يموت الزمار
تقريبا كل ما كتبته من قصص ونسبته إلى نفسي، أو قمت فيه بدور الراوي، كانت كلها أبدا لم تقع لي، إلا هذه القصة؛ فأنا فعلا فيها الراوي، وما حدث فيها حدث لي. ولقد حاولت المستحيل لكي لا أكون أنا أنا، أو لكي يكون الحادث وقع لغيري، وكان ممكنا أن تكون أروع وأكثر إمتاعا، ولكني بيني وبين نفسي، كنت أحس أني سأكذب؛ بالضبط مثلما كنت حين أتقمص أنا شخص الراوي في قصص أخرى، معظمها أبدا لم يحدث لي، كنت أحس أني أكثر صدقا مع الآخرين ومع ذاتي.
إنها إذن قصة خاصة جدا، أعرف أن كثيرين سيهزون أكتافهم حيالها ويقولون: وما لنا ولهذا القول الذاتي الخاص؟! ولكن، من يدري؟ ربما لن أعدم واحدا يحس ذاته تماما، وهو يراني أتحدث عن ذاتي؛ فنحن في النهاية أبناء ذات واحدة؛ عليا عميقة، أو سفلى. إنما الاتصال قائم وموجود، والمهم هو الوصول إليه، وقد يضطر الكاتب في أحيان أن يستعمل دلوه الداخلي الخاص؛ للوصول إلى مياه الآخرين العميقة.
وكنت حين أقرأ أن فلانا الممثل، أو أن جريتا جاربو الممثلة، تتبع طرقا بوليسية منذ أكثر من أربعين عاما؛ لتختفي عن الأنظار العامة، وتعتزل الفن أو تقاطع هي دائرة الضوء؛ لأنها تستمتع كثيرا بأي كوخ ظل تأوي إليه، كنت حين أقرأ هذا كله، أحس أنه نوع من الإبهار الصحفي، يلجأ إليه النجوم؛ زيادة في اجتذاب البريق.
وهذه المرة لا شيء من «هيافة» بعض النجوم في ذهني، وبعد طول تدبر وتفكير، وبعد انفراد بالنفس ذلك الانفراد الخاص التام، الذي تحس أن همسة الخاطر، حتى، لا تشاركك إياه، قررت في لحظة حسم باردة كالثلج، لا انفعال فيها ولا تراجع أو ندم، أن أكف تماما عن الكتابة، أي كتابة! ليس يأسا أو تدللا أو نوعا من استدرار الإشفاق على النفس، تجاه النفس، ولو من ذات النفس، ولكنه إدراك عميق كامل بعدم جدوى الكتابة أصلا، ليست كتابتي فقط، ولكن كل الكتابة مذ عرف الإنسان الكتابة، أو - في رأي - ماذا فعل الإنسان بالكتابة؟! أو بمعنى أصح: ماذا فعلت بالإنسان الكتابة؟ أصلحت أخلاقه؟ كذب في كذب؛ فالإنسان أيام الحضارة المصرية القديمة، وأيام أثينا وطيبة وبابل، وأيام أفلاطون وأرسطو والفلاح الفصيح، ربما كان أكثر تسامحا وهدوءا مع نفسه ومع الآخرين، وربما لم تفعل نصائح كتابه بتحريضه على الصدق وعلى الشرف وعلى النبل، إلا العكس تماما، فلا أعتقد أن وحشية المحاربين أيام أول حروب عالمية عرفها التاريخ بين المصريين والحيثيين، أو بين الفرس والإغريق، كانت تصل إلى معشار ما وصلت إليه وحشية المتحاربين في آخر حرب عالمية خاضها الإنسان، ولا وحشية ما حدث ويحدث للبشر في فيتنام أو أفغانستان أو لبنان. فصحيح أن بالكتابة تعلم الإنسان، ولكنه بالتطور العقلي الذي أحدثته الكتابة والكتاب فيه تعلم أيضا أن يصبح شريرا أكثر علما وبشاعة علم، كالحية الرقطاء التي فوق الناب الطبيعية، التي زودتها بها الطبيعة؛ لتلدغ بها عدوها مرة، تعلمت وتعلم كيف يزود نفسه بأنياب أكثر، وخزانات سم أكثر، أنياب لا تكتفي بنفث السم، ولكنها ترسله ميراج وميج وفانتوم ونابالم ونيوترون وكوبالت! وبدلا من ترس التعذيب الذي كان يشد إليه جسده، أصبحت وسائل العذاب تصل إلى نخاع النخاع من أدق أعصابه حسا، ولم يعد في الحرب فروسية أو علم أبيض أو قوانين أسرى، وإنما هو الشر يندفع من عقول قد زودتها المعرفة بالتصميم القاتل على الإبادة! باختصار، مذ عرف الإنسان الكتابة عرف أيضا كيف يصبح الشرير في أعنف وأبشع صوره.
