وصادفت مقالة الملك هوى في قلوب السادة زعماء الفياشيين، ثم نهضوا فتفرقوا إلى منازلهم يلتمسون الراحة وينعمون بطيب المنام، ونضرت أورورا ابنة الفجر جبين المشرق بأفواف الورد، فهب الزعماء العظام من مراقدهم، وبادروا إلى السفينة بهداياهم التي وصف الملك، وقد كان ألكينوس نفسه ينتظرهم ثمة، وكان يتناول كل هدية بيديه فيضعها موضعها الأمين تحت مقاعد المجدفين حتى تكون بنجوة من ضرر يصيبها أو أذى يلحق بها، حين يكون الملاحون مشغولين فيما هم بسبيله من عمل البحر ومصارعة الموج، حتى إذا أسلموا تذكاراتهم عادوا مع الملك إلى قصره المنيف لوليمة الوداع الفاخرة، وقد قرب إلى جوف الكبير المتعال، رب الأرباب ورب السحاب الثقال، بثور جسد عظيم، وأعد من فخذيه شواء شهيا أقبل عليه القوم يأكلون ويروغون،
2
بينما يسكب في آذانهم غناء ديمودوكوس مطربهم الحذق الحبيب، وكان أوديسيوس يرنو بطرفه المشتاق إلى الشمس يود من أعماقه لو عجلت إلى خدرها، وكان يضجره منها جريانها الوئيد، فهو دائما يرقب مغيبها بعيني الزارع الشقي الجوعان الذي أجهده طول النصب في حرث حقله، فعلق بصره بالشمس يتمنى لو هبطت فجأة في المغرب ليلوي أعنة بهائمه إلى كوخه؛ وليتبلغ هناك بلقيمات. وما كادت تتوارى بالحجاب حتى وجه الخطاب لزعماء الفياشيين في شخص الملك، فقال: «مولاي الملك الجليل ألكينوس، يا فخر شيرا وعماد الفياشيين، تمنيت لو أديت الصلاة الخمرية يا مولاي، وتفضلت فأذنت لي في وداعكم؛ ما دمتم قد أعددتم لي الهدايا واللهى، والأبطال الصناديد من رجالكم الملاحين، وإني لأضرع إلى الآلهة أن ترعاني في رحلتي في اليم، وأن أصل إلى بلادي فألقى فيها آلي وعشيرتي سالمين، كما أسأل أرباب الأولمب أن ترعاكم وأن تقر أعينكم جميعا بذويكم، وأن تفيء عليكم من نعمائها، وتحفظ بلادكم من عاديات الزمان وملمات الحدثان.» وسر الجميع من مقالته فهتفوا له، ورجوا الملك أن يأذن له في السفر، فالتفت ألكينوس إلى مشيره وقال: «هلم يا بنتون فأدهق الزق واحمل الخمر إلى جميع أضيافنا؛ ليريقوها خالصة لوجه سيد الأولمب؛ كي نتأذن لأوديسيوس بالرحيل إلى دياره.» ولبى المشير وأخذ كل كأسه، ولم ينتظر أوديسيوس حتى يصل الندمان إلى الملكة المبجلة الوقور، بل هب مسرعا وقدم إليها كأسه الهائلة، وقال: «وداعا يا مولاتي الملكة آخر الوداع، وداعا إلى آخر العمر، وليكن عمرا موفورا مخفرجا تقرين فيه بمولاي الملك والسادة النجب أبنائك المحبوبين وشعبك.» وحيا وبيا، ثم أهرع إلى المرفأ ومشير الملك يسعى بين يديه، وثلاث من وصيفات الملكة يتهادين في أثره؛ أما أولاهن فكانت تحمل الثوب الديباجي الموشى، وأما الثانية فكانت تحمل الصندوق الثمين ذا الأذخار، وحملت الثالثة مئونة حافلة من أشهى الآكال وأطيب الشراب، حتى إذا كن عند السفينة سلمنا ما حملنا للملاحين الشجعان، وانثنينا من حيث أقبلنا، واشتغل بعض البحارة بإعداد فراش وثير في قمرة خلفية من أجل أوديسيوس، الذي آوى إلى منامته واستغرق ثمة في سبات لذيذ، بينما كان الملاحون دائبين في فك الحبال ورفع المرساة من صخور الشاطئ، حتى إذا انتهوا توزعوا إلى مجاديفهم وأعملوا فيها أيديهم، فهمت الفلك واحتواها الماء، وأقلعت تشق الأمواج، وتأخذ سبيلها في البحر سربا ... هذا بينما كان النائم البريء قد استسلم لطائف من الكرى يشبه طائف المنون، وعمرك الله هل رأيت أربعا من صافنات الجياد تتبارى في حلبة وقد أذن المؤذن فاندفعت تنهب الرحب، وأرسلت في الهواء أعرافها؟ لقد كانت السفينة تتواثب على أعراف الموج مثلها ، والعباب الزاخر يصطخب من ورائها، واللجة من بعد اللجة تجيش وتضطرب تحتها، كأنما تتحدى اليم في طمأنينة وثبات، أو تسابق في الجو البواشق البزاة، وكيف لا وقد حملت رجلا لا كالرجال وبطلا بز الأبطال، وحكيما تربا
3
للآلهة في المكرمات وعظيم الفعال، وقرنا ليس كمثله قرن في يوم كريهة أو نزال، لم يغف من قبل هذه الغفوة الناعمة التي باعدت بينه وبين ما تجشم من آلام وأحزان وأشجان ...
