Ulum al-Hadith wa Mustalah
علوم الحديث ومصطلحه
Editorial
دار العلم للملايين
Número de edición
الخامسة عشر
Año de publicación
١٩٨٤ م
Ubicación del editor
بيروت - لبنان
Géneros
علوم الحديث ومصطلحه
عرض ودراسة
تأليف الدكتور صبحي الصالح
أستاذ الإسلاميات وفقه اللغة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية
دار العلم للملايين، بيروت - لبنان
- عدد الأجزاء: ١.
- عدد الصفحات: ٤٤٦.
أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، - غفر الله له ولوالديه -.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
الطبعة الأولى: ١٣٧٨ هـ - ١٩٥٩ م الطبعة الثالثة عشرة تموز (يوليو) ١٩٨١ م
الإِهْدَاءُ: إِلَى الذِي قَضَىَ نَحْبَهُ وَهُوَ يَتْلُو كِتَابَ اللهِ المَجِيدِ وَحَبَّبَ إِليَّ السُنَّةَ المُطَهَّرَةَ، وَأَوْرَثَنِي بِحُبِّهَا كَنْزًا لاَ يَفْنَى، مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنَوابِغِ الحِكَمِ، إِلَى أَبِي إِبْرَاهِيمَ مُصْطَفَىَ الصَّالِح.
الطبعة الأولى: ١٣٧٨ هـ - ١٩٥٩ م الطبعة الثالثة عشرة تموز (يوليو) ١٩٨١ م
الإِهْدَاءُ: إِلَى الذِي قَضَىَ نَحْبَهُ وَهُوَ يَتْلُو كِتَابَ اللهِ المَجِيدِ وَحَبَّبَ إِليَّ السُنَّةَ المُطَهَّرَةَ، وَأَوْرَثَنِي بِحُبِّهَا كَنْزًا لاَ يَفْنَى، مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنَوابِغِ الحِكَمِ، إِلَى أَبِي إِبْرَاهِيمَ مُصْطَفَىَ الصَّالِح.
Página desconocida
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المؤلف في الطبعة الرابعة
من ضرب في الحديث بسهم وافر علم يقينًا أنَّ طبيعة البحث فيه تفرض على الدارس أن يقتصر على المادة العلمية الرصينة. وذلك ما شرَّفني الباحثون بإيناسه في كتابي هذا منذ صدرت طبعته الأولى سنة ١٩٥٩، فقد استقبلوه كما استقبلوا صِنْوَهُ، " علوم القرآن " من قبل بكثير من الحفاوة، إلاَّ أنَّ نفرًا من كرامهم وخلصائي فيهم أخذوا على " علوم الحديث " خاصة تكاثر المادة وتشعُّبها حول تاريخ الحديث، وعلومه، ومصطلحاته، فحال هذا المأخذ الذي بدا لي وجيهًا دون تفكيري بإضافه دراسات جديدة يوم مَنَّ الله عَلَيَّ بالطبعة الثانية سنة ١٩٦٣، وعلَّلْتُ يومئذ إعادة طبعه بصورته القديمة نفسها «بأنَّ أي زيادة على الكتاب - مهما تكن طفيفة - لا بُدَّ أن تزيل عنه صفه الدقة والاختصاص، مع أني منذ ألفته قصدت به التبسيط ولم أقصد به قط إلى التعميم».
[ز]
المقدمة / 7
وهكذا لم أستشعر الحاجة إلى إجراء أي تعديل جوهري في الكتاب، بل كنت إلى النقصان منه أقرب مني إلى الزيادة عليه، فلم يُتَحْ له من الطرافة إلاَّ جدة التبويب، ثم هأنذا اليوم أثير ما تعمَّدْتُ تركه فيما سلف، وأنا مقتنع بوجوب إثارته، بعد أن عهد إِلَيَّ بتدريس الأدب الإسلامي في الجامعة اللبنانية وجامعة بيروت العربية، وأصغيت إلى بعض الزملاء يصارحونني بأنهم - على إعجابهم بِمَنْهَجِيَّةِ الدِّرَاسَةِ - لا يفقهون السر في إغفالي مكانة الحديث في التشريع واللغة والأدب. ومسألة الاحتجاج بالحديث، ووصف مناهج القوم في طبقات الرُوَّاةِ وتراجم مشاهير المُحَدِّثِينَ، فإذا أنا أتدارك هذا كله ببابين كبيرين تشتمل فصولهما في هذه الطبعة الجديدة على جُلِّ ما يتمناه المتعمِّق في علوم الحديث من البَاحِثِينَ المُختصِّين.
ولسوف يلاحظ القارئ الكريم أَنَّ هذه الإضافات استغرقت أكثر من ربع الكتاب في حجمه الحاضر، ولسوف تعجبه بلا ريب أناقة الطبع، ودقة الإخراج، وروعة التنسيق، التي اشتهرت بها مطابع دار العلم للملايين.
