بعيد أبا أستير واقفا ينتظره طبقا لوعد البطريرك، وما وقع عليه نظر الشيخ حتى أسرع إليه والدموع في عينيه. فدخل إيليا إلى الفندق مع الشيخ. أما أرميا فاهتم بتدبير مربط للجواد.
وما صار الشيخ وإيليا وحدهما في الحديقة التي أمام الفندق حتى انطرح الشيخ على يد الفتى ليقبلها. فأجفل إيليا ورجع القهقرى. فقال الشيخ باكيا: يا كيريه إيليا، لقد أنقذتني مرة فأنقذني مرة أخرى.
فقال إيليا بجد وهدوء: ماذا جرى؟
فقال الشيخ: جرى ما سيقتلني ويقتل أمها إذا ماتت. فإذا كنت أنا مذنبا فما ذنبها هي؟ يا كيريه إيليا، لقد علمت كل شيء. فإنها ذكرت أثناء هذيانها وذهولها كل ما حدث لك معها في المزرعة، ووقفت من أرميا على سبب إغمائها ونفورك منها. فلنتحادث في ذلك الآن بهدوء يا كيريه. أي جناية ارتكبت لأستحق احتقارك؟ نحن وأنتم قوم نتنازع على هذه الأرض، وكل منا يحارب خصمه بكل سلاح يقع في يده. فلقد هدمتم هيكلنا وحرمتم علينا الدنو من بيت مقدسنا وسفكتم دماءنا وجعلتمونا نهيم على وجوهنا في الأرض كحيوانات سائمة. فهل ينكر علينا بعد كل ذلك أن نحالف عليكم من يقوم لاستخلاص البلاد منكم؟ ولو كنتم في مكاننا وكنا في مكانكم أفما كنتم تفعلون ما نفعله نحن الآن؟ بل إنكم الآن تفعلون مثله مع أعدائكم العرب؛ لأنكم تبعثون إليهم من يتجسس أحوالهم ويتنسم أخبارهم. فلماذا تحملني وحدي يا إيليا عار الجاسوسية ما دامت هذه الوظيفة القبيحة من لوازم الحروب والاضطرابات.
أما إيليا فلم يلتفت كثيرا لهذا الكلام، ولا جاوب عنه؛ بل سأل الشيخ دون أن ينظر إليه: أين السيدة أستير أيها الشيخ، فإنني أحب أن أراها لأثبت لها أنني ما زلت أحترمها كما كنت، وأن ما بلغها عني خطأ محض.
فأشرق وجه الشيخ وأكب ثانية على يد إيليا صارخا بدموع: بارك الله في شهامتك يا أيها الرجل الكريم. نعم يا ولدي، قل لها: إنك لا تحتقرها، وأنا على ثقة من شفائها.
انظر يا بني، إنها منذ الصباح لا تفارقها نوبة إلا وتقع في نوبة، وكلما تكاد تصحو يشتد هياجها فتلطم وجهها وتقطع شعرها، وفي إحدى المرات عرفتني فصاحت صياحا شديدا، وصرفت عني وجهها نائحة معولة، وهي في أثناء كل ذلك تنادي «إيليا إيليا» وتقص على غير وعي كل ما جرى لك معها. فيخيل لسامعها والناظر إليها أنها فقدت عقلها. فيا ولدي الكريم، ليس لي ولأمها في الأرض أحد نهتم به ويهتم بنا غير هذه الفتاة. فهي شمس آمالنا وعصا شيخوختنا. فساعدنا على تسكين أعصابها ورد عقلها إليها يكن لك الأجر والثواب عند الله والناس.
وإن القلم ليعجز عن وصف ما قام في نفس إيليا في أثناء هذا الكلام. فمد يده وأخذ بيد الشيخ، وقال: هلم بنا إليها.
فدخل الشيخ وإيليا إلى الفندق يقصدان غرفة أستير.
ولم يفتحا باب الغرفة ليدخلا منه حتى انتصب في وجهيهما شبح امرأة وضعت أصبعها على شفتيها وأشارت إليهما بالرجوع. فوقف إيليا والشيخ في مكانهما ولم يدخلا، وصاح إيليا بدهشة: السيدة تيوفانا.
فخرجت تيوفانا وأغلقت الباب، ثم سلمت على إيليا، وقالت: يا كيريه إيليا، لا يمكن أن أتركك تدخل على الفتاة الآن؛ لأنني أخشى عليها من البغتة، وفضلا عن ذلك فهي الآن راقدة، وهذه أول مرة رقدت فيها واستراحت منذ إغمائها.
فشعر إيليا بأن كلام تيوفانا هذا لا يخلو من تهكم المرأة التي يلذ لها عذاب رجل وإبعاده عن حبيبة له في قبضتها غيرة منها.
وفي هذا الحين وصل أرميا إلى باب غرفة أستير عائدا من الإسطبل. فلما سمع كلام تيوفانا عن راحة أستير صلب وقال في نفسه: «كيريالايسون. إن أستير بمجرد دخول إيليا إلى الفندق بدأت تستريح. فكأنها مسحورة منه».
وكاد إيليا يمتثل لأمر تيوفانا وحيلتها فينتظر إلى ما بعد انتباه أستير من رقادها لا سيما وأنه سر بهذا الرقاد؛ لأنه يدل على تحسن صحتها، ولكنه لم يخط خطوة عائدا عن الباب حتى سمع من الغرفة صوتا يصيح بذعر ويأس: إيليا إيليا.
وكانت أستير هي التي صاحت من الغرفة هذا الصياح في الحلم، ولكنها لم تلبث أن انتبهت مرتعدة لصياحها، وأخذت تبكي.
فارتعد إيليا لهذا الصوت، وبقي جامدا في مكانه، ولما سمع بعده بكاءها تقطعت أحشاؤه فدفع باب الغرفة ودخل إليها.
فلما سمعت أستير صوت حركة الباب رفعت رأسها عن وسادتها، والتفتت نحوه بعينين ثائرتين منتفختين.
وكانت العجوز أمها بجانبها، فلما رأتها تنتبه إلى صوت الباب وتنظر بعينين واعيتين عرتها الدهشة إذ كانت هذه أول مرة انتبهت فيها أستير هذا الانتباه.
