وحين انتهى فرك يده بشدة، كمن أتعبته الكتابة، وتراجع إلى الوراء ونظر إلى الجملة الأخيرة مليا، ثم علت وجهه ابتسامة رضاء، فعض شفته السفلى وأخرج من فمه نقيقا، ثم عاد إلى الحائط ورسم علامة «صح» أسفل الجملة الثالثة، وجعل للعلامة ذيلا مرحا طويلا؛ علامة الرضاء الكامل.
وظل برهة يحدق في الجملة؛ كأنما ليتأكد أنها محفورة على حائط السور، بطريقة ليس من السهل محوها، وأنها ستظل هكذا فترة طويلة، وسيعرف كل من يقرؤها - بطريقة ما - أنه كاتبها، ظل برهة يحدق في الجملة، ثم ارتعش نصفه الأعلى كله، وأخرج من حلقه صوتا كصوت «العرسة»، ورفع قدمه اليسرى وأمسكها بيده من الخلف، وانطلق يحجل بقدم واحدة، ويمضي في الشارع المشمس الواسع.
البطل
في ذلك اليوم، مضت ساعات الصباح الأولى، دون أن يجد جديد؛ فالمكتب هو المكتب، والحجرة هي الحجرة، والأوراق تملأ الأركان والأدراج، وتطل من الدواليب، وفناجين القهوة رائحة غادية، والسجائر تستخرج خلسة؛ حتى لا يعزم أحد على أحد. وخمسة موظفين في حجرة، والوجوه كالعادة مقطبة؛ مقطبة وهي تتصفح الجرائد وتغلقها، ومقطبة وهي تحدق في السقف، وعابسة وهي تطلب الشاي وتلعن طعمه، ومغمومة وهي تنحني على الأوراق وتعبث بها، وتقضي العمر تدفق وتؤجل وتكتب.
لم يجد جديد في ذلك الصباح، مع أن الحرب قامت، والطائرات بدأت تغير، وكل شيء؛ كل إنسان يخوض تجربة الحياة والموت، والعالم لا ينام، صاحيا يرقب الشرق وهو يدمدم ويتحرر، والمكتب هو المكتب، والحجرة هي الحجرة، وصبحي جاد هو الذي على يميني، والغازي أبو بكر على يساري.
غير أنه قبل الظهر بقليل، جاءني الساعي وقال: تليفون.
وتليفون من أجلي كان يعني شيئا من اثنين: إما عبد الخالق فاضي في مكتبه، في وزارة الشئون، ويريد أن يصبح علي، أو كارثة حدثت في بيتنا، ورأت العائلة أن تتصل بي على عجل، وفي كل مرة يطلبني التليفون أقول: كارثة، وفي كل مرة أجد المتحدث هو عبد الخالق.
وهذه المرة أيضا قلت: عبد الخالق؟ صباح الخير.
وإذا بصوت غريب يقول: لأ، أنا أحمد. - أحمد مين؟
قلتها وأنا أخمن من عساه يكون، فالأحمدات الذين أعرفهم لا يتجاوزون ثلاثة، وإذا به يقول: أنا أحمد عمر.
Página desconocida