قد يقول القائل: ولكنه التطور، وليس الكاتب أو الكتابة! والرد جاهز؛ فالتطور ناتج العقل، والعقل ناتج الكتابة. ودعونا لا نتفلسف أكثر؛ فلقد كان حلمي بالكتابة كحلمي بالثورة، كحلمي بالمعجزة القادرة على شفاء كل وأي داء. وفي عمري أنا سأرى اختفاء الحفاء، وعمومية الكساء، وزوال الحاجة، واكتفاء كل محتاج. كانت واحة العمر ألجأ إليها، كلما نضب معين الخيال، وأتزود منها وبها بالقدرة على مواصلة اللهاث، وكان الوصول على مرمى حجر، وكأنني سأصحو في الغد لأجد الصباح فجرا، ليس فجر يوم، ولكن فجر عصر؛ عصر كامل تام يعود فيه الإنسان يحب بكل نهم وعمق وظمأ الحب، ويعيش وروعة الحياة يشربها مترعة قطرة وراءها قطرة، ولكل قطرة طعم، ولكل لحظة زمن، تمر أشواق وصهللة ومعان.
حياة أستمتع فيها إلى التعالي أني ابن، مثلما أستمتع به إلى مهجة كبدي أني أب، تأخذني الأم إلى أعمق أحضانها، ترضعني خلاصة الأنوثة، وأرتشف وأنا أضمها نعناع أني ولد، وخمرة أني رجل! حياة أنا فيها محب محبوب، عاشق معشوق، مؤثر ومغير، ومتأثر ومتغير، ودائما إلى الأعلى والأروع، حياة، حياة؛ أتعرفون ما هي الحياة؟!
في الواقع وأنا أتأمل القرار من نواحيه، أدركت جانبا من عظمة وعبقرية شكسبير الشاعر الكاتب، فليست روعته أنه فقط كتب، ولكن الأروع من كتابته أنه عرف متى وكيف يتوقف ويقف. في الواحدة والخمسين كان قد انتهى من كتابة آخر أربع أعظم مسرحياته على الإطلاق: الملك لير، وعطيل، وماكبث، وهاملت. وبانتهاء عرض آخر واحدة منها، لست أعرف ما هي على وجه الدقة، اتخذ القرار، وصفى نصيبه في مسرح الجلوب، وسوى أموره ورحل إلى بلدته، وهناك اشترى منزلا (أصبح الآن كعبة الرواد)، ومكث عامين بعيدا تماما عن الكتابة والمسرح، وكل ما يتصل بهما، ثم مات في الثالثة والخمسين!
هذا هو الرجل؛ عاش وقال، وصمت ومات، وهكذا وهكذا لم يمت، ولا زال يعيش ويقول، ولا ينتهي أبدا.
وليس مطلقا تقليدا لشكسبير، ولا لأي أحد - فالموضة عندنا أننا لا نكتب إلا تقليدا، ولا نحيا إلا تقليدا؛ ربما لأن معظم من يقيمون إنتاجنا وحياتنا هم دائما وأبدا مقلدون، ومقلدون أيضا غير متقنين؛ فأنا لم أعرف هذا إلا في قراءة عابرة لمجلة قديمة، كان فيها مقال عن شكسبير قرأته بعد القرار (واسمحوا لي باستعمال الكلمة)، فأكد لي حتمية ما انتهيت إليه.
Página desconocida