تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر
تأليف
أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد العقباني التلمساني
(فقيه توفي بتلمسان عام ٨٧١ هـ - ١٤٦٧ م)
تحقيق
علي الشنوفي (أستاذ مُبرِّز)
Página desconocida
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
يقول العبد المفتقر إلى عفو ربه بتقصيره وعيبه راجي رحمته عبيده سبحانه محمد بن الحسن بن قاسم بن سعيد العقباني غفر الله له ورحمه بمنه وكرمه آمين: الحمد لله الذي قمع بزاجر عقابه وحده من ارتكب مخالفة نهيه وأمره * وصدع بأليم عذابه وصده * قلب من نازع الحق في ملموس سره أو وضوح جهره * وردع الكآبة بحماية الخاصة لبيضة الإسلام وما احتوت عليه من مصالح الأنام في طي الإبلاغ ونشره حلوه ومره * وشرع في خلقه الاستنان بتغيير المناكر وجوبًا مؤكدًا وفرضًا مؤبدًا ما تعاقبت الملوان في أزمنته ودهره * وجعلهم في هذه الملة السمحاء * والشرعة الغراء * بهذا السبب المكين * والحبل المتين * من خير أمة وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأئمة فسطع نوره على الأديان بعناية الملك الديان تكريمًا لشأنه وتعظيما لقدره نحمده على ما أسدى عليا من نعمه المتظافرة * ونشكره على ما أبدى لدينا من آلائه المتواترة * ونصلي على سيدنا ومولانا محمد خير من أطلعه الله على مكنونات غيبه * وألقي عليه من نباه الكريم قولا ثقيلا فتلقاه بسامي جأشه * وحاضر ذكره وأمره * أن يصدع بما أتاه * ويعرض عمن ناداه * ببادي جحده وعناد كفره * فلم يزل دينه القويم وهديه المستقيم يظهر ويبدو * ويسمو ويعلو * حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا * وأولج المكذبون له أنفسهم إيلاجًا * بمرهقات هذا النبي الكريم * وأسنة قهره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعثرته الكرام وحزبه ما دام المسبح لله من حي ونبات وصلد وجماد ويسبحه في بره أو بحره. أما بعد فإنك سألتني أن أقيد لك ما حضرني إملاؤه * وأنهى للمسترجي والناظر والقارى ما وسعني إنهاؤه * في شأن الواجب من تغير المنكر وعلى من وجوبه * وفي أي وقت يجب وما يسقط وجوبه * بحدوث ما يتقى أو يحذر وما يفترق به المنكر من غيره مما لا يسوغ أن يبدو في وقت من الأوقات أو يظهر وهل التغيير مخصوص بأهل هذا الدين من المسلمين طوائف أو يشمل من آمن ومن كفر فاعلم وفقنا الله وإياك لجادة الصواب * ومن علينا بالعصمة من زلة القدم وعبث القول في الخطاب أو الكتاب * أن علماء الأمة ﵃ بسطوا القول فيما سألت عنه من تغيير المناكر * وإقامة الحدود والزواجر الشرعية لحفظ الشعائر * في كتبهم المبسوطة المشهورة *
1 / 1
وأقاويلهم المنثورة المأثورة * بحيث تكون مراجعتها مغنية عن السؤال وتلخيص ما طلبته مني في ذلك من جامع الجواب وتهذيب المقال * إذ لم نستحصل من فايض بحورهم العذبة الرايقة * ومعاني أوصافهم وتهذيب المقال * إذ لم نستحصل من فايض بحورهم العذبة الرايقة * ومعاني أوصافهم الجمة الفائقة * إلا اشتمام الرائحة بالأنوف المغلقة * وإعمال الفكرة المشوشة * بالصوارف المحدقة * بما لا يصل إلا وصولًا ضعيفًا لهذه الأفئدة المعلقة * ولكني أستمد من قهر كلامهم ما أضعه لك في هذا الكتاب على شكل التذكرة فلعلك إن راجعت في كتبهم المسطورة * ورواياتهم المشهورة * حصلت على طايل من الاستفادة والتبصرة فقيدت لذلك فيه لك ما حضرني تقييدًا يتبين معه قصوري أو قلة شعوري ولكن الذي سهل علي طريق الأخذ فيه ما زكنته من سماحة الفضلاء وتجاوز السادة النبلاء * فإن تجد عيبًا فسد الخللا * فجل من لا عيب فيه وعلا * وسميته بتحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر * فإن نظره الناظر فيه بعين الصفح بعد التصفح فأقول قطني وحسبي * وإن نظره بعين القدح ولو مع التلمح فلا أزل قائلًا إن ذلك من لازم عيبي وسجية النقص التي هي دائمًا من دأبي * والله يغفر لي من هفوت تعلق بها لساني * أو جفوة خطتها أناملي وبناني * فقلما يخلو من ذلك مؤلف * أو يسلم منه مصنف * ومنه سبحانه أرتجى التوفيق للظفر بمسالك الصواب * وأسأله السداد والعون لما يرضاه ويحبه في البداية وحسن المئاب وقسمته على ثمانية أبواب وخاتمة الكتاب.
الباب الأول في دليل مشروعيته
الباب الثاني في محال فرضه وندبه وحرمته
الباب الثالث في المغير وشروحه
الباب الرابع في كيفية التغيير ووجه تناوله
الباب الخامس في وجوه مراتبه
الباب السادس في معرفة طريق الكشف عنه
الباب السابع في أعيان صوره واختلاف محاله
الباب الثامن فيما يختص به من ذلك من سألت عنه من أهل الأمة ومن كان في شكلهم من المعاهدين
الخاتمة في الأصل في ولاية المتولي لذلك بم تفترق من غيرها من الولايات الشرعية.
1 / 2
الباب الأول
في دليل مشروعيته
قال مولانا ﷻ في محكم تنزيله * ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن النكر أولئك هم المفلحون﴾ * وقال تعالى * ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ فقرن تعالى بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان بالله الذي هو أصل السعادة وسبب النجاة والسلامة لعظيم خطره وجلاله قدره وسبب ذلك كانوا خير أمة أخرجت للناس واستحقوا مدحة الله التي هي أكبر نعمة وقال تعالى * ﴿الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر﴾ * فقرنه أيضا مع الصلاة والزكاة التي هي عماد الدين وشعار المسلمين وبترك ذلك عاب على بني إسرائيل وأوجب عليهم اللعنة وقال تعالى * ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصو وكانوا معتدين كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾ * وقال تعالى * ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين﴾ * وقال ﷺ: والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتطرنه على الحق أطرا أو ليصرفن قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعن بني إسرائيل كان إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاهم الناهي فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى الله منهم ذلك صرف قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داوود وعيسى صلى الله عليهما ذلك بما عصوا وكانوا معتدين. وقال رسول الله ﷺ: " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ولكن إذا عملوا المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم وقالت عائشة رضها: قال رسول الله ﷺ: عذب الله أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفا أعمالهم كأعمال الأنبياء. قالوا يا رسول الله: كيف ذلك. قال: لم يكونوا يغضبون لله ﷿ ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر.