وقد دخل إيليا إلى الغرفة وحده، وبقي الشيخ وأرميا وتيوفانا خارجا.
فلما وقع نظر إيليا على أستير ابتسم لها ابتسامة كابتسامته القديمة، وتقدم نحو فراشها.
أما أستير فإنها ألوت رأسها الأصفر النحيف، وعادت إلى وسادتها وهي تتلفظ بين شفتيها بكلام لم يسمعه أحد.
فدنا إيليا منها والابتسام لا يزال في شفتيه. ثم أخذ يدها ليجس نبضها.
فلما التقت يده بيدها ارتعشتا معا كما يرتعش سلكان كهربائيان مختلفان حين التقائهما.
وكانت أستير حينئذ بلون الأموات نحيلة كالخيال ضعيفة القوى كالطفل، وكانت تغض من طرفها، وتحاول ستر وجهها من إيليا بيدها. فأثر ذلك في نفس إيليا تأثيرا بلل عينيه بالدمع. فقال لها: كيف حال السيدة أستير، وهل ذهب ألمها؟
فأجابت أستير برزانة وجد وصوتها في منتهى الضعف: نعم، قد ذهب كل شيء.
ففهم إيليا معنى كلامها فابتسم إخفاء لتألمه، وقال: فلماذا تبكين إذا كان الألم قد ذهب؟
فأظهرت أستير الدهشة، وقال: أنا أبكي؟ معاذ الله، وإنما تهيجت عيناي مما أصابني، ثم تنهدت وقالت: أف أف فلقد كنت متوقعة ذلك منذ الصباح. فإني انتبهت من النوم ورأسي مثقل وصدري ضيق. فلعل ذلك من عدم تعودي الرقاد في خيام العرب في ليالي البرد.
فعجب إيليا حينئذ من أنفة أستير ورشاقة حيلتها في نسبة علتها إلى غير سببها، وكان أبوها يسمع كلامها من وراء باب الغرفة فسر بجوابها الدال على عزة نفسها. أما أمها فكانت بجانبها تنظر شزرا إلى ذلك الشاب المسيحي.
غير أن إيليا رأى أن كتمان الداء لا يشفيه؛ بل ربما زاده استفحالا، فعزم على مصادمته وجها لوجه. فانحنى نحو أستير، وقال: هل تستاء فتاة عاقلة مثلك من كلام رجل معتوه كأرميا؟ فهنا غضت أستير من نظرها وترقرق الدمع في عينيها. فقال إيليا: فلو كنت مكانك لضحكت من كلامه بدل أن أتأثر به. فإنه مجنون ولا عتب على المجانين، وإذا شئت برهانا على كذبه فإنني أقول لك: إنه جاءني اليوم بعد الظهر، واعتذر مني عن كذبه وافترائه، وهو حاضر خارجا يشهد على ذلك. هل تريدين أن أدعوه لك؟
فلم رأت أستير أن إيليا دخل في الموضوع الذي كرهت الدخول فيه صيانة لكرامتها وشرفها تحول لونها بغتة من الاصفرار إلى الاحمرار، وبدت الدموع في عينيها، وإذ رأى إيليا أنها لم تجاوب عن سؤاله، وكان يعلم أن السكوت في معرض الحاجة بيان نادى بأعلى صوته - أرميا أرميا. ادخل بأمر السيدة أستير.
وكان أرميا قد سمع من وراء الباب حديث إيليا مع أستير، وكلما كان إيليا يذكر عن أرميا أنه معتوه أو مجنون كان أرميا يحرق الأرم ويعض شفتيه من الحنق، ويثور كالجمل قائلا في نفسه - لقد سمحت له أن يأخذها، ولكني لم أسمح له أن يهينني لديها. فلما سمع صوت إيليا يناديه دخل ونزق الجنون في عينيه، ولكنه ما وقع عليه نظر أستير من وراء طرفها الكسير حتى تحول نزقه إلى هدوء. فأحنى عنقه أمام إيليا كالأولاد، وقال: ماذا يا كيريه إيليا؟
فقال إيليا: يا أرميا أما جئتني اليوم، واعتذرت إلي عما فرط منك؟ فقال أرميا: نعم، يا كيريه إيليا. فقال إيليا: أما ذكرت لي أيضا أنك لما كذبت كذبتك على مسمع من السيدة أستير كنت مضطرب العقل. فتردد أرميا في الجواب، ثم قال: نعم نعم قد قلت لك ذلك، وأنت قلت لي إنك ... فهنا خاف إيليا من فلتات أرميا فقطع كلامه قائلا: أنا لا أسألك عما قلت لك؛ بل أسأل عما قلت لي. فاخرج الآن مشكورا على إخلاصك.
فأحنى أرميا المسكين عنقه أيضا، وخرج طائعا كولد صغير، وبهذه الكذبة وهذه الطاعة في حال كهذه الحال لغرض كالغرض الذي اتفق عليه مع إيليا محا أرميا كل خشونته السابقة، وأظهر أن نفسه نفس رجل كريم؛ بل إنه بهذا الأمر الذي أنكر فيه ذاته إلى هذا الحد ارتقى بجنونه إلى ما فوق العقل، وفاق حبه حب إيليا.
أما أستير فإنها كانت في أثناء ذلك ساكنة هادئة لا تظهر على وجهها دلائل الرضى ولا دلائل السخط، وقد ظن إيليا أنه أقنعها بهذه البراهين، وزاد عليها أنه ذكر لها سببا سياسيا لرحيله بسرعة من معسكر العرب كنصيحة عمرو بن معدي كرب، ودعوة البطريرك له، فضلا عن اتباع ما ذكرته له في كتابها، ولكن أستير كانت تفكر في شيء آخر.
وفي ذلك المساء تعشى إيليا في الفندق وتعشت أستير براحة، وبعد العشاء خرج إيليا إلى الحديقة مسرورا بأن أستير أخذت تتقدم من الصحة، فوجد في الحديقة أرميا جالسا إلى مقعد بعيد وهو حزين يتأمل ورأسه بين يديه. فعاد إيليا من حيث أتى اجتنابا لملقى أرميا، ولما علم أن أستير نامت مستريحة بعد العشاء اطمأن باله فطلب فرسه ليعود إلى القدس على أن يعود في الغد، وقبل رحيله اختلى بأبي أستير، وحادثه بما حادثه بشأن الرق السري، ثم ركب وعاد إلى القدس.
