وصمت تليماك هنيهة، واستعبرت ربيبته يوريكليا، وأرسلت هذه الكلمات على أجنحة من الحنان، وفي أنسام من الرحمة: «رويدك يا بني، أي سفر وأي نوى؟! لقد انتهى أوديسيوس وانتهى معه كل شيء، وهو اليوم رفات سحيق في رمس عميق في بلد لا نعرفه، أتسافر يا تليماك ليأتمر هؤلاء الذئاب وقد يسلطون عليك من يغتالك، ثم يستصفون كل مالك بعد ذلك؟ حاشا يا بني، لتبق معنا نحن الذين أحببناك واصطفيناك، فيم تذرع عباب هذا البحر ولا رجاء لك في مطمح، ولا ثقة لك في شيء؟»
وأجاب تليماك في رفق: «رويدك أنت يا ربيبة، إني لم أعتزم شيئا من تلقاء نفسي؛ إنها السماء هي التي توحي إلي، ولكنني أستحلفك بكل أربابك ألا تقصي شيئا مما اعتزمته على أمي إلا بعد أحد عشر يوما أو اثني عشر يوما من رحيلي؛ فإنها لو علمت بسفري لأظلمت في عينيها مباهج الحياة ، وذهبت نفسها علي حسرات.»
وأقسمت يوريكليا بكل أربابها، وانثنت تهيئ دنان الخمر وأحمال الدقيق.
أما مينرفا، أما ربة العدالة والحكمة الخالدة، ذات العينين الزبرجديتين، فقد يممت شطر البحر وقصدت إلى المرفأ، حيث لقيت تويمون بن فرونيوس سيد الملاحين، سألته إحدى جواريه المنشآت فأعد لها واحدة من خيارها، وما كادت ذكاء تلج في خدر الأفق، وما كاد الشفق يبكي فيصبغ بدموعه جبين السماء حتى كان الملاحون قد هيئوا القلوع ونشروا الشراع، وخبروا مجاديفهم، وأحضروا عددهم، وتزودوا من السلاح، وكانت مينرفا نفسها تستحثهم؛ فسرعان أن تهادت السفينة ورقصت نشوى فوق هامات الثبج.
وذهبت مينرفا في صورة منطور وفي طيلسانه، فأشرفت على عصبة العشاق، وتمتمت بكلمات فانتشر الظلام فوق خيامهم، ولعب النعاس ملء جفونهم، وكانت الكئوس لا تزال تقهقه في أيديهم، فسقطت عن غير عمد لتسقي الأرض من تحتهم شرابا.
وطفقوا، تحت طائف الكرى، ينسلون إلى خيامهم ...
ريعت أفئدة العشاق وأخذوا يتخافتون.
وأدلفت مينرفا نحو القصر لتلقى تليماك: «تليماك، هلم، البدار! أنت هنا وكل رفاقك في الفلك المشحون ينتظرونك! هلم، يجب ألا نضيع وقتنا سدى.»
ونهض تليماك وسارت مينرفا، وسار هو في أثرها حتى كانا عند سيف البحر وحتى أشرفا على السفينة. «مرحبا يا رفاق، هلموا فاحملوا هذه الدنان وتلك الأحمال إلى السفينة، لا أحد يعلم أمر رحلتنا حتى ولا أمي، إلا ربيبتي.»
وامتثل الملاحون أمر سيدهم، ثم تقدمت مينرفا فركبت السفينة ومن ورائها ابن أوديسيوس، وجلست هي عند الدفة، ونشط البحارة فهيئوا المركب. وحدجت المغرب ربة العدالة بعينيها الزبرجديتين فهبت النسمات رخاء، ورقصت تحتها الأمواج من طرب، وانتصب تليماك واقفا يحث رجاله، واضطرب الماء تحت السفينة واصطخب، وصب القوم دنانا من الخمر تقدمه للآلهة وقربانا لمينرفا وتحية لا تبيد.
Página desconocida