وتلألأت في الأفق الشرقي نجمة الفجر الصادق حينما كانت الفلك قبالة الأرض الموعودة؛ إيثاكا، بعد إذ أتمت رحلتها الخاطفة في جنح الليل، وهناك في شاطئ المدينة أنشئ مرفأ أمين باسم فورسيز رب الأعماق يدخل إليه بين حاجزي أمواج ممتدين على مدى الجون الجميل بين ذراعي الميناء، فما تستطيع ريح أن تعبث بما فيه من سفين وقد بسقت أشجار الزيتون على الشاطئ وامتدت امتدادا هائلا إلى كهف حريز تأوي إليه طائفة من عرائس البحار يقال لها النياد. وثمة - أي في هذا الكهف المقدس - صفت أباريق من حجر وجرار كثيرة، يأتي النحل فيودع فيها شهده، وقامت فيه أيضا عمد من حجر يقال إن عرائس الماء تنسج عليها أثوابها العجيبة، وفيها أيضا عيون من ماء زلال تسقي ساكنيه، ويؤدي إلى الكهف طريقان عظيمان، أحل أحدهما للناس يضربون فيه ما يشاءون، أما الآخر فلا تطؤه إلا قدم إله كريم، ويعرف بطريق الجنوب المقدس.
أرسلت سيرس بين أيدينا ريحا رخاء كانت خير معوان لنا وخير رفيق في سفرتنا الرهيبة.
ويمم البحارة بفلكهم شطر الميناء ثم أرسوا فيه، وجنحت السفينة بنصف حيزومها على رماله، وحملوا أوديسيوس الزعيم دون أن يوقظوه ووسدوه على فراش
4
وطئوه على الشاطئ، ثم حملوا كل متاعه وأذخاره فجعلوها إلى جانبه خلف زيتونة ضخمة تحجبها عن أنظار المارة؛ حتى لا يعبث بها عيار إذ هو مستغرق في نومه العميق، وركبوا الفلك بعد هذا وعادوا أدراجهم إلى شيرا، وأحس نبتيون الجبار رب البحار وعدو أوديسيوس الأكبر بما فعل الفياشيون فثار ثائره، وقال يعتب على زيوس: «أيها الإله الأعظم الأبدي، أبدا ما أحسبني أنال نصيبي من التقديس والتبجيل بين الآلهة منذ اليوم، ما دام شعب فياشيا لم يأبهوا أن يحقروني أن يبالوا بي، فقد كنت عولت على ابتلاء أوديسيوس بأروع صنوف البلايا قبل أن تطأ قدمه أرض بلاده، ولم يكن في تصميمي أن أحول بينه وبين العودة إليها؛ لأنك كنت قد وعدت بتمهيد السبيل لهذه العودة، ولكنهم حملوه على فلكهم غارقا في أحلى المنام، حملوه إلى الشاطئ الإيثاكي بما معه من العطايا والأذخار وطرف النحاس وتحف النضار ومطارف الديباج، وما حمل من كنوز لم يكن يحمل شيئا منها حتى لو عاد بنصيبه من أسلاب طروادة! وا أسفاه وا أسفاه!» وقال يجيبه رب السحاب الثقال: «ماذا تقول يا مزلزل الشطآن والخلجان، يا ذا الملكوت والجبروت، يا أيها العظيم نبتيون؟! لا عليك يا أخي لا عليك، فإنه لن تحقرك الآلهة ولن تستخف بك، فإذا استخف بك ملأ ضعيف من بني الموتى - عبادنا البشر - فما يضيرك؟ أليس في يديك ألف ألف فرصة للبطش بهم والانتقام منهم؟ اربع عليك يا نبتيون وصل ملاذك؛ فإنك لست عبدا لأحد.» قال نبتيون: «جوف يا رب السحاب إنه ليس أحب إلي من أن أبطش بهم كما أشرت، ولكني لا أخشى إلا تحديك لي دائما بغير حق، وإني أرجو أن أعصف بسفينتهم في دأمائي اللجي حتى لا يحملوا ضاربا في البر والبحر مثل أوديسيوس مرة أخرى، وإني مقتف آثارهم الآن فضارب فلكهم اللعين، فساحره في الحال إلى طود عظيم ينهض بروقية أمام مدينتهم ليحجبها عن كل سارب في البحر فلا يراها أحد أبدا.» فقال جوف يجيبه: «هلم يا أخي فاصنع ما بدا لك، وافعل فعلتك التي رسمت، وليكن ذلك حينما يقتربون من مدينتهم حتى يرى أهل شيرا ما يحل بسفينتهم؛ لتكون لهم آية.» وانطلق مزلزل الأعماق في أثر الفياشيين حتى إذا كانوا قاب قوسين من الشاطئ أرسل يده تحت فلكهم فضربها ضربة هائلة أرسلتها في الهواء وهوت بها إلى اللج، ثم تركت مكانها جبلا عاليا أشم ، ولوى عنانه إلى أرجاء ملكه الرحب.
Página desconocida