تساؤل لا أحد يجيب عليه، رغم ظهرها المحني بعض الشيء، وأصابعها المتورمة المتقيحة، وكعبيها المشققين، وقدميها الحافيتين تصعدان سلم الخدم، وسلم الخدم حلزوني وملتو متعرج، وعند كل ثنية شق مظلم يتسع لجريمة سرية، وصفيحة قمامة فاضت بها القمامة وملأت الأرض بذباب وصراصير صغيرة تزحف من تحت عقب الباب إلى الشقق الأنيقة الفاخرة.
من يرى حميدة وهي صاعدة السلم أو هابطة لا يرى عليها سمات الخدم؟ ما هي سمات الخدم؟ عيناها مغسولتان مرفوعتان إلى أعلى، بعد العينين لا شيء يهم، وكل شيء يمكن أن يكون متقرحا مغلقا على الصديد، وقدماها تغوصان حتى الركبتين في القمامة، قمامة عضوية لأن أصحابها من أكلة اللحوم، ورائحة اللحم الميت أشد فسادا من النبات الميت، ومع ذلك تدوس حميدة بقدميها على الرائحة وترفع عينيها للسماء، وتدرك ما لا يدركه أحد.
ذلك أن قمامة الإنسان تزداد بازدياد مكانته في المجتمع، فالمعدة التي تأكل بفتحتها العلوية أكثر من غيرها تخرج من فتحتها السفلية بطبيعة الحال أكثر من غيرها، ومعدة سيدها بغير جدال أكبر معدة، وقمامته بالطبيعة أضخم قمامة، يضعها الخدم في صفائح، تحملها عربات مصفحة، وتجمع على شكل هرم عال في مكان بعيد في الصحراء، يتفرج عليه السياح بانبهار.
أهرامات صغيرة من القمامة في ركن كل شارع، يفد إليها من حين إلى حين جرذان، وكلاب ضالة، وقطط صغيرة عيونها مستديرة لامعة مرفوعة إلى أعلى كعيون الأطفال وأصابعها متقيحة كأصابع حميدة، تفتش بسرعة عن قطعة خبز، وشيء من غموس لم يتعفن بعد.
وخرجت أصابعها من صفيحة القمامة تلتف حول شيء، فتحت يدها لتراه، لكن ضوءا مفاجئا سقط فوق كفها، اختفت بسرعة وراء الجدار، لكن الضوء تبعها، وظل طويل ارتسم فوق الأرض، رأسه حليق أصلع، وكتفاه عريضتان، فوق كل كتف صف أفقي من خمسة أزرار صفراء تلمع، عرفته على الفور فشهقت بصوت عال، وفتحت عينيها على صوت سيدها الخشن: حميدة، ورأت الشاة تدخل من الباب يسوقها الجزار، أدركت أن اليوم عيد لذكرى وفاة سيدتها.
التقت عيناها بعيني الشاة، توقفت الشاة، تسمرت قوائمها الأربع في الأرض، ظلت عينا حميدة تحملقان في الدائرتين السوداوين ومن حولها البياض الصافي، تكسوه لمعة مفاجئة، تتحرك فوق سطح العينين، تترقرق، كدمعة كبيرة ثابتة لا تتبخر ولا تسقط، اتسعت عيناها بالدهشة، تلك الدهشة التي تحدث لإنسان يرفع رأسه فجأة فيرى عينيه في مرآة لم تكن موجودة.
شد الجزار الشاة من حبل قصير يلتف حول عنقها، تبعته الشاة، لكن عنقها ظل ملويا إلى الخلف، ناحية حميدة التفت أصابع الجزار الكبيرة الغليظة حول العنق، رفسته الشاة بيديها وقدميها الصغيرتين، امتدت نحوها أربع أياد قوية، شدت ذراعيها وساقيها بعيدا، وأصبحت الشاة ممدودة فوق ظهرها، وعيناها السوداوان الواسعتان مفتوحتان بالذعر، تبحثان في العيون حولها عن عيني أمها، كانت أمها تقف على مسافة غير بعيدة، عيناها هادئتان ثابتتان ورموشها ثابتة، والطرحة السوداء فوق رأسها وكتفيها وصدرها ثابتة لا تتحرك.
ارتعشت عضلة طويلة نحيلة تمتد بامتداد الفخذ النحيل الصغير، امتدت الرعشة حتى أعلى الفخذ، حتى الزاوية المنفرجة، كفم طفل مفتوح يلهث، شفتاه ناعمتان ورديتان يشف من تحتهما لون الدم الأحمر، نديتان بلعاب شفاف كدموع الأطفال، واللسان الدقيق بدأ يرتعش كرعشة لسان عصفور يذبح.
رفعت عينيها السوداوين المذعورتين مرة أخرى تبحثان في العيون المتزاحمة حولها عن عيني أمها، نظرت إليها بعينين غريبتين فيهما نظرة باردة كنصل السكين، حولت عينيها إلى السقف بعيدا عن النصل، لكن السكين كان يقترب منها رويدا رويدا، وبحركة سريعة خاطفة كالبرق شطرها نصفين.
لم تشعر حميدة بالألم، عيناها ظلتا جافتين لم تسقط منهما دمعة واحدة وتركت جسدها راقدا على الأرض التراب، ومن تحت فخذيها شريط طويل من الدم، أحمر قاتم، يلمع في الشمس، زحف إليه النمل، وتكاثف فوق ظهره المتجمد المقوس كظهر ثعبان ميت، نفخت النمل فدخل التراب في أنفها، عطست فاندفع من فمها قطعة دموع متجمدة في حلقها، مدت يدها إلى التراب وردمت النمل، اندفن الدم وأصبحت بقعة الأرض مرتفعة بعض الشيء كالقبر، داست ببطن قدمها على الجزء البارز من المدفن، لم تعد الأرض مستوية كما كانت، داست فوقها بقدميها الاثنتين، وبكل قوتها المستعادة مشت فوقها، وعند ثنية الجدار أطلت برأسها ونظرت خلفها، وحينما لم تجد أحدا رفعت جلبابها عن ساقيها ونظرت، لم يكن هناك العضو المألوف وإنما شق صغير كالجرح القديم المسدود.
Página desconocida