وفي تلك الآونة أخذ رتشارد يشق طريقه إلى جبل سنت جورج منطلقا كالشهاب، ولم يكترث لحظة لتلك الصيحات وذلك الهتاف والضجيج الذي أخذ يتعالى حواليه، وثيابه أبعد ما تكون عن الاتساق، ولم يتبعه غير دي فو وواحد أو اثنين من حشمه.
وكان في انطلاقه أسرع من الذعر الذي أثاره باندفاعه وتهوره، ومر بحي جنوده البواسل من «نورماندي» و«بواتو» و«غسقونيا» و«أنجو» قبل أن يبلغهم الاضطراب - وإن يكن الشغب الذي كان يرافق قصف الألمان قد دفع بالكثير من الجند إلى أن يهبوا على أقدامهم يتسمعون - وكانت قلة الاسكتلنديين تقطن إلى جوار ذلك الحي، ولكن هذا اللجب لم يزعجهم، أما فارس النمر فقد لحظ شخص الملك وما كان عليه من عجلة، فعلم أن الخطر لا بد دان، فسارع كي يساهم فيه، وانتزع درعه ومهنده، وانضم إلى دي فو الذي كان يجد بعض المشقة في مسايرة سيده - وقد اشتعل نارا وجزعا - وصوب الفارس الاسكتلندي إلى دي فو نظرة تطلع وتشوق، فأجابه دي فو بهز كتفيه العريضتين، وانطلقا جنبا إلى جنب، يتابعان خطا رتشارد.
وسرعان ما بلغ الملك سفح جبل سنت جورج، وقد تحوط القوم إذ ذاك سفح الجبل وجوانبه، واحتشد من الناس زحام، بعضه من أتباع دوق النمسا الذين كانوا يمجدون - مهللين هاتفين - ذلك العمل الذي كانوا يعدونه إقرارا للكرامة القومية، وبعضه نظارة من أمم مختلفة، ضمهم بعضا إلى بعض - ليشهدوا نهاية هذا العمل الشاذ - بغض في النفوس للإنجليز، أو حب للتطلع مجرد. وانطلق رتشارد في طريقه وسط هؤلاء الجند المختلطين كأنه سفين كريم امتلأ شراعه بالهواء، وسار يشق طريقه عنوة خلال الأمواج المتلاطمة، لا يبالي إن تجمعت الأمواج بعد مسيره أو خر خريرها على مؤخرته.
وكانت قمة الجبل فسحة من الأرض صغيرة مستوية، اندكت فوقها الأعلام المتنافسة، وما فتئ يحوطها أصدقاء الأرشدوق وحاشيته، وكان ليوبولد نفسه وسط الدائرة، وما برح ينظر إلى الفعلة التي فعلها بنفس مطمئنة، وما عتم يستمع إلى هتاف الاستحسان الذي لم يدخر حزبه نفسا في توجيهه إليه، وإذ هو كذلك في غبطته، إذا برتشارد يندفع إلى الحلقة وليس له من الأتباع حقا غير اثنين، ولكنه بنشاطه المتدفق جيش وحده لا يقاوم.
وقال وقد مد يده إلى العلم النمساوي، وتكلم بصوت يشبه تلك الجلجلة التي تسبق الزلازل: «من ذا الذي حدثته نفسه أن يضع هذه الخرقة الحقيرة إلى جوار الراية الإنجليزية؟»
ولم يفتقر الأرشدوق إلى الشجاعة الشخصية، وكان محالا أن يسمع هذا السؤال دون أن يجيب، ولكنه رغم ذلك انزعج وذهل ذهولا شديدا لمقدم رتشارد الذي لم يكن في الحسبان، وتملكه رعب مبعثه شخصية الملك الغيورة التي لا تلين، حتى إنه أعاد السؤال مرة بعد أخرى - في نغمة كأنها تتحدى السماوات والأرضين - قبل أن يجيب الأرشدوق ويقول رابط الجأش جهد الطاقة: «أنا ذلك الرجل، ليوبولد النمساوي.»
فأجاب رتشارد: «إذن فلسوف يرى ليوبولد النمساوي عما قريب أي وزن يقيم رتشارد الإنجليزي لرايته ودعواه.»
ولم يكد يتم حديثه حتى اقتلع رمحه العلم وحطمه إربا إربا، ورمى بالعلم فوق الثرى ووطأه بقدميه.
ثم قال: «هكذا أدوس علم النمسا! فهل من بين فرسانكم التيوتون من يجرؤ على مناقشتي الحساب؟» وحينئذ ساد الصمت حينا؛ ولكن ليس في الرجال من لهم شجاعة الألمان، فكم من فارس من أتباع الدوق أجاب رتشارد قائلا: «أنا ذلك الرجل.» وضم الدوق نفسه صوته إلى أصوات أولئك الذين ردوا على ملك إنجلترا تحديه.
قال «الإيرل والنرود» وهو مقاتل كبير الجسم من حدود المجر: «فيم هذا التواني، أي إخواني يا كرام النبلاء، إن هذا الرجل يطأ بقدمه شرف بلادكم؛ هلموا بنا ننقذه من هذا الاعتداء، ولتسقط كبرياء إنجلترا!»
Página desconocida