1 / 3
الباب الثاني
في محال فرصة وندبة وحرمته
أما حكمه ففرض متأكد وواجب متعين فلا أحد من المخاطبين إلا وقد تعين عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو في نفسه وأهله وعياله: قال رسول الله ﷺ: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. الحديث في هذا عام الأعيان وكذلك فيما حضر أحد مواقعة أحد المنكر أو علمه فأمكنه القيام مع وجود الشروط وانتفاء الموانع وجب ذلك عليه. قال ﷺ: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده * فإن لم يستطع فبلسانه * فإن لم يستطع فبقلبه * وذلك أضعف الإيمان. فلا يسقط جرحه من رأى منكرًا وعلمه ولا القيام بتغييره على الفورية بحيث لا يمر عليه زمن تفريط لأن كون القيام بذلك من الإيمان يدل على أن تركه من الضلال والخسران وإذا كان ذلك واجبًا متأكدًا على كل من علمه بحسب وسعه فهو على الأئمة والولاة والقضاة وسائر الحكام أوجب وآكد إنهم متمكنون من التغيير بعلو اليد وامتثال الأمر ووجوب الطاعة وانبساط الولاية. يدل عليه قله سبحانه * ﴿الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا لزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر﴾ * فإن من أنواع القيام بذلك ما يدعو إلى الاستيلاء وإقامة الحدود والعقوبات مما لا يفعله إلا الولاة والحكام. فلا عذر لمن قصر منهم عند الله تعالى لأنه إذا أهمل هؤلاء القيام بذلك فجدير ألا يقدر عليه من هو دونهم من رعيتهم فيشك أن تضيع حرمات الدين ويستباح حمى الشرع والمسلمين. فحكمه على الجمة الفرض المتأكد لكن قد ينقلب إلى الامتناع والحرمة وذلك في حق شخصين أحدهما الجاهل بالمعروف وبالمنكر بحيث لا يميز موضوع أحدهما من الآخر فهذا ايحرم في حقه فإذا كان عالمًا بالمعروف والمنكر وأمن من التسبب بمنكر أعظم وعلم أو غلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع وجب عليه التغيير وإذا لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه لم يجب عليه أمر ولا نهي ولهذا قال الشيخ ابن رشد "في مقدماته" وفي بيانه فالشرطان الأولان مشروطان في الجواز والشرط الثالث مشترط في الوجوب فإذا عدم الشرط الأول والثاني
1 / 4
لم يجز أن يأمر ولا ينهى وإذا عدم الشرط الثالث ووجد الشرطان الأولان جاز له أن يأمر وينهى ولم يجب ذلك إلا أنه يستحب له وإن غلب على ظنه أنه لا يطيعه إذ لعله سيطيعه.
تنبيه: قال الإمام أبو حامد الغزالي رضه في كتابه الذي سماه " بالأربعين" كل من شاهد منكرا ولم ينكر" وسكت عنه فهو شريكه: فالمستمع شريك المغتاب: ويجري هذا في جميع العاصي حتى في مجالسة من يلبس الحرير والديباج ويتختم بالذهب ويجلس على الحرير والجلوس في دار أو حمام على حيطانها صور أو فيها صور أو أوان من ذهب أو فضة أو الجلوس في مجلس وعظ يجري فيه ذكر البدعة أو في مجلس مناظرة أو مجادلة يجري فيها الإيذاء والإفحاش بالسفه والشتم. وبالجملة من خالط الناس كثرت معاصيه وإن كان تقيًا في نفسه إلا أن يترك المداهنة ولا يخاف في الله لومة لائم. وإنما يسقط عنه الوجوب في أمرين: أحدهما أن يعلم أنه إذا أنكر لم يلتفت إليه ولم يترك المنكر ونظر إليه بعين الاستهزاء.
قال الغزالي: وهذا هو الغالب في منكرات يرتكبها الفقهاء ومن يزعم أنه من أهل العلم والصلاح فها هنا يجوز السكوت ولكن يستحب الزجر باللسان إظهارا لشعائر الدين مهما لم يصدر على الزجر باللسان ويجب أن يفارق ذلك الموضع فليس يجوز مشاهدة المعصية بالاختيار فمن جلس مجلس الشراب فهو فاسق وإن لم يشرب وإن جالس مغتابًا أو لابس حرير أو آكل ربا أو حرام فهو فاسق إن لم يقم من موضعه وقوله سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ معناه في الزمان الذي لا ينتفع فيه بالأمر بالمعروف ولا بالنهي عن المنكر ولا يقوم من ينكره على القيام بالواجب في ذلك فيسقط الفرض فيه ويرجع أمره إلى خاصة نفسه ولا يكون عليه سوى الإنكار ولا يضره مع ذلك من ضل. يبين هذا ما روي عن أنس بن مالك رضه قال: قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، قيل: وما إلى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهر الإدمان في خياركم والفاحشة في صغاركم وتحول الملك والفقه في أرذالكم وشراركم. وما روي عن أبي أمية قال: سألت أبا ثعلبة الخشنى: قلت كيف نصنع في هذه الآية؟ قال أية آية؟ قلت: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ فقال لي: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا سألت رسول الله ﷺ عنها فقال لي ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرةً وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرًا لا بد لك منه فعليك بنفسك وإياك وأمر العوام فإن من ورائكم أيامًا
1 / 5
الصبر فيهن صبر على مثل قبس على الجمر للعامل الواحد منهم كأجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله.
قال الشيخ بن رشد رحه ورضه: وما أشبه زماننا بهذا الزمان تغمدنا الله منه بعفو وغفران وأقول إذا حقق الشبه في زمانه بما أنار به ﵇ الذي كان زمانه المائة الخامسة وهي من خير الأزمنة التي تكاملت فيها مواد العلم ولاحت أنواره بوجود وذويه كالإمام أبي عبد الله محمد المازري وأبي حامد الغزالي ونظرائهما فكيف بزماننا هذا الذي هو على ما هو عليه! قال ابن رشد: ولكن مهما كان الزمان زمانًا يوجد على الحق فيه معين لله فلا يسع أحدًا فيه السكوت على المنكر وترك تغييره. قال عمر بن الخطاب رضه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم بعقاب من عنده.
