قال أوديسيوس: «تليماك أيها العزيز، إن ضيفك لم يخيب رجاءك ولا أضاع عشمك،
3
ولقد أصبت الأهداف كلها على حداثة عهدي بالرماية، والآن هلم؛ إن النهار يوشك أن يولج، وإنه لينبغي أن نعد وليمة المساء للسادة الأمراء، ولن يعدموا بعدها ما دأبوا عليه من رقص وعزف، وقصف وغناء.»
وهم تليماك فألقى حمائل سيفه على كاهله، وتناول رمحه العظيم ... وسنرى!
الانتقام الهائل
وألقى أوديسيوس أسماله، واطرح مزقه ، وبرز للملأ أوديسيوس القوي الحديدي الجبار، وتناول كنانة الأسهم التي تهمهم فيها المنايا وتغمغم، والقوس العتيدة العنيدة، ووقف عند الوصيد حتى لا يفر أحد من أعدائه فينجو من الموت الذي هو ملاقيه، ثم نثر الكنانة عند قدميه وهتف بالعشاق يقول: «وهكذا يا سادة تتم فصول المأساة، وهكذا أيضا تنتهي المباراة التي لم يفز فيها واحد منكم، والآن انظروا، إني لن أسدد سهامي إلى هذه الأهداف بعد، بل إني مسددها إلى غرض آخر!» وشد الوتر العرد، وأرسل إلى حلقوم أنطونيوس سهما مراشا عجل به إلى هيدز، وكان العلج يوشك أن يحتسي كأسا ذهبية من أعتق الخمر، فسقطت الكأس من يده الذاهلة، وسقط هو يتشحط في دمه ويلفظ أنفاسه، وذعر الآخرون حينما رأوا أخاهم يسقط إلى الأرض رمة لا نفس فيها ولا حراك، فهاجوا وماجوا، وهبوا يبحثون عن أسلحتهم، ولكن هيهات! لقد أخفاها أوديسيوس وولده ليلة أمس، فأنى لهم بها! وصاحوا بأوديسيوس: «أيها المجنون، لقد أخطأت المرمى! ماذا أصابك؟ إنك تسدد إلينا، لقد قتلت أنبل شباب إيثاكا، ثكلتك أمك! أبدا لن تحمل بعد هذه قوسا أبدا.»
وانكشف الستر وعاد إلى الشحاذ الفقير عنفوانه، وانقذفت من فمه الحمم، فقال: «أيها الكلاب، قال
1
ما زعمتم أن أوديسيوس لن يثوب! ها أنا ذا أيها العبيد، لقد استبحتم حمى بيتي، وأذللتم قدسه الحرام، وأوضعتم في الفتنة فاعتديتم على نسائي، ولم تبالوا أن تتعشقوا زوجي، بينا رجلها حي يسعى على قدميه، غير عابئين بمن يطلع عليكم في السماء وهو بكم محيط، ولا مبالين بما تضج به الرفات الكريمة في ثرى هذه الأرض من فعالكم، فويل لكم! لقد حان حينكم.»
وارتعدت فرائص الكلاب، كما دعاهم أوديسيوس، وطارت حمرة الخمر من خدودهم، ووقف يوريماخوس متخاذلا وهو يقول: «إن كنت حقا ملكنا أوديسيوس فكلنا نعتذر عما ارتكبناه من الإثم في بيتك، ولقد تكلمت فقلت الحق كل الحق، ولكنك قد أرديت أنطونيوس الذي دعانا إلى كل ذلك، والذي كان يطمح أن يتربع على عرشك ويملك كما ملكت، فاعف عنا واصفح عن خطايانا ، فنحن بالرغم من كل ما حصل شعبك الأمين، ورعاياك الأوفياء؛ على أننا سنعوضك عما استبحنا؛ مالا بمال، وعتادا بعتاد.» فقال أوديسيوس: «يوريماخوس أيها النذل، إنكم مهما ملأتم يدي بالذهب فلن تشفوا حردي ولن تذهبوا غلتي حتى أنتقم منكم جميعا؛ لما صدر عنكم من إفك، وما ارتكبتم من أزوار، فاختاروا لكم؛ الحرب التي جدت بكم فجدوا بها، والقتال الذي لا محيص منه ولا محيد عنه، أو فالفرار الفرار، ولن تجدوا إلى الفرار سبيلا.» وزلزل الجميع زلزالا شديدا، وجفت ألسنتهم في حلوقهم فما عرفوا ماذا يحيرون! ثم هتف فيهم يوريماخوس فجأة يقول: «أيها الإخوان، لقد تحجر قلب هذا الرجل فلن يعرف سبيلا إلى الرحمة، وها قد قبض على القوس بكلتا يديه، ووقف عند الوصيد يذودنا عن الباب، ولم يفلت أحد منا من سهامه قط، بل إنه سيقنصنا واحدا بعد واحد، ولا أدري إلا أن تفزعوا إلى سيوفكم فتخترطوها، وإلى المناضد فتدرعوا بها، ثم نهجم عليه كرجل واحد عسى أن نزحزحه عن الباب فننجوا بأنفسنا، ونلوذ بالفرار، فإذا بلغنا المدينة فإننا سالمون.» ثم فرغ من صيحته واستل سيفه، وهجم على أوديسيوس مرعدا مزمجرا، ولكن أوديسيوس أصماه بسهم في صدره، فصرعه، وخر اللئيم يعالج سكرة الموت، وانتشرت ضبابة الفناء الأبدي على وجهه المقبوح فأطبقت عينيه، وهنا هاج الأمير أمفينوم وماج، وهجم على أوديسيوس بسيفه الذي تقطر من حده المنايا، وكاد اللئيم ينال من خصمه منالا، لولا أن قفز تليماك برمحه العظيم فأغمده في صدره ورده عن أبيه، وعاد مكانه دون أن ينتزع الرمح مخافة أن يتكاثر عليه الأعداء، وقال تليماك لأبيه: «هلم يا والدي، وهات ما استطعت، فشد ما أخشى أن تفرغ هذه السهام فلا أستطيع أن أدفعهم عن الباب!» وانطلق تليماك إلى غرفة السلاح، فأحضر ما مست إليه الحاجة من رماح وسيوف وخوذات، وادرع بما هو حسبه منها، ثم ألبس الراعيين الأمينين درعين سابغتين،
Página desconocida