واللهَ أسأل أنْ يجعل هذا الكتاب قربة خالصة لوجهه الكريم، وَأَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ خِدْمَةِ السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ بِاليَدِ وَالقَلْبِ وَالقَلَمِ وَاللِّسَانِ.
وَللهِ الحَمْدُ أَوَّلًا وَآخِرًا، والصلاة والسلام على خاتم النَبِيِّينَ، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المصطفين الأخيار.
بيروت في ١٧ رمضان ١٣٨٤ هـ / ١٥ كانون الثاني ١٩٦٥ م
صبحي الصالح
[ح]
المقدمة / 8
المُقَدِّمَةُ:
كتابنا هذا في «علوم الحديث» كصنوه «علوم القرآن» - طائفة من المباحث العلمية تنفض غبار السنين عن تراثنا الخالد، وتعرض أنفس روائع الفكر بأسلوب واضح بسيط أقرب إلى ذوق العصر.
ويخيل إلى كثير من الناس أنَّ هذا اللون من الدراسة سهل ميسَّرٌ، وأنَّ طريقه آمن معبَّد، وأنَّ الأقدام فيه ثابتة لا تزِلُّ، لأنَّ علماءنا السالفين الأبرار مهَّدُوهُ كل ممهَّدٍ، وما تركوا لأمثالنا شيئًا نزيده، فما علينا إلاَّ أنْ نغترف من بحرهم قانعين بتلخيص تصانيفهم وأقوالهم.
نرى لزامًا علينا أن نبادر إلى تصحيح هذا الخطأ الشائع، جازمين بأنَّ هذا اللون من الدراسة أشدّ وعورةً وأحوج إلى طول الجهد والعناء من تحقيق النصوص ونشر المخطوطات، لأنه يجمع في آن واحد بين التأليف والتحقيق، ويحاول إحكام الربط بين النتاج القديم والمنهج الجديد.
[ط]
المقدمة / 9
لا مفرَّ من تحقيق النصوص في تصنيف يتعلق بعلوم الحديث، فما كان لكتابنا أن يستوفي أهم المباحث التي ينشدها المختصون لولا عكوفنا على أمهات المخطوطات في هذه العلوم، ننقلها بأمانة، وَنُلَخِّصُهَا بدقة، ونجمع شتاتها في كتاب واحد يضمها بين دفتيه. ومن المعلوم أَنَّ المكتبة الظاهرية بدمشق من أغنى مكتبات العالم في الحديث وعلومه ومصطلحه، وقد أتيح لنا أن نَطَّلِعَ على الكثير من أمهاتها المخطوطة، وفي حواشي كتابنا ما يشير إلى شدة تعويلنا عليها، كما أَنَّ في «جريدة المراجع» سَرْدًا لأسمائها وَوَصْفًا وَاضِحًا لها.
غير أَنَّا لم نقف عند النقل الأمين. والتلخيص الدقيق، فقد درسنا آثار السلف في علوم الحديث دراسة تاريخية تحليلية، وَوَازَنَّا بين مؤلفيها وآرائهم من غير أن نشغل القارئ بالعقيم من جدلهم، وحاولنا أن نستخلص المقاييس النقدية التي نادوا بها من خلال المصطلحات الكثيرة المتفرقة في النفيس النادر من تصانيفهم.