الثاني من الأمرين اللذين يسقط بهما الوجوب أن يعلم أنه يقدر على المنع من المنكر بأن يرى زجاجة فيها خمر فيكسرها أو يسلب آلة الملهى من يد صاحبها ويضربها على الأرض ولكن يعلم أنه يضرب أو يصاب بمكروه فهاهنا يستحب له التغيير لقول الله ﷿ ﴿واصبر على أصابك﴾ ولا يجب تركه لأجل ذلك. قلت: والظاهر ممن كلام ابن رشد وجوب الترك مع تيقن الإذاية لا سقوط الوجوب خاصة وبقاء الاستحباب. فتلك طريقة عز الدين بن عبد السلام. وعين ما قاله الإمام أبو حامد الطوسي رضه ولكن ما قاله ابن رشد أظهر من جانب النظر وأرجح من طريق المعنى بعموم قوله تعالى: ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ ويكون قوله سبحانه: ﴿واصبر على ما أصابك﴾ مخصوصًا بشأن المخاطب هذا وهو ابن لقمان الحكم بوصية أبيه له بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا وعلى نفسه فلا عموم ولا خصوص هذا إن كانت الوصية منه تقرير شريعة وإنك انت مجرد وصية بالورع فليس مما نحن فيه.
ثم كمل الغزالي هذا الفصل بفائدة قوله: " وعلى الجملة فلا يسقط الوجوب إلا بمكروه في بدنه بالضرب أو في ماله بالاستهلاك أو في جاهه بالاستخفاف به بوجه يقدح في مروءته. فأما خوف استيحاش المنكر عليه وخوف تعرضه له باللسان وعداوته أو توهم سعيه في المستقبل بالسوء أو يحول بينه وبين زيادة في الخيرات بتوقعها فكل ذلك موهومات وأمور ضعيفة لا يسقط بها الوجوب".
1 / 6
الباب الثالث
في المغير وشروطه
يعتبر في مغير المنكر أربعة شروط: أن يكون مسلمًا مكلفًا عالمًا بذلك المنكر. وصفة التغيير والقدرة على القيام به. فأما الإسلام والعلم فهما شرطان في صحة القيام فلا يتوجه مع عدمهما إذ لا يصح تغيير الكافر إذ التغيير انتصار لدين الله سبحانه وجحد الكافر يأتي انتصاره لما جحد وكابد عليه لأنه استخفاف بالإسلام فلعله لا يقصد بذلك إلا الوصول إلى احتقارهم والشين بالاستطالة عليهم فلا يسوغ تمكينه منه لقول الله سبحانه: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا﴾ وقال ﷺ لن أستعين بمشرك ومثله في الحكم الجاهل بموجب القيام لأنه يحرم في حقه كما تقدم في الباب الثاني قبل إذ لا يحل قياه فيما جهل حقيقته من المنكرات أو طريق الإنكار فيها فإن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فلا يستوي إنكار الولد على أبيه والعبد على سيده والرعية على أميرها ومن شاكلهم من سواهم ونحو ذلك مما يؤول أمره إلى ما هو أنكر منه فمن كان يجهل شيئًا من هذه الأمور فلا يباح قيامه فيما لم يعلم منها ويباح فيما علم لوجود الشرط فيه. وأما الشرطان الباقيان وهما التكليف والقدرة على التغيير فهما شرطًا وجوب على من حصلا فيه مع شرطي الصحة المتقدمين لأن غير المكلف لصباه أو جنونه غير مخاطب فلا يلزمه قيام إلا أن الصبي إذا عقل القربة وعرف المناكر وطريق التغيير فتبرع به كان منه صحيحًا سائغًا وأثيب عليه في القيامة ولا إثم عليه في الترك بخلاف المكلف ومثله من لا يقدر على التغيير حسبما تقدم إما لعلمه عدم الجدوى في قيامه وإما لتقيته على نفسه. فوجوب القيام عنه ساقط وإنما يجب عليه الإنكار بقلبه ولكن يستحب له على ما تقدم نقله عن الإمام الغزالي وعلل بعض الشيوخ هذا الاستحباب مع وجود التقية بتحصيل فائدة أخرى غير تغيير المنكر وهي التنبيه على حدود الله والإظهار لشعائره وحرماته فإنها كما قال مولانا الكريم من تقوى القلوب إذ التمالك في مثلها على السكوت قد يوهم الرضى أو التساهل فيوقع اعتقادًا عند ضعيف الإيمان أن ذلك من قبيل الجائز فإذا تبرع أحد بذلك مع قيام مانع التقية عظمت مثوبته عند الله وهو في سعة من الترك بخلاف انخرام شرطي الصحة المتقدمين فإن القيام مع عدمهما أو عدم أحدهما باطل. وتقدير ما في هذا اباب من المعنى قريب من معنى ما في الباب الذي قبله. لكن افترقا في ذلك فالأول في حكم التغيير
1 / 7
وهذا في حكم المغير وإن كان بينهما تداخل بحسب ما اجتنباه من نقل الأئمة ﵃. واختلف في العدالة هل هي شرط في صفة المغير أو لا. فاعتبر قوم شرطيتها ورأوا أن الفاسق لا يغير وأبى من اعتبارها آخرون. وذلك الصحيح المشهور عند أهل العلم لأن ذلك من الشروط الواجبة على الشخص في رقبته كالصلاة فلا يسقطه الفسق كما لا يسقط وجوب الصلاة التعلق التكليف بأمر الشرع قال ﵇: من رأى منكرًا فلغيره وليس كونه فاسقًا أو ممن يفعل ذلك المنكر بعينه يخرجه عن خطاب التغيير لأن طريق الفرضية متغاير. قال أنس بن مال رضه: قلت يا رسول الله لا تأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نعمل به كله. قال بلى مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله. وقال الحسن البصري رضه: يريد أن لا يظفر الشيطان منكم بهذه الخصلة وهي لا تأمروا بالمعروف حتى تأتوا به كله. قال الغزالي رضه: يعني أن هذا يؤدي إلى حسم باب الحسبة فمن ذلك يعصم عن المعاصي. ويروى عن سعيد ابن جبير رضه أنه قال: إن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر إلا من لم يكن فيه شيء لم يأمر أحد بشيء. وأعجب ذلك مالكًا من قول سعيد وإنما ينبغي لمن يغير منكرا على غيره أن يفتتح أولا بنفسه ويكون أمرها في ذلك من أهم أموره وبداية نظره. وكذلك جميع من لزم تعلقه به من أهله ورفيقه وحاشيته. فإن أوجب الناس حقًا على المكلف العاقل نفسه ثم حاشيته لتنبيهه ﷺ ذلك بقوله: إبدأ بنفسك ثم بمن تقول وكذلك أمره تعالى له ﵇ في قراءته خصوصا وتوكيدا بقوله: ﴿وانظر عشيرتك الأقربين﴾ فالعاقل من ابتدأ بالنظر لنفسه وعم أهل حبه وأنسه فلا يأمر يمعروف إلا أتاه ولايته عن منكر إلا تجنبه ووقاه وليتنح عن أن يكون طالبا في صلاح غيره باخلا بالخير على نفسه فتلك تجارة خاسرة * وقدم في محل الحق عاثرة * فحيثما نكد عن حساب قلبه واشتغل بالأخذ على غيره فقد استحق وصف المقت عند الله إذ يقول جل من قائل ﴿كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون﴾ وقال سبحانه ﴿أتأمرن الناس بالبر وتنسون أنفسكم﴾ وقال أسامة بن زيد: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق فيها أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدرو الحمار برحاه فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك لم تكن تأمر بالمعروف وتنهى المنكر فيقول كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه فناهيك بهذا تبابا وإبعادا حتى أظهر قباحة هذا النوع شاعر القوم حيث يقول:
1 / 8
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
فالكيس من اقتص من جوده لحفظ وجوده وأفرغ من اهتمامه وقيامه في استحصال مصلحته وقوامه فكما لا يليق به الاشتغال عن نفسه والاقتصار على فائدة غيره فكذلك لا ينبغي له أيضا الاقتصار على صالحة نفسه والاعتراض عما باشر من أحوال غيره فإنهما فرضان متغايران لا ينوب أحدهما عن الآخر صدع بوجوبه الكتاب والسنة كما قدمنا نصوص أدلته في الباب الأول. فمن لم يفعل ذلك على حقيقته وأتى الأمر فيه من غير بابه وطريقته استحق الرمي بمهام الوعيد الوارد في قوله ﷺ لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر وليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم فأي أمر أكبر شرا وأعظم مصابا مما تتعدى إلى الغير تبعته وتتجاوز الفاعل عقوبته كما قال ﷺ: إن الله لا يعذب العامة بذنوب الخاصة حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه. وكما روي: أن زينب بنت جحش زوج النبي ﷺ قالت: يا رسول الله الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث. فكل شخص لزمه خطاب التكليف لا يسعه في الأمرين شيء ما في التسويف وذلك استقامة في نفسه والضرب على يد غيره بالتغيير فأيهما امتثل أمر الله فيه سقط إثمه وأثيب على فعله وإن تركهما كليهما فقد تعاظم عليه الوزر وتضاعف الفساد والشر فلا ينبغي لمن ترك أحد الجانبين وعليه شيطانه على إهماله أن ينسى حق الله وخطاب أمره في الجانب الآخر فيكون من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أعاذنا الله من شدد البلاء بحصول الأمل.
قال مالك: في جامع المستخرجة: أنهم يحسنون صنعا أعاذنا الله من شديد البلاء بحصول الأمل.
قال مالك في جامع المستخرجة: كان يقال من أشد البلاء الإملاء في المعاصي.
قال ابن رشد رحه: وهذا بين يشهد له قول الله ﷿ ﴿إنما نملي لهم ليزدادوا إثما﴾ ولا شيء في الإملاء أكبر من كون الإنسان يفعل المعصية في نفسه ولا ينكرها على غيره.
واختلف أيضًا: هل من شرط مغير المنكر أن يكون مأذونًا من الإمام أو أحد من الحكام فرآه بعضهم ومنع آحاد الناس من ذلك ومنعه آخرون. وذلك الصحيح المشهور الذي عليه الكافة والجمهور لوضوح فساد الأول بمصادقة عموم أي القرآن وصحيح الآثار قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ....﴾.
وقال ﷺ: من رأى منكرًا فليغيره: إلا أنه يتأكد على الإمام الأعظم جعل الله نصره بالتأييد على إقامة الحق داعيا وبأعباء معالم الشرع في كل
1 / 9
مواطنه وأحيانه قائمًا. لأنه الناظر في دثار الدين وشعاره أمد له نظر العموم والشمول. وكل من سواه لا يقوى قوته في الاستيلاء. لما يتخلل كلمته من القواطع والفلول لاسيما في نوع يؤدي إلى كثر أعوان وتحصيل لما يخشى من مكابدة وقال فظهور رادع الإمام العدل في ذلك واجب * وسعيه في ذلك بكله وبعضه لازب * ما لم تدع الضرورة لترك النصرة به * لما يخشى من قوات التغيير برعايته * كالقوم يكونون في البادية أو في محجة المسلمين يحدث بينهم ألقتك والغضب أو القتل وما أشبه ذلك من كل ما لا يحل إهماله فواجب القيام به ودفعه بما أمكن ودعت الحاجة إليه في كل حال.
الباب الرابع
في كيفية التغيير ووجه تناوله
أما كيفية التغيير في شروعيته على الجملة تحسين المأخذ والبداية بالترفق والتلطف حتى يستوي من زل * ويهتدي من ضل * قال الله ﷿: ﴿فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾ وقال جل وعلا: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ وقال ﷺ: من كان آمرًا بمعروف فليكن أمره ذلك بمعروف.
وقال ﵇: إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. وكذلك كان فعله ﷺ في مواطن عديدة. فمنها ما وقع في حكاية الأعرابي إذ جاءه فقام ليبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله ﷺ: مه! مه! فأصابهم ﵇ بقوله لهم: دعوه! فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله ﷺ دعاه. فقال: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن. ثم أمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فصبه عليه. وروى أبو إمامة الباهلي (الباهيلي) أن غلامًا شابًا أتى النبي ﷺ فقال: أتأذن لي في الزاج الزنى؟ فصاح الناس به. فقال ﷺ: أقروه أقروه أدن مني. فدنا منه. فقال ﷺ: أتحبه لأمك؟ قال: لا! جعلني الله فداءك قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. فقال ﷺ أتحبه لاينتك؟ قال: لا! قال: فكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم ثم ذكر الأخت والعمة والخالة وكذلك الناس لا يحبونه
1 / 10
لبناتهم ثم ضع يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنى. ووعظ المأمون واعظ فعنف عليه. فقال يا رجل ارفق. قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمره بالرفق فقال جل من قائل: ﴿فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾ وحكى حماد بن سلمة أن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل عليه إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال: دعوني أنا أكفيكم إياه. فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة. فقال لأصحابه لو أخذتموه بشدة لقال لا ولا كرامة ولشتمكم. هذا إذا لم يخف مع سلوك الترفق فوات التغيير أو طهور الإهانة والإزدراء بالمقدم على ذلك ويكون رفقه غير مانع لذلك فهذا يلزم المغير تغييره بما أمكن من العنف المقيد للإزالة أما إن كان غير مقيد لإثارة منكر أعظم من المنكر المغير فحكمه على ما سلف في الباب الثاني.
