101

Túnez la Rebelde

تونس الثائرة

Géneros

وكان ميدان «باب سويقة» قد احتلته قوات من البوليس والحرس المتنقل الذين أسندوا ظهورهم إلى بعض الدكاكين المغلقة، ووجهوا أسلحتهم نحو الشوارع المؤدية إلى الحلفاوين، ولما وصلت المظاهرة إلى الميدان وتدفقت جموعها به من كل جانب، هاجمها الجنود، وأخذوا يفرقون الصفوف، وسرعان ما استخدموا رشاشاتهم وبنادقهم؛ وسقطت الصفوف الأولى بين جريح وقتيل؛ وعاجلت الصفوف الجنود الفرنسية فاختلطت بهم، وفي ذلك الحين خرجت المظاهرتان الأخريان من الشوارع القريبة، واستحال على الفرنسيين استخدام أسلحتهم النارية؛ وأصبحت المعركة بالسلاح الأبيض؛ واستعان المتظاهرون بما وجدوا لحماية أنفسهم؛ فاقتلع الناس الحجر من الحيطان، وأخشاب الأبواب والنوافذ، وانهالوا على الجند، وطاردوهم وافتكوا منهم بنادقهم ورشاشاتهم، ولما رأى العساكر ما حاق بهم من هزيمة تسللوا بين جريح ومعطوب نحو سيارات «الجيب» التي أتوا فيها وفروا من الميدان.

وبعد دقائق أتت النجدات الفرنسية في «لوريات» كبرى تحمل مئات منهم مدججين بالسلاح، ووراءهم المصفحات، فلما رأى الوطنيون ألا قبل لهم بتلك القوات، تفرقوا، وغادروا ميدان «باب سويقة».

واجتمع الوطنيون في صباح ذلك اليوم في نادي الحزب الحر الدستوري في ناحية «أريانة» الواقعة على بعد 6 كيلومترات من مدينة تونس وخرجت منه مظاهرة انضم إليها سكان أريانة كلهم، وبعد أن خرقت الشوارع الرئيسية هاتفة «بحياة بورقيبة» يحيا الدستور يحيا الاستقلال، التفت حول عربات الترام، فأشعلت فيها النار، وفي الليل جاءت قوات من الدرك الفرنسي، وطوقت مساكن قادة الحركة في تلك الضاحية، وألقت القبض على عشرة منهم، وكانوا يجرون رئيس الشعبة الدستورية صلاح الدين آغا جرا، ويتقاذفونه ويضربونه تارة لكما، وتارة بالأرجل، وطورا بمؤخرات البنادق، إلى أن وصل إلى مركز البوليس وقد سالت دماؤه وساءت حالته.

وفي المساء تجددت الحوادث بمدينة تونس نفسها؛ إذ سارت مظاهرة أخرى إلى الحي الأوروبي، ولما وصلت إلى شارع «ليون» أضرمت النار في عربات الترام المارة من هناك، وأسرعت نحوهم قوات البوليس والجيش، ودارت معركة سريعة جرح فيها عدد من الفرنسيين وخمسة من الوطنيين.

وكان يوم 22 يناير يوما مشهودا أيضا، كله اضطرابات وهياج؛ وجدد فيه الوطنيون اجتماعاتهم في المساجد، وكان الأمر يصدر لهم عند مفارقتها بأن يسيروا إلى مقر الإقامة العامة الفرنسية فرادى، فتفرق إثر تلك الاجتماعات التونسيون في الشوارع المختلفة المؤدية إلى الحي الأوروبي، وتكونت المظاهرة الأولى بميدان باب البحر، وإذا بالأعلام التونسية ترفع فجأة، وتملأ الهتافات الجو، ويفر الفرنسيون من كل جانب، وتخرق المظاهرة الشارع الرئيسي، وقد انضم إليها عدد وافر من الشبان الذين كانوا في انتظارها، ولما وصل المتظاهرون أمام الإقامة العامة، أسرعت نحوهم سيارة جيب بها مأمور مركز البوليس الفرنسي وأعوانه، وصادمت الناس من خلف، فاجتمعوا كأنهم سد منيع، وتلاحقت إذ ذاك «لوريات» تحمل الحرس المتنقل الفرنسي، فوسع الناس للبوليس، ولما وصلت سيارة الجيب أمامهم تقدمت إحدى النسوة، ورمتها بقنبلة يدوية فنسفتها نسفا، وقتلت المأمور، وجرحت من معه؛ وهاجم إذ ذاك الحرس المتنقل النساء خاصة، وانهالوا عليهن ضربا بمؤخرات البنادق وطوقوهن، وأما الشباب الوطني فقد أخذوا أمكنتهم للقتال، فتسلق بعضهم الأشجار، وطلع البعض الآخر على سطح الكنيسة القريبة، ورموا القوات الفرنسية بالقنابل اليدوية؛ إذ ليس لديهم سلاح غيرها، فجن جنون الجنود الفرنسيين إذ ذاك، وأمسك أحدهم بشعر فتاة وطنية، وأخذ يضرب رأسها بقوة على شجرة، وكان في ذلك الوقت وفد من لجنة «حقوق الإنسان والمواطن» خارجا من الإقامة العامة، فشاهد رئيسه الأستاذ سيرج معطي العضو بالحزب الاشتراكي الفرنسي قسوة البوليس وعنفهم، فتدخل ملاحظا لأحدهم أنه لا يجدر معاملة البشر بهذه الصورة. ولم ترق هذه الملاحظة في عيون البوليس، فاعتقل الأستاذ «معطي» في الحين وساقه كالمجرم إلى مركز المحافظة ... وهكذا تراعي فرنسا حقوق الإنسان في تونس المحمية!

وحوالي الساعة الرابعة بعد الظهر، خرجت مظاهرة شعبية بحي «الباساج»، واشتبكت القوات الفرنسية مع المتظاهرين في معركة دامية دامت ساعات أسفرت عن عدد وافر من الجرحى.

وفي الساعة الخامسة اجتمع التونسيون في مظاهرة فجائية بشارع «جول فيري» وهو شارع الحي الأوروبي الرئيسي، واصطدمت هي أيضا بالقوات الفرنسية وجرح فيها عدد من التونسيين.

واتسع نطاق استفزازات رجال البوليس الفرنسي للشعب؛ فلا يكتفون بتفتيش كل تونسي يمر بالشوارع، ثم يقذعون لهم شتما وشبا، وينهالون عليهم لطما وضربا، ويقومون بعمليات الاعتقال بالجملة في هذا اليوم. فيأخذون جماعات كاملة، ويسوقونهم سوقا إما في «لوريات» وإما على الأقدام نحو مراكز التحقيق والسجون، وقد بلغ عدد المعتقلين آلافا ولم يقف أحد عليه بالضبط.

وفي ذلك اليوم نفسه اعتقل الأستاذ الهادي شاكر العضو في الديوان السياسي الذي رأس المؤتمر (مؤتمر الحزب) يوم 18 يناير 1952.

وتوالت الحوادث بمدينة تونس من غير انقطاع مدة أسابيع، والقسوة الفرنسية تشتد يوما فيوما، والوطنيون يثبتون في رد الفعل، وقد حكت جريدة «الصباح» التونسية بتاريخ 23 يناير 1952 ما يقاسيه التونسيون فقالت:

Página desconocida