ولم يكد إيليا يصل إلى منتصف الطريق حتى لقي شرذمة من أمراء العرب قادمين إلى بيت لحم مع الإمام عمر؛ لأنه رام مشاهدة المكان الذي ولد فيه المسيح كما شاهد قبره ومصعده. فاستأذن إيليا الإمام بإتمام سيره ليعود إلى البطريرك بمهمة أرسله فيها، فأذن الإمام له.
وفي اليوم التالى عاد إيليا إلى البيت الأحمر فوجد أستير على ما كانت عليه أمس، وقد ابتسمت له هذه المرة، وحادثته وضاحكته.
وفي اليوم الثالث أصبحت تقعد، وتطلب دفاترها؛ لتكتب فيها.
وقد عجب إيليا من أن أستير صارت في مرضها أكثر جمالا مما كانت، ولكن إيليا نسي المبدأ المشهور : «إن الجمال في عين الرائي» ولذلك لم يعلم أن ذلك الجمال الجديد الذي أصبح يجده لها كان في نفسه فقط، وذلك من قبيل الشفقة على نحولها وضعفها والخوف على حياتها.
وأقامت أستير خمسة أيام متتالية، وعليها ظواهر الصحة مع صداع في رأسها، وكان إيليا كلما زارها وجدها مشغولة بالكتابة في دفتر تضعه تحت وسادتها، وحين دخوله كانت تطوي هذا الدفتر مبتسمة، وتدسه في قميصها.
وفي اليوم السادس لما زارها إيليا طلبت أن تحمل إلى الحديقة لتجلس ساعة فيها، وكان الوقت قبل منتصف النهار، والشمس تكسر شوكة البرد بحرارتها المحيية. فأخرجوها إلى مقعد تحت شجرة ظليلة، فجلست هناك قريبة من أمها ومن إيليا.
وكانت هذه أول مرة تخرج فيها أستير إلى النور، وتتنشق هواء السماء النقي بعد مرضها. فانشرح صدرها للذة الحياة وأبرقت عيناها، ولكنها لم تلبث أن تغيرت فانقبضت، وسطع في عينيها دمعتان جميلتان كنقط المطر الصافية التي كانت لا تزال على أغصان الأشجار تترقرق في نور الشمس الذهبي كأحجار ماسية معلقة بها.
فانتبه إيليا إلى انقباضها هذا بعد الانشراح، ولكنه لم يعلم له سببا.
أما أستير فإنها أسندت رأسها اللطيف إلى يدها النحيفة، وصارت تنظر بحزن إلى ما حولها من جمال السماء والأرض.
وبينما هي في تأملها هذا سقطت نقطتان من نقط المطر التي على الشجرة كأن أحد العصافير قصد مداعبة أستير فرشقها بهما. فوقعت إحدى النقطتين على يد أستير والأخرى على التراب أمامها.
فحينئذ ابتسمت أستير ونظرت إلى إيليا وقالت: هل نظرت ما نظرت؟ فأجاب إيليا: نعم نظرت. فقالت أستير: فبماذا تشبههما؟ فقال إيليا: أشبههما بمذهبي الجاحد والمؤمن. فحملقت أستير وأشارت بعينها إلى أمها كأنها ترجو منه أن لا يبحث في أمر ديني على مسمع منها، وإن كانت لا تحسن اليونانية. فعلم إيليا أنها لم تفهم كلامه فال: نعم أشبههما بمذهبي الجاحد والمؤمن. فإن النقطة التي وقعت على الأرض وصارت وحلا دنيئا رمز إلى مذهب الأول في مصير الإنسان، والنقطة التي وقعت على يدك وبقيت ماسة صافية جميلة رمز إلى مذهب الثاني.
فبهتت أستير وسكتت تفتكر. فراب إيليا سكوتها، فقال لها: وأنت بم تشبهينهما؟
فرفعت أستير رأسها، وابتسمت، ولم تزد على الابتسام.
وفي هذا الحين وصل الشيخ أبوها، فلما رآها جالسة في الحديقة، وهي تكاد ترتعد من البرد أسرع إليها وأعادها إلى فراشها رغما عنها، ويظهر أن هذه النزهة كان لها تأثير شديد على مرضها.
فإنه قبل دخول الليل اشتد صداعها، وعاودها إغماؤها وهذيانها، وكثر اضطرابها.
ولم يدن الفجر حتى وصل أرميا إلى مزرعة الشيخ سليمان مذعورا وهو يلهث من التعب. فقرع باب غرفة إيليا حتى كاد يكسره فانتبه إيليا مبغوتا، فأخبره أرميا باكيا أن أستير في خطر.
فطار إيليا إلى بيت لحم. فوجد أستير بلا حراك في فراشها، وحولها أمها وأبوها يبكيان بدمع سخين.
وكان وجه الفتاة في سكونها هذا وجه ملاك عابس وممدد في فراش كولد صغير.
فعجب إيليا من هذا الانقلاب، وسأل أباها وأمها عن سببه فلم يستفد شيئا.
ذلك وا أسفاه أن الجميع كانوا يجهلون علتها.
ولذلك كانت العلة كل الأيام الماضية متمكنة منها، ولم يشعروا بها.
ولكن ما هي هذه العلة؟ الحب؟
هذه علة قديمة فيها، ولكن هنالك علة جديدة.
وما هي؟
هي سم ينتشر في دم الإنسان بهدوء وبطء، فيسممه ويفني قواه وحياته، هو الداء الذي ما عرفوا اسمه وميكروبه إلا منذ زمن. هو الآفة التي ترتعد منها فرائص الأمهات والآباء؛ إذ كم اختطفت منهم عزيزات وأعزاء.
هي الحمى التيفوئيدية.
فيا أيها الميكروب القاتل الذي دخلت جسم أستير النحيل، وتمكنت منه دون أن يدري بك أحد إنك ستجري دموعا وتكسر قلوبا.
وقرب الظهر فتحت أستير عينيها. فلم تعرف إيليا بل ظنته أباها. فقالت بصوت متقطع: أبتاه أما جاء كيريه إيليا؟
فوضع إيليا يده على عينيه ليمسح دموعه.