الباب الخامس
في مراتب التغيير
وأما مراتب التغيير فعلى خمسة أنواع: النوع الأول: مجرد التنبيه والتذكير وذلك فيمن يعلم أنه يزيل فساد ما وقع لصدور ذلك على غرة وجهالة كما قع من العاصي الجاهل بدقائق الفساد في البيوع ومسالك الربى التي يعلم خفاؤها عنه وكذلك ما يصدر منه من عدم القيام بأركان الصلوات وشروط العبادات فهذا ومن شاكله ممن له معذرة في الغفلة والجهالة ينبهون بطريق التلطف ويعلمون بمسالك الرفق والاستمالة ليتم قبولهم لذلك بنشاط واستبشار فيلقونه بألفهم الحلي عن الكلفة المسرع بحصول الفائدة كما ذكر في "كتاب تنبيه الحكام" على مئاخذ الأحكام حكاية في المعنى. قال: أخبرني شيخنا الفقيه القاضي أبو عبد الله المشتهر بابن أبي درقة ﵀ قال: كنت مرة في غرة الشباب ومبادي الطلب تشاغلت عن إحدى صلاتي النهار إلى أن شارفت الفوات فأتيت عجلًا إلى بعض المساجد واعتمدت بعض زواياه فصليتها مبادرًا ومتجاوزًا في بعض أركانها وإذا بعض الشيوخ الفضلاء يسارقني النظر بحيث لم أشعر به فلما أتممت صلاتي وهممت بالانصراف استدعاني فأتيته
1 / 11
فقال يا بني رجلًا تسلف دراهم إلى وقت فلما حل الأجل والغريم موسر قادر على الأداء تهاون بذلك واستخف ولم يزل يتراخى به حتى استحق ذم التأخير ثم أتاه بعد ذلك بها ناقصة زيوفًا فجميع جنسي الإساءة في القضاء فهل يكون لهذا حظ في القبول قال فما أتم كلامه حتى فهمت مقصده وتعريضه بما فعلت في صلاتي. فخجلت ثم قلت له: نعم فما زاد على أن قال يا بني قم بارك الله فيك فعدت لإتمام صلاتي وأثر ذلك عندي خير تأثير. فهذا النوع من الرفق والتلطف في التعليم بحسب فهم صاحب النازلة وما يليق به أوقع في النفوس وأقرب للإجابة من كثير من العنف والشدة النوع الثاني الوعظ بما يهز النفوس ويمليها لتصفيه الباطن والبعد من الإثم ومواقع الجرائم بالتخويف من عقاب الله والتحذير من أليم عذابه واستحقاق وعيده. وذلك في سائر من علم أن وقوعه في المناكر على علم منه بها كمدمن شرب الخمر والمواظب على الغيبة والنميمة وأمثال ذلك من أنواع المعاصي التي لا يجوز على مسلم مكلف أن يجهل تحريمها. فاللازم في شأن هذا أن يتعاهد المتصف به بالعظة والإخافة من ربه جل وعلا ويتلطف معه في إيصال ذلك لجأشه وليه فلعل مصرف القلوب سيجعل ذل صارفا قلبه عن مواقعه الزلل ويلهمه رشده في محو آثار كل خلل.
قال مولانا في حكم تنزيله المبين ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾.
النوع الثالث الزجر والتأنيب والإغلاظ بالقول والتقريع باللسان والشدة في التهديد وهجن الخطاب في الإنكار. وذلك فيمن لا ينفع فيه وعظ ولا ينجع في شأنه تحذير برفق ولا تكره لطف فردعه إنما يكون بالتخويف الصارف له والمرهب القامع لأمثاله كقوله: لئن لم تنته لأقعن بك كذا وما أشبه هذا من التقريع والوعيد الذي هو أهله. ولا ينبغي أن يتعدى إلى السب الفاحش والذم الذي ليس من صفة ذلك المخاطب فإن فعل ذلك في غير محله ومع من ليس من أهله فذلك منكر واقعه مغير المنكر يجب الاحتساب فيه عليه.
النوع الرابع التغيير بملاقاة اليد بإزالة ذلك المنكر وإذهاب وجوده وذلك فيمن كان حاملًا الخمر أو لابسًا ثوب حرير أو خاتم ذهب أو ماسكًا لمال مغصوب وعينه قائمة بيده وربه متظلم من بقاء ذلك بيده طالب رفع المنكر في بقائه تحت حوزه وتصرفه فأمثال هذا لابد فيه مع الرجز والإغلاظ من المباشرة للإزالة باليد أو ما يقوم مقام اليد كأمر الأعوان الممتثلين أم المغير في إزالتهم له بوازع الطاعة وأعمال المسارعة فيريقون الخمر وينزعون ثوب الحرير وخاتم الذهب ويختطفون المغصوب من يد الغاصب ويردونه لمالكه وما شاكل ذلك من أساب البيع في زوال ذلك المنكر ومحو آثاره.
قال رسول الله ﷺ: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. تنبيه إذا لم يقع التمكن من إراقة الخمر ولا بكسر أنابيبها
1 / 12
وتحريق عائها فلا ضمان على من فعل ذلك على الوجه المتقدم في هذا النوع وإن أمكن زوال عينها مع بقاء الوعاء سليما ولم يخف الفاعل مضايقة في الزمان ولا في المكان بثغلب أو أبنيات فأتلفه مع انتفاء هذه الموانع ضمن قيمته إن كان لأمثاله قيمة وإلا وهو مما ينتفع به في غير الخمر النوع الخامس إيقاع العقوبة بالنكال والضرب بالأيدي والجلد بالسوط وذلك فيمن تجاهر بالمنكر وتلبس بإظهاره وإبداء صفحة خده في استلذاذه وعدم إفادة العدل واللوم على مواقعته ولم يقدر على دفعه إلا بذلك فإن كابد وعائد ودعت الضرورة إلى مقاتلته بالسلاح ومكافحته بالتناصر والتعاون وجب على كل من حضر وباشر إذا لم يقلع عن ذلك المنكر ولا بمثل ذلك لكن قد تقدم من الأولوية في هذا النوع عند آخر الباب الثالث أو يدفع إلى الإمام أو إلى أحد من الحكام القائمين به عن إذنه لأن ذلك ادعى إلى النجح وأقرب لتسهيل المأخذ ونيل المقصد وأرفع لما يخشى من أثارة الفتنة مع من ليس معه رائحة من الأمر السلطان لما جعل الله في السلطان من الحكمة النيرة والسير الإلاهي فقد وقع في بعض الآثار: السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم. هذا إن لم يكن استيذانه يؤدي إلى فوات المطلوب من إزالة المنكر أو ما تحصل فائدة استيذانه إلا وقد وقع ذلك المنكر فيجب المبادرة إليه بما أمكن ولو مع قيام هرج أو غيره.
