لكن حميدو كان يعرف أنه شيء آخر غير حميدة، وأن جسده منذ الولادة انفصل عن جسدها، غير أن الشبه كان شديدا، والخلط بينهما شديدا إلى حد أن الأمر كان في بعض الأحيان يختلط عليه هو أيضا فيظن أنه حميدة، ويختفي وراء جدار، ويرفع جلبابه عن فخذيه وينظر بينهما، وحينما تسقط عيناه على الشق الرفيع الصغير يدرك أنه حميدة، وتسقط فوقه العصا تمسكها اليد الكبيرة فيشد الجلباب عليه، ويبكي بدموع حقيقية، تختفي بسرعة كدموع الأطفال، ويرى العصا ملقاة على الأرض، فيجري إليها ويأخذها، ويدسها في جيب جلبابه الطويل، ومن حين إلى حين تمتد يده إلى جيبه يتحسسها، وتسري صلابتها في أصابعه وتنتقل الصلابة إلى ذراعه وكتفه وعنقه، ويشد عضلات عنقه فإذا برأسه ينثني إلى الوراء في حركة تشبه حركة أبيه، ويتكلم من حلقه بصوت غليظ يقلد به صوت أبيه.
وحينما تسمع حميدة صوته الغليظ تدرك أن العصا معه. لم تكن ترى العصا بطبيعة الحال لكنها كانت تعرف أنه يخبئها تحت جلبابه، في مكان ما تحت الباب. وتجري لتهرب منه، فيجري وراءها، ويظن من يراهما أنهما يلعبان، لكن حميدو لم يكن طفلا، وفي جيب جلبابه شيء يخبئه، شيء صلب يتدلى بحذاء فخذه كالعضو الغريب.
وحينما ترفع حميدة عينيها إليه وترى وجهه لا تعرف أنه حميدو وتتسمر في مكانها من شدة الدهشة أو الذعر، لا تتحرك من مكانها، تتجمد كتمثال يضع حميدو كفه فوق سطحه، ويلمس الجفنين الحجريين ويضع أصبعه بين الجفن والعين، كأصبع كل الأطفال حين يمسكون رأس دمية كبيرة الحجم لها شعر ولها رموش تكاد أن تكون حقيقية.
ولم يكن حميدو قد أمسك في حياته قط برأس دمية كبيرة أو صغيرة، فالأطفال في الريف لا يلعبون بالدمى، ولا يلعبون بالعرائس، ولا يلعبون بالقطارات أو مراكب الورق أو الكرة أو أي شيء آخر. إنهم لا يعرفون اللعب، فاللعب للأطفال، وهم ليسوا أطفالا. إنهم يولدون كبارا كيرقات الذباب ما إن تعرف ملمس الأرض حتى تطير، أو كدود المش تنفصل الدودة الجديدة عن الدودة الأم فلا تكاد تفرق بين الدود الجديد والدود القديم.
ورأى حميدو وجه حميدة مقبلا من بعيد على جسر الترعة، وخفق قلبه بفرحة الأطفال القديمة، لكنها اقتربت منه، وعرف طرحة أمه السوداء تلف الرأس وتنسدل فوق الكتفين والصدر والبطن، جرى إليها ووضع رأسه على بطنها. لم يكن رأسه وهو واقف إلى جوار أمه يرتفع لأكثر من خصرها، امتلأ أنفه برائحة أمه المميزة تمتزج برائحة خبيز الفرن وتراب الحقل والجميز، كان يحب الجميز ويجري نحو أمه حين تعود من الحقل تلف الجميز في طرحتها، ثم تجلس على الأرض إلى جواره، وتناوله الجميز واحدة واحدة بعد أن تنفخ عنها التراب.
دفعته أمه بيدها، لكنه ظل ملتصقا بها، متشبثا بجسمها، واستطاع أن يضع رأسه تحت ثديها الأيسر، في هذا المكان بالتحديد كان يحب أن يضع رأسه حين ينام إلى جوارها كل ليلة، كانت تنام بعيدا عنه، في الطرف الآخر من الحصيرة، لكنه كان يصحو في منتصف الليل، وحينما لا يراها إلى جواره يزحف إليها، ويدفن رأسه تحت ثديها.
لم تكن تبعده عنها دائما، وتمتد ذراعها وتلتفان حوله وتضغط عليه بقوة، بكل قوتها إلى حد أنها تؤلمه، ويسري في جسده إحساس غامض بأنها ليست أمه، وليست خالته، وليست عمته، وليست أية واحدة من قريباته، وإنما هي غريبة عنه، وجسدها غريب عن جسده، غرابة تجعله يقشعر، والقشعريرة تسري من السطح إلى العمق، ترج جسده كرعدة الحمى.
ولف ذراعيه حولها من شدة الرعدة، لكنه أحس قبضة يدها الكبيرة القوية كقبضة أبيه تدفعه بعيدا وكاد يسقط في حضن الجسر، ورفع وجهه إليها، ورأى عيني أبيه الواسعتين العجوزين يجري فوق بياضهما الكبير شعيرات دموية حمراء، اشتدت الرعدة وكاد يصرخ من الفزع، لولا أن يد أبيه الكبيرة أصبحت فوق فمه، وصوته الغليظ أصبح كالفحيح: تعال ورائي.
الليل مظلم بغير قمر، والشفق لم يطلع بعد، وكل شيء في القرية ساكن نائم في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول خيوط النهار قبل أذان الفجر، وقدما أبيه الحافيتان الكبيرتان تنتقلان فوق الأرض المتربة بسرعة كبيرة، يوشك أن يجري، وحميدو خلفه، يكاد يلمس ذيل ثوبه.
أراد أن يفتح فمه ويسأل أباه، لكن أباه توقف عند سور صغير يفصل الطريق الزراعي عن قضبان القطار، وراء هذا السور كان يختفي حميدو حين يلعبون «المساكة»، ناوله أبوه شيئا طويلا، صلبا وحادا، لمع في الظلام كالسكين.
Página desconocida