المؤكد في مرتبة لا يعقل لها غاية وهذا العلم لا يحتاج إلى مزيد نظر لأنه داخل في الايمان ومن ثم خص الخطاب بالتوبة في الآية المذكورة بالمؤمنين ولكن ربما تذهل الغفلة عنه فينتبه عليه التوفيق و كما يلتفت به إلى أصل وجوبها في الجملة يلتفت إلى عموم وجوبها على كل أحد في كل حال لأن غرائز الشهوة و الغضب وسائر الذمايم تسابق إلى النفوس الانسانية على كمال العقل لأنه إنما يتحقق ببلوغ الأشد في حدود الأربعين وهي قد تكاملت قبل ذلك واستولت على المكان وألف بها القلب بمقتضى العادة ومن ثم الانسان أسلس قيادا للباطل منه للحق إلا من عصمه الله فلا جرم لا ينفك في كل وقت عن معصية بجوارحه فإن خلا في بعض الأوقات عن معصية الجوارح فبقلبه من هم بذنب أو تحديث النفس بوسوسة أو مداهنة في باطل أو تقاعد عن حق أو غير ذلك مما يحده كل أحد من نفسه وإلى وجوبها على الفور لأن العالم بأن الذنوب مهلكات لروح الايمان كالعالم بأن السموم مهلكات لروح الحياة وكما يجب على شارب السم المبادرة إلى التنقية و الاستفراغ تلافيا لحياته المشرفة على الزهوق والزوال كذلك يجب على صاحب الذنوب المبادرة إلى التوبة تلافيا لايمانه المشرف على الاضمحلال ومن أهمل المبادرة إلى وسوفها من وقت إلى وقت فهو بين خطرين عظيمين إن سلم من أحدهما فلعله لا يسلم من الآخر أحدهما أن يعاجله الأجل فلا يتيقظ من غفلته إلا وقد حضره الموت وفات وقت التدارك وضاقت عليه الأرض بما رحبت وانسدت أبواب التلافي وجاء الوقت الذي أشار إليه عز وجل بقوله وحيل بينهم وبين ما يشتهون وقوله (تع) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن وصار يطلب المهلة والتأخير يوما أو ساعة فيقال له لا محصلة لك كما قال عز وجل من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين فيغلق عنه باب التوبة ويغرغر بروحه إلى النار ويتجرع غصة اليأس وحسرة الندامة على تضييع العمر فيما لا ينفع في القيامة وربما اختل أصل ايمانه في صدمات تلك الأهوال نعوذ بالله من ذلك وثانيهما أن تتراكم ظلمة المعاصي على قلبه إلى أن يصير زينا وطبعا فلا يقبل المحو فإن كل معصية يرتكبها الانسان يحصل منها ظلمة في قلبه كما يحصل من نفس الانسان ظلمة في المرآة كما تقدمت الإشارة إليه فإذا تراكمت ظلمة الذنوب صارت رينا كما يصير بخار النفس عند تراكمه على المرآة صداء وإذا تراكم الرين صار طبعا فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم بعضه فوق بعض وطال مكثه وغاص في جرمها وأفسدها فصارت لا يقبل الصقل أبدا وقد يعبر عن هذا بالقلب المنكوس والقلب الأسود كما روي عن أبي جعفر (ع) ما من شئ أفسد للقلب من خطيئة إن القلب ليواقع الخطيئة فلا يزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله وعنه (ع) ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عز وجل بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وربما يؤل حال صاحب القلب إلى قلة المبالاة بأمور الشريعة واختلال عقيدته وزوال ايمانه فيموت على غير الملة وهو المعبر عنه بسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك هذا حاصل ما أفاده أبو حامد في ذا الباب ومن كلام بعضهم اغتنموا التوبة قبل أن يصير القريب نائيا والمستقبل ماضيا والمحصول ندما والموجود عدما ويضرب الأدبار على المصرين سرادق الخسار فلا إقالة عثار ولا توفيق إنابة واعتذار وربما يناقش في وجوبها العقلي عن الصغاير بأنها مكفرة باجتناب الكباير فلا حاجة إلى التوبة عنها وفيه أن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح و من حفظ ما أوردناه من الأخبار في معنى الاصرار ظهر له سقوطها عن درجة الاعتبار وإن لم يتب عن الصغاير لم يجتنب الكبائر وفي الفورية بما رواه زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أن العبد إذا أذنب ذنبا أجل من غدوة إلى الليل فإن استغفر الله لم يكتب عليه وعنه (ع) من عمل سيئة أجل فيها سبع ساعات فإن قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاث مرات لم يكتب عليه وفي معناهما غيرهما وفيه أن تأخير الكتابة تفضلا ورحمة لا ينافي وجوب المبادرة إلى التوبة كما لا يخفى وجدواها حبه (تع) وهو ملاك كل خير لأن الله يحب التوابين والتائب حبيب الله والتوفيق على الطاعة لأن الذنوب حابسة عنها ففي الحديث أنه قال رجل لأمير المؤمنين (ع) قد حرمت صلاة الليل فقال (ع) أنت رجل قد قيدتك ذنوبك وعن أبي عبد الله (ع) إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل وأن العمل السئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم وادراك حلاوتها فإن طعم العسل مما يختص باحساسه الذوق السليم دون الممرور وقبولها فعن أبي عبد الله (ع) لا والله لا يقبل الله شيئا من طاعته على الاصرار على شئ من معاصيه والعافية من الأمراض والنكبات فإنها من تبعات الذنوب فعنه (ع) أما أنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب وذلك قول الله عز وجل ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم والرزق لأن الذنوب محرمة عنه فعنه (ع) إن الذنب ليحرم العبد الرزق وعن أبي جعفر (ع) إن الرجل ليذنب الذنب فيدرأ عنه الرزق وتلا هذه الآية إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون وقضاء الحوائج فعنه (ع) إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطئ فيذنب العبد ذنبا فيقول الله تبارك وتعالى للملك لا تقض حاجته وأحرمه إياه فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني وهي مقبولة مسقطة لعقاب الجريمة مع تحقق شروطها بلا شك بالكتاب والسنة والاجماع والخلاف بعد ذلك في أنه هل هو على وجه التفضل أو الاستحقاق وهل هو بنفس التوبة أو كثرة الثواب مما لا يهم وإنما الشك في تحققها وإلا فالقبول مبذول وتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل كتوهم أن الثوب يعالج بالصابون والوسخ لا يزول اللهم إلا أن يكون قد غاص لطول لطول تراكمه في تجاويف الثوب وخلاله ولا يقوى الصابون على قلعه ومثال ذلك القلب المطبوع فإنه لا يرجع ولا يتوب كما ذكر نعم ربما يقول باللسان تبت فيكون كقول القصار بلسانه قد غسلت الثوب
Página 25