فصل
ومما يجب الأخذ بمقتضاه * والعمل على ما يضمنه هذا الفصل المخصوص وحواه * أن يكون المباشر لتغيير المناكر * مع ما يجب في وصفه عند الباري جل وعلا من صلاح البواطن والظواهر * بعيدًا بكليته * منافرًا بطبعه وسليقته * لإعمال شيء من العقوبة بالأموال * ولو بدانق واحد يزداد على النكال * فقد أرعد العلماء في ذلك وأبرقوا على من أباحة ببنت شفة * وجعلوا ذلك من شبه الضلال * وتأولوا ما وقع في مسائل المذهب مما ينجح
1 / 13
لذلك بوجوه من التأويلات للانفصال * واجتلاب ذلك لهذا الإملاء المقصود به إعمال الاختصار ما أمكن يوسع دائرة النطاق * ويكثر بتعديده تعداد أشخاص الأوراق * ولكن نكتفي من ذلك بأهم المنقول * وعلى مولانا سبحانه الاعتماد والتكلان في التوفيق لصلاح المقول.
قال الشيخ أبو الوليد بن رشد ﵁ في كتاب السلطان من العتبية لما تكلم على مسأل غش الزغفران واللبن: إن العقوبة بالمال أمر كان في أول الإسلام.
من ذلك ما روي عن النبي ﷺ في مانع الزكاة أن خذوها منه وشطر ماله غرومة عن غرمات ربنا. وما روي عنه ﵇ في حرميته الجبل فيها غرامة مثليها وجلدات نكالًا. وما روي عنه ﵇ إن من أخذ يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن أخذه سلبه.
ومن مثل هذا كثير.
قال: ثم نسخ ذلك كله بالإجماع على أن ذلك لا يسوغ وعادت العقوبة في الأبدان خاصة * ومن ذلك ما وقع في كتاب الجامع من العتبية أيضًا في حكاية عن مروان بن الحكم في شدته في الحدود قال: قال مالك حدثنا يحيى بن سعيد. أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار فلما نزلت قرقرة عرض لها رجل من أصحاب الحمر فنزل إليها ثم أرادها عن نفسها فكشف ثيابها فامتنعت منه بحجر فشجته ثم صاحب فذهب فأتت مروان بن الحكم. وكانت فيه شدة في الحدود. فذكرت ذلك له فسألها عن اسمه فلم يعرفه (تعرفه) وقال: أتعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم فأدخلت بيتًا ثم قال: إيتوني بالمكارين الذين يكرون الحمر. وقال: لا يبقى أحد أكريتموه إلا جئتموني به. فأتوه بهم. فجعل يدخل عليها رجلًا رجلًا.
فتقول: ليس هو حتى دخل عليها به مشجوجًا فقالت هو هذا. فأمر به مروان فحبس في السجن فأتى أبوه فكلمه فيه فقال مروان
جانيك من يجني عليك وقد * تعدي الصحاح مبارك الجرب
فلرب مأخوذ بذنب عشيره * ونجا المقارف صاحب الذنب
قال أبوه ليس كذلك إنما قال الله ﷿: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ فقال مروان: لا. ها الله إذا لا يخرج منها حتى ينقدها أف درهم بما كشف عليها.
فقال أبو هي علي فأمر به مروان فأخرج فقيل لمالك: أترى هذا من القضاء الذي يؤخذ به؟ فقال: ليس من القضاء ولكنه على غلطة من مروان ولقد كان مروان يؤتى إليه بالرجل وقد قبل المرأة فينزع ثنيته.
قال الشيخ ابن رشد رضه: ما تضمنته الحكاية عن مروان بأنه قضى المرأة بدعواها على المكاري الذي ادعت عليه من كشفه إياها مع الشبهة التي ألحقت التهمة
1 / 14
به وحققته الظنة عله لا يأخذ به مالك ولا يرى القضاء به إذ لا يرى العقوبات بالأموال وإنما ذلك أمر كان في أول الإسلام ثم انعقد الإجماع بأن ذلك لا يجب على سبيل الإنكار عليه إن كان يؤتى بالرجل يقبل المرأة فينزع ثنيته. وهذه نهاية في الإنكار والعقوبات على الجرائم عند مالك على قدر اجتهاد الوالي وعظم جرم الجاني وإن تجاوز الحدود.
وقد أمر صاحب الشرطة في الذي وجد مع صبي في سطح وقد جرده وضمه إلى صدره وغلق على نفسه معه فلم يشكوا في المكروه بعينه أن يضربه ضربًا مبرحًا ويسجنه سجنًا طويلًا حتى تظهر توبته فسجنه أيامًا فكان أبوه يختلف إلى مالك ويتردد إليه ويقول: اتق الله فما خلقت النار باطلا فيقول له مالك: أجل إن الذ ألفي عليه ابنك لمن الباطل ثم ضربه صاحب الشرطة أربع مائة سوط فانتفخ فمات. فما أكبر ذلك مالك ولا بالى به فقيل له: يا أبا عبد الله إن مثل هذا من الأدب والعقوبة لكثير. فقال: هذا بما اجترم وما رأيت أنه أمتسه من العقوبة إلا بما اجترم.
وقال مطرف بن عبد الله في المبسوط: الأدب إلى الحاكم موكول إلى نظره يؤدب في ذلك باجتهاده وإن أتى الأدب على النفس وإخراج الروح وله في "الواضحة" أن أقصى ما يبلغ في الأدب المعروف بالجرم ثلاثمائة سوط فما دون ذلك. وروى عن أصبغ: أن أقصى الأدب المعروف في جرم الفاسد البين الفساد مائتان.
وروي عنه: أن ذلك إلى اجتهاد الإمام وإن أتى على النفس. وقد روي عن النبي ﷺ من رواية ابن عباس أنه قال: م بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين. وذهب إلى هذا محمد بن مسلمة. فقال: قد انتهى غضب الله في الزانية والزاني إلى مائة جلدة وقال: ﴿ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله﴾ فلم يجعل عليهما أكثر من ذلك فلا يتجاوز في العقوبة ثمانون سوطًا.
وقد روى عبد الله بن مسلمة بن قعنب عن مالك: أنه لا يتجاوز فيها خمسة وسبعين وإن كان يقول: الأدب عندي دون الحدود. والمشهور عنه المعلوم من مذهبه أن ذلك إلى اجتهاد الإمام وهو مذهب ابن القاسم.
وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالضرب أكثر من ثلاثة أسواط في الأدب ولا يزاد على الثلاثة إلا في حد من حدود الله. وروي ذلك عن الليث بن سعد. وقال أبو يوسف: لا يبلغ في الأدب ثمانين. وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة لا يبلغ مائة ومن أهل العلم من رأى أنه يضرب في الأدب أكثر من عشرة أسواط. وروي مثله عن أشهب. قال لا يزيد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المكتب على ثلاثة فإن زاد على ثلاثة اقتص منه وما اجتلبنا الحكاية بطولها وكلام ابن رشد عليها بكماله إلا لما احتوت عليه من الفوائد في شأن ما نحن فيه من الزواجر والعقوبات الشرعية.