ليس هذا الكتاب إذن تَلْخِيصًا أَوْ اخْتِصَارًا، بل هو عرض ودراسة، ولم يكن يضيرنا لو كان تَلْخِيصًا بَحْتًا أن نُصَرِّحَ بِهِ، فإنه ليشرفنا أن نكون في «علوم الحديث» عالة على نُقَّادِنَا العُظَمَاءِ، وسلفنا الطاهرين، الذين ملأوا الأرض عِلْمًا بِسُنَّةِ رسول الله ﷺ. وَإِنَّ طبيعة الموضوع أَيْضًا لتفرض علينا وعلى غيرنا من البَاحِثِينَ فيه التعويل على النقل والتلخيص، إذْ ما عسى أن يضيفه اليوم أحدنا إلى تلك الأصول المؤصلة والقواعد المُقَرَّرَةِ، والمناهج الواضحة التي وضعها قادة الدنيا وسادة
[ي]
المقدمة / 10
العالمين؟ لكنا نظن أَنَّ العرض الجديد لا ينافي النقل الدقيق، وَأَنَّ الموازنة بين النصوص لا تعارض التحقيق: وبهذا الروح، مَعَ تَهَيُّبٍ شَدِيدٍ وَحَذَرٍ أَشَدَّ، خُضْنَا في كثير من البحوث الشائكة مُدْلِينَ غَالِبًا بالرأي الذي نختاره أو نُرَجِّحُهُ، فأوردنا ما يستحيل نقضه من البراهين على كتابة الحديث في حياة الرسول العظيم ﷺ، واستشهدنا بالكثير من الصحف وَالمُدوَّنَاتِ والوثائق التاريخية، وانتهينا إلى أَنَّ القوم لم يُعَوِّلُوا على الذاكرة وحدها في حفظ السُنَّةِ، بل كتبوها مثلما حفظوها في صدورهم في عهد مُبكِّرٍ، وانتقلنا إلى عرض تاريخي تَعَقَّبْنَا فيه الرحلة في طلب الحديث، والتحول منها إلى صور أخرى من تحمل العلم وأدائه، وناقشنا تلك الصور وَوَازَنَّا بينها، ثم خلصنا منها إلى كلمة عجلى في أهم التصانيف في علوم الحديث المختلفة، وَحَقَّقْنَا القول في شروط الراوي، ورأينا ما في هذه الشروط من المقاييس الإنسانية المُسَلَّمَةِ في القديم والحديث، ثم مضينا إلى أقسام الحديث نستقي مصطلحاتها الدقيقة من أوثق الكتب وَأَهَمِّهَا، فابتدأنا بـ " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي " للرامهرمزي الذي كان أول من ألَّفَ في مصطلح الحديث كما هو الشائع، وانتهينا بـ " قواعد التحديث " لعلاَّمة الشام المرحوم السيد جمال الدين القاسمي.
وعندما أفضينا إلى الباب الذي عقدناه لمكانة الحديث في التشريع واللغة والأدب، أوضحنا كيف شملت السُنَّةُ كل آفاق التشريع، وكيف اسْتَقَلَّتْ أَحْيَانًا بتبيان الحلال والحرام ولو كان أصلها في الكتاب، وَفَصَّلْنَا القول في خبر الآحاد وشروط الاحتجاج به، ووصفنا تبكير القوم
[ك]
المقدمة / 11
بالرواية المصحوبة بالاستناد، وعرضنا لدى تأثُّر علوم الحديث بأسانيد المُحَدِّثِينَ، ورَدَدْنَا على المانعين من الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو، وأثبتنا أنَّ مقاييس المُحَدِّثِينَ أدق من معايير اللغويين لنقل الكلام الصحيح الفصيح.
ورأينا في الباب الأخير أنْ نشيع القول في طبقات الرُواة، فتحدَّثنا بوجه خاص عن ابن سعدد ومنهج التصنيف في هذه الطبقات، وأوضحنا التقسمات الاصطلاحية للصحابة أو التابعين وتابعيهم، وترجمنا للمشاهير منهم بما يغني عن الرجوع إلى المصادر والأمهات.
ولقد أطلنا في بحث «تدوين الحديث» لما نعانيه في طائفة من الشباب العربي المثقف من الانخداع بالمستشرقين الذين ينكرون هذا التدوين ويثيرون الشبهات حوله، كما أسهبنا القول في «الموضوع وأسباب الوضع»، واستخلصنا القواعد المنهجية التي كان علماؤنا القدامى يستندون إليها في التمييز بين الصحيح والموضوع.
وفي تضاعيف مباحثنا هذه كلها حرصنا على أنْ نؤكد أنَّ مصطلح الحديث يقوم على فلسفة نقدية دقيقة روعي فيها الجوهر قبل العرض، والمعنى قبل المبنى، والمتن قبل السند، والعقل والحس قبل المحاكاة والتقليد. ولم يكن من السهل علينا دائمًا أنْ نوضح هذه القصة الشائكة كل التوضيح في غضون المباحث والفصول، لأنَّ القارئ كان فيها لا يزال يتابعنا ليعرفها أولًا ويطلع على شواهدها وأمثلتها، فجاءت خاتمة الكتاب إذن تتميمًا وتوضيحًا وتركيزًا لهذه الحقيقة، ففي الخاتمة استخلصنا مقاييس
[ل]
المقدمة / 12
النقد عند المُحَدِّثِينَ من المادة نفسها التي احتوى عليها كتابنا، ولم نُبِحْ للقلم آنذاك أنْ يتلمس هذه المقاييس من كتب أخرى ينسخها ويسجلها وينقلها من مكان إلى مكان، فلقد اتضحت معالم الطريق أمام القارئ وبات يتوقع النتيجة الطبيعية التي لا مناص من الاعتراف بها: ألا وهي تَبَوُّؤُ مصطلح الحديث أسمى مكان في فلسفة المصطلحات على اختلاف العصور.
