فإن الماثلين أمامكم بصفتكم ممثل صاحب الجلالة، يحتجون بغاية الشدة والصرامة على هذه الاعتداءات الجارحة التي جعلت الشعب غير آمن على حياته، وإن أهالي سوسة يؤكدون تأييدهم لمسالك الوزارة التونسية الشعبية ، كما أنهم يؤيدون بدون احتراز جلالة الملك المعظم.
ويعلنون عزمهم الراسخ على مواصلة الدفاع على حقوقهم الشرعية وكرامتهم المداسة حتى النصر النهائي مهما تكن التكاليف، وإن هذه المناورات والاستفزازات لا تزيد الشعب إلا إيمانا بحقه والذود عنه حتى يتخلص من قيد العبودية.
والسلطات الفرنسية هي التي تتحمل وحدها مسئولية الحوادث ونتائج المناورات التي تستعملها ضد شعب أعزل لا بد أن ينتصر طال الزمان أو قصر.
وقد سلمها الوطنيون إلى العامل رغم الحوادث، وجاءت وفود المدن والقرى القريبة أفواجا، فاجتمعت الجماهير من طلبة فرع جامع الزيتونة والمدرسة الثانوية وعمال وجميع الطبقات، وكان عدد النسوة كبيرا.
وتحركت المظاهرة وقررت المرور بالحي الأوروبي، وبمجرد ما وصلت إلى ميدان بيشون، وهو الميدان الأكبر، اصطدمت بقوات فرنسية اعترضت طريقها، وسعت في تشتيتها بالعنف، فبلغ الحماس بالجماهير مبلغا، وأخذت تدافع عن نفسها بالتي هي أحسن أمام بنك الجزائر، واستأنفت سيرها إلى الأمام، فرماها الجيش الفرنسي بالقنابل المسيلة للدموع، ثم هاجمها هجوما أعنف، ولكن المتظاهرين صبروا ولم يتأخروا، وحافظوا على نظام صفوفهم تحت قيادة رئيس الجامعة الدستورية الأستاذ جلول بن شريفة المعروف برصانته، وهدوئه، والتحكم في أعصابه، وإذا بالعساكر يطلقون نار بنادقهم ورشاشاتهم من غير سابق إنذار، فسقط الأستاذ ابن شريفة يتخبط في دمائه، وقد جرح في فخذه، وكثر حوله القتلى والجرحى.
ففارق قسم من الجماهير المعركة، وسار في طريق المعمل الكهربائي لإبلاغ العريضة إلى السلطات التونسية، فأسرع القائد الأعلى لحامية سوسة الكولونيل دوران إلى اعتراضها، وقاد نحوها فرقتين مدججتين بالسلاح، وتقدم حالا عندما رأى المتظاهرين ووجه نحوهم مسدسه وأطلق رصاصه، فصاح أحد الوطنيين، وارتمى تونسي على الضابط الفرنسي وأصابه بضربة قاضية من عصى زيتون كانت بيده، فسقط على الأرض مغشيا عليه، ودارت حوله معركة دامية بين الوطنيين والعساكر الفرنسية جرح عدد وافر من الجانبين وقتل عدد آخر.
وأخيرا خلص الجنود جسد الكولونيل الذي مات عند وصوله المستشفى، وقد فاق عدد القتلى العشرة، وكان الجرحى يفوق الثلاثين، هذا من الجانب التونسي، أم الفرنسيون فقد أخفوا خسائرهم.
وشيعت مدينة سوسة شهداءها من الغد في جو يعلوه الخشوع، وتملؤه العظمة، وتسوده الإرادة في متابعة الكفاح والإيمان الذي يعمر القلوب، وسارت خلف الجنازة عشرات الآلاف من الخلائق في سكون رهيب وصمت كامل. (3-6) المكنين وقصر هلال
عقد السكان يوم 23 / 1 / 1952 اجتماعا كبيرا، ثم ساروا في مظاهرة منظمة نظاما دقيقا تحت قيادة المسئولين من أفراد الجامعة الدستورية بتلك الجهة، ولما وصلت إلى مقر الكاهية - نائب المدير - دخل وفد منها وسلم له عريضة احتجاج، وكانت الهتافات بالخارج تملأ الفضاء بحياة الحبيب بورقيبة والملك والاستقلال، وألقى البوليس القبض على بعض القادة إثر افتراق المظاهرة قبل الظهر بقليل، فتناقلت الألسن الخبر بسرعة فائقة، واجتمعت الجماهير من جديد أكثر عددا وأشد حماسة وأقوى عزيمة، وساروا نحو مركز البوليس وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين، فسخر منهم البوليس الفرنسي، وشتم وأهان، وسعى في تفريق الناس وتشتيتهم بالقوة، ولما رأى صمودهم أخذ يمطرهم رصاصا، علما منه أنهم عزل من كل سلاح، فلما رأى الوطنيون إخوانهم يسقطون من حولهم قتلى وجرحى، لم يتأخروا ولم يفروا ولم يهنوا، بل تقدموا مستميتين حتى تأخر البوليس والتجأ إلى مركزه وأوصد الأبواب، وشرع يصيد التونسيين صيدا من بعض النوافذ، وأخيرا عبأ الوطنيون تعبئة كاملة واقتحموا مركز البوليس وحطموا الأبواب والنوافذ، وقتلوا أعوان البوليس الفرنسيين، وقد اعترى أحدهم جنون لفرط الرعب الذي نزل بقلبه، وهاجم إذ ذاك الدرك الفرنسي الوطنيين من خلف، ولكنهم رجعوا خائبين، وتتبعهم الوطنيون إلى «البرج القديم» الذي اتخذوه ثكنة لهم، فاحتمى فيها الدرك الفرنسي، ووجه للتونسيين نارا حامية من الرشاشات والبنادق خلال الأبواب والنوافذ، وتساقط الشهداء والجرحى، ولكن روح الجهاد كانت قوية جبارة، وواصل الوطنيون هجماتهم رغم الخسائر الجسيمة، وأصلوا الجنود الفرنسيين نارا حامية من الأسلحة التي أخذوها من البوليس، ودامت المعركة ساعات طويلة من غير انقطاع إلى أن توالت نجدات من الجيش الفرنسي، وخاصة من الكوماندوس البحري الذي وصل عند المساء متأخرا؛ لأن الوطنيين بمدينة «قصر هلال» المجاورة للمكنين قد اعترضوا هؤلاء الجنود الفرنسيين، وهاجموهم بالقنابل اليدوية، وعطلوهم في الطريق، ولم يفسحوا لهم إلا بعد أن تكاثر الجنود عليهم. ولما وصلت تلك القوات إلى المكنين لم تجد بمركز البوليس إلا بعض الجثث: جان كاردي
Jean cardi ، جاك مادلين
Página desconocida