فأردفت أستير بقولها: إنني راحلة يا أبتاه، وقد شعرت بدنو أجلي، فأرجو منك أن تدعوه لي لأراه المرة الأخيرة ... أما أنت يا أماه فصلي من أجلي.
فمسح أبوها دموعه، وأخبرها أن إيليا قد أتى وهو واقف أمامها. فابتسمت أستير ابتسامة جرت عادة ملاك الموت أن يجعلها في منتهى الجمال والحلاوة على شفاه الراحلين. ثم مدت يدها إلى إيليا فأخذت يده، وقالت بصوت متقطع: يا كيريه إيليا شكرا لك. ثم خنقتها العبرات، وعاودتها النوبة.
وكأن أستير شعرت حينئذ أنها شرعت في الدخول في دار الأبدية فاستجمعت قواها كلها، ومدت يدها إلى قميصها فأخرجت منها دفترا مطويا ثم دفعته نحو إيليا قائلة بصوت ضعيف متقطع لا يفهم كلامه إلا بصعوبة: هدية إلى إيليا من عزيزته. فتناول إيليا الدفتر بيمناه بينما كان يمسح دموعه بيسراه، ويظهر أن الفتاة المسكينة قد رأت وهي في حشرجة النزع دموع إيليا، فابتسمت سرورا بأن إيليا يبكي من أجلها. ثم أشارت إليه إشارة أن يتقدم منها. فتقدم إيليا. فاستجمعت أستير قواها وهي على أبواب الموت فقدرت أن تنطق بهذا الكلام: صل من أجلي بدل البكاء ... ادفنوني في المزرعة ... قرب القبر ... لكي أبقى قريبة منك أبدا ...
وهنا أطبقت الفتاة جفنيها، وأعادت روحها إلى باريها.
فيا أيها القارئ الكريم، نرجو منك أن تعفينا من وصف حالة إيليا وأرميا والشيخ والعجوز لما رأوا أمامهم أستير المسكينة جثة هامدة. فإن هذا الوصف يزيد أشجانك وأشجاننا، ويجفف ينابيع الدموع في عيوننا.
ولقد أنفذ الشيخ والعجوز وصية ابنتهما. فأذنا في دفنها في مزرعة الشيخ سليمان بجانب قبر الراهب ميخائيل، وقد صلى عليها أبوها، واشترك أهل المزرعة جميعا في جنازتها، والبكاء عليها؛ لأنهم عرفوها كما تقدم.
أما إيليا فسار في الجنازة كموجود غير حاضر، وقد نفد الدمع من جفنيه، وبقي طول ذلك النهار كمن مسه خبل في عقله، ولما غيب التراب في المساء جسم عزيزته أستير عاد إلى غرفته فأقفل الباب ثم انطرح على وجهه يتذكر ماضي أستير وتقلبات حياته، وبينما هو يتأمل في ذلك تذكر الهدية. فارتعد وجلس ليراها. فلما فتح الدفتر وتصفحه وجد أنه عبارة عن «يومية» كانت أستير تسطر فيه عواطفها كل يوم. فوضع إيليا شفتيه على الدفتر حيث كان خط أستير وعواطفها، وقبله مرارا وهو يبكي بكاء الأطفال. ثم ترك البكاء، وشرع في القراءة، فقرأ أولا ما يلي:
يوم الأربعاء
خرجت اليوم معه إلى الحديقة. فرأيته في النور أجمل منه في الظل، وشعرت بلذة الحياة في هذا العالم ... ولكن أواه إننى لم أولد لأعيش فيه ... وهذا شأن البشر الذين يعطيهم الله نفوسا حساسة أكثر مما يجب ... يا إلهي لا أعارض في أحكامك وحمدا لك ... لما تأملت اليوم في جمال الكون ولذة الحياة أسفت لأنني سأفارق الدنيا ... خصوصا بالطريقة الشنيعة التي عزمت عليها ... آه عفوك يا إلهي مقدما ... وإذا صدق الحلم الذي رأيته في هذا الليل اعتبرته نعمة منك ... فإنني رأيت رسولك جبرائيل هبط إلي وقال: أيها الفتاة إن الله تحنن عليك ورأف بك، ولذلك سيغنيك عن جناية الانتحار، وقد أرسلنى أستدعيك إليه في زمن قصير ... فانتبهت من النوم مذعورة، ولكنني سررت؛ لأنني سأموت موتا لا انتحارا، ولكن أصحيح هذا ... •••
يا لله يظهر أن الحلم سيصدق. فماذا حدث لي يا إلهي. نعم، كنت أشعر في الأيام الماضية بضعف وصداع وارتخاء في كل جسمي، ولكنني كنت أقدر على الجلوس والوقوف. أما الآن بعد عودتي من الحديقة فقد صرت عاجزة عن امتلاك حواسي. فهل هذا بدء الرحيل ... هل اقترب الملاك جبرائيل؟
إيليا إيليا. لقد شعرت الآن أنني منحدرة إلى هوة الموت ... آه، إنني أخافه وأتمناه. أخافه لأنه سيبعدني عنك، وأتمناه لأنني لم أعد أقدر أن أعيش بدونك ... ولا تقل احيي لأكون لك فإنني ذكرت لك في مقدمة هذا الدفتر الأسباب التي تحول دون ذلك. فأشفق علي وصل من أجلي. (فهنا مسح إيليا دموعه؛ لأنها صارت تستر سطور الدفتر عنه، وطلب المقدمة فقرأ فيها):
يوم السبت
أول ما فتحت عيني أمس وجدته أمامي باسما، ولكنه كان أشد اصفرارا مما عهدته. فدنا مني وأخذ يدي ... آه، إنني شعرت حينئذ بنار تحرق كبدي ... ولقد سألني هل ذهب الألم فقلت له قد ذهب كل شيء ... نعم، قد ذهب كل شيء ... وعبثا يحاول تعزيتي وتخفيف مصيبتي فإنني شعرت بأنه لم يبق لي صبر على الحياة ... فقد أضيف إلى الأسوار التي بيني وبينه سور جديد لا يهدم أبدا. هو مسيحي وأنا إسرائيلية فأمته عدوة أمتي خصوصا في هذا العصر الذي كثرت فيه الدماء بينهما. فاقتراني به يكون عارا علي عند قومي. بل أنا نفسي لا أرضاه لنفسي؛ لأنني لا أقدر أن أنسى مصائب أمتي وأحالف أعداءها عليها، وفضلا عن هذا فمن يعقد عقد القران؟ فلا أهله وكهنته يتركون يد كاهن يهودي ترتفع على رأسه، ولا أهلي وكهنتي يتركون يد كاهن مسيحي توضع على رأسي، وأولادنا ماذا يكونون؟ وأي عار يلحقهم حتى ذريتهم كلما قيل لهم عند اليهود إن أباكم مسيحي وعن المسيحيين إن أمكم يهودية، أف ما أشد طياشتي. لقد وصلت في الفكر إلى الأولاد.