وإننا الآن على يقين أَنَّ القارئ العربي الذي لا يفرض على عقله أَنْ يعيش غَرِيبًا فِي أُمَّتِهِ، «مُسْتَعَارًا» في ثقافته وطريقة تفكيره. سوف يمضي من تلقاء نفسه - بعد اقتناعه بدقة المصطلح - إلى دراسة علم الحديث رواية، فَلَيَقْرَأَنَّ الكتب الصحاح، وَلَيُغَذِّيَنَّ بها ثقافته اللغوية والأدبية، وَلَيَجِدَنَّ فيها مرآة صادقة لعصر النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، مرآة تُعَبِّرُ عن حياة هذا الرسول العظيم ومكارم أخلاقه، وإرشاده أصحابه إلى بناء مجتمع مثالي يقوم على الحق والخير والجمال.
وفي الحديث - بلا ريب - جوانب أخرى جديرة بالعرض والدراسة لَمْ نَتَصَدَّ قط لخروجها عن نطاق بحثنا الأساسي، وأوجزنا الكلام في بعضها الآخر لضيق المقام، وأومأنا في طائفة ثالثة منها إلى الخطوط الرئيسية وأمهات المصادر لتضع الباحث في أول الطريق.
ومن المباحث التي تركناها «البلاغة النَّبَوِيَّةِ» فإنها جديرة بأبحاث طوال لو عرضنا لها في هذا الكتاب لأدخلت عليها عُلُومُ الحَدِيثِ الضَّيْمَ،
[م]
المقدمة / 13
ولجاءت قلقة في موضعها، غير منسجمة مع الغاية التي من أجلها ألَّقْنَا كتابنا.
ولا يسعني في ختام هذه الكلمة إلاَّ أنْ أقدِّم الشكر خالصًا جزيلًا لكل من آزرني في هذا الكتب، وأخصُّ بالذكر الصديق الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي الذي كان في نظري الرائد الأول في تحقيق تدوين الحديث منذ نشر " صحيفة همَّام بن منبه " التي أفدت منها الكثير، والصديق الدكتور يوسف العش الذي فتح أمامي - بتحقيقه العلمي الدقيق لـ " تقييد العلم " للخطيب، أوسع الآفاق في تدوين الحديث أَيْضًا، كما أنه أتاح لي الإطلاع على مختارات من الكتب النادرة والمخطوطات النفيسة، وترك بين يدَيَّ بعضها كـ " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب أَيْضًا، والصديق العالم الأديب الأستاذ أحمد عبيد الذي يَسَّرَ عَلَيَّ الرجوع إلى المصادر والأمهات، ولا سيما في تراجم الرجال.
واللهَ أسألُ أنْ يجعل هذا الكتاب خالصًا لوجهه الكريم، ويمنحني به حسن القبول، ويغفر لي ما وقع فيه من الخطأ والزلل، وهو ولي التوفيق.
[ن]
المقدمة / 14
البَابُ الأَوَّلُ: تَارِيخُ الحَدِيثِ:
1 / 1
الفَصْلُ الأَوَّلُ: الحَدِيثُ وَالسُنَّةِ وَاصْطِلاَحَاتٍ أُخْرَى:
الحَدِيثُ وَالسُنَّةِ:
لو أخذنا بالرأي السائد بين المُحَدِّثِينَ، ولا سيما المتأخرين منهم، لرأينا الحَدِيثَ وَالسُنَّةَ مُتَرَادِفَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، يوضع أحدهما مكان الآخر: ففي كل منهما إضافة قول أو فعل أو تقرير أو صفة إلى النبي ﷺ، بَيْدَ أنَّ رَدَّ هذين اللفظين إلى أصولهما التاريخية يُؤَكِّدُ وجود بعض الفروق الدقيقة بين الاستعمالين لغة واصطلاحًا.
فالحديث - كما لاحظ أبو البقاء (١) - «هُوَ اسْمٌ مِنَ التَّحْدِيثِ، وَهُوَ الإِخْبَارُ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ تَقْرِيرٌ نُسِبَ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ
_________
(١) أبو البقاء هو أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، كان من قضاة الأحناف وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ١٠٩٢ هـ وهو قاض بالقدس (انظر " هدية العارفين ": ١/ ٢٢٩ و" إيضاح المكنون ": ١/ ٢٥١ / ٢٨٠).
1 / 3
وَالسَّلاَمُ -» (١). ومعنى «الإِخْبَارِ» في وصف الحديث كان معروفًا للعرب في الجاهلية منذ كانوا يطلقون على «أيامهم المشهورة» اسم «الأحاديث» (٢).
