فخجل أسقف صور من هذا الجواب لأنه كان يتحاشى الملك المريض، ثم أمر البارون أن يتابع المسير.
ولما مرا بالكوخ الحقير، الذي كان يقطن به كنث صاحب النمر وتابعه، قال الأسقف لدي فو: «والآن اعلم يا سيدي يقينا أن هؤلاء الفرسان الاسكتلنديين أقل بأتباعهم عناية منا بكلابنا، فهذا فارس يقولون إنه جريء في القتال، ويرونه جديرا بأن يتحمل جسيم التبعات في زمن الهدنة، وهذا تابع من أتباعه يسكن في كوخ أحط من أسوأ بيوت الكلاب في إنجلترا، فماذا أنت قائل في جيرانك هؤلاء؟»
فقال دي فو: «إني أرى أن السيد يقوم بما يكفي نحو خادمه إذا أسكنه في بيت لا يقل عن بيته.» ثم دخل الكوخ وتبعه الأسقف، وعليه أمارات التأبي والإحجام بادية، فهو، وإن لم تنقصه الشجاعة من بعض نواحيها، إلا أنها كانت شجاعة ممزوجة باعتبار قوي شديد لسلامته وأمنه، ولكنه تذكر أن من واجبه أن يحكم بنفسه على حذق الطبيب العربي، فدخل الكوخ متعاليا بذاته شامخا بأنفه، متكلفا ذلك، ظنا منه أن في هذا ما يدعو إلى احترام القادم الغريب.
وكان الأسقف حقا رجلا يجذب النظر، عليه سيماء الهيبة والنفوذ؛ كان في شبابه فارط الجمال، وحتى في شيخوخته لم تقل رغبته في التظاهر بالجمال، فكان زيه الكنسي من أنفس طراز، حواشيه مزركشة بالفراء الثمين، ويتلفع بعباءة جملة التطريز، وعلى أصابعه خواتم تليق برجل يتأمر على مقاطعة من المقاطعات الكبيرة، ويلبس على رأسه قلنسوة كانت إذ ذاك محلولة الرباط، ومطروحة إلى الخلف من حمارة القيظ، وللقلنسوة أزرار من الذهب الخالص يوثقها بها حول رقبته وتحت ذقنه وقتما يشاء، ولحيته الطويلة التي فضضها العمر تتدلى على صدره. وكان له سادنان شابان يرعيانه، أحدهما يحمل فوق رأسه مظلة من أوراق النخيل الهندي ينشر بها ظلا مصطنعا، كانت تألفه بلاد الشرق حينذاك، والآخر بيده مروحة من ريش الطاووس يهز بها كي يروح عن سيده الكريم.
وحينما دخل الأسقف كوخ الفارس الاسكتلندي كان صاحب الدار متغيبا، والطبيب العربي - الذي جاء لرؤيته - يجلس الجلسة عينها التي خلفه عليها دي فو منذ ساعات عديدة، متصالب الساقين فوق حصير من أوراق الأشجار المقصوصة، إلى جوار العليل الذي كان في سبات عميق، والذي كان يجس نبضه حينا بعد حين؛ ولبث الأسقف منتصبا قبالته في سكون مدة دقيقتين أو ثلاث كأنه يرتقب منه تحية شريفة يحييه بها، أو كأنه كان على الأقل ينتظر من هذا العربي أن يذهل لنبل مظهره، ولكن «أدنبك» الحكيم لم يعره التفاته، اللهم إلا لمحة عجلى. وأخيرا لما حياه الأسقف باللغة الفرنجية السائدة في تلك البلاد، لم يجبه بأكثر من التحية الشرقية المألوفة، وقال: «عليكم السلام.»
فقال الأسقف وقد صعق من هذا الاستقبال الفاتر: «أأنت طبيب أيها الكافر؟ أريد أن أتحدث إليك في هذا الفن.»
فأجاب الحكيم وقال: «لو كنت تعلم فذلكة من الطب لعرفت أن الأطباء لا يتشاورون ولا يتجادلون في غرف مرضاهم.» ثم قال وقد سمع للكلب من الكوخ الداخلي دمدمة خافتة «اصغ! حتى الكلب يعلمك التعقل، فهل علمت؟ إن غريزته تهديه أن يكتم نباحه حتى لا يسمعه الرجل المريض.» ثم قال وقد هب من مكانه وتقدم نحو الطريق: «هيا بنا خارج الخيمة إن كان لديك شيء تريد أن تحدثني عنه.»
ورغم سذاجة الطبيب العربي في ملبسه، وضآلة جسمه إذا قيس بالأسقف الطويل القامة والبارون الإنجليزي الضخم، فلقد كان في مسلكه وطلعته شيء يجذب الأنظار، شيء حال بين أسقف صور وبين أن يحتج على هذه الإهانة التي لحقته من الاستخفاف بمقدمه؛ ولما بعدا عن الكوخ، صوب نظره بضع دقائق في صمت نحو «أدنبك»، وذلك قبل أن يستقر بينه وبين نفسه على خير أسلوب يجدد به ما انقطع بينهما من حديث؛ وكان العربي يلبس فوق رأسه عمامة كبيرة لا تظهر من تحتها خصل الشعر؛ وكانت العمامة تخفي كذلك أحد حاجبيه، وكان غزيرا طويلا ناعما خاليا من التجاعيد، كما كانت وجنتاه الباديتان تحت ظل لحيته الطويلة. هذا وقد ذكرنا من قبل نفاذ عينيه السوداوين.
وكان الأسقف مأخوذا بالفتوة البادية على صاحبه، ولكنه تمكن أخيرا من شق السكون المخيم - ولم يبد على العربي أنه كان يتعجل تعكير صفوه - وسأل الأسقف العربي عن عمره؛ فأجاب: «إنما تقاس أعمار عامة الرجال بتغضن البشرة، أما العلماء فتقاس أعمارهم بما يحصلون من علم. وإني لا أجرؤ على الظن بأني أزيد على مائة حول بعد الهجرة».
2
Página desconocida