ثم ماذا يحل بأمي متى علمت بفعلي. إنني أعرف غضبها ولا أقدر على احتمال سخط عجوز ضعيفة على شفا القبر، وقد سمعتها مرة تقول: خير لها أن تموت من أن ينقذها مسيحي.
ولكن كل هذا يا إيليا شيء يسير بالقياس على السر الجيد الذي فضحه أرميا على مسمع مني. أنا ابنة جاسوس؟ أنا يتجر بي للوصول إلى أسرار الناس وخفاياهم؟ تقول: إنك لم تصدق ذلك، ولم تعبأ به، وتستشهد بأرميا على قولك هذا، ولكن أنا أنا ماذا أفعل بضميري. ماذا أفعل باعتقادي بنفسي ... آه آه. إن هذه الضربة قطعت حبل آمالى في هذه الحياة، ومنذ إصابتي لم تبق لي قوة على النظر إليك. لما فررت منك من المزرعة يا إيليا فررت وأنا شامخة الرأس؛ لأنني علمت أنك تفهم قصدي هذا، وتثني عليه، ويزداد إكرامك لذكري. أما الآن فإنني صرت أشعر بكل جوانحي أنني صرت صغيرة ذليلة في نظرك وفي نظر نفسي، وإذا كنت أنت شهما كريما تتجاهل ذلك وتتناساه إكراما لي فأنا لا يمكن أن أنساه أبدا، إنني كلما وقع نظري عليك أقول في نفسي: «إنه الآن يتذكر أنني كنت من بنات الجاسوسية، وقد اتجرت بجمال وجهي». فيا إيليا سامحني على الأمر الذي عزمت عليه. لقد عزمت على الفرار منك ثانية، ولكنني هذه المرة سأرحل إلى مكان لا تستطيع أن تتبعني إليه.
آه يا إيليا، إنني هذه المرة سأفارقك إلى الأبد فراقا حقيقيا. •••
قلت آنفا: إن فراقنا إلى الأبد. فعفوك يا إلهي. إنني كفرت بنعمك ولم أدر. ليس فراقنا إلى الأبد يا عزيزي إيليا بل إلى الملتقى. نعم، إلى الملتقى هناك فوق يا إيليا حيث لا مسيحي ولا يهودي ولا وثني، بل كلنا بشر متساوون نستريح أو نتعب تبعا لأعمالنا الصالحة أو السيئة في هذه الحياة. اضحك معي هنا من أنني صرت فيلسوفة مثلك. آه إنني لا أنسى حتى في الدار الأخرى خطبتك بجانب قبر الراهب ميخائيل، وإن يدي لترتجف إذا رمت أن أسطر لك الآن رأيي فيها، ولقد تأملت كثيرا في موضوعها بعد رحيلي من المزرعة فوجدت أنني لو بقيت فيها لما كتبت لك الكتاب الذي كتبته.
نعم، إلى الملتقى يا صديقي، وهذا هو الأمر الذي يقويني على فعلي؛ لأنني لو كنت أعتقد أنه لا ملتقى لنا بعد فراقي هذه الدنيا لارتعدت فرائصي، وأحجمت عن الأمر الذي عزمت عليه؛ إذ أين أجد حينئذ القوة على فراقه فراقا لا لقاء بعده؟ أما الآن فإنني قوية على ذلك راغبة فيه؛ لأنني أعلم أن دمي سيغسلني في نظره ونظر نفسي، وإذا حال هذا الدم دون سعادتنا هنا فسيجعلني قادرة أن أكون سعيدة معه هناك، وأعيش بجانبه دون أن أخجل منه أو يستحي بي، ولا ريب أن الله يسامحني على فعلي.