ولعل الفَرَّاءَ (٣) قد تَنَبَّهَ إلى هذا المعنى حين رأى أَنَّ «وَاحِدَ الأَحَادِيثِ أُحْدُوثَةٌ، ثُمَّ جَعَلُوهُ جَمْعًا لِلْحَدِيثِ» (٤). ومن هنا شاع على الألسنة: «صَارَ أُحْدُوثَةً» (٥) أو «صَارَ حَدِيثًا» (٦) إذا ضُرِبَ به المثل. واستعمل الشاعر أبو كلدة في بيت واحد المثل والأحدوثة في بيت واحد المثل والأحدوثة كأنما ليشير إلى ترادفهما فقال:
وَلاَ تُصْبِحُوا أُحْدُوثَةً مِثْلَ قَائِلٍ ... بِهِ يَضْرِبُ الأَمْثَالَ مَنْ يَتَمَثَّلُ (٧)
وكيفما تُقَلِّبُ مادة «الحَدِيثِ» تجد معنى «الإِخْبَارِ» وَاضِحًا فيها حتى في قوله تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ (٨)، وقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ (٩).
وقد استشعر بعض العلماء في مادة «الحَدِيثِ» معنى «الجِدَّةِ»، فأطلقوه
_________
(١) " كليات أبي البقاء ": ص ١٥٢ (ط. الأميرية سنة ١٢٨٠ هـ).
(٢) " فتوح البلدان " للبلاذري: ص ٢٩.
(٣) هو يحيى بن زياد الديلمي، أحد نُحاة الكوفة وأئمتها المشهورين في اللغة، له كتاب في معاني القرآن. تُوُفِّيَ سَنَةَ ٢٠٧ (انظر " طبقات الزبيدي ": ١٤٦).
(٤) انظر: " قواعد التحديث ": ص ٢٥.
(٥) " الأغاني ": ٢١/ ١٥٠.
(٦) " الأغاني ": ١٤/ ٤٧.
(٧) " الأغاني ": ١٠/ ١٢٠.
(٨) [سورة الطور، الآية: ٣٤].
(٩) [سورة الزمر، الآية: ٢٣].
1 / 4
على ما يقابل القديم، وهم يريدون بالقديم كتاب الله، وبالجديد ما أضيف إلى رسول الله. قال شيخ الإسلام ابن حجر في " شرح البخاري ": «المُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: مَا يُضَافُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مُقَابَلَةُ الْقُرْآنِ لأَنَّهُ قَدِيمٌ» (١) وهذا يُفَسِّرُ لنا - إلى حد كبير - تَوَرُّعَ كثير من العلماء من إطلاق اسم الحديث على كتاب الله واستبدالهم «كَلاَمَ اللهِ» بحديث الله. وفي " سنن ابن ماجه " رواية لحديث نبوي تكاد تقطع بضرورة هذا الورع وهذا الأدب في التعبير: عن عبد الله بن مسعود أَنَّ رسول الله ﷺ قال: «إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْكَلاَمُ وَالْهَدْيُ. فَأَحْسَنُ الْكَلاَمِ كَلاَمُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ» (٢).
وإذا وجدنا في جُلِّ كتب السُنَنِ «إِنَّ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ» ثم لا حظنا تَفَرُّدَ ابن ماجه برواية «أَحْسَنُ الْكَلاَمِ» أدركنا أنه ليس بمستبعد أَنْ يكون الورع حمله على إيثار هذا التعبير، وكان أقل ما نستنبطه من ذلك أَنَّ في العلماء مَنْ تَحَرَّجَ من إطلاق اسم الحديث على كتاب الله القديم.
والنبي ﷺ سَمَّى بنفسه قوله «حَدِيثًا» وكاد بهذه التسمية يُمَيِّزُ ما أضيف إليه عما عداه، حتى كأنه وضع الأصول لما اصطلحوا فيما بعد على تسميته «بِالحَدِيثِ». جاءه أبو هريرة يسأله عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة، فكان جوابه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «أَنَّهُ عَلِمَ أَنْ لَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ قَبْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِحَرْصِهِ عَلَىَ طَلَبِ الحَدِيثِ» (٣).
_________
(١) " التدريب ": ٤.
(٢) " سنن ابن ماجه ": ١/ ١٨، رقم الحديث ٤٦ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(٣) " صحيح البخاري ". كتاب الرقاق. رقم ٥١.
1 / 5
وَالسُنَّةُ - في الأصل - ليست مساوية للحديث، فإنها - تبعًا لمعناها اللغوي - كانت تطلق على الطريقة الدينية التي سلكها النبي ﷺ في سيرته المُطَهَّرَة، لأَنَّ معنى السُنَّةِ لغة الطريقة. فإذا كان الحديث عَامًّا يشمل قول النبي وفعله، فَالسُنَّةُ خَاصَّةٌ بأعمال النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -. وفي ضوء هذا التباين بين المفهومين ندرك قول المُحَدِّثِينَ أَحْيَانًا: «هَذَا الحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَالسُنَّةِ وَالإِجْمَاعِ»، أو قولهم: «إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ، وَإِمَامٌ فِي السُنَّةِ، وَإِمَامٌ فِيهِمَا مَعًا» (١) وأغرب من هذا كله أَنَّ أحد المفهومين يدعم بالآخر، كأنهما متغايران من كل وجه، حتى صَحَّ أنْ يذكر ابن النديم كِتَابًا بعنوان " كتاب السُنن بشواهد الحديث " (٢).