1 / 15
والمقصود نقل ابن رشد الإجماع على منع العقوبة بالمال كما تقدم في كتاب السلطان وأن ذلك نسخ بالإجماع. وفي سماع أشهب وابن نافع من كتاب الحدود. وسئل مالك أيحرق بيت الخمار الذي يوجد فيه الخمر؟ قال: لا. قال ابن رشد هذا صحيح على المعلوم من مذهبه أنه لا يرى العقوبات على الجرائم في الأموال إنما يراها في الأبدان. وفي كتاب الأحكام لابن العربي: لا عقوبة في المال ولكن يؤدب لجنايته بالإجماع. هذا نصه في سورة آل عمران وفي سورة الأنفال من الكتاب المذكور لا تجوز العقوبة بالمال بحال. وفي كتاب النهاية والتمام إن ما ورد من العقوبات بالأموال منسوخ كله وفي كتاب الطحاوي والعقوبة بالمال منسوخة. فهذه نصوص كلها متضافرة على نسخ ما ورد من العقوبة بالمال وأن بالإجماع انعقد على ذلك فلا يلتفت إلى قول من يريد إقامة الإباحة من مسائل وظواهر ينجح مقتضاها لذلك لاتساع مجال التأويل وفسحة القول بمنع ذلك بأدلة التوجيه والتعليل. وقول ابن قيم الجوزية الحنبلي فيما نقل عنه برهان الدين بن فرحون في "تبصرته" ومن قال إن العقوبة المالية منسوخة فقد غلا على مذهب الأئمة نقلًا واستدلالًا وليس يسهل عنه دعوى نسخها والمدعون النسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم محجوج بنقل هؤلاء الأئمة الأعلام في كتبهم المبسوطة المشهورة في الإجماع الذي نفاه هو. فمن حفظ حج على من لم يحفظ. وما ذكر من فعل الصحابة أشار به لفظًا عمر. قال ابن رشد وحكم بن عمر بن الخطاب رضه ثم انعقد الإجماع بعده على أن ذلك لا يسوغ والقضية التي قضى فيها عمر رضه هي التي ذكر في كتاب لابن عبد البر والله أعلم. قال خرج قاسم عن أصبغ أن عمر بلغه أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما يفرق بينهما وقال لا ينكحهما أبدًا. وجعل صداقها في بيت المال. وفشا ذلك في الناس. فلما بلغ ذلك عليا رضه قال: رحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال إذا جهلا ينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة قيل فما تقول أتت فيهما قال لها الصداق بما استحل من فرجها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما وتكمل عدتها من الأول ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب فقال: يا أيها الناس ردوا الجهلات إلى السنة وروى الثوري أن عمر جعل لها مهرها وجعلهما يجتمعان.
ملخص ذلك مما قصدنا التنبيه عليه أن يجعل القائم بتغيير المنكر حرمه العقوبة بالمال بين عينيه فلا يستبيحها ولا يبيحها لأحد من أعوانه بين يديه وسبيل أرزاقهم سبيل أرزاق الأعوان الذين يوجههم الحاكم في مصالح الناس تكون لهم من بيت المال كأرزاق القضاة
1 / 16
وسائر العمال والولاة فقد وقع في " جامع العتبية" في الشرط يبعثون في الأمر يكون بين الناس يجعل في أموالهم.
قال مالك: كان زيادة بن عبد الله يبعث شرطًا في الأمر يكون بين الناس في المناهل ويجعل لهم في أموالهم جعلًا فنهيته عن ذلك وقلت له إنما هذا على السلطان يرزقهم فقيل له إن أمير المؤمنين جعل لمن ولي عليهم شركًا معهم فيما اشتروا.
قال شعرت به ولا أمرته بذلك. ثم قال إن هذه الأمور يخاف فيها ما يخاف ثم فسر فيها تفسيرًا.
قال ابن رشد رحه هذا أن الواجب أن يجعل للشرطة المتصرفين بين أيدي القضاة في أمور الأحكام رزقًا من بيت المال لأن ذلك من المنافع التي تعم الناس فإن لم يفعل كان جعل الغلام المتصرف بين الخصمين على الطالب في إحضار خصمه المطلوب ويخفي ويعنت بالطالب إعناتًا فيكون الجعل في إحضاره عليه وأما أن يجعل من ولي على السوق شركًا معهم فيما اشتروا فالمكروه فيه بين. وذلك أنه إذا كان له معهم شرك فيما اشتروا سامحهم في الفساد بما له معهم فيه من النصيب ومثل ما في الجامع بنصه في كتاب السلطان. قلت إلا أن ما قال من إعطاه المدعى عليه الملدد أيجعل الذي أعطى في إحضاره المدعي لا يحسن ولا يجعل في أعوان القيم بتغيير المنكر لأنه ليس هنالك مدع ولا مدعى عليه ولا ذو حق متشخص يطلبه بعينه وإنما هو أمر مطلوب بطريق الفرض المتعين على عامة الناس ومتأكد على الولاة والحكام فقصاراه أن تكون أجرة الأعوان فيه في بيت المال كغيرهم من أعوان سائر الحكام وإن كان الأعوان في هذا كغيرهم من سائر الناس في توجه خطاب الوجوب والفرضية نحوهم لكن لما كان اشتغالهم بذلك يضيع عليهم الزمان في شأنه عن القيام بمعايشهم وطلب أقواتهم وجب أن يكون لهم ذلك في بيت المال رزقا وإعانة كما هو المشهور عند العلماء في مرتب طلبة العلم الذي يأخذونه من الأوقاف الموضوعة لذلك أنه من باب الإعانة والرزق لا من باب الأجرة لأن طلب العلم فريضة متعينة في حقه وتحصيل منفعة خدمته وحمله مقصورة عليه لا على الواقف فباين مسلك الاستيجار. فإن قلت: أليس الذي أوجبوه على الملدد المتغيب على الحضور مع خصمه من أداء جعل العون الذي أداه الطالب هو عين العقوبة بالمال على عصيانه وعدم إجابته ولو كانت العقوبة قاصرة على إيلام البدن لوقع الاكتفاء بضربه أو سجنه أو نحو ذلك. قلت إلزامه أداء الجعل ليس من باب العقوبة بذلك وإنما هو من ناحية أنه سبب في غرم المدعي ما لم يجب عليه إجابته دعواه للحاكم وقد أوجبها الله بنص الوحي في
1 / 17
قوله: ﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم﴾ الآية. فكأنه باشر ظلمه بأداء ما لم يجب عليه المتسبب كالمباشر لمن أمسك وثيقة بحق حتى فات اقتضاؤه والتوصل إليه بما وقع من إمساك الماسك لها وغير ذلك من مسائل الصيد المشهورة.