يوم الأحد
بما أنني عازمة على فراقه فقد صرت أجد في نفسي قوة على محادثته ومضاحكته، ولقد دخل علي اليوم ضاحكا مسرورا فاستقبلته ضاحكة مسرورة أيضا. لماذا أجلب له الكآبة والحزن منذ الآن. أما يكفيه منهما ما سيصيبه بعدي ... آه. إيليا إيليا، إن كل دمعة تنحدر من عينيك على قبري ستبرد بها عظمي ... إيليا إيليا، إن كل مرة تراني فيها في أحلامك فإنني أرسل إليك بدلها بركة سماوية من منزلي الأبدي. فبحياة عينيك لا تنسني. إنني أعرف قلوب الرجال، فهم يقولون: إنهم يحبون إلى الأبد، ولا تمر عليهم سنة أو شهر حتى ينسوا حبهم وعهدهم. آه يا إيليا لا أطلب منك كل يوم إلا زهرة واحدة على قبري. •••
يا إيليا، أين تدفنونني؟ آه إنني أشعر منذ الآن ببرودة وثقل التراب الذي سينهال على جسمي النحيف، أف لقد ضاق صدري، وأوشك أن يغمى علي، آه يا إلهي ارحمني، لكن وا فرجاه وا فرجاه، إن صدري يتسع ونفسي ترتفع حينما أذكر في موقف كهذا الموقف كلمة «إلهي» آه ما أحلى هذه الكلمة يا إيليا في أفواهنا وقلوبنا في حال كحالتي. اسمع ها إنني بعد أن تلفظت بها وأحضرتها في فكري وقلبي صرت قادرة على سحق الموت بقدمي. فتعال أيها الموت، إنني لا أخشاك؛ لأن نفسي الخالدة أقوى منك. تعال أيها التراب البارد الثقيل فإنك لست بأبرد ولا أثقل من جسدي، ولكن ... لكن يا إيليا أين تدفنونني؟
هل تدفنوني خارج المدينة في مكان مهمل مجهول؟ لا لا إنني أرتعد من وحشة القفر ويخيفني رقص الذئاب والضباع فوق قبري في ظلام الليالى المدلهة. هل تدفنوني في «طبريا» حيث يولد المسيح وفي «صفد» حيث يقام عرشه
1
لا لا إنني لا أريد الابتعاد عن إيليا مسيحي. فادفنونني في مزرعته بجانب قبر الراهب ميخائيل. هناك يراني إيليا في كل يوم ويسلم علي في كل صباح ومساء، وإنني إذا كنت قريبة منه هكذا فلا أكون وحدي؛ بل يكون لي بجانبي مؤنس إذا مر قرب قبري دفأت عظامي بحرراة أنفاسه، وهشت له حجارة قبري. (وكان إيليا في أثناء هذه القراءة يجهش في البكاء عند كل سطر أو سطرين كأن عينيه وجدتا نبعا جديدا من الدمع. فلما انتهى إلى هنا عاد إلى خاتمة الدفتر؛ ليقف على آخر عواطف أستير بعد وقوفه على الأسباب التي ذكرتها، فقرأ في الصفحتين الأخيرتين ما يلي):
نعم نعم، إنني أرى الموت آتيا. حمدا لك يا إلهي فإنك أنقذتني من جناية الانتحار وقتل النفس، بل إنك يا إلهي أنقذتني من الحياة نفسها؛ لأنني لم أكن على ثقة من مقدرتي على الانتحار، فكنت أخشى أن أجبن حين الشروع فيه أو تعود إلي غريزة الحياة بعد تمام عافيتي فأعود إلى التمسك بها، أما الآن فلا جبن ولا ضعف ولا خوف، غدا ستطلع الشمس ولكن تكون أستير غائبة. غدا يناديها أمها وأبوها فتكون جثة باردة و«هو» ماذا يصنع حينئذ؟ وما يقول؟ وبم يفتكر؟ آه إنني لم أعد أقدر على لفظ اسمه بفمي، يا إلهي احرسه بعدي، أواه هل يكون سعيدا أو تعيسا في مستقبل حياته؟ وا أسفاه إنني اختبرت الحياة ورأيت ما فيها من الشناعة والقبح والدناءة، فمن الصعب فيها على محبي الجمال المطلق والنقاء وطهارة الأخلاق أن يعيشوا مسرورين مرتاحين. أف إنني لا أزال أذكر ما رأيته من أفعال الناس في حياتي. لا أزال أذكر الوحوش البشرية الشرهة المرتدية بملابس جميلة تحيط بي وتصرف أنظارها إلي كأنها تريد ابتلاعي. لا أزال أذكر تنازع هذه النفوس الصغيرة واقتتالها على الأمور الأرضية التافهة اقتتالا يسقط فيه الخجول الظريف اللطيف العفيف، ويقوم الخشن الغليظ الوحشي الكثيف. لا لا. ما أحلاك أيها الموت فتعال وأرحني من هذه الحياة الدنيئة. إن حفرتك الهادئة الجميلة هي ملجأ أمين من كل فظائع وشرور هذه الحياة. هي مكان الراحة الأبدي الذي يرفرف عليه ملاك الجمال جمال الهدوء والسكون والسلام بعد شناعة القلق والاضطراب. فما أحلى وأطيب الرقاد في ذلك المكان، ولكن يا للذة العظمى والحلاوة الكبرى لو كان «هو» معي. (فمسح إيليا دموعه هذه المرة أيضا وهو يشهق شهيقا شديدا، وكان قد أتى على آخر الدفتر، ولم يبق في الصفحة الأخيرة غير عبارة واحدة مسطرة بحروف مضطربة؛ لأن اليد التي كتبتها كانت ترتجف من دبيب الحمى والموت. فقرأها إيليا فكانت كما يلي):
الوداع ... صرت عاجزة عن الكتابة ... فاقرأ من قبيل الوداع الفقرات الثلاث الأخيرة من كتابي إليك لما كنت في المزرعة.
فتذكر حينئذ إيليا هذا الكتاب فأخرجه من جيبه، وأخذ يتلوه ويقبله باكيا، ولما لم يعد قادرا على إتمام تلاوة الدفتر لشدة تأثره طواه ووضعه في جيبه وهو يبكي بكاء الأولاد، ثم خرج مسرعا من الغرفة يقصد قبر أستير، ولكنه لم يصل إليه حتى وجد هناك فوق التراب الذي لم تكن مرت بعد ساعتان على انهياله على نعش الفتاة - رجلا ممددا على الأرض بطول القبر وهو يبكي. فعرف إيليا أرميا لأول نظرة، ولما وقعت عين أحدهما على الآخر أجهشا كلاهما في البكاء.
فمن يعلم أن أستير لم يسرها وهي تحت التراب هذا الإخلاص من محب عاقل ومحب مجنون.
الفصل الرابع والعشرون
الخاتمة
هكذا كانت نهاية هذه القصة المؤلمة التي مزج فيها المؤلف دموعه بدموع إيليا، وربما بدموع القارئ أيضا.
وفي تلك الليلة لم يزر الكرى جفن إيليا، ولما أصبح الصباح لزم فراشه لاعتلال طرأ عليه، ومنذ هذا اليوم عاوده ضجره القديم فصار سكوتا منقبضا لا يلتفت إلى شيء ولا يبالى بشيء، ولما سمع الشيخ سليمان باعتلاله أسرع إليه شديد الاهتمام بأمره.
ذلك أن الشيخ سليمان كان كثير الخبرة في الحياة.
ذلك أنه كان يعلم تأثير بعض الأمراض.
فقد كان له في شبابه طفلان مات أحدهما بعلة سرية في الأسبوع الأول، وتبعه الثاني في الأسبوع الثاني.
فيا أستير ليتك لم تهبي إيليا دفترك. فإنك وضعت له مع عواطفك ميكروبات مرضك.
ولما كان يقبل فيه عواطفك بشفتيه كان يلتقط بهما ميكروباتك.
فافتحوا يا أهل المزرعة قبرا ثالثا بجانب قبري أستير والراهب ميخائيل.