وحين عَبَّرَ الإسلام عن الطريقة بِالسُنَّةِ لم يفاجئ العرب، فلقد عرفوها بهذا المعنى كما عرفوا نقيضها وهي البدعة (٣). وكان في وسعهم أَنْ يفهموا منها هذا المعنى حتى عند إضافتها إلى اسم الجلالة في مثل قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ (٤). أما الذين سمعوا لفظها من النبي ﷺ في مثل قوله: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» (٥)، فما كان لهم حِينَئِذٍ أَنْ يَتَرَدَّدُوا في انصرافها إلى أسلوبه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وطريقته في حياته الخاصة والعامة.
_________
(١) من ذلك ما يراه عبد الرحمن بن مهدي (- ١٩٨) «مِنْ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ، وَالأَوْزَاعِيَّ إِمَامٌ فِي السُنَّةِ وَلَيْسَ بإِمَامٍ فِي الحَدِيثِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِمَامٌ فِيهِمَا جَمِيعًا». انظر " الزرقاني على الموطأ ": ١/ ٤ وقابله بـ «Trad Islam.١٢، ١٤» .
(٢) " الفهرست " لابن النديم: ص ٢٢٠.
(٣) انظر " الأغاني ": ٧/ ١١٩ وفيما يتعلق بالبدعة: ٧/ ١١٤.
(٤) [سورة الأحزاب، الآيتان: ٣٨ و٦٢].
(٥) سنن ابن ماجه ١/ ١٦ رقم الحديث ٤٢.
1 / 6
وَالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ كانت - كما سنرى - أحرص البلاد على السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ حتى سميت «دَارَ السُنَّةِ» (١). وفي جنباتها المشرفة بدأ مفهوم «السُنَّةِ» يأخذ شَكْلًا سِيَاسِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا إلى جانب الشكل الديني الأساسي: فالرسول ﷺ يُصَرِّحُ بأنَّ «مَنْ أَحْدَثَ فِي المَدِينَةِ حَدَثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (٢). وَكَأَنَّ في هذا الحديث إيماء إلى براءة الله ورسوله من كل مُنْشَقٍّ على الجماعة، خالع يد الطاعة، مُؤْثِرٌ البِدْعَةَ عَلَى السُنَّةِ. فلينصح الأب ابنه: «يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالحَدَثَ»، وليستجب الابن لأبيه مُكْبِرًا تَقيُّدَهُ بِالسُنَّةِ المُطَهَّرَةِ: «وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ الحَدَثُ فِي الإِسْلاَمِ» (٣)، وليقل المتهم في دينه مُدَافِعًا عن نفسه: «مَا أَحْدَثْتُ فِي الإِسْلاَمِ حَدَثًا وَلاَ أَخْرَجْتُ مِنْ طَاعَةٍ يَدًا» (٤).
ما أسرع ما انتقل المسلمون إذن من المعنى الإقليمي الضيق إلى المعنى الشامل الواسع! إنهم لا يخشون إحداث الحَدَثِ في المدينة وحدها «دَارَ السُنَّةِ»، بل يخشون الحدث في الإسلام كله، في كل بلد بلغته الدعوة المباركة، فالمبدأ عام شامل، وقد وضعه الرسول ﷺ بنفسه مُذْ قال: «شَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» (٥) وقال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (٦).
_________
(١) راجع فصل - الرحلة في طلب الحديث - من هذا الكتاب.
(٢) " صحيح البخاري ". الاعتصام. رقم ٦.
(٣) " سنن الترمذي ": ١/ ٥١.
(٤) " الأغاني ": ٢١/ ١٤٤.
(٥) " سنن ابن ماجه ": ١/ ١٧ رقم ٤٥.
(٦) " سنن أبي داود ": ٤/ ٢٨٠ رقم ٤٦٠٦.
1 / 7
ولم يكن لهذا المبدأ النبوي الصريح إلاَّ نتيجة واحدة حاسمة: فعلى قدر الخوف من إحداث الحدث في الإسلام كانت الرغبة في المحافظة على سُنَّةِ رسول الله. وَإِنَّ كل مؤمن لا يظل قلبه ونظره معلقين بشخص الرسول، ولا يصوغ نفسه وعمله وفق الخلق النبوي، ووفق ما جرت به السُنَّةُ (١) أو مضت عليه (٢) ليس صادق الإيمان ولا هو من المُقرَّبِينَ.