والاقتصار على فهم المسألة على ما فيف السؤال هو الذي أوجب منع أبي عبد الله الفخار من القضاء بذلك في شأن الخصمين.
وقال: لا تعلم ذنبًا يوجب استباحة مال الإنسان ولا الكفر وحده. يعني كفر الردة والله أعلم. وهذا تشنيع منه على ابن العطار وغيره ن الجماهير والجم الغفير في أن ذلك لازم عن حكمهم على الملك طوق عنق وليس بلازم لما تقرر في الجواب. وأيضًا لقوله: لا تعلم ذنبًا نكرة في سياق نفي فتعم كل الذنوب. والغاضب في عدائه على الشيء من المثليات والمقومات فأتلف عينها وجب من رد المغصوبات والمتلفات إنما نشأ عن ذنب العداء فيجب أداؤه لذلك وتحرم الزيادة. ولم يقل بهذه الزيادة التي هي لمجرد العقوبة والنكال أحد فقد تعسف في إطلاق نفي إباحة المال بالذنب في محل التقييد بما هو مخصوص بالعقوبة لا بما عمرت به الذمة بطريق الضمان وذلك عين ما قالوه في الملدد الغاصب وإن كانت هذه مناقشة لفظية لا طائل تحتها مع ابن الفخار لكنها في صورة النقض عيه بدعواه العموم فيما نفى عن علمنا بقوله لا نعلم ذنبًا والحق أن هذا ليس من العقوبة بالمال فيلزم ما قاله لأن العقوبة بالمال قد وقع الإجماع على إسقاط حكمها وإلقاء طريقها كما قدمناه. ولولا الإطالة التي لسنا بسبيلها والسآمة التي نخشى وقوعها بما يثقل على الأصمخة من مديد الكلام لأوردنا كثيرًا من المسائل المذهبية التي يبدو من ظاهرها الحكم بالعقوبة المالية وباطنها على خلاف ذلك على أن الذي وقع من ذلك إنما هو فيما كان إتلافا لمحل المعصية كما في إراقة اللبن وقطع الملاحم وغير ذلك لا إغراما على عصيان أجنبي عن المال بنقد يؤديه الجاني من ذمته فينتفع به الحاكم والشرطي في شؤونه فهذه صورة لم يقل بها أحد من المسلمين فضلًا عن العلماء والمتفقهين ولذلك ترى أكثر عباراتهم بالعقوبة بالمال لا بالمال وما وقع من ذلك بالباء الموحدة فيحمل على الغالب من عباراتهم وتكون الباء ظرفية ويرجع المعنى لما سبق ويقولون أيضًا يتصدق به ولا يقولون باستنفاق الحاكم إياه كما يفعله ولاة الجور في كثير من الأقطار والأمصار لأن في إباحة ذلك مذنب أعظم الذنب وما يؤديه في غرم قيمة ما أتلف عين ماله لا مال المغصوب لأن عين مال المغصوب قد تلف وغاب وليس من استرجاعه لكن الشرع حكم بأداء العوض حياطة للأموال التي جعلها الله لنا قيما ورفعا لمادة الظلم الذي حرمه الله على نفسه وجعله بين خلقه حرامًا فها هو ذنب
1 / 18
الغصب أباح عين مال الغاصب كما تدعي أن الملدد في مسألتنا شكل غاصب لمال طلبه المدعى عليه بإيجابه لأداء ما لم يجب. وقد لاح لي على كلا الدعوتين تركيب قياس. وذلك أن تقول: كل اللداد فهو ذنب ولا شيء من الذنب بمبيح لمال الإنسان الملد. فلا شيء من الإلداد بمبيح لال الإنسان الملد كما نقول: كل غصب فهو ذنب ولا شيء من الذنب بمبيح لمال الإنسان الغاصب فلا شيء من الغصب بمبيح لمال الإنسان الغاصب. أما الصغرى فمسلمة وأما الكبرى فقد ادعى صحتها في شأن الملد ويلزمه صحتها في شأن الغاصب بجامع أن كلًا منهما ذنب وهو عين ما تضمنته الصغرى المسلمة لكنا نستفسر مراده بما تضمنته الكبرى من سلب إباحة الذنب للمال إن كان على وجه العقوبة بمال أجنبي كما ضمن الشرع ذمته بما أتلف بذنب جناية الغصب والإلداد فمسلم وإن كان لا على وجه العقوبة بمال آخر سوى المال الذي أتلفه بذنب الإلداد والغصب فغير مسلم إذ نصوص الشرع تأباه بقولهم: لك غاصب فهو ضامن لما غصب وكذلك قولهم كل ملدد بما أتلف بإلداده ضامن فلو قال الجمهور في اللد إنه يؤدي ما أتلف بإلداده وزيادة مال آخر في مقابلة العقوبة والنكال لكان هذا المزاد مما لا يستباح بالذنب إذ هو عين العقوبة بالمال كما كان في أول الإسلام في مانع الزكاة تؤخذ منه وزيادة شطر ماله فالعقوبة إنما هي بالزيادة وأما ما وجب أداؤه من الزكاة فلا. كما أن هد ركن عظيم من الشريعة بتبديل وضعها في طريق الزواجر والعقوبات وبمصادمة ما نهى ربنا عنه فيها من أكل المال بالباطل فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وفيما ذكرناه لم يتبع نفسه هواها وعض بالنواجذ على تزكيتها وتقواها غاية الكفاية ومنه سبحانه نرتجي التوفيق والعون والهداية.
فائدة: إذا لم يطلع على المنكر حتى انقضى فعله وفات محله فسبيل النظر فيه للقضاة والحكام لأن بابه الأحكام لا التغيير لفوات دفع المنكر بفوات محله لكن على الحاكم أو السلطان القيام بموجب ما ثبت عنده من ذلك فما كان فيه حد من الحدود المقدرة في الشرع كالشرب والسرقة والزنا وما أشبه ذلك من القصاص والديات أمضى الحاكم فيه حكمه على طريقه وموجبه المستوفى وما لم يكن فيه حد من الشرع متقرر كالغصوبات وإتيان الربويات والتعرض لكشف العورات وما لا يحصى عدة من المنكرات فإنما عليه إقامة العقوبات فيه على قدر اجتهاده ونظره بحسب كل نوع وكل شخص إذ المشهور عن مالك رضه أن ذلك موكول إلى اجتهاد الحاكم حسبما أسلفناه نقلًا من كلام ابن رشد رضه في الفصل الذي أوردناه متصلًا بهذه الفائدة غير أن الحاكم أيضًا في نفسه لا يهمل طريق الترتيب الذي تقدم في الأنواع الخمسة التي سطرنا قبل الفصل في الباب الخامس فرب رجل من ذي الهيئات لم
1 / 19