ويا أستير سري وافرحي أن عزيزك إيليا راحل إليك.
وهو أيضا كان مسرورا بذلك.
إنه قبل معرفتك ضجر من الحياة الباردة وسئم اهتماماتها الباطلة، فلما عرفك أصبح يراها لذيذة جميلة. فهل من غرابة أن يكرهها بعدك كما كرهها قبلك؟ •••
وفي اليوم الثالث من مرض إيليا بينما هو طريح الفراش يعاني الحمى التيفوئيدية ويهذي باسم أستير ويراها في أحلامه، كان الإمام عمر يودع أمراء الجيش؛ ليعود إلى «المدينة» المنورة في بلاد العرب حيث كان الناس قد استبطئوه، وظنوا أنه سيقيم في الشام؛ لكثرة خيرها، ورخص أسعارها، وطيب فاكهتها، ولأنها بلد الأنبياء، ولذلك كانوا يخرجون إلى المدينة في كل يوم لاستطلاع أخباره
1 * فركب الإمام عمر على بعيره وركب أمراء المسلمين معه، وضجت القبائل بالتهليل والتكبير، ولما وصل عمر إلى الجابية أقام بها حينا فأخذ خمس الفيء
2
لبيت المال حسب العادة *، ولما رأى الإمام كثرة الأموال والخيرات التفت إلى أبي عبيدة وقال: يا عامر لقد آن لنا أن ندون الدواوين، ونفرض الفروض والعطاء للمسلمين، فإن الشام وفارس ملأت خزائننا بالمال. فسأل أبو عبيدة: وكيف يكون العطاء يا أمير المؤمنين؟ فأجاب عمر: «على السابقة في الإسلام» ابتداء من المهاجرين والأنصار فمن بعدهم إلى اليوم. فقال أبو عبيدة: والمساكين يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: سأجمع ستين مسكينا وأطعمهم الخبز، ثم أحصي ما أكلوا، وأفرض لكل إنسان منهم ولعياله على هذا التقدير
3
فلا أدع في المسلمين محتاجا.
ثم إنه شرع في تسريح الجند لإتمام الفتح «وقسم الشام قسمين. فأعطى أبا عبيدة من حوران إلى حلب وما يليها وأمره بالمسير إلى حلب وأن يقاتل أهلها، وأعطى أرض فلسطين وأرض القدس والساحل ليزيد بن أبي سفيان وجعل أبا عبيدة واليا عليه، وأمر يزيد أن يحارب أهل قيسارية إلى أن يفتحها الله على يديه، وسير عمر بن العاص إلى مصر»
4 «وجعل علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وأسكنه الرملة، وجعل علقمة بن مجزر على نصفها الآخر وأسكنه إيلياء».
5
ثم إن الإمام ودع الأمراء وأوصاهم بالاتحاد والنشاط، وعاد مع رجاله على بعيره قافلا إلى «المدينة» عاصمته، وهو يحمد الله على الفتح، ومعه كعب الأحبار. *
فبتسيير الرجال هذا التسيير إلى أقطار الأرض لفتحها وتوحيدها أشبه الإمام عمر السيد المسيح لما أرسل تلامذته إلى العالم؛ ليفتحوه ويوحدوه، وينشروا فيه الوداعة والمحبة والسلام بقوة الكلام فقط، ولكن كأن الكلام لم يفعل في العالم الفعل المقصود ولذلك قام السيف الآن، وإذا كان الكلام لم ينجع فالسيف لا ينجع أيضا. •••
وفي أثناء ذلك بينما كانت فلسطين قائمة قاعدة لحركات الجند المختلفة فيها كان رجل جالسا تحت الأرزة على جبل الزيتون وفي يده كتاب يقرأ فيه بصوت جهوري قراءة جدية وينظر إلى أورشليم أمامه.
وكان هذا الرجل أرميا، والكتاب الذي في يده نسخة من التوراة.
وكان أرميا يقرأ فيها نبوءة (سميه) أرميا ورثاءه أورشليم. فكان صوته يدوي في جو المدينة المقدسة كأنه بوق ينذر بسقوط المدينة العظيمة - وكان في فكره يرثي أورشليم وأستير معا.
ويا للعجب العجاب إن كثيرا من تلك النبوءات كان كأنه كتب عن الأمة الفاتحة، وهذا بعض ما كان يتلوه أرميا:
يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهارا وليلا قتلى بنت شعبي.
6
كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب. كيف صارت كأرملة العظيمة في الأمم. كيف صارت السيدة في البلدان تحت الجزية.
7
كيف غطى السيد بالظلام ابنة صهيون. كيف ألقى من السماء إلى الأرض فخر إسرائيل.
8
كيف أكدر الذهب وتغير الإبريز الجيد.
9
هكذا قال الرب. هو ذا شعب قادم من أرض الشمال، وأمة عظيمة تقوم من أقاصي الأرض. تمسك القوس والرمح. هي قاسية لا ترحم. صوتها كالبحر يعج، وعلى خيل تركب. مصطفة كإنسان لمحاربتك يا ابنة صهيون - أمة قوية أمة منذ القديم. أمة لا تعرف لسانها (يا إسرائيل) ولا تفهم ما تتكلم. جعبتهم كقبر مفتوح. كلهم جبابرة - سمعنا خبرها فارتخت أيدينا. أصابنا ضيق ووجع كالماخض. لا تخرجوا إلى أسفل وفي الطريق لا تمشوا؛ لأن سيف العدو من كل جهة.
10
وخيله أسرع من النسور.
11
من صوت الفارس ورامي القوس كل المدينة هاربة.
12
ويل لنا لأننا قد هلكنا. اغسلي من الشر قلبك يا أورشليم لكي تخلصي. إلى متى تبقى في باطنك أفكارك الباطلة.
13
طوفوا شوارع أورشيلم، وانظروا واعزقوا وفتشوا في ساحاتها هل تجدون إنسانا أو يوجد فيها عامل بالعدل طالب الحق فاصفح عنها.
14
هم من صغيرهم إلى كبيرهم كل واحد مولع بالربح الحرام، ومن النبي إلى الكاهن كل يعمل بالكذب.