وإذا كان هذا الرجل من المشتغلين بالحديث النبوي زادت تبعته، فما يفعل شَيْئًا لم يفعله رسول الله ﷺ، بل يَتَرَدَّدُ في كثير من الأمور قبل الإقدام عليها ليعرف أقربها إلى السُنَّةِ، من تشميره ثيابه (٣)، وطرقه الباب للاستئذان على المحدث (٤)، وإفشائه السلام غير مجاوز القدر المُسْتَحَبَّ من رفع الصوت به (٥)، وجلوسه حيث ينتهي به المجلس (٦) وامتناعه من الجلوس في صدر الحَلَقَةِ أو وسطها (٧) أو بين اثنين بغير إذنهما (٨) وما شابه هذه الخصال النَّبَوِيَّةِ التي اشتمل عليها كتاب الأدب في جميع كتب «السُنَنِ».
وحين بَعُدَ العهد بالوحي وبرسول الله ﷺ أضحى التشبه بالسلف الصالح
_________
(١) " البخاري ". الاعتصام. رقم ٤.
(٢) " سنن أبي داود ": ٢/ ٣٦٨ رقم ٢٢٥٠.
(٣) " الجامع لأخلاق الراوي ": ٢/ ٢٢.
(٤) " الجامع ": ٢/ ٢٤.
(٥) " الجامع ": ٢/ ٢٦.
(٦) " الجامع ": ٢/ ٢٨.
(٧) " الجامع ": ٢/ ٢٨ أَيْضًا.
(٨) " الجامع ": ٢/ ٢٩.
1 / 8
ضَرْبًا من التأسي بِالسُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ. وصار هؤلاء المُتشبِّهُونَ بالسلف ينسبون إليه فَيُسَمَّوْنَ «السَّلَفِيِّينَ» (١)، وباتت حياتهم وَقْفًا على إحياء السُنَّةِ وإماتة البدعة (٢)، وكان المُتدَيِّنُونَ الصادقون ينظرون إليهم نظرة إجلال وإكبار في مختلف العصور، غير أنهم لم يسلموا من أذى المبتدعة وأهل الأهواء، ولا من غُلاَةِ المُتَصَوِّفِينَ، ولا من الأدباء المُتَطَرِّفِينَ. ومضى السَّلَفِيُّونَ لا يبالون بشيء من أذى العامة، فحسبهم شَرَفًا أنهم حفظوا سُنَنَ الهُدَى حِينَ ضَيَّعَهَا النَّاسُ!
ولئن أطلقت السُنَّةُ في كثير من المواطن على غير ما أطلق الحديث، فَإِنَّ الشعور بتساويهما في الدلالة أو تقاربهما على - الأقل - كان دائمًا يساور نُقَّادَ الحديث، فهل السُنَّة العملية إلاَّ الطريقة النَّبَوِيَّةَ التي كان الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - يُؤَيِّدُهَا بأقواله الحكيمة وأحاديثه الرشيدة المُوَجَّهَةِ؟ وهل موضوع الحديث يغاير موضوع السُنَّة؟ ألا يدوران كلاهما حول محور واحد؟ ألا ينتهيان أَخِيرًا إلى النَّبِيِّ الكَرِيمِ في أقواله المُؤيِّدَةِ لأعماله، وفي أعماله المُؤيِّدَةِ لأقواله؟
حين جالت هذه الأسئلة في أذهان النُقَّادِ لم يجدوا بَأْسًا فِي أنْ يُصَرِّحُوا
_________
(١) " المشتبه في أسماء الرجال " للذهبي، نشر جنغ Jong، ص ٢٦٩.
(٢) وعلى طريقة المستشرقين في إحصاء الجزئيات واستقراء التفصيلات، قام جولدتسيهر بجمع طائفة حسنة من المعلومات عن إحياء السُنَّةِ في مختلف العصور الإسلامية، وليس لنا اعتراض على النتيجة التي خرج بها من دراسته لهذه الناحية بالذات، فقد أثبت أنَّ إحياء السُنَّةِ كان يرادف غالبًا العمل على نشرها وتثبيتها في نفوس الأفراد. وانظر:
Muhammedanisches Recht، in Theorie und Wirklich Keit (Zeitschrift f. vergleich) .Rechtswissenschatt، VIII، ٤٠٩ sq.
1 / 9
بحقيقة لا ترد: إذا تناسينا مَوْرِدَيْ التسميتين كان الحديث وَالسُنَّةُ شَيْئًا وَاحِدًا، فليقل أكثر المُحَدِّثِينَ: إنهما مترادفان.