بينهم منافقون يرصدون وهم كامنون كالصيادين، وقد نصبوا الفخ لاقتناص الناس. بيوتهم امتلأت من الغش كالقفص المملوء طيورا، ولذلك عظموا واستغنوا. سمان لامعون وهم يتعدون وصاياي شر تعد ولا يقضون بينهم دعوى اليتيم ولا يجرون حكم المساكين. أعلى هذا لا أعاقبهم ؟ قد حدث في الأرض دهش فظيع: الأنبياء يتنبئون زورا، والكهنة يتسلطون بأيديهم، وشعبي يحب مثل هذه الأمور. فكيف تكون الآخرة؟
15
ويل لمن يبني بيته بغير عدل وقصوره بغير حق.
16
ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعيتي.
17
يا رب اذكر ماذا صار لنا. أشرف وانظر إلى عارنا. قد صار ميراثنا للغرباء وبيوتنا للأجانب. صرنا أيتاما بلا أب وأمهاتنا كأرامل. شربنا ماءنا بثمنه وأخذنا حطبنا بثمنه. آباؤنا أخطئوا وذهبوا ونحن نحمل آثامهم. مضى فرح قلبنا. سقط إكليل رأسنا. أعدنا يا رب إليك فنعود. جدد أيامنا كالقديم.
18
هكذا كان أرميا يخطب على جبل الزيتون، ويرثي أورشليم حين دخول حامية العرب إليها لتولي شأنها، ولو سمعه حينئذ الإسرائيليون الذين كانوا يرافقون جيوش العرب لقالوا له إنه قد جاءت نوبة قومه في هذا الرثاء بعد أن صرف قومهم فيه عدة قرون. •••
ولم يكد أرميا يطوي الكتاب الذي بين يديه، ويترك الرثاء حزينا متألما حتى طلع عليه بعض فرسان العرب. فعرف أرميا منهم عمر بن معدي كرب، وقد جاء بطلب إيليا لغرض له. فأخبره أرميا عن مرض إيليا، ودله على المزرعة، ولما وصل الأمير إليها كان إيليا غائبا عن الرشد، وهو على أهبة الرحيل.
ذلك أن الحمى التيفوئيدية فعلت فيه ما فعلته بأستير.
وكان الشيخ وأهل المزرعة حينئذ في منتهى الحزن والغم لحالة إيليا، وهم من ذلك في بكاء مستديم.
ولما علم الأمير بموت أستير ومرض إيليا إلى هذا الحد حزن حزنا شديدا، وقبل عودته من المزرعة سأل الشيخ سليمان أن يدله على قبر الراهب ميخائيل الذي كان إيليا قد أخبره خبره كما تقدم. فذهب به الشيخ إليه، وقبل رحيل الأمير سأله الشيخ ماذا يريد من إيليا؛ ليبلغه إياه بعد انتباهه من نوبته. فأجاب الأمير بلسان ترجمانه: هي مسألة كتاب سري بين خليفتنا عمر وبترككم لم يدر بها أحد غير إيليا. فأحببت أن أقف منه على فحواه لأمر ما، وسأراه مرة أخرى.
ولكن هذا السر بقي في صدر إيليا ومات بموته. لا سيما وأن أبا أستير الذي وقف عليه أيضا قد توفي بعد شهر من وفاة ابنته.
وقد فاتنا أن نقول: إن زوجته العجوز توفيت في ذات الأسبوع الذي توفيت فيه أستير من حزنها على ابنتها.
وقد دفنوا إيليا بين قبر أستير وقبر أستاذه الراهب ميخائيل، وكان يوم دفنه يوم عويل وحزن عظيم عند أهل المزرعة كبارا وصغارا حتى الأولاد.
فيا أيتها القبور الثلاثة التي تعانقت رفاتها في جوف الأرض تعانق الأحباء، وضمت الحكمة والجمال والشباب والعقل: سلام عليكم من كاتب قصتكم وقارئها.
سلام عليكم وهنيئا لكم؛ لأنكم رقدتم براحة وسلام قبل زمن الاضطرابات التالية. هنيئا لكم لأنكم خلصتم من مشاهد الحياة الباردة، واهتماماتها الباطلة، وشهواتها الفارغة، واعتداءاتها الوحشية. إنكم خلصتم من مشهد الصغير النفس يجر ذيل الكبر منتصرا، والدميم خلقا يتيه دلالا، ويمشي اختيالا، والسالب يتمتع بما سلب مكرما محترما بين قومه؛ لأن الناس لم يتعودوا شم رائحة الذهب قبل إكرام صاحبه ليعلموا هل كان كسبه حراما أو حلالا، والوقح يبلغ مآربه بوقاحته ويزدري كل الفضائل والأخلاق اللطيفة؛ لأنها بين الحيوانات البشرية في الدنيا لا تجر مغنما، ولا تدفع مغرما.
هنيئا لكم أيضا؛ لأنكم قضيتم قبل العصر الذي تزحف فيه الأمم والقارات بعضها إلى بعض ليفني بعضها بعضا. إنكم يا أيتها الجواهر الثلاثة قد شهدتم سقوط أورشليم الجميلة عاصمة العواصم وزينة الدنيا وعروس العالم، ولكن كل هذا ليس بالشيء الذي يذكر بإزاء الأهوال الآتية. إن عنصرين جديدين من البشر سيشتبكان ويتخالطان ويتماسكان، وكل منهما يطلب إذلال الآخر أو نبذه من الدنيا. فأشفقوا على إخوانكم الضعفاء الآتين بعدكم في هذا النزاع الهائل. أشفقوا على الدماء التي ستسفك من الفريقين، والمظالم والفظائع والصبيانيات التي ستحدث في الجانبين، وبما أنكم قد خرجتم عن دائرة النزاع والعراك في الحياة، وأصبحت نفوسكم نفوس ملائكة لا نفوس حيوانات بشرية فأوحي إلى الشرقيين يا أيتها النفوس الكريمة المبادئ الجميلة الشريفة التي تريهم أباطيل نزاعهم. ثم أرسلي إلى حكامهم روح العدل والحق والنزاهة والمحبة والألفة والسلام؛ ليعيش الجميع في هذه الأرض التي أصبحت مشتركة بينهم والتي سقوها بالدماء والدموع معيشة هادئة لا يسبون معها الأرض ولا يشكون من السماء.
Página desconocida