الخَبَرُ وَالأَثَرُ:
والخبر أجدر من السُنَّةِ أَنْ يرادف الحديث، فما التحديث إلاَّ الإخبار، وما حديث النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إلاَّ الخبر المرفوع إليه. غير أَنَّ إطلاق اسم الإخباري على من يشتغل بالتواريخ ونحوها حمل بعض العلماء على تخصيص المشتغل بِالسُنَّةِ بلقب «المُحَدِّثِ» لتمييزه عن «الإِخْبَارِيِّ» وعلى تسمية ما جاء عنه «حَدِيثًا»، لتمييزه عن «الخَبَرِ» الذي يجيء عن غيره. وهذا يُفَسِّرُ قولهم: «بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُلُّ حَدِيثٍ خَبَرٌ وَلاَ عَكْسَ» (١).
وَالمُحَدِّثُونَ الذين انتصروا لترادف الحديث والخبر لاحظوا - إلى جانب المدلول اللغوي المتماثل بين اللفظين - أَنَّ الرُوَّاةَ لم يكتفوا بنقل المرفوع إلى النَّبِيِّ ﷺ
بل عُنُوا معه بنقل الموقوف على الصحابي والمقطوع على التابعي: فقد رَوَوْا إذن ما جاء عن النَّبِيِّ وما جاء عن غيره، والرواية إخبار هنا وهناك، فَلاَ ضَيْرَ في تسمية الحديث خَبَرًا، والخبر حَدِيثًا.
ومن خلال الرواية نفسها نظروا إلى الأثر، فهو مرادف للخبر وَالسُنَّةِ وَالحَدِيثِ، «يُقَالُ: أَثَرْتُ الحَدِيثَ: بِمَعْنَى رَوَيْتُهُ، وَيُسَمَّى المُحدِّثُ أَثَرِيًّا
_________
(١) " تدريب الراوي ": ص ٤.
1 / 10
نِسْبَةً لِلأَثَرِ» (١). فلا مسوغ لتخصيص الأثر بما أضيف للسلف من الصحابة والتابعين، إذ أنَّ الموقوف والمقطوع روايتان مأثورتان كالمرفوع، إلاَّ أَنَّ الموقوف يُعْزَى إلى صحابي، والمقطوع يُعْزَى إلى التابعين، بينما ينتهي المرفوع إلى الرسول الكريم - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -. وهنالك اصطلاحات في بيان الفرق بين كل من الخبر والأثر لن تخوض فيها، ولن نماري فيها أصحابها (٢)، فقد أخذنا برأي الجمهور في تساوي هذه المصطلحات جَمِيعًا في إفادة التحديث والإخبار، وعليهما مدار البحث في علم أصول الحديث.
الحَدِيثُ القُدْسِيُّ:
وكان رسول ﷺ يُلْقِي أَحْيَانًا على أصحابه مواعظ يحكيها عن ربه ﷿ ليست وَحْيًا مُنَزَّلًا فَيُسَمُّوهَا قُرْآنًا، ولا قولًا صَرِيحًا يسنده - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إلى نفسه إسنادًا مباشرًا فَيُسَمُّوهَا حَدِيثًا عَادِيًّا، وإنما هي أحاديث يحرص النَّبِيُّ على تصديرها بعبارة تدل على نسبتها إلى الله، لكي يشير إلى أَنَّ عمله الأوحد فيها حكايتها عن الله بأسلوب يختلف اختلافًا ظَاهِرًا عن أسلوب القرآن، ولكن فيه - مع ذلك - نفحة من عالم القدس، ونورًا من عالم الغيب، وهيبة من ذوي الجلال والإكرام.
تلك هي الأحاديث القدسية، التي تُسَمَّى أَيْضًا إِلَهِيَّةً وَرَبَّانِيَّةً.
_________
(١) " التقريب ": ص ٤.
(٢) من تلك الاصطلاحات أنَّ المُحَدِّثِينَ يُسمُّون المرفوع والموقوف بالأثر، وأنَّ فقهاء خُرَاسَانَ يُسَمُّونَ الموقوف بالأثر والمرفوع بالخبر: انظر " التدريب ": ص ٤.
1 / 11
مثالها ما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن أبي ذر ﵁ عن النَّبِي ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ اللهِ ﷿: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ (١) إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ» (٢).
والصيغة التي صدر بها النَّبِي ﷺ هذا الحديث القدسي هي - كما لاحظنا - «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ» وهي العبارة التي آثرها السلف في رواية هذه الأحاديث. أما الخلف فلهم طريقة خاصة في التعبير عن هذه الأقوال القدسية الربانية، إذْ يَقُولُونَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ».
_________
(١) المخيط: الإبرة، ما يخاط به.
(٢) " رياض الصالحين " للنووي: ص ٧٣.
1 / 12